وإذن ففي نظرية المعرفة عند ماخ مبدآن منهجيان؛ أولهما، ويمكن تسميته التجريبية، يقول إن الإحساسات وحدها هي التي تمدنا بالمعطيات أو «المادة» الحقيقية للمعرفة. ويرى ماخ أن لهذا المبدأ نتيجة هامة، هي أن الألفاظ التي ينبغي استخدامها وتطبيقها ليست إلا تلك التي تسير، بطريق مباشر أو من خلال تعريفات، إلى الإحساسات. ومن الممكن أن نطلق على هذه النتيجة اسم «نتيجة المذهب الظاهري».
أما المبدأ الثاني، الذي يمكن تسميته بالمبدأ البرجماتي للاقتصاد في الفكر فيقضي بأن التصورات المساعدة يمكن أن تقبل في اللغة العلمية، ولكن لغرض واحد هو تنظيم الفروض في نسق محكم الترابط. وينبغي أن نعترف بأن هذين المبدأين يولدان نوعا من التوتر في تفكير ماخ. كما أنه لم ينجح في تقديم إيضاح لطبيعة الألفاظ المساعدة يكفل تفسير استخدامها على نحو لا يقضي منا افتراض أنها تشير إلى كيانات غامضة في عالم الواقع. ولقد كان ماخ يحتاج، من أجل إزالة هذا التوتر، وتفسير الوظيفة الرمزية في العلم للألفاظ غير المشيرة إلى موضوعات، إلى فلسفة للغة والمنطق أوسع نطاقا وأبعد غورا مما كان هو ذاته قادرا على الإتيان به. ولم يبدأ الوضعيون وحلفاؤهم البرجماتيون في تعويض هذا النقص إلا في القرن التالي.
ولقد كان ماخ، مثل كونت من قبله، واضع برنامج في المحل الأول؛ فأفكاره كانت كالبذور المولدة لغيرها، وكان لها تأثير بالغ في الفترة التالية لوفاته. غير أنه لم يقدم تحليلات لتصورات مساعدة خاصة توضح بالتفصيل طريقة عمل هذه التصورات في عملية «توفير التجارب».
وفضلا عن ذلك فإن نظريته نفسانية أكثر مما ينبغي، ولكن المطلوب ليس بيانا للقيمة النفسانية لهذه الأفكار، بقدر ما هو تفسير لوظائفنا المنطقية في اللغة. والأمر الذي كان ألزم من كل ما عداه هو تصور أوضح للرياضيات والمنطق ذاتهما. ولكن هذا لا يمكن الإتيان به إلا بعد إتمام تنظيم هذين العلمين وكشف الأسس المنطقية الخالصة للرياضيات. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن إيجاد تفسير صحيح للمعنى اللاإشاري
non-referential
للتصورات المساعدة في العلوم.
ولقد كانت أهداف نظرية المعرفة عند ماخ مضادة للذاتية تماما، وكانت كلها معارضة للمثالية الميتافيزيقية؛ ولهذا السبب كان من الطريف أن نلاحظ أن لينين، أنبغ تلاميذ ماركس، قد هاجم في كتابه «المادية والنقدية التجريبية»
Materialism and Empirio-Criticism
فلسفة ماخ بوصفها أحدث وأدق صورة للمذهب الذاتي وللمثالية، التي ظلت المادية الديالكتيكية تحاربها طوال ما يزيد على نصف قرن. ومع ذلك فللمرء أن يتساءل إن كان لينين قد أدرك تماما طبيعة المذاهب التي هاجمها. لقد كان من الذكاء بحيث رأى أنها تحمل تهديدا أساسيا لأية ميتافيزيقا أو فلسفة للتاريخ تدعي أنها عملية وديالكتيكية ومادية في آن واحد. ولكنه أخطأ إذ تصور أن نظرية الإحساس عند ماخ مجرد شكل دقيق معقد للمثالية الذاتية؛ فماخ لم ينظر على الإطلاق إلى ما أسماه ب «الإحساسات» على أنها كيانات ذهنية لا توجد إلا في الإدراك الحسي أو بوصفها موضوعات لذهن أو أنا ترنسندنتالي، وإنما كانت كل هذه المسائل «الميتافيزيقية» في رأيه لا معنى لها على الإطلاق. والواقع أن تصورات الذهن، والجسم، والمادية، هي ذاتها، إذا ما فهمت فهما صحيحا، ما أطلق عليه الفلاسفة التالون اسم «التركيبات المنطقية»؛ أي إنها قابلة تماما للتحليل إلى ألفاظ أخرى لا تشير إلا إلى مجموعات من الارتباطات بين عناصر التجربة. ومن وجهة النظر هذه يرتد ما يسمى ب «مشكلة الذهن والجسم» إلى مشكلة تحديد الارتباطات الخاصة ذات المرتبة العليا، التي تقوم بين هذه الارتباطات الدنيا، مرتبة الظواهر التي نطلق عليها اسما مختصرا جامعا هو «الظواهر الذهنية» أو «المادية». فليس للفيزياء ولعلم النفس معا إلا موضوع أساسي واحد؛ هو التجربة الحسية. والفرق بينهما ليس إلا فرقا في طرق كل منهما في تصنيف الظواهر، وفي الأنواع الخاصة للارتباطات التي تختص بها كل منهما.
والواقع أن للمسألة موضوع البحث هنا أهمية أساسية لبرنامج وحدة العلم الذي كان يعني الكثير بالنسبة إلى ماخ، كما كان يعني بالنسبة إلى كونت من قبله، فليس هناك، بالنسبة إلى هذا البرنامج، فروق منهجية أساسية بين العلوم الطبيعية وعلوم الحياة والذهن. كما لا تتسم الظواهر التي يعالجها علم الأحياء وعلم النفس بأية خصائص تجعلها في ذاتها غير قابلة للخضوع لمناهج التحقيق المشترك بين الذوات، المستخدمة في العلوم الفيزيائية. فنظرية ماخ في الإحساسات بوصفها العناصر الوحيدة للمعرفة، تتمشى تماما، في مقصدها على الأقل، مع ذلك النوع من المذهب السلوكي أو - كما يسمى أحيانا - المذهب الفيزيائي
Shafi da ba'a sani ba