Carl Buber: Shekara Dari na Fadakarwa
كارل بوبر: مائة عام من التنوير
Nau'ikan
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - مذهب التكذيب
2 - بوبر والتحليل النفسي1
3 - النفس ودماغها
4 - المجتمع المفتوح وأعداؤه
تذييل
5 - نظرة نقدية
6 - موجز لكارل بوبر
Shafi da ba'a sani ba
خاتمة
ثبت المراجع التي وردت بالكتاب
كتب للمؤلف
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - مذهب التكذيب
2 - بوبر والتحليل النفسي1
3 - النفس ودماغها
4 - المجتمع المفتوح وأعداؤه
Shafi da ba'a sani ba
تذييل
5 - نظرة نقدية
6 - موجز لكارل بوبر
خاتمة
ثبت المراجع التي وردت بالكتاب
كتب للمؤلف
كارل بوبر
كارل بوبر
مائة عام من التنوير
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
عادل مصطفى
الإهداء
إلى العقل الثري والقلم المغير؛
أ.د. عبد السلام بن عبد العالي،
الذي نقرؤه ونعرفه ... ونراه أملا من البعيد،
وشروقا من المغرب.
عادل مصطفى
كلمة
«من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيا (سواء لأنه الرأي السائد، أو لأنه يروقه ويسره)، أن يقسر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددا وثقلا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقة تسول له أن يزيحها وينبذها، لكي يخلص، بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق، إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابا وجيها، ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»
وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث نجد الناس، وقد استهوتهم هذه الضلالات، يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق، رغم أنها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.
Shafi da ba'a sani ba
على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس، وفضلا عن هذا، وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي عليه أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية.»
فرنسيس بيكون
الأورجانون الجديد: الكتاب الأول، شذرة 46
مقدمة
باختصار، ليس العلم شيئا أكثر من منهجه، ومنهجه ليس شيئا أكثر مما قاله كارل بوبر.
سير هيرمان بوندي
يعد كارل بوبر واحدا من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، ويعد فضلا عن ذلك واحدا من أهم فلاسفة السياسة والاجتماع، ونصيرا مخلصا للديمقراطية، وداعية للمجتمع المفتوح، وخصما عنيدا لأعدائه على اختلاف مشاربهم، وللشمولية في جميع صورها وتجلياتها.
آمن بوبر بقيمة العقل ودوره وقدرته، وتبنى «النقد» منهجا لعمل العقل وتقدم المعرفة، وناهض كل نزعة «ارتيابية» أو «اصطلاحية» أو «نسبية» في العلم وفي الشئون البشرية بعامة، ورد إلى الفلسفة مكانتها الرفيعة ومشروعها الطموح، بعد أن انقلبت على نفسها زمنا وكادت تتحول على يد الوضعيين المناطقة وفلاسفة التحليل اللغوي إلى تابع ذليل للعلم، وضيف ثقيل على مائدة العلماء.
ولأول مرة في تاريخ العلم الحديث، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، صرنا نرى كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدة أحد الفلاسفة ويتسابقون على التهام أعماله واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي، ويدينون له بالفضل فيما ظفروا به من نجاح وفيما حققوه من كشوف، ولأول مرة في تاريخ السياسة الحديثة صرنا نرى أمما عريقة، كالصين،
1
Shafi da ba'a sani ba
تأخذ بمنهج أحد الفلاسفة في تصحيح مسارها الاقتصادي، فتكتشف ذاتها الحقيقية، وتنشط من عقالها، وتنطلق انطلاق مارد من قمقمه، وصرنا نرى أمما مجهدة مثل دول أوروبا الشرقية، تدرس فكره السياسي في معاهدها، وتشرع في تطبيقه في بدايات بروزها من وراء الستار الحديدي،
2
وصرنا نرى أمما مزدهرة كاليابان تؤسس رابطة بوبرية لنشر فكره وتطويره من خلال نشرات ودوريات وبرامج تعليمية.
إنه صورة مضيئة لثراء الفكر، ومثال حي لخصوبة الفلسفة.
وأول ما يسترعي النظر في شخصية بوبر الفكرية هو موسوعيته وتعدد جوانبه واتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره، على أن هناك وحدة جوهرية في رؤيته ومنهجه تجعل من إسهاماته، على تباعدها وتراميها، كلا واحدا منسجما يأخذ بعضه بحجز بعض، وقد درج الباحثون على تناول أعماله الإبستمولوجية والعلمية والاجتماعية كما لو كانت عناصر منفصلة لا يجمع بينها شيء ولا تتصل فيما بينها بسبب، وقد كان لهم في تعدد إنتاجه وغزارة مادته عذر واضح، غير أن هذه الطريقة في معالجة أعمال كارل بوبر جديرة أن تضيع هذا الخيط الواصل بين جميع عناصرها، وجديرة من ثم أن تفلت من أيدينا أهم عمل من أعمال بوبر على الإطلاق - ذلك الترابط الكلي الوثيق، وتلك الوحدة المنهجية الأصيلة.
الفلسفة عند بوبر ليست ترفا ذهنيا أو لعبا عقليا - الفلسفة نشاط ضروري، ذلك أننا جميعا نضمر في عقولنا ما لا يحصى من الأشياء، ونسلم بها تسليما، وكثير من هذه الافتراضات هو ذو طبيعة فلسفية، إننا نتصرف وفقا لها في حياتنا الخاصة، وفي مجال السياسة، وفي مجال العمل، وفي كل مجال آخر من حياتنا، ولكن على حين تعد بعض هذه الافتراضات حقا لا شك فيه، فمن الراجح أن أكثرها زائف، وأن بعضها مؤذ، من ذلك ينتج أن الفحص النقدي لأفكارنا المسبقة - أي النشاط الفلسفي - هو عمل هام من الوجهة الفكرية والأخلاقية أيضا.
ولد كارل ريموند بوبر
K. R. Popper
في الثامن والعشرين من يوليو عام 1902م، في مدينة فينا، التي كانت في ذلك الوقت عاصمة للثقافة في العالم الغربي، انحدر أبواه من أصل يهودي، غير أنهما تحولا إلى البروتستانتية اللوثرية قبل أن ينجبا أطفالهما. نشأ بوبر في مناخ منزلي مفعم بالثقافة معمور بالكتب، فقد كان أبوه حائزا على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة فينا، وكان إلى جانب ممارسة المحاماة أستاذا وباحثا، أتاح هذا المناخ للصبي كارل فرصة التعرف المبكر على المسائل الفلسفية والعلمية والسياسية، والنهل من ينابيع الفكر والثقافة. وقد كان الأب فيما يبدو حريصا على تنشئة ولده على حب المعرفة، وحفزه على قراءة أمهات الكتب الفلسفية، ومناقشته في مشكلات الفلسفة وتجريداتها المعقدة منذ نعومة أظفاره.
أما والدته فقد كانت عاشقة للموسيقى، وتنحدر من عائلة تشكل الموسيقى اهتمامها الأول،
Shafi da ba'a sani ba
3
وقد غرست الأم في صغيرها هذا الحب، حتى إنه كان يفكر بجدية في أن يتخصص في الموسيقى ويهبها عمره، بل اختار بالفعل تاريخ الموسيقى كموضوع ثان في امتحان الدكتوراه، وقد بقي مشغوفا بالموسيقى طيلة حياته، يعزف البيانو ويختلف إلى قاعات الموسيقى الكلاسيكية، وله تأملات طويلة في الموسيقى منبثة في كتاباته، وهو يدين بالفضل للموسيقى الغربية البوليفونية (المتعددة النغم) في إلهامه بالكثير من أفكاره المحورية، ويرى أنها كانت قوة دافعة له في تطوره الفكري، وقد تمثل ذلك في تفسيره المبكر للعلاقة بين الفكر الدوجماطيقي والفكر النقدي، وفي شرحه للفارق بين الموضوعية والذاتية، وتمثل بصورة خاصة في تنامي عدائه لكل صور المذهب التاريخي (التاريخانية)
Historicism ، بما فيها الأفكار التاريخانية حول طبيعة «التقدمي» في الموسيقى.
وفي عام 1919م انخرط بوبر بشدة في النشاط السياسي اليساري، وانضم إلى «رابطة الطلاب الاشتراكيين»، وأصبح ماركسيا متحمسا فترة من الوقت، غير أنه سرعان ما خاب ظنه في الماركسية، وانكشف له طابعها النظري، فتركها إلى غير رجعة. وقد تعرف أيضا بنظريات التحليل النفسي لكل من فرويد وأدلر (الذي انخرط بوبر تحت إشرافه في العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المحرومين والأيتام). وحدث ذات يوم أنه استمع منتشيا إلى محاضرة لأينشتين في فينا عن النظرية النسبية، كانت ملاحظته لتلك الروح النقدية السائدة في أينشتين والغائبة في ماركس وأدلر وفرويد هي الحدث الكبير الذي أيقظه من سباته وقدح زناد فكره، وأوحى إليه بفكرة «التمييز»
Demarcation
بين العلم واللاعلم، والتي شكلت النقطة المحورية في مذهبه الفلسفي بأسره.
4
لم تكن حياة بوبر في مرحلة اليفاع منعمة كما كانت في زمن الطفولة، فقد خسر والده كل مدخراته في التضخم المالي الذي تفاقم بعد الحرب العالمية الأولى، وأصر بوبر على ترك منزل والديه حتى يخفف عنهما عبء المعيشة، وعمل في مهن متواضعة ليعول نفسه ويتم دراسته، وفي عام 1925م حصل على إجازة للتدريس في المدارس الابتدائية ، وفي عام 1928م حصل على دكتوراه الفلسفة، وفي عام 1929م حصل على إجازة لتدريس الرياضيات والفيزياء بالمدارس الثانوية.
كان التيار الفلسفي السائد في فينا في ذلك الوقت تمثله جماعة من المفكرين ذوي التوجه العلمي الذين «تحلقوا» حول شخصية موريتس شليك
M. Schlick
Shafi da ba'a sani ba
ضمت هذه الجماعة شخصيات مثل رودلف كارنب، وأوتو نويرات، وفكتور كرافت، وهانز هان، وهربرت فايجل، وجعلت غايتها توحيد العلوم، الأمر الذي استلزم في زعمهم إقصاء الميتافيزيقا مرة وإلى الأبد بإثبات أن قضاياها لا معنى لها، هكذا نشأت الحركة التي أطلق عليها «الوضعية المنطقية»
Logical Positivism
أو «حلقة فينا»
Vienna Circle ، وجعلت أداتها الرئيسية هي مبدأ «التحقيق»
Verification ، ومفاد هذا المبدأ باختصار شديد أن معنى القضية هو طريقة تحقيقها، ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها (تحققا تجريبيا حسيا بطبيعة الحال)، أو «يؤيدها» بشهادة الخبرة أو التجربة.
لم يرق هذا المبدأ، مبدأ التحقيق، لكارل بوبر، فقام بتفنيده تفنيدا منطقيا مفصلا، ومن المتفق عليه الآن أنه تفنيد حاسم، واستبدل به مبدأ جديدا، هو مبدأ «قابلية التكذيب»
Falsifiability
كمعيار للوضع العلمي لأية قضية، إنه مبدأ شديد البساطة وشديد الفعالية في الوقت نفسه،
5
مفاده ببساطة أيضا أن من صفة العبارة العلمية الأصيلة أن تشير إلى أمثلة لما تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة، ورغم ما تعرض له هذا المبدأ العلمي الجديد من نقد وتصويب، فقد رسخ قدمه وثبتت عند العلماء الممارسين قيمته وجدواه، وهو يدرج الآن ضمن بضعة مبادئ أخرى تعد «ركائز مفترضة» للعلم الأصيل (منها مبدأ الاستقراء، وقانون عدم التناقض، ومبدأ الاقتصاد).
Shafi da ba'a sani ba
وعلى الرغم من أن بوبر كان على ود صادق ببعض أعضاء حلقة فينا، وبخاصة هربرت فايجل الذي شجع بوبر على وضع كتابه الأول، فقد كان بوبر مناوئا للأفكار الرئيسية للوضعية المنطقية، ولا سيما تركيزها على نظرية المعنى في الفلسفة وعلى مبدأ التحقيق في المنهج العلمي، وقد عبر عن وجهة نظره الخاصة في العلم وعن انتقاداته للوضعيين في كتابه الأول الذي نشر تحت عنوان
Logik der Forschung
في عام 1934م، واعتبر بوبر أن هذا الكتاب قد دق ناقوس موت الوضعية المنطقية، ومن عجائب الأقدار أن الوضعية المنطقية لم تكن قد «ولدت» بعد في العالم الناطق بالإنجليزية، والذي تعرف على الوضعية المنطقية لأول مرة من خلال كتاب أ. ج. آير
A. J. Ayer «اللغة والحقيقة والمنطق» (1936م)، الذي لفت إليها الأنظار على نطاق واسع في إنجلترا، وقبل أن يترجم كتاب بوبر إلى الإنجليزية بسنوات ظلت فيها الوضعية هي التيار الفلسفي السائد في العالم الغربي.
لم تمض بضع سنوات على نشر هذا الكتاب الأول حتى بدأت غيوم النازية تتراكم في أفق ألمانيا والنمسا، واضطر بوبر، شأنه شأن غيره من المفكرين الذين ينحدرون من أصل يهودي، إلى الهجرة من النمسا عام 1937م؛ خوفا من تعقب النازيين، ألقى بوبر مراسيه في نيوزيلندا حيث قضى سني الحرب يدرس الفلسفة في جامعاتها، وكان ضم النمسا عام 1938م هو الحافز له على توجيه كتاباته إلى الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وفي عام 1946م انتقل إلى إنجلترا كلاجئ سياسي، وساعدته صديقته سوزان ستبنج في الحصول على وظيفة، فقام بتدريس المنطق ومناهج العلوم بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (وهي جزء من جامعة لندن) عام 1949م، ومنذ ذلك الحين نبه شأنه وطبقت شهرته الآفاق وانكب عن العمل الفلسفي المتواصل والإنتاج الثري، وأصبح كتابه «منطق الكشف العلمي»
Logic of Scientific Discovery (وهو الترجمة الإنجليزية لكتابه الأول) من أمهات الكتب في حقله، وفي عام 1965م منحته الأمة الإنجليزية لقب «سير»، وهو أعلى تشريف تمنحه لمواطن، ومنحته حكومة الدانمارك جائزة «سوننج» التي لم يفز بها إلا رجال من طبقة برتراند رسل وونستون تشرشل، ومنحته النمسا «وسام الشرف الذهبي الأكبر»، ومنحته الولايات المتحدة جائزة ليبنكوت للرابطة الأمريكية للعلوم السياسية، وتقاعد بوبر عن العمل بجامعة لندن عام 1969م، غير أنه ظل يمارس عمله بنشاط ككاتب ومحاضر ومحدث، حتى وافته المنية عام 1994م، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاما قضاها في خدمة التنوير ونصرة العقل.
حظي بوبر في حياته من المجد والتشريف بما لم يحظ به إلا القلة من قادة الإنسانية، وهو جدير بهذا المجد وهذا التشريف بما قدمه للعالم المتحضر من منجزات يكفي واحد منها أو اثنان لكي يضعا صاحبها في موضع فريد بين أعلى طبقة من نوابغ الفكر، ويمكن تلخيص أهم هذه المنجزات فيما يلي: (1)
أنه أول فيلسوف يلهم العلماء ويؤثر في أدائهم العلمي تأثيرا مثمرا، ويعزى الفضل لمنهجه العلمي في إنجاز كشوف علمية حقيقية. (2)
أنه حل «مشكلة الاستقراء»، ذلك الشبح القابع في خزانة الفلسفة، والذي حير الفلاسفة وأفزعهم منذ زمن ديفيد هيوم إلى اليوم. (3)
أنه قوض الوضعية المنطقية، حتى قبل أن تولد! وأعاد الفلسفة إلى مسارها الصحيح، وجعلها مرشدة للعلماء بعد أن انقلبت على نفسها وكادت تصير عالة على العلم. (4)
Shafi da ba'a sani ba
أنه قوض الماركسية وأعفى العالم الغربي من تجربة ثقيلة كانت كفيلة أن تهدر طاقته وتستهلك زمنه وتعطل تقدمه. (5)
أنه قدم أقوى دفاع عن الديمقراطية في الزمن المعاصر. (6)
أنه أثبت «موضوعية المعرفة»، وحل بها عددا من المشكلات المستعصية في تاريخ الفلسفة.
قد يماري المرء في بعض هذه المنجزات، وقد يطرح منها واحدا أو اثنين يرى فيهما شططا أو مبالغة، غير أنه لا شطط ولا مبالغة، بعد كل شيء، إذا قلنا: إننا مع بوبر بإزاء قامة استثنائية في مجال الفكر الإنساني، وإن الفلسفة بعد كارل بوبر لن تعود كما كانت قبله.
وإذ يحتفل العالم المتحضر بمرور قرن من الزمان على ميلاد كارل بوبر، فنحن نقدم هذه العجالة منه وإليه،
6
إجلالا لهذا العقل الكبير، وتحية لهذا الروح العظيم في عرسه المئوي، ونحن إذ نسدي إليه هذه الطاقة من قطوف فكره ومن ثمرات عقله، نعرف أنها «قربة لنا!»؛ فالحق أننا نحن العرب أحوج الخلق إلى صحبة هذا العقل والائتناس به؛ لأنه أقدر من يغرس فينا شيئا غائبا هو «التساؤل»، ويكمل فينا عضوا ناقصا هو «النقد»، ولست مغاليا إذا قلت: إننا لو كنا نعرف هذا الفيلسوف منذ «البداية» ونعي فكره لاختلفت أمور كثيرة!
فنحن بطبيعتنا نعيش في مناخ الأجوبة، ولا نعرف التساؤل ولا نستمرئ النقد، نحن نبتسر الأجوبة ابتسارا ، ولا نعرف أن الإجابة تأتي في المحل الثاني، وأن الخطوة الأولى نحو حل أي مشكلة هي البدء بالمشكلة نفسها، بالأسباب التي جعلتها مشكلة بموقف المشكلة، بصياغة المشكلة وفهمها من حيث هي مشكلة، أما النقد فنحن لا نقربه ولا نقترفه، ونحن نتجنبه ونجفل منه، ولا ندري أن خيط النقد داخل في نسيج عملية المعرفة، بل في نسيج أية عملية من عمليات الحياة، بحيث يصح أن نقول: إنه هو نفسه مسار التطور وجوهر التقدم.
7
وأما الخطأ فنحن ننكره ونعاقب عليه، ولا ندري أنه ضرورة وحتم، وأن التعثر بالخطأ هو طريقة للعقل في تلمس الحقيقة، الخطأ هو الوجه التقني للحقيقة! ... هو الحقيقة مقلوبة توشك أن تعدل وتعاد إلى نصابها.
Shafi da ba'a sani ba
العقل «حوار» ... ومن لم يصغ إلى صوت «الآخر» المتردد في أركان رأسه، ودأب على قمع المعارضة المتململة في تلافيف دماغه، فقد خرج على طبيعة العقل وسوائه، وفرض على نفسه فاشية ذهنية سيكون هو أول ضحاياها، وحكم على عقله بالسجن الأبدي في غيابات التحيز ومركزية الذات.
شد ما تستهوينا الأمثلة المؤيدة ويجرفنا التفاؤل الساذج، نحن لا نعرف التساؤل ولا النقد، ونحن نرى كل شيء بعين نظريتنا، فلا نرى غيرها! وغاية الفكر عندنا أن نبحث لقضيتنا عن مثال مؤيد أو بضعة أمثلة (أو تشبيه مقرب أو بضعة تشبيهات)، نظن فيها انبلاج الحق وفصل الخطاب، ولا ندري أن التأييدات
Confirmations
لا تثبت شيئا ولا تحسم قضية، وأن «المكذبات»
Falsifiers
هي المعيار والفيصل، نحن لا نطلع على عيوبنا وأعطابنا حتى يطلعنا عليها غيرنا، ولا نستكشف أخطاءنا حتى تكشفها لنا الأحداث الصماء التي لا تعرف الكذب ولا المجاملة، ونراهن على «نظرياتنا» بأرواحنا بدلا من أن نتركها تبيد عوضا عنا، وهكذا نعيش الخطأ ولا ننبذ الخطأ، وهكذا نجمد في مكاننا ولا نتقدم، ونبقى حيث نحن والدنيا تسير.
ولا دواء، فيما أعتقد، لهذا الداء الفكري المتوطن، أجدى من فلسفة بوبر العلمية، نتعلم منها كيف نسأل، ونتعلم منها كيف نحاول ونخطئ ثم نحذف الخطأ، فنكون قد قطعنا شوطا على درب المعرفة، واقتربنا خطوة من مظان الحقيقة.
د. عادل مصطفى
الكويت في 31 / 7 / 2002م
الفصل الأول
Shafi da ba'a sani ba
مذهب التكذيب
يبدو أنني لم أكن أكثر من صبي صغير يلهو على الشاطئ، أتسلى باكتشاف حصاة أكثر نعومة بين لحظة وأخرى، أو بالعثور على صدفة أكثر جمالا، بينما محيط الحقيقة العظيم يتمدد أمامي مبهما كله غير مستكشف.
إسحق نيوتن
يقول بوبر في «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»:
1 «عندما تلقيت قائمة بالمشاركين في هذه الحلقة الدراسية، وعلمت أنني مدعو للحديث إلى زملاء في مجال الفلسفة، رأيت بعد شيء من التردد والمشورة أنكم ربما تفضلون أن أتحدث إليكم عن تلك المشكلات التي أثارت اهتمامي أكثر من غيرها، وعن تلك التطورات التي ألممت بها إلماما وثيقا؛ لذا فقد عقدت الرأي على أن أقوم بشيء لم أقم به من قبل: وهو أن أقدم لكم تقريرا عن إسهامي الشخصي في فلسفة العلم، منذ خريف عام 1919م عندما بدأت أشتبك لأول مرة بمشكلة «متى ينبغي أن تعد نظرية ما نظرية علمية؟» أو «هل ثمة معيار يحدد الصفة العلمية أو الوضع العلمي لنظرية ما؟»»
لم تكن المشكلة التي أرقتني آنئذ هي «متى تكون نظرية ما نظرية صادقة؟» ولا «متى تكون نظرية ما نظرية مقبولة؟» كان ما يؤرقني هو شيء آخر، كنت أريد أن أميز بين العلم والعلم الزائف، وأنا على إدراك واضح بأن العلم كثيرا ما يخطئ، وأن العلم الزائف قد يتفق له أن يعثر على الحقيقة.
كنت بالطبع على علم بالجواب الأوسع انتشارا وقبولا لهذه المسألة: وهو أن العلم يتميز عن العلم الزائف، أو عن الميتافيزيقا «بمنهجه التجريبي»، وهو منهج «استقرائي» في الصميم، ينطلق من الملاحظة أو التجربة، غير أن هذا الجواب لم يكن شافيا بالنسبة لي، بل إنني على العكس كنت أصوغ مشكلتي في الغالب كمشكلة تمييز بين المنهج التجريبي الأصيل والمنهج غير التجريبي أو حتى «التجريبي الزائف»، أي المنهج الذي لا يرقى رغم احتكامه إلى الملاحظة والتجربة إلى مستوى العلم ولا ينزل منزلته، ولعل «التنجيم»
Astrology
من أمثلة هذا المنهج الأخير، وهو علم يستند إلى كم هائل من الأدلة التجريبية القائمة على ملاحظة البروج وسيرة حياة الأشخاص.
غير أن التنجيم لم يكن هو المثال الذي أفضى بي إلى هذه المشكلة، ومن ثم فقد ينبغي علي أن ألقي بعض الضوء على المناخ الذي نشأت فيه مشكلتي والأمثلة التي أثارت لدي هذه المشكلة، كانت هناك ثورة في النمسا بعد انهيار الإمبراطورية النمسوية، وكان الجو يصخب بشعارات وأفكار ثورية، وبنظريات جديدة وجريئة، من بين هذه النظريات كانت نظرية النسبية لأينشتين بلا شك هي الأكثر استحواذا علي دون منازع، وثلاث أخريات أثرن اهتمامي أيضا: نظرية ماركس في التاريخ، ونظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية ألفرد أدلر المسماة «علم النفس الفردي».
Shafi da ba'a sani ba
كان هراء شعبي كبير يروج حول هذه النظريات، وبخاصة حول النسبية (كما يحدث حتى في هذه الأيام)، غير أن الحظ قيض لي من يذلل قطوف هذه النظرية وييسر لي دراستها، لقد كنا جميعا - أنا والحلقة الصغيرة من الطلبة التي كنت أنتمي إليها - منتشين بنتيجة ملاحظات إدنجتون عن الكسوف، والتي جلبت أول تأييد هام لنظرية أينشتين في الجاذبية، لقد كانت تلك خبرة عظيمة لنا وتجربة كان لها أثر دائم على تطوري الفكري.
كانت النظريات الثلاث الأخرى التي ذكرتها هي أيضا مثار نقاش عريض بين الطلبة في ذلك الوقت، وقد أتاحت لي الظروف أن أعرف ألفرد أدلر معرفة شخصية، بل أن أتعاون معه في عمله الاجتماعي بين الأطفال والشباب في أحياء الطبقة العاملة في فينا حيث أسس أدلر عيادات إرشاد اجتماعي.
في صيف عام 1919م بدأ يداخلني شعور بعدم الارتياح لهذه النظريات الثلاث: النظرية الماركسية في التاريخ، والتحليل النفسي، وعلم النفس الفردي، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية، ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلا بسيطا: «ما خطب هذه النظريات؟ لماذا تبدو مختلفة جدا عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبشكل خاص عن نظرية النسبية؟»
ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت لم يكن بوسعه أن يقول بأنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية، من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات الثلاث الأخرى، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات، لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات الثلاث وإن اتشحت بوشاح العلم تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، وتشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيما ما تتمتع به من قوة تفسيرية ظاهرة، لقد بدت هذه النظريات قادرة فعلا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص، وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد، وما إن تتفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهد مؤيدة لها أينما نظرت، كان العالم يعج بتحقيقات
Verifications
للنظرية، وما من شيء يحدث إلا وهو تأييد لها، بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا، وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان الكبت التي لم تحلل بعد، والتي تصرخ طلبا للعلاج.
كان العنصر المميز لهذا الأمر فيما أرى هو ذلك الفيض الذي لا ينقطع من «التأييدات» أو الملاحظات التي «تحقق» النظريات المعنية، وهو الشيء الذي كان معتنقوها يؤكدونه على الدوام، لم يكن بوسع الماركسي أن يفتح جريدة دون أن يعثر في كل صفحة على دليل مؤيد لتفسيره للتاريخ، ليس في الخبر فحسب بل في طريقة عرضه التي تكشف عن التحيز الطبقي للصحيفة، وبخاصة بالطبع فيما لم تقله الصحيفة، أما المحللون الفرويديون فكانوا يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقا دائما في «ملاحظاتهم الإكلينيكية»، أما عن أدلر، فقد كان لي معه موقف شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليت له عن حالة لم تبد لي أدلرية الطابع، غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية، رغم أنه حتى لم ير الطفل، فسألته وقد نالني دهش: «فيم كل هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك ألف تجربة.» هنالك لم أتمالك نفسي قائلا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفا وواحدة.»
كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوم من هذه الملاحظة الجديدة، لعله كان يفسر كل ملاحظة بدورها في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يعدها إثباتا جديدا، كنت أسأل نفسي: «ماذا أثبتت؟ أثبتت أن حالة قد أمكن تفسيرها في ضوء النظرية لا أكثر.» غير أن هذا لا يعني شيئا ما دامت كل حالة يتصورها المرء يمكن أن تفسر في ضوء نظرية أدلر، وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد، ولتوضيح ذلك أود أن ننظر في هذين المثالين المختلفين تماما من السلوك البشري: سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، وسلوك رجل يضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل، بمقدور كل من النظرية الفرويدية ونظرية أدلر أن تفسر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة، فحسب نظرية فرويد يعاني الرجل الأول من «الكبت»
Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب مثلا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربا من «التسامي» أو «التصعيد»
Shafi da ba'a sani ba
Sublimation ، وبحسب نظرية أدلر كان الرجل الأول يعاني من مشاعر الدونية (التي ربما ألجأته إلى محاولة إثبات أن لديه الجرأة على ارتكاب جريمة ما)، وكذلك كان الرجل الثاني (الذي أراد إثبات أن لديه الجرأة على إنقاذ الطفل)، لم يكن بوسعي أن أتصور أي سلوك إنساني يستعصي على التفسير في ضوء كل من النظريتين، إنهما دائما منسجمتان على قوام المشاهدات، «على قدها»، دائما مؤيدتان، «كانت هذه الحقيقة بالتحديد هي الدليل الدامغ على صحتهما في نظر المعجبين بهما، أما بالنسبة لي فقد بدأ يتضح لعيني أن ما يبدو مظهر قوة في النظريتين هو بالضبط مكمن الضعف فيهما.»
أما مع نظرية أينشتين فقد كان الموقف جد مختلف، ولنأخذ مثالا نموذجيا، وهو تنبؤ أينشتين الذي كانت نتائج حملة إدينجتون قد أيدته للتو، كانت نظرية الجاذبية لأينشتين تفضي إلى نتيجة مفادها أن الضوء لا بد أن ينجذب نحو الأجسام الثقيلة (مثل الشمس)، تماما كما تنجذب الأجسام المادية، وكنتيجة لذلك أمكن تقدير أن الضوء القادم من نجم ثابت بعيد يبدو موقعه الظاهري قريبا من الشمس سوف يصل إلى الأرض من اتجاه من شأنه أن يجعل النجم يبدو مبعدا قليلا عن الشمس، وبعبارة أخرى أن النجوم القريبة من الشمس ستبدو كما لو كانت قد تحركت قليلا مبتعدة عن الشمس، وعن بعضها البعض، هذا شيء يتعذر على الملاحظة في الظروف العادية ما دامت هذه النجوم غير مرئية بالنهار بفعل التوهج الهائل للشمس، غير أن من الممكن أثناء كسوف للشمس أن نأخذ صورا فوتوغرافية لهذه النجوم، فإذا أخذنا صورة لنفس المجموعة من النجوم أثناء الليل أمكننا مضاهاة المسافات في كلتا الصورتين والتحقق من الأثر المتوقع.
والآن، ما هو الشيء اللافت في هذه الحالة؟
إنه ... «المخاطرة» التي ينطوي عليها هذا الصنف من التنبؤ، فإذا ما أظهرت الملاحظة أن الأثر المتوقع لا وجود له البتة تكون النظرية ببساطة قد دحضت، إن النظرية هنا غير متساوقة مع نتائج ممكنة معينة للملاحظة، مع نتائج كان كل شخص في الحقيقة قمينا قبل أينشتين أن يتوقعها، وهو موقف يختلف تماما عن الموقف الذي أسلفناه حيث تكشف أن النظريات المعنية كانت مساوقة لمعظم ألوان السلوك البشري المتباينة، بحيث يستحيل عمليا أن نصف سلوكا بشريا يتعذر علينا أن ندعي بأنه تحقق لهذه النظريات.
قادتني هذه الاعتبارات في شتاء 1919م-1920م إلى نتائج يمكننا الآن صياغتها كما يلي: (1)
من السهل أن نحصل على تأييدات، أو تحقيقات، لكل نظرية تقريبا، إذا بحثنا عن تأييدات. (2)
يجب ألا يعتد بالتأييدات إلا إذا كانت نتيجة لتنبؤات مخاطرة، بمعنى أننا إذا لم نستضئ بالنظرية المعنية لوجب أن نتوقع حدثا غير متساوق معها، حدثا جديرا بدحض النظرية. (3)
كل نظرية علمية هي نوع من «المنع» أو «الحظر»! إنها «تمنع» أشياء معينة أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية. (4)
النظرية التي لا تقبل الدحض بأي حدث يمكن تصوره هي نظرية غير علمية، فعدم القابلية للدحض ليست مزية للنظرية (كما يظن الناس غالبا) بل عيبا. (5)
كل اختبار أصيل للنظرية هو محاولة لتكذيبها، أو لدحضها، قابلية الاختبار هي قابلية التكذيب، غير أن هناك درجات من قابلية الاختبار، فبعض النظريات أكثر قابلية للاختبار من بعض؛ أي أكثر استهدافا للدحض، إنها نظريات تخوض مخاطر أكبر. (6)
Shafi da ba'a sani ba
الدليل المؤيد للنظرية يجب ألا يعتد به ما لم يكن نتيجة لاختبار أصيل للنظرية، وهذا يعني أنه يمثل محاولة خطرة، ولكن غير ناجحة لتكذيب النظرية وأنا هنا أتحدث عن حالات «الأدلة التعزيزية»
Corroborating Evidence .
2 (7)
عندما يتبين كذب بعض النظريات القابلة للاختبار، فإن مؤيديها يظلون متمسكين بها، وذلك مثلا بإدخال «فرض مساعد»
Auxiliary Hypothesis
على سبيل التحايل (الغرض العيني المحدد)
ad hoc ،
3
أو بإعادة تفسير النظرية بشكل تحايلي بحيث تتفادى التفنيد، مثل هذا الإجراء ممكن دائما وميسور، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض على حساب مكانتها العلمية، فهو يحطم هذه المكانة أو يخفضها على أقل تقدير (وقد أطلقت على عملية الإنقاذ هذه فيما بعد «المناورة الاصطلاحية»
Conventionalist Twist ).
Shafi da ba'a sani ba
وجملة القول: إن محك المنزلة العلمية لنظرية من النظريات هو «قابليتها للتكذيب»
Falsifiability
أو قابليتها للتفنيد
Refutability
أو قابليتها للاختبار
Testability . •••
وبوسعي أن أقدم أمثلة على ذلك من النظريات المختلفة التي سلف ذكرها. فمن الواضح مثلا أن نظرية الجاذبية لأينشتين كانت تفي بمعيار قابلية التكذيب، وحتى ولو لم تسمح لنا أجهزة القياس آنذاك أن نبت في نتائج الاختبارات بثقة تامة، فمن الواضح أن إمكان دحض النظرية كان قائما.
أما علم التنجيم فلا يصمد للاختبار، فقد كان المنجمون مبهورين ومضللين بما كانوا يظنونه أدلة مؤيدة بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أي دليل عكسي. وفضلا عن ذلك، فقد كان بوسعهم بما يضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموض جم أن يتملصوا من أي شيء كان حقيقا أن يدحض النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقة، فهم لكي يتفادوا تكذيب النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار. ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصية على الإخفاق، تجعلها غير قابلة للدحض.
وأما النظرية الماركسية في التاريخ، فهي على الرغم من الجهود الصادقة التي بذلها بعض مؤسسيها وأتباعها، قد انتهت إلى تبني هذا الضرب من العرافة. فالماركسية في بعض صياغاتها الأولى (مثل تحليل ماركس لطبيعة الثورة الاجتماعية القادمة) كانت تنبؤاتها قابلة للاختبار، وتم في الحقيقة تكذيبها، إلا أنه بدلا من قبول التفنيدات، فقد قام أتباع ماركس بإعادة تأويل كل من النظرية والدليل لكي يجعلوهما متوافقين. بهذه الطريقة يكونون قد أنقذوا النظرية من الدحض، ولكنهم دفعوا في ذلك ثمنا باهظا، ذلك أنهم تبنوا طريقة من شأنها أن تجعل النظرية غير قابلة للدحض. لقد منحوها «مناورة اصطلاحية»، وهم بهذه الحيلة قد حطموا مكانتها العلمية التي يدعونها ويكثرون من الترويج لها.
وأما نظريتا التحليل النفسي «الفرويدية والأدلرية»، فتنتميان إلى فئة مختلفة. لقد كانتا ببساطة غير قابلتين للاختبار، غير قابلتين للدحض، إذ ليس بوسع أي سلوك إنساني يمكن تصوره أن يأتي مناقضا لهما. وهذا لا يعني أن فرويد وأدلر غير مصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيا لا أشك في أن كثيرا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يسهم ذات يوم إسهاما كبيرا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلا للاختبار. غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن تلك «الملاحظات الإكلينيكية»
Shafi da ba'a sani ba
Clinical Observations
التي كان المحللون النفسيون يرون سذاجة أنها تؤيد نظريتهم لا تفترق في شيء عما يجده المنجمون في ممارساتهم من الشواهد اليومية المؤيدة لأقوالهم. وأما بالنسبة لملحمة فرويد عن الأنا والأنا الأعلى والهو، فهي لا يمكنها أن تدعي الصفة العلمية أكثر مما تدعيها حكايات هوميروس التي جمعها من جبال الأولمب، فهذه النظريات تصف بعض الوقائع، غير أنها تصفها كما تفعل الأساطير. إنها تحتوي على تصورات سيكولوجية جد شائقة، ولكن ليس بطريقة قابلة للاختبار.
وقد كنت في الوقت نفسه على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جلها من الوجهة التاريخية، قد نشأت عن أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية، ومن أمثلة ذلك نظرية أمبدوقليس في التطور بواسطة المحاولة والخطأ، أو أسطورة برمنيدس التي تقول بأن العالم لبنة واحدة ثابتة لا تتغير ولا يجري فيها أي شيء على الإطلاق، فهي إذا أضفنا إليها بعدا جديدا، فإنها تفضي إلى تصور أينشتين عن العالم، الكتلة المصمتة (وهو أيضا لا يستجد فيه شيء على الإطلاق، إذ إن كل شيء فيه بلغة الأبعاد الأربعة محدد مرسوم منذ البداية). هكذا كنت أشعر أننا إذا كنا بإزاء نظرية ما ووجدنا أنها غير علمية أو أنها «ميتافيزيقية» إن شئنا القول، فإن هذا لا يعني أنها غير ذات أهمية أو دلالة، أو أنها «بلا معنى»
Meaningless
أو «هراء»
Nonsense . إنها لا يمكن أن تدعي أنها تستند إلى أدلة إمبيريقية بالمعنى العلمي رغم أنها يمكن بسهولة أن تكون - بمعنى نشوئي ما - نتاجا للملاحظة. (كانت هناك نظريات أخرى جد كثيرة من هذا الصنف قبل العلمي أو العلمي الزائف، بعضها للأسف كان يتمتع بنفوذ مساو للتفسير الماركسي للتاريخ. منها على سبيل المثال التفسير العنصري للتاريخ، وهو مثال آخر لتلك النظريات المبهرة المفسرة لكل شيء والتي تخلب الأذهان الواهنة وتقع فيها موقع الوحي.)
المشكلة إذن التي كنت أسعى لحلها باقتراح معيار القابلية للتكذيب لم تكن هي مشكلة انعدام المعنى أو الدلالة. لا، ولا هي مشكلة «الصدق»
Truth
أو القبول، بل كانت مشكلة رسم خط (بأقصى قدر مستطاع من الدقة) يفصل بين عبارات (أو أنساق عبارات) العلوم التجريبية وبين جميع العبارات الأخرى، سواء كانت هذه عبارات ذات صبغة دينية أو ميتافيزيقية، أو كانت - ببساطة - عبارات علمية زائفة. كانت هذه هي المشكلة الأولى بالنسبة لي وقد أسميتها بعد سنوات (لعل ذلك كان في عام 1928 أو 1929) «مشكلة التمييز»
. كان معيار القابلية للتكذيب هو الحل لمشكلة التمييز، فهو يقول بأن العبارات أو أنساق العبارات، لكي تتصف بالصفة العلمية وتنزل منزلة العلم، ينبغي أن تتحلى بالقدرة على أن تصطرع مع ملاحظات ممكنة أو ملاحظات يمكن تصورها . •••
Shafi da ba'a sani ba
والآن دعونا ننتقل من نقدنا المنطقي لسيكولوجية الخبرة (التجربة) إلى مشكلتنا الحقيقية، مشكلة منطق العلم. ورغم أن بعض ما قلته آنفا قد يساعدنا هنا إذ يخلصنا من بعض تحيزاتنا النفسية إلى جانب الاستقراء، فإن معالجتي للمشكلة المنطقية للاستقراء لا صلة لها البتة بهذا النقد ولا بأية اعتبارات سيكولوجية، فإذا كنتم لا تعتقدون دوجماويا
4
في التفسير السيكولوجي المزعوم للاستقراء، فلكم الآن أن تصرفوا النظر عن قصتي برمتها باستثناء نقطتين منطقيتين اثنتين: (1) ملاحظاتي المنطقية عن قابلية الاختبار أو التكذيب بوصفها معيار التمييز. (2) نقد هيوم المنطقي لمبدأ الاستقراء.
من الواضح مما سبق أنه كانت هناك صلة وثيقة بين المشكلتين اللتين أثارتا اهتمامي في ذلك الوقت: التمييز
Demarcation ، والاستقراء
Induction (أو المنهج العلمي). لقد كان بميسوري أن أرى منهج العلم هو النقد، أي محاولة التكذيب. ورغم ذلك فقد اقتضت الأمور بضع سنوات لكي ألحظ أن المشكلتين - التمييز والاستقراء - هما بمعنى ما ... شيء واحد.
لقد عثرت مؤخرا بطريق الصدفة على صياغة شائقة لهذا الرأي في كتاب فلسفي رائع لعالم فيزياء عظيم، هو كتاب ماكس بورن «الفلسفة الطبيعية للعلة والمصادفة». يقول ماكس بورن: «يتيح لنا الاستقراء أن ننتقل من عدد من المشاهدات إلى قاعدة عامة، مثلا أن الليل يعقب النهار والنهار يعقب الليل، ولكن في حين أن الحياة اليومية لا تملك معيارا محددا لصواب أي استقراء، فقد قام العلم باصطناع مدونة أو دستور أو قاعدة حرفية لتطبيق الاستقراء.» لم يكشف بورن في أي موضع من أعماله عن مضامين هذا الدستور الاستقرائي (الذي يتضمن بحسب قوله معيارا محددا لصحة الاستقراء). غير أنه يؤكد أن «ليس هناك دليل منطقي يحتم قبوله»، «إنها مسألة إيمان»، وهو من أجل ذلك «يود أن يسمي الاستقراء مبدأ ميتافيزيقيا.»
ولكن لماذا يعتقد بورن أن مثل هذا الدستور الخاص بقواعد الاستقراء الصحيح لا بد أن يكون موجودا؟ هذا ما يتضح لنا عندما نسمعه يتحدث عن «الجموع الغفيرة من الناس الجاهلين بحكم العلم أو الرافضين له، ومن بين هؤلاء أعضاء جماعات مناهضة التطعيم، والمؤمنون بالطالع والتنجيم. لا جدوى من مناقشة هؤلاء، وليس بمقدوري أن أرغمهم على قبول نفس المعايير التي أعتقدها للاستقراء الصحيح: أعني دستور القواعد العلمية.» هكذا يتضح بجلاء أن «الاستقراء الصحيح» هنا كان المقصود منه أن يعمل كمحك للتمييز بين العلم والعلم الزائف.
إلا أن من البين أن قاعدة الاستقراء الصحيح هذه أو صنعته ليست حتى ميتافيزيقية، إنها ببساطة لا وجود لها. ليست هناك قاعدة على الإطلاق تضمن لنا أن تعميما مستفادا من ملاحظات صادقة، مهما كثر تكرارها وتواترها، هو تعميم صادق (بورن نفسه لا يعتقد في صدق الفيزياء النيوتونية بكل نجاحاتها رغم أنه يراها قائمة على الاستقراء). ونجاح العلم هو أمر لا يستند على قواعد الاستقراء، بل يعتمد على الحظ والعبقرية والقواعد الاستنباطية الخالصة للدليل النقدي.
وبإمكاني أن ألخص بعض النتائج التي خلصت إليها كما يلي: (1)
Shafi da ba'a sani ba
الاستقراء، أي الاستدلال القائم على ملاحظات عديدة، هو خرافة. إنه ليس واقعة سيكولوجية، ولا هو واقعة حياتية، ولا هو أحد الإجراءات العلمية. (2)
الإجراء الفعلي للعلم هو السير بالحدوس الافتراضية: هو القفز إلى الاستنتاجات، غالبا بعد ملاحظة فريدة (كما لاحظ مثلا هيوم وبورن). (3)
تعمل الملاحظات والتجارب في العلم كاختبارات لحدوسنا أو فرضياتنا؛ أي كمحاولات تفنيد. (4)
هذا الاعتقاد الخاطئ في الاستقراء تخلقه حاجتنا إلى معيار للتمييز، تلك الحاجة التي جرى العرف بطريق الخطأ على أن الاستقراء وحده هو الذي يفي بها. (5)
ينطوي هذا المنهج الاستقرائي، شأنه شأن معيار التحقيق
Verification ، على تمييز خاطئ. (6)
لا فائدة البتة في أن نقول إن الاستقراء يجعل النظريات احتمالية فحسب، لا يقينية، ولا يؤدي هذا القول إلى أدنى تغيير في الموقف.
فإذا كانت مشكلة الاستقراء، كما سبق أن ألمحت، هي مجرد مثال أو جانب من مشكلة التمييز، لوجب إذن أن يزودنا حلنا لمشكلة التمييز بحل لمشكلة الاستقراء. وهذا في اعتقادي هو وجه الأمر حقا رغم أنه لا يبدو جليا للوهلة الأولى.
ولعل من الخير أن نعود إلى بورن مرة ثانية لنحصل على صياغة موجزة لمشكلة الاستقراء. يقول بورن: «ليست هناك ملاحظة ولا تجربة، مهما مددناها وتوسعنا فيها، يمكن أن تمنحنا أكثر من عدد متناه من التكرارات»، ومن ثم «فإن العبارة (القانون) «ب تنتج عن أ» هي دائما تتجاوز الخبرة. ورغم ذلك فنحن نقوم بصياغة هذا الصنف من العبارات في كل مكان وكل زمان، وأحيانا نستخلصها من مادة ضئيلة.»
وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن المشكلة المنطقية للاستقراء تنشأ مما يلي: (أ)
Shafi da ba'a sani ba
كشف هيوم (الذي عبر عنه بورن خير تعبير) بأن من المحال تبرير أي قانون بواسطة الملاحظة أو التجربة، لأنه «يتجاوز الخبرة». (ب)
واقعة أن العلم يدفع بقوانين ويستخدمها «في كل مكان وزمان»، وبورن في ذلك يعبر عن اندهاشه - شأنه شأن هيوم - من «ضآلة المادة»، أي قلة الأمثلة الملاحظة التي قد يؤسس عليها القانون. (ج)
مبدأ التجريبية الذي يقول بأنه في مجال العلم لا حكم لغير الملاحظة والتجربة في تقرير قبولنا أو رفضنا للعبارات العلمية، شاملة القوانين والنظريات.
هذه المبادئ الثلاثة المذكورة تبدو متعارضة للنظرة الأولى، وهذا التضارب الظاهري هو الذي يشكل أزمة الاستقراء.
ولما واجه بورن هذا التعارض فقد استبعد «ج»، أي مبدأ التجريبية (كما فعل كانت من قبل وكثير غيره بما فيهم برتراند رسل)، مفضلا عليه ما أسماه «مبدأ ميتافيزيقيا»، ذلك المبدأ الميتافيزيقي الذي لم يحاول حتى أن يصوغه، مكتفيا بالوصف الغامض «دستور أو قاعدة الصنعة»، والذي لم أشاهد له أي صياغة تحمل بصيصا من الوعد وليست واضحة الخلف.
غير أن المبادئ من «أ» إلى «ج» غير متعارضة في حقيقة الأمر. وبوسعنا أن ندرك ذلك في اللحظة التي ندرك فيها أن قبول العلم لقانون أو نظرية ... ما هو إلا قبول اختباري
Tentative
فحسب، بمعنى أن جميع القوانين والنظريات هي حدوس افتراضية (تخمينات)، أو فروض اختبارية (وهو موقف كنت أسميه أحيانا «النزعة الافتراضية»
Hypotheticalism )، وأن من الجائز لنا أن نرفض قانونا أو نظرية في ضوء بينة جديدة دون أن نلغي بالضرورة البينة القديمة التي أدت بنا في الأصل إلى قبولها.
وبإمكاننا أن نحتفظ تماما بالمبدأ التجريبي «ج» ما دام مصير أية نظرية من حيث القبول أو الرفض تقرره الملاحظة والتجربة عن طريق نتائج الاختبارات. وما دامت النظرية صامدة لأقصى ما نستطيع تصميمه من اختبارات فهي مقبولة، فإذا لم تصمد فهي مرفوضة. غير أن النظرية لا تستنتج بأي معنى من المعاني من الأدلة الإمبيريقية. ليس ثمة شيء من قبيل الاستقراء السيكولوجي ولا الاستقراء المنطقي. فليس بالإمكان أن نستنتج من الأدلة الإمبيريقية غير كذب النظرية، وهذا الاستدلال هو استدلال استنباطي صرف.
Shafi da ba'a sani ba