ثمانية عشر عاما عملتها معه، أحيانا باتصال عمل مباشر، وأحيانا بحكم الوجود في مؤسسة واحدة سواء أكانت «الجمهورية» أم «الأهرام». بل ومن الصدف الغريبة أن تكون علاقتي به خلال العامين الأخيرين علاقة عمل كاملة. وماذا أقول لك عن علاقات العمل وضرورة أن يحدث فيها غضب واختلاف وأحيانا صدام ومقاطعة؟ وباختصار: عمري ما رأيت مشرفا على عمل يومي إلا وهو يتمتع بقدر كبير من الكره، إما من مرءوسيه المباشرين أو زملائه أو رؤسائه. هذا إنسان نادر؛ ذلك أنه ليس معي فقط وإنما مع الجميع، وأقولها بلا أي مجاملة ولا حتى مجاملة صديق مات شهيد الواجب والمهنة، وإنما أقولها كحقيقة لا يستطيع أن ينكرها حتى أشد الناس كرها له، لو حدثت المعجزة ووجدت فعلا من يكرهه. نسمة إنسان وسط جحيم القيظ البشري الذي نعيش فيه، كلما تراكمت متاعب الدنيا والعمل أحس على الفور أني في حاجة لابتسامته، وفي حاجة للحديث معه، وأنا أعرف أني لا أتحدث مع إنسان خالي البال أو لا يعاني من مشاكل، بالعكس أتحدث مع إنسان تحاصره الهموم وتكاد تخنقه المشاكل، ومع هذا فهو ابتسامة حانية لغيره، تقدير مرهف ودقيق لظروف الآخر قبل ظروفه. دمث، و«دمث» كلمة طالما استعملناها لنقر بحقيقة أو للتمني أو للمجاملة. أعتقد أنه لو لم توجد كلمة دمث في اللغة العربية لأوجدها محمود كاملة وبكل أبعادها بتصرفاته ومواقفه وأفعاله، لاخترعها بمجرد شخصيته اختراعا.
آخر مرة رأيته فيها كان يوم الأحد في استراحة الرئيس بالمعمورة أثناء اللقاء مع الكتاب ورجال الإعلام ونحن نتصافح. بابتسامته الودودة المصرية شد على يدي وقال: موعدنا غدا الاثنين لتسلمني مفكرة الجمعة كما اتفقنا. وقلت: خلاص يا محمود. قال: لا! أريد، أرجوك أن تحدد الموعد بالساعة والدقيقة وليس اليوم فقط. قلت: لا، إني متنازل لك عن تحديد الساعة، حددها أنت. قال: لقاؤنا إذن إن شاء الله سيكون في الثانية عشرة بالدقيقة والثانية. موافق؟
ولكنه سبحانه شاء أن يتم اللقاء حقا، إنما بطريقة أخرى. ففي الثانية عشرة تماما وبالدقيقة والثانية كنت ألتقي بمحمود، كل ما في الأمر أن روحه كانت قد صعدت إلى السموات العلى، وجسده كان محمولا على أعناق الرجال. لقاء وأي لقاء! مضبوطا في مواعيده وعهوده كما كان دائما، وكما هي عادتي أنا غير مضبوط في مواعيدي. ولكني هذه المرة كنت مضبوطا تماما، بل جئت قبل الموعد بساعة، فقد كنت أعرف أنه آخر لقاء.
عزاء لنا جميعا نحن العاملين في أشق المهن وأكثرها متاعب، ومعظمها متاعب فيها ومن أبنائها لأبنائها، عزاء لنا في أجمل زهرة «أقسم إن هذا رأي حقيقي وأبدا ليس مجاملة لمحمود لأنه ذهب» كانت تعبق في صمت في صحافتنا، والمؤسف أنها كانت تعبق لنا فقط، المؤسف أن جمالها ورائحتها لم تكن تصل بطريق مباشر إلى القراء والجمهور وإلا لبكوا عليه بحرقة ومن قلوبهم وأكبادهم مثلما فعلنا نحن الذين عرفناه، وكانت معرفته تمثل لكل منا نسمة رقيقة عليلة في جحيم العلاقات الصحفية الخماسينية اللافحة التي تحيط بنا.
وإلى جنة الخلد أيها الشهيد، فقد مات لأنه كان يريد أن يسرع ليلحق بالعدد، وفي وقت مبكر حتى يقدمه للقارئ كاملا عامرا في اليوم التالي؛ إذ هو الجندي المجهول وراء «الأهرام» تصلك حافلة وأنت المستريح في فراشك لا تزال، أو خلف مكتبك تشرب قهوتك منسجما مرتاحا. مات والموت حق، والموت مصيرنا جميعا، ولكن أحيانا يكون للموت لدغة كقرصة «الكوبرا» صاعقة، وسامة، وبشعة الألم.
إلى اللقاء إذن يا محمود في يوم لن يحدده أحد منا، ولكن إلهنا العظيم هو الذي سيتولى تحديده، لقاء لا فراق بعده؛ إذ أعتقد أن من متع الجنة أن يجمعك الله بكل من أحببت في دنياك، والجحيم أن يكتب عليك أن تكون مع من تكرهه حتى ولو كان في الجنة.
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
مثلي مثل آلاف وملايين المصريين، تابعت خلال الأسبوعين الماضيين كل ما كتب عن قانون الإسكان الجديد وما دار من نقاش؛ كل ما هو ضد القانون، وكل ما هو معه، كل من سماه قانون إعانة أصحاب البيوت، وكل من جعله المنقذ الوحيد لأزمة الإسكان الرهيبة التي نحيا في ظلها، ولا أدري أهي الصدف المحضة أم لأن الحال عام ومزمن وكالآلام الروماتزمية لا يكف عن النقح والطنين؛ فقد تصادف أن وصلني في وقت واحد ثلاثة خطابات، اثنان منها من رجلين والثالث من مواطنة سمت نفسها الآنسة السيدة.
أحد الخطابات كان في ست عشرة صفحة، وكان كأنه نابع من عمق آلام عمرها ألف عام، فقد كان من زوج يعرض علي مأساة بلغ حرجي منها أن احترت أن أموت فيها على نفسي من الضحك غيظا أو أغتاظ منها إلى حد الانفجار. ومشكلة هذا المواطن أنه تزوج من عشر سنوات، وظل زواجه موفقا لمدة ست سنوات أنجب فيها ولدا وبنتا. والقصة طويلة، أختصرها بقولي إن زوجته كرهته وبدأت على حد تعبيره «تلعب بذيلها.» وأخيرا بعد أن ضاقت به السبل استجمع رجولته وقرر مواجهتها وفعلا وفي غرفة النوم المغلقة (حتى لا يسمع الأولاد) واجهها. ودهش هو بل روع لأنها لم تحاول أن تصرخ أو تتشنج أو تدافع أو تتهمه أو تصنع شيئا من كل هذا؛ لأنها ببساطة شديدة قالت: ما قلته ليس دقيقا؛ فهذه المعلومات عائمة، أنا عندي معلومات وتفاصيل أكثر مما قلته بكثير، أنا بصراحة أصنع كذا وكذا، وفي نيتي أن أصنع كذا وكذا؛ لأنني كرهتك بكل نفسي. ماذا تريد؟
أسهب في شرح ما جرى له لدى سماعه ما قالت، وفكر أن يهجم عليها ويظل يضغط بيديه حول رقبتها حتى يقتلها. ولكنه كما يقول منعته أسباب كثيرة، آخرها - ولكنه في رأيي أولها - أنه لا يملك الحيوانية الكافية لقتل فرخة، فما بالك بزوجته التي مهما كانت فهي إنسانة وليست فرخة. «إيه رأيك بقى؟ إن كنت راجل صحيح زي كل الرجالة طلقني.» وفعلا كما يقول رمى عليها يمين الطلاق. وخرج إلى الصالة ليدخن سيجارة ويفكر فيما يصنعه بعد هذا. غير أنه فوجئ لدى أول خطوة يريد أن يخطوها بمشكلة لا يمكن أن تخطر على البال، إنه لا يستطيع أن يطردها من البيت؛ فالشقة في الحكم القضائي تعتبر مكانا للزوجة ولأولادها، وأن عليه هو أن يذهب. ولكنه لا يملك مكانا يذهب إليه، فهو لا يستطيع أن يقيم مع شقيقه أو شقيقته أو في بيت العائلة في قرية تبعد عن العاصمة 300 كيلومتر، بينما عمله في العاصمة! يطردها ويهددها بالقتل؟! ويبدو أن الزوجة أو المطلقة كانت مستعدة لكل شيء، وقد ذكرت له أن الشقة بحكم القانون شقتها وأن الأولاد أيضا بحكم القانون تحت ولايتها، وأنها قالت إنها لا تملك مكانا تلجأ إليه، لا نقود خلوا لشقة ولا قريبة تسمح لها بالإقامة مع أولادها الاثنين معها. وأنا هنا قاعدة لا يستطيع أن يخرجني إنس ولا بوليس ولا جان. خرج إلى القهوة واستشار، وعاد وبات في الصالة، وفي العمل أيضا، وبسرعة تامة، وبقيت المشكلة رابضة بلا حل، بلا أمل في أي حل.
Shafi da ba'a sani ba