وهذه القصائد لما كثرت واختلفت عدلوا عن الوزن الواحد العربي إلى تفريغ الأوزان المتنوعة، وتضعيف لزومات القوافي، وترتيب الأغصان بعد المطالع، والخرجات بعد الأغصان إلى أن صار فنًا لهم بمفردهم.
واختلفوا فيمن اخترع الزجل، فقيل: إن مخترعه ابن غزلة المقدم ذكره، استخرجه من الموشح لأن الموشح مطالع وأغصان وخرجات، وكذلك الزجل والفرق بينهما الإعراب في الموشح واللحن في الزجل وقيل: بل مخلف بن راشد، وكان هو إمام الزجل قبل ابن قزمان.
وكان ينظم الزجل بالقوي من الكلام، فلما ظهر أبو بكر بن قزمان ونظم السهل الرقيق مال الناس إليه وصار هو الإمام بعده، وكتب إليه ينكت عليه في استعمال يابس الكلام القوي:
زجلك يا ابن راشد قوي متين
وإن كان هو بالقوة فالحملين
يريد: إن كان النظم بالقوة فالحمالون أولى به من أهل الأدب.
وقيل: بل مخترعه مدغليس وهذا السم مركب من كلمتين أصله مضغ الليس والليس جمع ليسة وهي ليقة الدواة، وذلك لأنه كان صغيرًا بالمكتب يمضغ ليقته، والمصريون يبدلون الضاد دالًا فانطلق عليه هذا الاسم وعرف به وكنيته في ديوانه أبو عبد الله بن الحاج، عُرف بمدغليس والصحيح أنه ليس بمخترعه، لأنه عارض ابن قزمان، وهذا دليل على أنه معاصره أو متأخر عنه.
فمن السهل الرقيق لابن قزمان قوله في مطلع زجل:
ثلاث أشيا في البساتين ... لم تجد في كل موضع
النسيم والخضرة والطير ... شمّ واتنزه واسمع
وقوله:
لولا الشراب واش كان ... بقي ترجع فقي
ومن رقيق مدغليس قوله في مطلع زجل:
ليس نتوب عن ذا المشربيه ... لو نهيت في السبت والحدّ
قد أعرت آذاني للوم ... ودفعت الجلد للحد
ومن لطائف ابن غزلة قوله في مطلع:
بعد ذبحك جريت يا فرخي ... واش يفيد الجري
كنت تجري من قبل ما تذبح ... وعنيقك بري
ومن لطائف ابن قزمان قوله في مطلع وبيت:
قالوا عني بأني عاشق فيك ... أش تقول يصدقوا
ياحبيبي لقيت كثير في ... الناس بالحكم ينطق
هذا شي والنبي ... يا نور عيني ما تحدثت بيه
ولَ والله خطر على بالي ... لا ولا خضت فيه
إنما في الطريق أنا ... نمشي كل من نلتقيه
يدنو ميني وسرعه ... ليسألني عندما نلتقو
ويقول لي فلان بحق الله ... من صحيح تعشقو
ويعجبني قول مدغليس:
أنا راضي عن الشراب والطعام ... ثلثين يوم لي في الصلاة والصيام
وقال ابن قزمان في مطلع:
يامن عليه للسفر علامه ... الحمد لله على السلامة
ويعجبني قول ابن قزمان في خرجة:
انهل شويّ يا صاح لا تقروب ... ان الحبيب قد عزم أن يهروب
قلت: غاية المغاربة في نظم الزجل أن يتطاولوا إلى التعلق بأذيال السهولة والرقة، فإن العقادة غالبة على أزجالهم وتراكيبها، كقول ابن قزمان في ترك الخمر في بيت:
يتركوا قوم ونا لا ... إنما مذهبي الطلا
يا من على منّو بين ملا ... كان يكون أرجلي العقاب
ويكون فمي الدلو
ولكن لما دخل الزجل الديار المصرية ونظمه المصريون حلّوا موارده بعذوبة ألفاظهم ورشاقتها، وزادوا محاسنه بالزوائد المصرية، وحلوه في الأذواق لما صارت حلاوته قاهرية، ثم تفكه بعد ذلك من أهل الشام بثمرات المعاني الشهية، وحلوه بشعار التورية والنكت الأدبية، كقول الحاج علي بن مقاتل في بيت:
دي الذي وصالو عمري نرتجي ... ما ندري في عشقو لمن نلتجي
وعد يوم الاثنين لعندي يجي ... راح اثنين في اثنين وما ريت أحد
وقال في بيت زجل آخر:
قلت هبني يا ذا الألما ... قبله في الجيد المسمى
قال بروحك قلت مهما ... سمتني في الجيد ما يغلا
وقال رسيله الأستاذ شهاب الدين أحمد الأمشاطي معارضًا في الوزن والقافية وأجاد في قوله:
قلي والرقيب في غفله ... لا يكون بحياتي بالله
1 / 13