Stevinus . وثانيا فإن النظرة اللاهوتية إلى الطبيعة ترجع في أصلها إلى محاولة للوصول إلى نظرة أشمل إلى العالم، وهي نفس المحاولة الكامنة من وراء العلم الفيزيائي. وعلى ذلك، فحتى لو سلمنا بأن الفلسفة الفيزيائية للاهوت مبحث عقيم، وعودة إلى مرتبة أدنى من الثقافة العلمية، فلن يتعين علينا مع ذلك أن نفند الأساس السليم الذي ظهرت منه، والذي لا يختلف عن أساس البحث للفيزيائي الصحيح. •••
إن القول بإرادة وعقل فعالين في الطبيعة ليس وقفا على عقيدة التوحيد المسيحية، بل إن الفكرة، على عكس ذلك، مألوفة تماما في العهد الوثني وعهد العبادات السحرية. غير أن الوثنية تجد هذه الإرادة وهذا العقل في الظواهر الفردية وحدها، في حين تلتمسهما عقائد التوحيد في «الكل». وفضلا عن ذلك فليس ثمة توحيد خالص؛ فالتوحيد اليهودي في الإنجيل لا يخلو من إيمان بالجن والشياطين والسحرة، والتوحيد المسيحي في العصور الوسطى أكثر من ذلك احتشادا بالأفكار الوثنية. (8) ولم يتمكن العلم الفيزيائي من التخلص من هذه الأفكار إلا ببطء شديد.
فمن الطبيعي أن تؤكد هذه الأفكار ذاتها بإصرار؛ فالتحليل العلمي والمعرفة التصورية لا يتناولان إلا قدرا ضئيلا جدا من تلك الدوافع العديدة التي تتحكم في الإنسان بقوة جبارة، والتي تغذيه وتحفظه وتنميه، دون معرفة أو رقابة من جانبه - تلك الدوافع التي تمثلت في العصور الوسطى مظاهر مرضية مفرطة لها. والطابع الأساسي لكل هذه الغرائز هو الشعور بوحدتنا مع الطبيعة ومماثلتنا لها، وهو شعور يمكن إسكاته أحيانا، ولكنه لا يقتلع أبدا بالاستغراق في المشاغل العقلية، وله قطعا أساس سليم، مهما كانت النتائج الدينية الممتنعة التي يؤدي إليها. (9) ولقد تصور «الموسوعيون»
7
الفرنسيون في القرن الثامن عشر أنهم ليسوا بعيدين عن الوصول إلى تفسير نهائي للعالم بمبادئ فيزيائية وميكانيكية، بل إن لابلاس قد تصور ذهنا قادرا على التنبؤ بتقدم الطبيعة حتى الأزل، لو أنه أدرك الكتل المادية ومواقعها أو سرعاتها الأصلية. ويحق لنا أن نلتمس العذر لهذا الإفراط المتفائل في تقدير مجال الأفكار الفيزيائية الميكانيكية الجديدة لدى مفكري القرن الثامن عشر. بل إنه في الحق لأمل منعش، نبيل، رفيع، ولنا أن نشعر بعطف عميق على هذا التعبير عن السرور العقلي الذي لا نجد له في التاريخ نظيرا. أما الآن، بعد انقضاء قرن من الزمان، وبعد أن أصبح حكمنا أكثر رزانة، فإن نظرة الموسوعيين إلى العالم تبدو لنا من قبيل «الأسطورة الميكانيكية»، على حين كانت نظرة الأديان القديمة أسطورة قائمة على بعث الحياة في الكون بأسره؛ فالرأيان معا ينطويان على مبالغات مفرطة خيالية في إدراك ناقص. أما البحث الفيزيائي الدقيق فسوف يؤدي إلى تحليل لإحساساتنا، وعندئذ سنكتشف أن عطشنا لا يختلف أساسا عن ميل حامض الكبريتيك إلى الزنك، وأن إرادتنا لا تختلف كثيرا عن ضغط حجر، كما يبدو الآن. كذلك سنشعر بأنفسنا أقرب إلى الطبيعة، دون أن يكون من الضروري أن نتحول إلى كتلة سديمية غامضة من الجزئيات أو أن نجعل من الطبيعة مرتعا للعفاريت. ولا شك في أننا لا نستطيع إلا أن نخمن الاتجاه الذي ينبغي أن نلتمس فيه هذا التنوير، نتيجة لأبحاث طويلة مضنية؛ فاستباق النتيجة، بل محاولة إدخالها في أي بحث علمي حالي، ليس علما وإنما لاهوت.
إن العلم الفيزيائي لا يدعي أنه نظرة «كاملة» إلى العالم، وإنما يقول فقط إنه يعمل لبلوغ نظرة كاملة في المستقبل. وإن أعلى فلسفة يتصف بها الباحث العلمي إنما هي تحمل هذه النظرة غير الكاملة إلى العالم، وتفضيلها على نظرة تبدو كاملة، ولكنها غير محددة. وإن معتقداتنا الدينية لتظل دائما من شئوننا الخاصة، طالما أننا لا نقحمها على المجالات الأخرى، ولا نطبقها على أمور تخضع لشرع سلطة مخالفة. وهذا موضوع تتباين فيه آراء الباحثين الفيزيائيين أنفسهم تباينا شديدا، حسب نطاق أذهانهم وتقديرهم للنتائج.
إن العلم الفيزيائي لا يبحث على الإطلاق في الأشياء التي تظل على الدوام بعيدة عن متناول البحث الدقيق، أو ما زالت حتى الآن بعيدة عنه. ولكن إذا ما حدث أن خضعت للعلم الدقيق مجالات هي اليوم مستعصية عليه، فلن يتردد إنسان سليم العقل، أو شخص يعتز بشرف موقفه من نفسه ومن الآخرين، في المضي في البحث بحيث يستبدل بآرائه الخاصة عن هذه المجالات معرفة إيجابية بها.
فإذا كنا نرى المجتمع يتذبذب اليوم، ويغير آراءه في المسألة الواحدة، حسب هواه وتبعا لحوادث الأسبوع، كما تتغير السلالم الموسيقية في الأرغن، ثم نرى ما يستتبعه ذلك من قلق ذهني عميق، فلنعلم أن هذه هي النتيجة الطبيعية الضرورية للطابع الناهض العابر الذي تتسم به فلسفتنا؛ فمن المستحيل أن يحصل المرء على نظرة سليمة إلى العالم وكأن هذه النظرة هبة تقدم إليه، وإنها يتعين عليه اكتسابها بالعمل الشاق. وإن إطلاق العنان للعقل والتجربة في الحالات التي لا يستطيع سواهما التحكم فيها، إنما هو السبيل الوحيد إلى تحقيق ازدهار البشرية بالاقتراب التدريجي البطيء، والأكيد في الوقت ذاته، من المثل الأعلى لرأي موحد في العالم، يكون هو وحده الذي يتمشى مع اقتصاد الذهن السليم.
رابعا: اقتصاد العلم (1)
إن هدف العلم هو الاستعاضة عن التجارب أو توفيرها عن طريق استعادة الوقائع واستباقها في الفكر؛ فالذاكرة أقرب إلى متناول اليد من التجربة، وكثيرا ما تحقق نفس غرضها. هذه المهمة الاقتصادية للعلم، التي تملأ حياته بأسرها، واضحة لأول وهلة، وإن الاعتراف الكامل بها لكفيل باستبعاد كل تصوف في العلم.
Shafi da ba'a sani ba