A Bakin Kofar Zuwayla
على باب زويلة
Nau'ikan
1 - في بلاد الكرج
2 - في بلاد الروم
3 - جاه العبيد!
4 - قنصوه الغوري
5 - أحلام جارية
6 - عودة الماضي
7 - أطماع المماليك
8 - سلطان الشهوات
9 - شهددار
10 - آخرة ملك
Shafi da ba'a sani ba
11 - شعب يلهو
12 - خضاب العروس
13 - خطوات الزمن
14 - أنباء من الغيب
15 - دسائس القصور
16 - نداء القلب
17 - لفتات الذكرى
18 - أرقم الرمال
19 - حديث المدينة
20 - تحت ظل العرش
Shafi da ba'a sani ba
21 - بأي أرض تموت!
22 - شعب وحكومة
23 - وراء الأكمة
24 - حمامة السلام
25 - أدراج الرياح
26 - لغز الحياة
27 - نذير العاصفة
28 - أول الطريق
29 - شعاع من النور
30 - بوادر المعركة
Shafi da ba'a sani ba
31 - الثأر
32 - أب وأم!
33 - في زحام المعركة
34 - غبار الحرب
35 - الحرب سجال
36 - السهم الأخير
37 - آخر الطريق
1 - في بلاد الكرج
2 - في بلاد الروم
3 - جاه العبيد!
Shafi da ba'a sani ba
4 - قنصوه الغوري
5 - أحلام جارية
6 - عودة الماضي
7 - أطماع المماليك
8 - سلطان الشهوات
9 - شهددار
10 - آخرة ملك
11 - شعب يلهو
12 - خضاب العروس
13 - خطوات الزمن
Shafi da ba'a sani ba
14 - أنباء من الغيب
15 - دسائس القصور
16 - نداء القلب
17 - لفتات الذكرى
18 - أرقم الرمال
19 - حديث المدينة
20 - تحت ظل العرش
21 - بأي أرض تموت!
22 - شعب وحكومة
23 - وراء الأكمة
Shafi da ba'a sani ba
24 - حمامة السلام
25 - أدراج الرياح
26 - لغز الحياة
27 - نذير العاصفة
28 - أول الطريق
29 - شعاع من النور
30 - بوادر المعركة
31 - الثأر
32 - أب وأم!
33 - في زحام المعركة
Shafi da ba'a sani ba
34 - غبار الحرب
35 - الحرب سجال
36 - السهم الأخير
37 - آخر الطريق
على باب زويلة
على باب زويلة
تأليف
محمد سعيد العريان
تعريف1
بقلم طه حسين
Shafi da ba'a sani ba
كتاب رائع بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها وأصدقها في وقت واحد، كتاب من هذه الكتب النادرة التي تظهر بين حين وحين، فتحيي في النفوس أملا، وترد إلى القلوب ثقة واطمئنانا؛ لأننا نشعر حين نقرؤه بأن الحياة الأدبية في مصر ما زالت خصبة قوية قادرة على الإنتاج، وعلى الإنتاج القيم الممتع الذي لا تتردد مصر في أن تفاخر به، وفي أن تعرضه إذا عرضت الأمم الحية كتبها الممتعة وأدبها الرفيع.
كتاب لم يخرجه صاحبه إلا بعد جهد أي جهد، واستقصاء أي استقصاء، وعناء عنيف لا يحب أن يحتمل بعضه كثير من كتابنا الذين يحبون الطرق المطروقة والسبل المألوفة، ويكرهون أن يشقوا على أنفسهم بالقراءة المضنية والبحث المتصل، ثم بالتفكير فيما قرءوا والاستنباط مما بحثوا عنه، ثم بالعرض المتقن لما استنبطوا، وبالإبانة الرائعة عما أرادوا أن يقولوا لقرائهم، وكل هذا قد فعله الأستاذ محمد سعيد العريان، دون أن يظهر أحد على ما كلف نفسه من مشقة، وما حمل عليها من جهد، وما أخذها به من شدة في القراءة والبحث والاستقصاء، ثم بالفقه الجاد الحازم الذي لا يعرف ضعفا، ولا تخاذلا، ولا إيثارا للعافية، ولا كلفا بالنجح اليسير.
وقد أراد الأستاذ العريان أن يعرض طرفا من تاريخ مصر، من تاريخها العسير المؤلم الذي تكثر فيه الحوادث، وتلتوي بالمؤرخين وبقراء التاريخ جميعا، وهذا الطرف الذي يمثل انقضاء سلطان المماليك في مصر، وزوال الاستقلال المصري بأيدي الفاتحين من الترك العثمانيين، ويكفي أن أذكر هذا الموضوع ليشعر القارئ بعسره ومشقته، وما يفرض على من يريد تحصيله وتمثله من جهد وعناء. ثم لم يرد الأستاذ العريان أن يضع كتابا في تاريخ هذا العصر من عصور مصر، يعرض فيه الحوادث عرضا دقيقا مستوفيا للشروط التي يحرص المؤرخون على استيفائها، ولم يرد أن يتحدث إلى المؤرخين وحدهم، وإنما أراد أن يتحدث إلى المثقفين جميعا، فآثر مذهب القاص على مذهب المؤرخ، وأعمل خياله في الوقت الذي أعمل فيه عقله، فأضاف بذلك جهدا إلى جهد وعناء إلى عناء، ووفق في الأمرين جميعا توفيقا أعترف بأني لم أشهد مثله في الأعوام الأخيرة، التي خيل إلينا فيها أن الإنتاج الأدبي في مصر قد أفسده حب السهولة، وكاد يرده إلى العقم وكسل الكتاب والقراء جميعا.
أما من الناحية التاريخية فقد بدأ المؤلف حديثه بتلك السنين المضطربة التي انتهى فيها ملك السلطان قايتباي بين طمع الطامعين من الأمراء والولاة، ورؤساء الجند من المماليك، ومضى في طريقه حتى صور أبرع تصوير، وأقواه ما كان من اختصام هؤلاء الأمراء والولاة والرؤساء حول العرش أولا، وحول المنافع القريبة والبعيدة بعد ذلك، وما كان من تولية وعزل، ومن تتويج وخلع، ومن أسر وقتل، وما كان من كيد في القصر وخارج القصر، وما كان يجري على ألسنة الشعب من حديث، وما كان يضطرب في قلوبه من أمل، وما كان يخامر نفسه من يأس، حتى ارتقى السلطان الغوري إلى عرش مصر، فرد إلى الملك أمنه وإلى السلطان استقراره، ولكنه روع النفوس وملأ القلوب هلعا وفزعا ولوعة وحسرة؛ لإسرافه على الناس في الظلم، وإسرافه على نفسه في البخل، وتهالكه على جمع المال، يأخذه بحقه ويأخذه بغير حقه، ويطلق أيدي أعوانه في أموال الرعية، حتى يعم الفساد، وينتشر الخوف، وتظلم الحياة.
ثم يستأنف الكيد حول هذا السلطان الشيخ في القصر وخارج القصر، وفي مصر وخارج مصر، ثم ينتهي الأمر إلى الكارثة حين تنشب الحرب بينه وبين العثمانيين، وحين تنهزم الجيوش المصرية، لا عن ضعف ولا عن جهل، ولكن عن خيانة السادة والقادة والرؤساء، ثم تكون المقاومة الأخيرة الرائعة التي يبذلها شعب قد لقي من ظلم المماليك شرا عظيما، ولكنه على ذلك مؤثر لاستقلاله حريص عليه، يفضل أن يظلمه ملوكه وسلاطينه على أن يتحكم فيه الأجنبي، ولا تطيب نفسه عن هذه الإمبراطورية العظيمة ذات الأطراف المترامية في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، وذات الألوية المنتشرة على البحرين جميعا، ولكن المقاومة لا تجدي على هذا الشعب البائس شيئا؛ لأن المماليك قد نحوه عن الأمر، فلم يعتمدوا عليه في تدبير الملك، ولم يقيموا سلطانهم على إرادته ورضاه، ولم يلتمسوا عنده الجنود المدربين، وإنما استغلوه استغلالا، ولم يحكموه لمصلحته هو، وإنما حكموه لمصلحتهم.
هذا كله يصوره المؤلف تصويرا رائعا، يروع بصدقه وقوته ودقته، وقرب مأخذه وبعده عن العسر والالتواء.
وأما الناحية الخيالية، فليست أقل من هذه الناحية التاريخية روعة وجمالا، ولعلها أن تكون أسحر منها للقلوب وأخلب منها للعقول، وأي غرابة في ذلك وطبيعة الخيال البعيد القوي أن يسحر القلوب، ويخلب العقول، ويشغل القارئ عن نفسه أثناء القراءة وبعد انتهاء القراءة.
والكاتب يبدأ قصته في ذلك الغور الذي كان مستودعا، يجد فيه المماليك مادتهم من الرقيق الذين يختطفون أو يختلسون أو يؤخذون عنوة، ثم يجلبون إلى القاهرة؛ ليتعلموا فيها فنون الحرب والحكم، ثم ليصبحوا جندا وقادة وأمراء وملوكا وسلاطين، وليدبروا أمر هذه الإمبراطورية الواسعة البعيدة الأرجاء.
نحن إذن في هذا الغور نشهد أما تعطف على ابنها الصبي بقلب يملؤه الحنان والحسرة، فهذا الصبي وحيدها، وهو عزاؤها عن أبيه الذي ذهب يطلب ثأر والده، فلم يعد إلى امرأته منذ عشر سنين حتى يئست من عودته، ووقفت حبها وأملها على هذا الصبي، فهي ترعاه يقظان، وتحرسه نائما، وهي كذلك ذات ليلة إذ تحس نبأة، فتخرج من خيمتها مستقصية ثم تعود فلا تجد ابنها؛ لأنه قد خطف كما يخطف غيره من أبناء الغور، وقد أقسمت أمه لتسعين في طلبه حتى تدركه أو يدركها الموت.
من هنا تبدأ القصة، ومن هنا يسلك بنا الكاتب طريقين متوازيتين؛ إحداهما: طريق الصبي طومان الذي يذهب به خاطفه إلى بلاد الروم، ثم إلى الإمبراطورية المصرية، حيث يباع لأمير القلعة في حلب، ثم يمضي مع سيده الذي يصبح عمه ذات يوم - وما أحب أن أفصل ذلك للقراء، فقد ينبغي أن يلتمسوا تفصيله في الكتاب - وما يزال الصبي طومان يمضي في طريقه إلى المجد، متحملا للخطوب، مصابرا للأحداث، مذللا للعقاب، حتى يرقى عمه عرش مصر، وحتى يصبح هو مستشاره وذراعه اليمنى في تدبير الملك، ثم خليفته على مصر حين يذهب للقاء العثمانيين، ثم خليفته على العرش بعد أن يقتل في الموقعة، ثم زعيم المقاومة المصرية حتى يتفرق عنه الجند منهزمين، ثم طريدا يغدره أعرابي فيسلمه إلى سلطان العثمانيين، ثم أسيرا يطاف به في القاهرة، ثم قتيلا قد علقت جثته على باب زويلة.
Shafi da ba'a sani ba
أما الطريق الثانية فهي طريق الأم التي خرجت من الغور تطلب ابنها، فهي تمر ببلاد الروم، ثم بالإمبراطورية المصرية، وهي تلقى في هذه الطريق أهوالا وأهوالا، وهي لا تعرف مكان ابنها إلا بعد أن يقتل الغوري ويصبح ابنها سلطانا، وهي تسعى لتلقاه، وتبلغ مصر مع المنهزمين، ولا تتيح لها الحرب لقاء ابنها على كثرة ما تحاول من ذلك، ولكنها تراه ذات يوم وفي آخر طريقها وفي آخر طريقه: جثة معلقة على باب زويلة!
وهاتان الطريقان لا تخلصان لطومان وحده ولا لأمه وحدها، وإنما هما ممتلئتان بضروب مختلفة من الناس، وبألوان متباينة من الأحداث والخطوب ، وبفنون متمايزة من الشخصيات: شخصيات الرجال الطامحين الطامعين، والضعفاء الأذلاء، والذين يترددون بين العزة والذلة، والذين يكيدون في سبيل المال، والذين يكيدون في سبيل الحب، والذين يكيدون في سبيل السلطان، والذين يعيشون للذاتهم، والذين يعيشون لعبادة الله والتخلص من أوزار الحياة الدنيا، وشخصيات النساء اللاتي يكدن ليدخلن القصر، ثم يكدن ليبلغن العرش، ثم تخرجهن الثورات من القصر فيكدن للعودة إليه، وتنزلهن الفتن عن العرش، فيمكرن ليرقين إليه مرة أخرى، كل هؤلاء وغير هؤلاء تكتظ بهم الطريقان.
والأشخاص في هذه القصة كثيرون، قد تفرقت بهم الطرق والتوت بهم المذاهب، واختلفت بهم وعليهم الأهواء، وهم مع ذلك لا يصرفون القارئ عن قراءته ولا يردونه عن غايته، وإنما يدفعونه إلى هذه الغاية دفعا، ليس منهم إلا من يثير في القارئ عاطفة حب أو بغض، أو رغبة في الاستطلاع، أو تذكرا لشخصيات أخرى من شخصيات التاريخ، أو تفكرا في بعض الأحداث والخطوب التي يشهدها هنا وهناك في حياة العصر الحديث.
قلت لك إنه كتاب رائع بأدق معاني الكلمة وأوسعها، وأصدقها في وقت واحد.
وإذا كان الناقد مستشارا للقراء، وإذا كان المستشار مؤتمنا كما يقال، فإني أشير على القراء أن يقرءوا هذا الكتاب، فسيجدون فيه أدبا رفيعا وتاريخا صحيحا، وتحليلا دقيقا وأسلوبا رصينا، لولا هذه الإنات التي يسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس، لا في هذا الكتاب وحده، بل في كل ما يكتب، وأكاد أملي: في كل ما يقول!
بدأت حوادث هذه القصة منذ خمسمائة سنة في بلاد الكرج «جورجيا: موطن ستالين»، وانتهت بالقاهرة في قصور السلاطين.
الفصل الأول
في بلاد الكرج
على امتداد الطرف في أرجاء الغور المنبسط بين جبال القبج (القوقاز)، كانت تقيم قبيلة من أشد قبائل الجركس بأسا، وأعزهم نفسا، وأقواهم شكيمة في الحرب والسلم، وأحرصهم على الغلبة وإدراك الثأر ...
على أن هذه القبيلة على ما تهيأ لها من أسباب المنعة في أرضها هذه التي تكتنفها رءوس الجبال، منتصبة في كل ناحية كأنها أنياب الأسد، ومن قوة بأس أبطالها المغاوير ذوي الحفاظ والنخوة، لم يتعود أهلها الهدوء يوما على حال من الطمأنينة والسلام، فلم يزالوا - منذ كانوا - هدفا لغارات التتار، وغزوات التركمان، وبغتات تجار الرقيق؛ فقد اشتهر فتيان هذه القبيلة وفتياتها بصباحة الوجوه، ورقة الطباع، ولين الخلق، وجمال القوة؛ فإن كل ذي مطمح من أصحاب الجاه ليرنو بعينيه من وراء هذه الجبال المنيعة إلى فتى من فتيان هذه القبيلة، يتخذه ولدا أو يصطنعه بطانة وحاشية، أو إلى فتاة من فتياتها يؤاخيها على السراء فيتخذها حليلة أو جارية ... من أجل ذلك لم تنم هذه القبيلة ليلة من لياليها إلا على وتر، ولم تصبح إلا على غارة!
Shafi da ba'a sani ba
وفي ليلة من ليالي الربيع رقراقة النسيم معطارة الأرج، أوى أهل العشيرة إلى مضاربهم هادئين وادعين، وانسرحت أحلامهم إلى ما وراء هذه الجبال الشم، تطوف في الآفاق وراء بعض من فارقهم من الفتيان والفتيات منذ قريب أو من بعيد، راضين أو كارهين، إلى حيث يلقون الجاه والغنى والسعادة، أو حيث يحتملون الهوان والمذلة، وضيق العيش وأنكاد الحياة!
وكانت خيام العشيرة متناثرة على غير نظام، يقترب بعضها من بعض حينا، ويتباعد بعضها عن بعض أحيانا، وقد أسبغ الليل رداءه على الغور كله فلا بصيص من نور، وضرب الصمت على آذان الأيقاظ والنائمين من أهل الحي، فلا حس ولا حركة، إلا عواء كلب، أو ثغاء عنز، أو ضغاء طفل رضيع، وإلا زفيف الريح تضرب في مسالكها بين الخيام المتناثرة، فتضطرب الأطناب في أوتادها، وتهز البيوت هزة خفيفة كما تهدهد الأم وليدها في مهده لينام!
في تلك الليلة كانت نوركلدي ساهرة إلى جانب فراش ولدها طومان، لا يكاد يغمض لها جفن أو ترقأ لها دمعة ...
ذلك الصبي هو كل أسرتها التي تعتز بها حين يعتز الناس بأهليهم وذوي قرابتهم. لقد ذهب الجميع فلم يبق لها إلا هذا الصبي. طفل في العاشرة، ولكنها مع ذلك سعيدة به؛ لأن لها به أسرة ذات عدد!
لقد ذهب زوجها أركماس آخر من مضى، وخلفها وليس لها من الأهل وذوي الصهر والنسب إلا جنين يرتكض في أحشائها، فكانت هي وذلك الجنين كل الأسرة، لا تجد من تتحدث إليه أو يستمع إليها إلا حين تخلو إلى نفسها في تلك الوحدة الموحشة، فتمر براحتها على بطنها، وتتحدث إلى ذلك الجنين كأنه منها بمرأى ومسمع، وكأنه إنسان حي له عقل وأذنان ... وتتنبه أحيانا إلى نفسها فتسخر من تلك الأوهام التي تخيل إليها أن معها أحدا تتحدث إليه فيسمع منها، وأنه يحدثها فتسمع منه ... ولا شيء ثمة ولا أحد، إلا هي وبطنها ... هي وذاك الجنين، أو تلك الجنينة!
تلك كانت حالها منذ عشر سنين: امرأة بائسة منقطعة تعيش من الوهم في أسرة ذات عدد، فيها خيال الزوج الذي رحل إلى غير معاد، وخيال الطفل الذي أجنته في بطنها إلى ميعاد. ومضت بضعة أشهر منذ غاب زوجها، ثم انهتك حجاب الوهم عن حقيقة صريحة تراها بعينيها وتلمسها بيديها، وصار لها ولد ... هذا طفلها طومان بن أركماس: إنسان حي تستطيع أن تتحدث إليه وتسمع منه، وتقص عليه من خبر أبيه، ولكن أين أبوه الساعة؟
لقد كانت ليلة مشئومة تلك التي رحل فيها أركماس لأمر من أمره فلم يعد، لقد حدثها قلبها ليلتئذ أنه لن يعود، فتعلقت به - وقد هم أن يمضي - تتوسل إليه بعينين ضارعتين أن يبقى، فألقى يدها عن كتفه وضمها إليه برفق وهو يقول: سأعود إليك يا نوركلدي!
وارتكض الجنين ساعتئذ في أحشائها، كأن له عند أبيه أمنية كأمنية أمه ... ولكن أركماس لم يستمع إليه، فمضى ولم يعد منذ تلك الليلة، ولم يعرف أحد أين ذهب، وعاشت نوركلدي منذ تلك الليلة وحيدة هي وجنينها، ثم هي وابنها، ولكنها لم تقطع الأمل من لقياه، لقد وعدها، ولا بد أن يفي بما وعد، ولا بد أن تلقاه ...
وها هي ذي الليلة تعاودها الذكرى، فهي في خيمتها مع وليدها النائم، ولكن إلى جانبها خيال شخص ثالث ... «أركماس! أركماس! أين أنت الساعة يا زوجي الحبيب؟ أفلا يشوقك أن ترى ولدك إن كانت رؤية زوجتك الحبيبة لا تشوقك؟»
وأرسلت عينيها، ورفعت يد ولدها النائم إلى فمها برفق، فقبلتها قبلة وبللتها بدمعة!
Shafi da ba'a sani ba
لقد كان أركماس فتى عزيز الجانب، جريء القلب، عارم الخلق، لا يصبر على دنية ولا ينام على ثأر، وكذلك كان أبوه، ولكن أباه قد مات منذ سنين: كان في بعض المعارك فأصابته طعنة في ظهره فأردته قتيلا، وفر قاتله بدمه تحت الليل في ركاب قافلة من تجار الرقيق، وكان أركماس وقتئذ صبيا لم يبلغ الحلم، ولكنه أقسم أن يثأر لأبيه من قاتله أينما كان، وأن يناله ولو كان سلطانا على العرش ... وترادفت السنون ولم يزل أركماس يتربص لقاتل أبيه ويتقصى أخباره، حتى عرف أين يجده، فودع زوجته وخرج لوجهه فلم يعد ...
ترى أين هو الساعة؟ أفي الأحياء هو أم في الموتى؟ وماذا رد زوجته الليلة إلى ذكراه بعد تلك السنين؟
وتململ الغلام في فراشه، وفتح عينيه وتثاءب، والتقت عيناه بعيني أمه، وبادلها ابتسامة بابتسامة، ثم نهض إليها وطوقها بذراعيه، وطبع على خدها قبلة، وطبعت على جبينه مثلها.
وسمعت الأم في سكون الليل نباح كلب، فنهضت في خفة وأزاحت ستر الخيمة، وخرجت إلى الخلاء تتفقد غنماتها الجاثمة على مقربة تجتر. وعاد طومان فأوى إلى فراشه ثم أغفى ...
وكان نسيم السحر عطرا نديا، وقد عم الظلام وانتشر، فلا ضوء إلا ما ترسله هذه النجوم المرصعة في السماء، كأنها عيون تنظر من فروج الخباء!
وغابت نوركلدي قليلا عن ولدها ثم عادت، ولكنها لم تجد فتاها حيث كان، وكان فراشه لم يزل دافئا، فهتفت في قلق: «طومان!» ولكن طومان لم يجب أمه، وكررت النداء فلم يجبها إلا الصدى، وصرخت ...
واستيقظ رجال ونساء في الخيام القريبة، وتراكضت الأقدام في الطرق الملتوية بين مضارب العشيرة. وكان يتردد في الجانب الآخر من الحي صراخ واستغاثة أخرى، وذهبت طائفة من الناس هنا وطائفة هناك، وقال بعضهم لبعض في قلق وغيظ: نخاس!
وضمت كل أم وليدها إلى صدرها، فلو أطاقت لردته إلى بطنها جنينا، وانبث الرجال بين المضارب يتحسسون مواضع خطاهم، ويتعارفون بكلمة السر، يرجون أن يعثروا بذلك الغريب الذي اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم ... ولكن ذلك الطارق الغريب قد اختفى أثره فلم يقف له أحد على خبر، وكأنما أعجلته صرخات الاستغاثة فلم يظفر من غارته تلك إلا برأسين اثنين: طومان ابن نوركلدي، ومصرباي بنت جركس، أما مصرباي فطفلة يتيمة لا أم لها ولا أب، وإنما تعيش في كنف سيدة عجوز من ذوي قرابتها، فليس يشق غيابها على أحد، وإنها لذات جمال وحيلة، فما أحرى ذلك أن يكفل لها من أسباب السعادة ما يهيئها لأن تعيش هانئة في قصر سلطان من سلاطين الروم، أو من سلاطين مصر. وأما طومان فوا حزنا! إنه كل شيء في حياة أمه المسكينة، وهي كل شيء في حياته ... يا للمسكين ويا للمسكينة!
اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم.
وأصبح الناس وليس لهم حديث إلا أخبار أولئك النخاسين الغلاظ، الذين يطرقونهم حينا بعد حين، فيسترقون بنيهم وبناتهم، ويمضون بهم موفورين لا يعترض سبيلهم أحد؛ ليبيعوهم في أسواق حلب أو دمشق أو القاهرة!
Shafi da ba'a sani ba
وأصبحت نوركلدي باكية قد ذهب بها الحزن كل مذهب، تنادي فتاها، وتنادي زوجها، ولا مجيب، ومن حولها نساء يحاولن أن يجرعنها الصبر والسلوان ...
قالت واحدة منهن: الصبر يا نوركلدي! إن الأمر لأهون مما تقدرين، فماذا تظنين أن يصيب ولدك؟ إنه لذو عقل وجمال، وإن فيه مخايل من أبيه، فماذا تكون عاقبة أمره إلا أن يصير أميرا من أمراء السلطان في مصر أو في بلاد الروم، ينعم بالغنى والمجد والسعادة!
قالت نوركلدي: خلي عنك يا صديقتي! لقد كنت في غنى عن كل ذلك به، وكان في غنى بي، ومن لي غيره وقد ذهب أركماس!
قالت صاحبتها: يا أخية! إنك لتنظرين إلى حظ نفسك، فكيف لو رأيته غدا فارسا على سرجه يقود فرقة من المماليك، والعيون ترمقه من حيث اتجه؟ فما أرى النخاس الذي خطفه وخطف معه مصرباي إلا ذاهبا بهما إلى مصر، تلك البلاد التي تصنع السلاطين، ولعلهما غدا أن يصيرا سلطانا وسلطانة على عرش فرعون!
فتأوهت نوركلدي وقالت: يا ليت كل ذلك لم يكن ... لقد كنت أدخر طومان ليقفو آثار أبيه حتى يلقاه حيا أو يدرك ثأره!
ثم أطبقت راحتيها على وجهها واسترسلت في البكاء!
قالت عجوز في المجلس: هوني على نفسك يا ابنتي، أفلست تعلمين أن طومان اليوم أدنى إلى إدراك الثأر، وقد وضع قدمه على أولى درجات المجد؟ سيثأر لك ولأبيه من هذه العيشة الضنك التي تعيشين؛ فليس الثأر هو إدراك الدم، ولكنه إدراك المجد. أم لم يبلغك نبأ جاهنشاه التي باعت ولدها جانبلاط راضية لنخاس خوارزمي، ولم تقبض منه الثمن مالا تنفقه، ولكنها قبضت وعدا منه بألا يبيعه إلا لسلطان مصر؟ وقد بر النخاس بما وعد؛ فإن جانبلاط ابن جاهنشاه هو اليوم أمير ألف من مماليك السلطان قايتباي ملك مصر والشام وسيد البحرين، ومن يدري! فقد يكون جانبلاط غدا هو سلطان مصر والشام وسيد البحرين؟
كانت العجوز تتحدث وقد أرهف النساء آذانهن يستمعن إلى ما تقول في لهفة وشوق، والأحلام تحلق بهن في أودية بعيدة، وقد غفلن عن نوركلدي وأحزانها، فما كادت العجوز تنتهي من حديثها حتى ابتدرتها فتاة من عرض المجلس تسألها في لهفة: ماذا قلت يا أماه؟ جانبلاط ابن جاهنشاه أمير ألف ...؟
وغصت الفتاة بريقها فلم تتم، وتعاقبت على وجهها ألوان شتى، وعرف النساء ما بها؛ فرفت ابتسامة على كل شفة، لقد كن جميعا يعرفن ما كان بينها وبين جانبلاط، ذلك الذي كان يطمع أن يتخذها زوجة له، فصعرت خدها وردت يده كبرياء وأنفة، فأين هو اليوم منها وأين هي!
ثم استردت الفتاة أنفاسها وأردفت كأنما تعزي نفسها: ومن أين لك هذه الأخبار وأنت هنا وهو هنالك يا أماه؟
Shafi da ba'a sani ba
فاعتدلت العجوز في مجلسها وقالت باسمة: حدثني بها النخاس الذي ذهب به، لقد طرق هذه الحلة مساء أمس يسأل عن أمه ليقص عليها خبره، ولعله كان يطمع أن تدفع إليه الحلوان حين يزف إليها البشرى، ولم يكن يعرف أنها قد ماتت منذ عام! ولقيته أنا فحدثني ...
قالت الفتاة منكرة: حدثك أن جانبلاط قد صار أمير ألف ؟!
قالت العجوز ساخرة: نعم، وأنه قد تزوج واحدة من بنات السلاطين ... عرفت ذلك من نخاس خوارزم نفسه!
وكانت نوركلدي في شغل بنفسها عما يتحدث به النساء حولها، لا تكاد تسمع شيئا منه، فما كاد يطرق أذنها آخر حديث العجوز، حتى اتجهت إليها تسألها في اهتمام: نخاس خوارزم كان هنا أمس؟! - نعم!
قالت نوركلدي وقد عاد صوتها أكثر اطمئنانا وأمنا: الآن عرفت أين ذهب ولدي طومان ومن ذهب به ... آه من ذلك الوحش الغليظ الذي خطف ولدي فأثكلني بعد ترمل، وتركني وحيدة في أحزاني!
ثم هتفت في عزم: لا، لن أتركه يذهب به بعيدا، سأدركه، لا بد أن يعود إلي طومان العزيز! سألقاه ... سألقاه ... سأراه ثانية ولو لفظت آخر أنفاسي على الطريق إليه!
الفصل الثاني
في بلاد الروم
كان خان يونس الرومي في ظاهر مدينة قيسارية من بلاد الروم ملتقى لكثير من تجار المشرق؛ فقد كان على طريق الغادي والرائح - من هؤلاء التجار - إلى حلب ودمشق والقاهرة، أو إلى أرمينية وبلاد الكرج وما وراء الجبال، يأوون إليه في ذهابهم، وفي معادهم، يلتمسون الغذاء والدفء والمأوى، وكان يونس الرومي - صاحب ذلك الخان - مستودع أسرار هؤلاء النزلاء جميعا؛ فإنه ليعرفهم ويعرفونه منذ سنين بعيدة، وكثيرا ما كان واسطة تعارف بين بعضهم وبعض، وكثيرا ما ربط بينهم روابط تجارية وعقد صفقات رابحة ...
وكان أبو الريحان الخوارزمي من رواد ذلك الخان، يأوي إليه بغلمانه ذاهبا وآيبا، ويفضل على الخان وصاحبه من معروفه وبذله؛ فقد كان من أغنى تجار الرقيق في شرق بلاد الروم وغربها، وكانت تجارته هذه تكفل له من الربح ما لا يحسب معه حسابا لنفقاته ... على أن يونس الرومي لم يكن يستريح إلى الخوارزمي أو يطمئن إلى رؤيته؛ فقد كان إلى بذله ومعروفه فظا غليظ القلب فيه قساوة وجفاء، ولم يكن أحد غير يونس الرومي يعرف أنه ليس تاجرا من تجار الرقيق بالمعنى الذي يفهمه عملاؤه، ولكنه نخاس يسرق أبناء الحرائر وبناتهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم؛ ليبيعهم في أسواق الرقيق، ويزعم أنه يشتريهم من عملائه في أران، وكرمان، وخوارزم ...
Shafi da ba'a sani ba
ففي ليلة من ليالي الربيع، بينما كان يونس يتهيأ للنوم بعد أن أدى ما عليه للنزلاء من حق، وأغلق باب الخان، سمع طرقا على الباب، فأزاح الغطاء عن جسده، وحمل شمعة موقدة في يده، وقصد إلى الباب ليرى من ذلك الطارق بليل ... وكان الطارق أبا الريحان الخوارزمي، وفي يديه فتى وفتاة يجرهما جرا في قسوة وغلظة، فما كاد ينفتح له باب الخان حتى دفع أمامه الفتى والفتاة ودخل وراءهما، ثم جلس وجلسا بين يديه صامتين، يتبادلان نظرات حزينة فيها انكسار وخوف، على حين ارتفع صوت أبي الريحان خشنا جافيا يقول ليونس: ما لك واقفا كذلك كأنما أصابك المسخ؟ اذهب فهيئ لنا عشاء طيبا وفراشا وطيئا، إنني وهذين الخبيثين لم نذق طعم الغمض منذ ثلاث، ولم نطعم شيئا منذ أمس!
ورفت على شفتي الفتاة ابتسامة خابية وهمت أن تقول شيئا ثم أمسكت، وقال الفتى متحديا وفي عينيه بريق العزم والفتوة: أما أنا فلن أطعم شيئا من الزاد حتى تنبئني أين تذهب بنا!
فصرت أسنان الخوارزمي في غيظ، ثم اصطنع الهدوء والرفق وقال في صوت ناعم: ويحك يا غلام! انظر إلى مصرباي الجميلة الهادئة، لقد كنت أحسبك أعقل منها وأكثر إدراكا لحقيقة الحال، أفلم أنبئك ...؟
قال الفتى معاندا: نعم، ولست أريد إلا أن أرجع إلى أمي ...
فربت أبو الريحان على كتفه حانيا وهو يقول: حسبك يا طومان ولا تذكر أمك، فما أظنك تراها بعد. إنك منذ اليوم لست ابن نوركلدي، ولا أبوك هو أركماس ... انس ذلك كله كأن لم يكن، فما وراء التذكر إلا الألم والندم ... وليس إلى ما فات من سبيل، فهيئ نفسك لغدك، يوم تصير مملوكا في حاشية السلطان قايتباي، أو أميرا من أمراء جنده! ...
قالت الفتاة باسمة: يا عم ...
قال الخوارزمي غاضبا: ماذا؟ حسبتك قد فهمت كل ما هنالك فلن تعودي إلى ذلك الحديث، أفلا يرضيك أن تكوني غدا سلطانة على عرش مصر؟!
وعاد يونس الرومي يحمل إلى نزلائه طعام العشاء، فكفت الفتاة عن الحديث، وكف الفتى، وأقبل أبو الريحان على طعامه لا يعنيه من أمر أحد شيء، فلما أوشك أن يفرغ ما بين يديه من الطعام، وقد امتلأ بطنه حتى اكتظ، أقبل على الغلامين قائلا: أفلا تتبلغان بشيء، أم تريدان أن تموتا جوعا؟
ونظر إلى الفتى نظرة، ثم عاد ينظر إلى الفتاة مثلها وهو يقول: كلي أنت يا بنية، إن أخاك قد أجمع أمره على أن يموت أو يعود إلى أمه، وهيهات أن يبلغ من ذلك شيئا!
ثم مد يده إلى الفتاة بفلذة من اللحم، فأخذتها من يده وراحت تأكل في نهم، حتى أتت على كل ما أفضل لها سيدها من الطعام، والفتى ينظر إليهما محزونا لا يكاد ينبس ببنت شفة ...
Shafi da ba'a sani ba
ثم عاد يونس الرومي ينبئ السيد وغلاميه أنه قد هيأ لهم الفراش للنوم.
ومضى الثلاثة في أثر يونس إلى غرفتهم فأغلق عليهم بابها، وعاد إلى غرفته وهو يهمس لنفسه: ويل له! ترى من أين اختطفهما، وماذا خلف وراءه من حسرات!
كان جقمق الأشرفي تاجر الرقيق من نزلاء خان يونس في تلك الليلة، وكان رجلا كثير الرحلة بين مصر والشام وبلاد الروم؛ ليتسوق المماليك، وكان له مكان ملحوظ في بلاد السلطان الأشرف قايتباي صاحب مصر لذلك العهد، فقد كان الأشرف حريصا على أن يزيد عدد مماليكه؛ ليكون له منهم جيش قوي يرد به عادية الأمراء الذين ينافسونه على العرش في داخل بلاده، ويدفع به عن مملكته عدوان المغيرين من أمراء البلاد المجاورة، وكان ملك قايتباي يمتد من صحراء ليبيا إلى حدود بلاد الروم شرقا وغربا، ومن بحر الروم إلى حدود اليمن وما وراءها جنوبا وشمالا، على أنه لم يكن يخشى أحدا من أمراء البلاد المجاورة خشيته ابن عثمان ملك الروم، من أجل ذلك كان دائما على الأهبة، فلم يكن له هم إلا زيادة جيشه بما يجلب له التجار من المماليك الذين يتسوقونهم من بلاد المشرق، أو يظفرون بهم من سبي الروم والفرنجة. وكانت وظيفة «تاجر المماليك» في ذلك العهد وظيفة رسمية من وظائف الدولة، لها إقطاع يساوي إقطاع بعض أمراء البلاط! وكان جقمق هذا واحدا من أولئك التجار الذين يركن إليهم قايتباي فيما يريد من هذا السبيل، وكثيرا ما باعه من جلبانه غلمانا رقي بهم السعد حتى بلغوا مرتبة الإمارة في البلاط ...
على أن جقمق في هذه الرحلة لم يكن قد وفق إلى شيء يطمع أن يحوز به رضا السلطان، فلم يقع له في رحلته إلا غلام رومي اسمه خشقدم. وهو فتى فيه مخايل من ذكاء وفطنة، وفيه خبث وتدبير وكيد، وله إرادة وعزم ... ولكنه غلام واحد ...
فلما أشرق الصبح، التقى في بهو الخان أبو الريحان الخوارزمي وجقمق الأشرفي، ووقعت عين التاجر على الفتى والفتاة فرأى صيدا سمينا ... فما كانت إلا صفقة يد، حتى انتقل طومان ومصرباي من يد نخاس خوارزم إلى ملك جقمق الأشرفي ... ومضى كل من الرجلين في سبيله!
لم تكن الأمور في ذلك الوقت بين بايزيد العثماني والأشرف قايتباي سائرة على نهج الصفاء والمودة؛ فإن كلا منهما ليتربص بصاحبه غرة يناله بها أو ينال منه، ولم يكن خافيا على ابن عثمان أن عدوه قايتباي إنما يتكثر بهؤلاء المماليك المجلوبين ليتهيأ لحرب الروم بالعدد الجم، فمنع تجار الرقيق المصريين أن يمروا ببلاده، ورسم لجنده أن يقبضوا على كل تاجر منهم يظفرون به في بلد من بلاد الروم، وكان أولئك التجار يعرفون ما ينتظرهم لو دخلوا بلاد الروم، ولكن ذلك لم يصدهم عما أرادوا، ومن أين لهم أن يظفروا بمثل المماليك الذين يجتمعون لهم من طريق بلاد الروم، من أبناء الروم أنفسهم، أو من الجركس والتركمان؟ من أجل ذلك لم يكن لينقطع وفود هؤلاء التجار إلى بلاد ابن عثمان ملك الروم، فمنهم من يعود ظافرا، ومنهم من تقع عليه عين السلطان فيساق إلى الاعتقال، فما كاد جقمق الأشرفي يخرج بغلمانه من خان يونس، حتى بصر به جند السلطان بايزيد، فسيق إلى الأسر، وسيق معه جلبانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم. وارتد إلى العبودية السيد وعبيده!
الفصل الثالث
جاه العبيد!
جلس الأشرف قايتباي على عرش مصر بضعا وعشرين سنة، وبلغ الشيخوخة ولم يزل ولده محمد صبيا لا يصلح لولاية العهد كما يأمل أبوه. على أن وراثة العرش لم تكن أمرا مألوفا في مصر لذلك العهد، وما كانت ولاية قايتباي نفسه عرش مصر وراثة عن أب أو جد، فما هو إلا مملوك اشتراه سيده بخمسين دينارا، فلم يزل يرقى به السعد درجة بعد درجة حتى بلغ أسمى مناصب الدولة، ورفعته مواهبه للعرش حين خلا العرش من سلطانه، فتولاه كما تولاه كثير ممن سبقه من سلاطين المماليك: كلهم أرقاء لا يعرف لأكثرهم آباء ولا أمهات، قذفتهم المقادير إلى تلك البلاد التي تصنع السلاطين فصنعتهم سلاطين، ومنهم من فكر في أن يجعل العرش وراثة في ولده، ولكن التاريخ لم يكتب لواحد من أولئك الذين تولوا العرش وراثة عن آبائهم النجاح الذي يجعل توريث العرش فكرة ذات قرار ...
فلما بلغ السلطان قايتباي ما بلغ من العمر وعرقته الشيخوخة، راح كل واحد من أمراء المماليك يفكر في العرش، ويهيئ أسبابه للوثوب إليه. وقد اجتمع في عصر قايتباي طائفة من أمراء المماليك لم يجتمع مثلهم لسلطان من سلاطينهم، فكان اجتماعهم قوة لقايتباي في أيام قوته وعنفوانه، وضعفا في أيام ضعفه وهوانه!
Shafi da ba'a sani ba
كان هناك الأمير تمراز، والأمير أزبك، وأقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي، وكان هناك الصبي محمد بن قايتباي، وكان هناك قنصوه الغوري ...
كل أولئك كانوا يطمعون في عرش قايتباي من بعده، ويتربصون به ... ولكن اثنين منهما كانا يتعجلان النهاية ليبلغا العرش قبل الأوان، هما أقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي.
أميران يملكان المال والعتاد، ولكل منهما جيش من المماليك والأتباع، وله في قلوب الشعب مكان. وكانت المنافسة بينهما سافرة حينا، ومنتقبة أحيانا، والسلطان الشيخ يرى ويسمع ولا يكاد يصنع شيئا.
وكانت نذر الحرب بين قايتباي وجيرانه تترادف عليه مع البريد يوما بعد يوم؛ فهناك ابن عثمان صاحب بلاد الروم، وإسماعيل الصفوي سلطان العجم، وجند سوار صاحب مرعش وديار بكر، وقراصنة البحر من الفرنجة ... وولده الذي يريد أن يورثه العرش لم يزل صبيا لم يبلغ حد التمييز ...
لا بد من مماليك جدد يتكثر بهم من قلة ويتقوى من ضعف، ولا بد لذلك من مسالمة ابن عثمان ملك الروم!
وخرج جاني بك حبيب - سفير الأشرف قايتباي - إلى ملك الروم في هدية حافلة، ساعيا في الصلح بينه وبين سلطان مصر والشام والحرمين: الأشرف قايتباي.
ونجحت السفارة، وأطلق ابن عثمان من في حبسه من تجار الرقيق المصريين، وخرج جقمق الأشرفي من بلاد الروم ومعه غلمانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم الرومي. وانتهى إلى حلب، فحط رحاله يستريح أياما، ويستروح نسيم الحرية في أرض مصرية، بعد أن لبث سنتين أو يزيد معتقلا في بلاد الروم! وكان قنصوه الغوري وقتئذ نائب قلعة حلب!
هذه مدينة حلب ... أولى مدائن الشام مما يلي بلاد الروم، حيث يلتقي كل يوم مئات من الغرباء على غير ميعاد، ويفترقون إلى غير معاد ...
وهذا جقمق الأشرفي يسوق غلمانه إلى خان مسعود، حيث يأمل أن يجد مأوى مريحا وطعاما شهيا، ومن ذا يقصد مدينة حلب من الغرباء ولا يلتمس الراحة في خان مسعود؟!
ولكن خان مسعود كان في ذلك اليوم غاصا بنزلائه، فليس فيه غرفة واحدة خالية من النزلاء ليأوي إليها جقمق وغلمانه، فبينما هو يهم بالرجوع ليلتمس ضيافة عند بعض أصحابه في المدينة، إذ دعاه صاحب الخان وعرض عليه أن يشارك بعض النزلاء في غرفته ريثما تخلو له غرفة أخرى، فأجابه جقمق وحط رحاله، وكان شركاؤه في الغرفة الكبيرة التي تطل شرفاتها على الدرب الواسع هم ملباي الجركسي وأولاده.
Shafi da ba'a sani ba
وكان ملباي هذا رجلا من أهل صمصوم، بالقرب من بلاد الكرج، قد استهواه المجد فخرج بأولاده الأربعة إلى مصر، يريد أن يهبهم للسلطان الأشرف قايتباي ليكونوا جندا من جنده ...
أربعة في سن الشباب، لم يدخلوا تحت رق قط، ولم ينتزعهم من أحضان أمهاتهم نخاس، يسعون مختارين، أو يسعى بهم أبوهم ليقدم أعناقهم للرق؛ طمعا في الإمارة والسلطان ...
أربعة أحرار، يحسدون الأرقاء على بعض ما أولاهم الله من نعمته، فيبيعون حريتهم طائعين ... يا عجبا! ولكن لماذا العجب ؟! أليس الرق هو الذي صنع كل أولئك السلاطين الذين يتوارثون عرش فرعون منذ أكثر من مائتي عام؟! فماذا يعيبهم أن يسلموا أعناقهم للرق؛ ليرتقي بهم الرق إلى العرش؟! ليس يعنيهم ماذا تكون الوسيلة ما دامت الغاية هي الإمارة والجاه والسلطان!
ولقي جقمق الأشرفي تاجر المماليك شركاءه في الغرفة، وعرف من أمرهم ما عرف، فابتسم مغتاظا وهو يقول لملباي: ولكنك يا سيدي تقامر بأولادك، فمن أين لك أن يصيروا كلهم أو بعضهم أمراء؟ أفلست تخشى أن يبقوا مماليك ويخلدوا في الرق، لا تفك رقابهم ولا يملكون أن يعودوا إلى الحرية؟ أم تحسب أن كل مملوك في «الطبقة» أهل للإمارة فلا بد أن يترقى حتى يبلغ العرش؟
وهم ملباي أن يجيب، ولكن ولده خاير ابتدر الحديث قائلا: يا سيدي، هذا كلام يقال، فهل تراني أو ترى أحدا من إخوتي هؤلاء أقل أهلية للإمارة من مثل غلامك هذا، الذي لا يعرف له أبا غير النخاس الذي أدمى أذنيه، يقوده منهما على طول الطريق كما يقاد الحمار!
وكان طومان الصغير جالسا يستمع إلى حديث أستاذه وجواب خاير بن ملباي، فما كاد يرى إشارته إليه ويسمع حديثه عنه حتى غلى دمه وثارت كبرياؤه، كأن لطمة أليمة قد نالته، فصاح مغضبا: صه يا فتى، إنني لأرفع نفسا منك ومن أبيك هذا الذي يدفعك إلى الرق مختارا؛ ليزهو بأن ولده عبد من عبيد السلطان!
ثم اندفع نحوه وعيناه تقدحان الشرر، فلولا أن قبض أستاذه على ذراعه لوثب إلى خاير بن ملباي فمزق وجهه وأدماه؛ ليثأر منه لتلك الإهانة البالغة!
وغرق الجميع في الصمت مذهولين، فما كان ليدور بخاطر واحد منهم أن يجرؤ ذلك الصبي القابع في هدوء خلف أستاذه، على أن يرفع صوته ويده في وقت معا في وجه شاب أيد مثل خاير بن ملباي، ونالت المفاجأة من خاير بن ملباي نفسه، فلم يتحرك ولم تنبس شفتاه بصوت، وأحس - على صلابته وقوة ساعده - أنه ضئيل صغير، لا يكاد يملك دفاعا عن نفسه، فتمتم في صوت خافت : ماذا قلت؟
أجاب جقمق: لا شيء! لا شيء!
قال طومان وهو يحاول أن يفلت من قبضة أستاذه، ولم يزل في سورة غضبه: سيدي! دعني أنبئ هذا الفتى بما يريد أن يعرف ...
Shafi da ba'a sani ba
قال جقمق ولم تخف قبضته على ذراع طومان: اسكت يا غلام، إن خاير لم يحاول إهانتك، ثم إن له عليك حق الأخ الكبير، وقد كانت بادرة ...
قال طومان: إنه ليس أخي، وليس يعرف مثله مثلي، ولا أبوه أبي!
ثم تخلص من قبضة أستاذه برفق، وخطا خطوة إلى الشرفة يتلهى بالنظر إلى المدينة التي تموج بالغرباء، ويتبع عينيه خطا الغادين والرائحين في الدرب الواسع!
فلولا أن خاير بن ملباي فر من بين يديه معجلا لسال بينهما دم.
ومضى يومان قبل أن تخلو غرفة أخرى في خان مسعود فينتقل إليها جقمق وغلمانه؛ لتخلو الغرفة الأولى لملباي وأولاده. ولكن عوامل الاحتكاك مع ذلك لم تزل بين طومان وخاير بن ملباي، فلم تكن تلك المشادة الحامية هي كل ما نشب بينهما من معارك في الأيام القليلة التي قضياها معا نزلاء في خان مسعود؛ بل إن المعارك التالية كانت أعنف وأشد، فقد صعد طومان ذات صباح إلى سطح الخان لأمر من أمره، ثم هبط سريعا خفيف الخطا، فإذا خاير ومصرباي في خلوة يتحدثان حديثا رأى لونه في خديها وشفتيها، فثار لعرضه ثورة بدوي وتناول السكين، فلولا أن خاير بن ملباي فر من بين يديه معجلا لسال بينهما دم! ولم لا؟! أليست مصرباي صديقته وأخته، وعليه أن يحميها ويدفع عنها؟ والتفت طومان إلى الفتاة التي آخاها عامين على السراء والضراء، منذ فر بهما نخاس خوارزم من مضارب الغور، ولكن الفتاة أولته ظهرها معرضة كأنما لا يعنيها شيء من ذلك الأمر.
لقد فتنها خاير بن ملباي بشبابه وصباحة وجهه، ورقة حاشيته، وعذوبة منطقه، فمالت إليه وأعرضت عن صديقها الصغير ...
وظن طومان أنه مستطيع أن يستعدي زميله خشقدم على خاير؛ دفاعا عن صاحبتهما مصرباي، فراح يحدثه ويطلب معونته، واستمع إليه خشقدم حتى فرغ من جملة حديثه، ثم ذهب إلى خاير بن ملباي فأفضى إليه بسر المحالفة؛ استجلابا لمودته!
وساء ما بين طومان وبين أصحابه جميعا، فانطوى على نفسه حزينا يائسا، وعرف منذ اليوم في أي جو من الكيد والغدر والنفاق يعيش الأرقاء، لقد عرف مصرباي، وخشقدم، وخاير بن ملباي، فهل هم إلا صورة من آلاف الأرقاء الذين يعيشون في دور الأمراء وفي قصور السلاطين!
فكيف يعيش منذ اليوم طومان ابن نوركلدي وأركماس!
الفصل الرابع
Shafi da ba'a sani ba
قنصوه الغوري
كانت الفتنة ناشبة في القاهرة بين أقبردي وقنصوه الخمسمئي؛ تنافسا على العرش، على حين كان سائر الأمراء العظام يتربصون منتظرين، وكان قنصوه الغوري وحده في حلب، يدبر لأمر ما في هدوء وصمت، كأنما لا يعنيه من أمر تلك الفتنة شيء ...
لم يكن الغوري يومئذ بالمنزلة التي تسمح له أن ينافس على عرش مصر أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي، نعم إنه من أقدم مماليك الأشرف قايتباي وأدناهم إليه منزلة، ولكن أين هو من أقبردي وقنصوه الخمسمئي؟ وأين وسائله للكفاح؟ إنه لا يملك المال الذي يصطنع به الأشياع، ولا الجاه الذي يتكثر به من الأتباع، وليس له كغيره من الأمراء جيش من المماليك يعده للهجوم والدفاع، فمن أين له أن يبلغ ما يأمله؟ ولكنه إلى ذلك يملك الصبر والحيلة، أفليس يسعه الانتظار حتى يتفانى هؤلاء الأمراء العظام ويأكل بعضهم بعضا، فينفرد في الميدان؟ بلى، وإنه ليستطيع إلى ذلك أن يتعجل آخرتهم بما يزين لهم من الأماني، فإذا وثب بعضهم على بعض سقط الضعيف وانتهى أمره، وانحلت عروة القوي فزال خطره، ومن ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد تمراز الشمسي، والأمير أزبك، وأقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي؟ من ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد هؤلاء؟ محمد بن قايتباي، ذلك الصبي الذي لم يبلغ حد التمييز؟! نعم، وإنه لأقواهم جميعا، أفليس هو ابن الأشرف قايتباي سيده ومولاه، فحسبه بذلك قوة! ولكن من ذا يزعم أن هذا الطفل سيبقى فلا تطؤه أقدام أولئك العماليق، وهم يتصارعون بين يدي العرش؟
أفيمكن هذا؟ أفيكون عرش مصر لقنصوه الغوري يوما ؟ أفيبلغ هذا الأمل بالصبر والحيلة، حين لا مال معه، ولا جاه، ولا جند؟ لقد جاوز الخمسين ولم يزل أميرا، نائبا لقلعة حلب، وهناك مماليك أحدث منه عهدا في «المملوكية» قد بلغوا عرش السلطنة ولم يبلغوا الأربعين!
يا ليت ذلك الحلم يتحقق! وماذا يمنع؟ إن الأقدار لتمده بما لم يكن يتوقع من المعونة: لقد غادر بلاده منذ ثلاثين سنة - مطلوبا بثأر - في ركاب قافلة من تجارة الرقيق، لا يدري أين تسعى به قدمه، حتى انتهت به المقادير إلى مصر رقيقا يساوم عليه بالمال، ثم لم تمض إلا سنوات حتى كان مملوكا من مماليك «الخاصة» في حاشية السلطان قايتباي، ومضى يترقى في درجات المملوكية درجة بعد درجة، حتى بلغ أن يكون نائب قلعة حلب، وصار أميرا من أمراء السلطان يشار إليه بالبنان، فهل كان يأمل أن يبلغ هذه المنزلة يوما؟ فماذا يمنع أن يبلغ أرفع منها فيصير سلطانا؟ أيكون ما بينه وبين بلوغ رتبة السلطنة أبعد مما كان بين ماضيه وحاضره؟
إنه لموقن يقينا لا شبهة فيه أن الأقدار تعينه وتمهد له الطريق، وتهيئ له من الأسباب ما لا يخطر له على بال، فقد تعقبه أركماس من بلاد الكرج إلى القاهرة ليأخذ منه ثأر أبيه، ولقيه وجها لوجه، وأمكنته الفرصة منه، وجرد أركماس سيفه وهم أن يضربه الضربة القاضية، ولمع على رأسه السيف فلم يكن بينه وبين الموت إلا أن يهوي على رأسه فيقده قدا، وفجأة حدثت المعجزة، وتدخلت الأقدار في اللحظة الأخيرة، فبرز في الطريق جمل هائج، فألقى أركماس على الأرض وداسه تحت أخفافه، ونجا الغوري، فمضى في طريقه لم يتلفت ولم ينظر وراءه، وانمحى الثأر والثائر، أفليس ذلك تدبير الله؟ أليس فيه الدليل على أن الأقدار تدخره لأمر عظيم، تهيئ له أسبابه وتمهد طريقه؟ بلى، فماذا يمنع أن يبلغ رتبة السلطنة، وأن يجلس على عرش مصر، وأن يذهب تمراز، وأزبك، وأقبردي، وقنصوه الخمسمئي، يذهبون جميعا ويأكل بعضهم بعضا، فلا يجلس واحد منهم على عرش مصر، ويجلس عليه قنصوه الغوري ... بالصبر والحيلة!
هكذا كان يحدث الغوري نفسه وهو وحيد في مجلسه من قلعة حلب، حين جاءته الأنباء من القاهرة بما ثار من الفتنة بين أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي في سبيل المنافسة على العرش، وقال لنفسه مبتسما: الصبر حتى يأكل بعضهم بعضا ويتفانوا؛ حينئذ يخلص لك الطريق إلى عرش مصر، أيها ... أيها الأفاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض!
وقهقه قهقهة عميقة تردد صداها بين جدران المجلس، ثم نهض فلبس ثيابه، وأخذ زينته وخرج إلى الطريق لا يتبعه أحد من غلمانه. وما حاجته إلى غلام يتبعه وليس في حلب كلها إلا صديق يحبه ويفتديه بدمه!
فإنه ليمشي في طريقه بأحد دروب حلب، إذ لقيه صديقه جقمق الأشرفي تاجر المماليك، وكان زميله في «الطبقة» منذ بضع وعشرين سنة، حين كانا مملوكين يتلقيان أصول العلم في مدرسة المماليك بالقلعة، ويتدربان على أساليب الحرب والفروسية، وكان كل أملهما في ذلك الزمان البعيد أن يترقيا درجة فيخرجا من مماليك «الطبقة» ويصيرا من المماليك «الخاصة»، الذين يركبون في مواكب السلطان ويختصون بصحبته!
وإنهما اليوم لأميران من أمراء السلطان!
Shafi da ba'a sani ba