Carl Buber: Shekara Dari na Fadakarwa
كارل بوبر: مائة عام من التنوير
Nau'ikan
Blueprint ، ثم يشرع في تحقيقه، وهي حجج يتعين على أي مثالي أن يتدبرها إذا كان حقا يريد أن يكون مثاليا بلا أوهام:
إنك حيثما شئت أن تذهب فلا بديل لك من أن تبدأ من حيث أنت. فالبدء من لا شيء هو أمر محال في السياسة قدر ما هو محال في الإبستمولوجيا أو العلم أو الفنون، فلا يمكن لأي تغيير حقيقي، كمقال للتغيير الموهوم، إلا أن يكون تغييرا في ظروف قائمة فعلا. وقد دأب اليوتوبيون على توكيد أنه قبل أن يمكن تغيير هذا الشيء أو ذاك لا بد من تغيير المجتمع ككل. غير أن ما يفضي إليه هذا القول هو أنك قبل أن يمكنك تغيير أي شيء ينبغي أن تغير كل شيء! وهو تناقض واضح.
أيا ما كانت الأفعال التي نتخذها فسوف يكون لها نتائج غير مقصودة، والتي قد تكون ببساطة أشياء مخالفة للرسم الذي رسمناه. وكلما اتسع نطاق مشروعنا زاد عدد النتائج غير المقصودة. وادعاؤنا العقلانية في خطط شاملة لتغيير المجتمع ككل هو ادعاء بمعرفة سوسيولوجية مفصلة نحن ببساطة لا نملكها، كما أن الحديث بالطريقة اليوتوبية عن الوسائل والغايات هو بمثابة استخدام استعارة بلاغية بطريقة مضللة، فليس ثمة في حقيقة الأمر غير مجموعة من الأحداث القريبة زمنيا يطلق عليها «الوسيلة»، متبوعة بمجموعة أبعد من الأحداث يطلق عليها «الغاية». غير أن هذه المجموعة الأخيرة سوف تتبع بدورها - ما لم يتوقف التاريخ تماما - بمجموعات متتالية من الأحداث. ومن ثم فإن «الغاية» ليست غاية في حقيقة الأمر. ولا فائدة ترجى في الدفاع عن مزايا ندعيها لشيء لا يعدو أن يكون مجموعة ثانية من الأحداث في سلسلة لا متناهية. وفضلا عن ذلك، وحيث إن المجموعة الأولى هي أقرب زمنيا، فإن احتمال تحقيقها بالشكل المطلوب هو أكبر من احتمال تحقيق المجموعة الثانية الأبعد زمنيا والأقل يقينا. ومن ثم فالمكاسب التي تعدنا بها الأخيرة هي أقل ضمانا من التضحيات التي قدمت لها في الأولى. وإذا كان لجميع الأفراد دعاوى أخلاقية متساوية، فمن الخطأ أن نضحي بجيل لمصلحة الجيل التالي.
حجة خاصة بالرسم نفسه: إن اختلاف الناس حول نوع المجتمع الذي يريدونه هو حقيقة واقعة، حتى المحافظين التقليديين والتحرريين والاشتراكيين، لكي لا نستثنى أحدا. ومن ثم فأيا ما كانت طبيعة الجماعة التي تتقلد السلطة بهدف تحقيق رسمها المتصور للمجتمع، فإنها سوف تكبح معارضة الآخرين، إن لم تقسرهم على خدمة هدف لا يريدونه. وفي حين يربأ المجتمع الحر عن فرض أهداف اجتماعية مشتركة، فإن الحكومة ذات الأهداف اليوتوبية مضطرة إلى أن تصبح استبدادية، ومصيرها أن تكون استبدادية.
لما كانت إعادة التشييد الجذرية للمجتمع هي مطلب ضخم، فمن المقدر له أن يستغرق زمنا طويلا. ولكن من الضامن أن الأهداف والأفكار والمثل الاجتماعية لن تتغير تغيرا جوهريا خلال هذا الزمن، وهو زمن فوران ثوري بحكم التعريف؟ فإذا حدث ذلك بالفعل فهو يعني أن ما بدا حتى لواضعي الرسم على أنه أفضل صور المجتمع سوف يتباعد عن ذلك كلما اقتربوا منه، وسوف يختلف عن أي شيء مطلوب بالنسبة للخلف الذين لا علاقة لهم بهذا الرسم قبل كل شيء.
ويتعلق ذلك بحجة أخرى: إن المخططين أنفسهم جزء من المجتمع الذي يرغبون في محوه. ليس هذا فحسب، بل إن تجربتهم الاجتماعية، ومن ثم فروضهم وأهدافهم مهما بلغت نقديتها، قد قدر لها أن تكون مكيفة به بعمق، مما يعني أن محو هذا المجتمع يتضمن محوهم ومحو خططهم أيضا!
إن إعادة البناء الاجتماعي بصورة جذرية، وبالتالي بصورة ممتدة زمنيا، يعني أن تستأصل وتشتت عددا كبيرا جدا من الناس، خالقا بذلك محنة نفسية ومادية هائلة. ومن المتوقع أن بعض الناس على الأقل سوف يناهضون الإجراءات التي تهددهم بهذه الآثار . مثل هؤلاء المناهضين سوف تراهم الفئة الحاكمة التي تحاول تحقيق المجتمع المثالي على أنهم مناهضون للخير كله بباعث من المصلحة الشخصية (وسيكون في ذلك شيء من الحقيقة)، ومن ثم على أنهم أعداء المجتمع. وسيكون هؤلاء ضحايا ما سيأتي، فلما كانت الأهداف المثالية البعيدة المنال يتأخر مجيئها طويلا، وفترة خنق النقد والمعارضة تطول أكثر فأكثر، فإن الاضطهاد والاستبداد سيزدادان حدة (وإن خلصت النوايا!)، وبالضبط لأن المقاصد والأهداف ترى مثالية فإن الفشل المستمر في تحقيقها جدير بأن يؤدي إلى القذف بالتهم وادعاء أن «شخصا ما يهز القارب!» لا بد أن هناك تخريبا، أو تدخلا أجنبيا، أو قيادة فاسدة (إذ إن جميع التفسيرات الممكنة التي تستثني نقد الثورة نفسها تتضمن بالضرورة خبثا وشرا من جانب شخص ما).
حينئذ تبرز ضرورة كشف المذنبين واستئصال شأفتهم، ومن طلب مذنبين وجد مذنبين! وهنا يكون النظام الثوري قد غرق للأذقان في عواقب غير متوقعة ونتائج غير مقصودة لأفعاله؛ لأنه حتى بعد أن يلقى أعداء الثورة جزاءهم ستظل الأهداف الثورية متعسرة لا تتحقق. وسوف يضطر الحكام أكثر فأكثر إلى الأخذ بالحلول المباشرة للمشكلات العاجلة الملحة (ما يطلق عليه بوبر «التخطيط غير المخطط») وهو عادة شيء من الأشياء التي ازدروا عليها الأنظمة السابقة. وسوف تتسع الفجوة بين أهدافهم المعلنة وبين ما يصنعونه بالفعل. وسوف يقترب ما يصنعونه أكثر فأكثر من ذلك الذي تصنعه الحكومات الشديدة البعد عن اليوتوبية. ذلك أن الحياة بعد كل شيء لا بد أن تسير بأي شيء، لا بد للناس أن يطعموا ويلبسوا ويسكنوا، ولا بد للأطفال أن يتعلموا، ولا بد أن تستمر الخدمة الطبية والنقل والشرطة والإطفاء، وكل هذه أشياء تعتمد في المجتمع الحديث على تنظيم واسع النطاق. ومعنى أن تمحو كل هذه الأشياء مرة واحدة هو أن تخلق فوضى بمعنى الكلمة. وإنه لضرب من الجنون أن تعتقد أنه من هذا العماء يمكن بشكل ما أن يبزغ مجتمع مثالي! وضرب من الجنون حتى أن تعتقد أن مجتمعا أفضل من هذا قليلا يحتمل أن يبزغ من العماء أكثر مما يحتمل أن يبزغ من هذا المجتمع الذي وصلنا إليه الآن. ورغم هذا فحتى لو صممنا على ذلك فلن نستطيع، برغم أحلامنا بالكمال، أن نمحو كل شيء ونبدأ من جديد مرة ثانية.
إن البشر على حد قول أوتو نويرات أشبه ببحارة سفينة في عرض البحر، يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءا جزءا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعة واحدة.
إن التغير لن يتوقف إلى الأبد، وهذه حقيقة تجعل فكرة «رسم» مجتمع فاضل هي بحد ذاتها فكرة غير ذات معنى. إذ حتى لو حصلنا على مجتمع مطابق للرسم، فإنه سيبدأ بحكم حقيقة التغير في الابتعاد عن «الرسم». ومن ثم فإن المجتمعات المثالية مستحيلة التحقيق، لا لأنها مثالية فحسب، بل لأن مطابقة أي «رسم» على الإطلاق يستلزم أن يكون المجتمع ثابتا سكونيا لا يتغير، وليس هناك مجتمع بهذه المواصفات يمكن تصوره أو التنبؤ به. والحق أن تسارع خطوات التغير الاجتماعي تبدو في ازدياد مستمر عاما بعد عام. ويبدو أن عملية التغير، على حد إدراكنا، لن تنتهي عند حد. ومن ثم فإن أي توجه سياسي يرجى له أن يطابق الحقائق يجب أن يكون مكيفا لا بالأحوال الثابتة بل بالتغير.
Shafi da ba'a sani ba