وكان العبيد والموالي والأعراب المحرومون حانقين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش، بعد أن علمهم الإسلام حقوق المساواة، وشرع لهم شريعة الإنصاف، ولقد يكون معظم المتآمرين على قتل عثمان من هؤلاء العبيد والموالي والأعراب المحرومين، فلما طولب علي بالاقتصاص منهم لمقتل عثمان قال: «كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ... ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهلا ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟»
وقالت السيدة عائشة - رضي الله عنها: «أيها الناس! ... إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ... والله لأصبع عثمان خير طباق الأرض أمثالهم ...» •••
وكان مع علي جمهرة القراء والحفاظ وأصحاب النسك والفقه والشريعة، وهم خلق كثير يعدون بالألوف ويتفرقون في الحواضر والبوادي، ولا يزالون كأنبياء بني إسرائيل منذرين متوعدين ساخطين على ترف المترفين، منكرين لكل خلاف ولو يسير في إقامة أحكام الدين، لا يرضون عن الدنيا ولا عمن رضي بها من طلابها، ولا يستمعون إلى أمر إلا أن يكون في رأيهم وفاقا لحكم القرآن كما يفسرونه وحكم السنة كما يعتقدونها، وطالما وقفوا بين علي وبين القتال؛ لأنهم لا يستجيزونه أو عن الصلح والتحكيم؛ لأنهم يجلون القرآن عن قبوله ... فإذا كان أجناد معاوية يسمعون الحق والباطل؛ لأنهم لا يفرقون بينهما ولا يفرقون بين الجمل والناقة، فهؤلاء الأجناد العارفون لا يسمعون إلا ما أجازوه واستوجبوه؛ لأنهم خرجوا في الأرض للتفريق بين الحلال والحرام والمعروف والمنكر، فلا يجمعون على طاعة ولا يحاربون أو يسالمون في جماعة، وهم أقرب الناس في ذلك العهد إلى الجهر بالنذير والنداء بالتبديل والتغيير، والإصغاء إلى وحي الضمير قبل دعاء الأمير.
واجتمع مع علي في الحجاز والكوفة كل منافس على الخلافة متطلع إليها، ولو لم يجهر بطلبها مخافة من شركائه الذين يزاحمونه عليها، فمنهم من كان يقول لعلي: نبايعك على أنا شركاؤك، ومنهم من كان يتعلل بقلة المشاورة له والمبالاة بقوله، ومنهم من كان يحارب عثمان ثم أصبح يحارب عليا باسم عثمان، تمحلا لذرائع الخلاف وكراهة لاستقرار الأمور ... •••
وقد كان أبو بكر وعمر يمسكان كبار الصحابة بالحجاز، ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا ويشجر بينهم من النزاع ما يشجر بين طلابها، ثم ينصدع شمل الأمة بالتشيع لهم وعليهم والتفرق بين أنصارهم وأعدائهم، وأوصى أبو بكر خليفته من بعده قائلا: ... احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم وأحب كل امرئ منهم نفسه، وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم فإياك أن تكونه ، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...
فلما صارت الخلافة إلى عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمة، وشق عليه أن يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره، فانطلقوا حيث ذهبت بهم المذاهب، وكان منهم ما حذره أبو بكر حيث قال لعبد الرحمن بن عوف: «ورأيتم الدنيا قد أقبلت ... حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضجاع على الصوف الأذربي
2
كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.» •••
Shafi da ba'a sani ba