وبهذه المناسبة أذكر أني حين مررت بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة، وعلمت فيما علمته ، أن نسبة المنتحرين في تلك المدينة، تفوق نسبتهم في أي مكان آخر سألت لماذا؟ فكان الجواب هو أن الأمريكي الطامح، إذا لم يجد في الشرق (شرق الولايات المتحدة) ما يحقق طموحه، رحل غربا - ويظل يرحل غربا - حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» ولم يجد بغيته، لم يبق أمامه سوى أن ينتحر! هذا من ناحية المكان وسعته، وأما الزمان وقصر تاريخه هناك، فشرحه أن المهاجرين إلى العالم الجديد، بدءوا هجرتهم إليها في القرن السابع عشر، أي أن تاريخ ما قد أصبح يعرف «بالولايات المتحدة» عمره ثلاثة قرون، ومغزى هذه الحقيقة هو أن حمل التقاليد خفيف على ظهورهم، اللهم إلا من بقيت معهم تقاليد بلادهم الأصلية التي هاجروا منها، ومع ذلك فلا بد من الإشارة هنا إلى أن الروح الوطنية الوليدة في الولايات المتحدة تعمل جاهدة على أن «يتأمرك» الأمريكي، منسلخا بالتدريج عن روابطه بوطنه السابق، وإلا فلو ظلت لكل فرد رواسب ماضيه، لما نشأت أمة جديدة تربطها روابط الأمة، ومن هنا نلاحظ فيما يكتبه كتابهم، إلحاحا شديدا على ضرورة «التأمرك» لينصهر المواطنون جميعا في روح وطني واحد، وخلاصة القول - إذن - هي أن الأمريكي بهذا قد تحرر من القيود مرتين: مرة حين وجد المكان من السعة بحيث يمرح باحثا عن المجد، ومرة ثانية حين وجد التاريخ الأمريكي قصيرا وراءه، فلم تقيده رواسب تقاليده إلا بما هو أقل من القليل، فما عليه إلا أن «يريد» فلا يجد أمامه ما يحول دون تنفيذه لإرادته، ما وسعته قدرته، وما أذنت له قوى الطبيعة، استسلاما له، أو تأبيا عليه.
وننتقل إلى المصري في ظروف وطنه، مكانا وتاريخا، وليس الهدف مما سوف أقوله في هذا الصدد هو أن يتحلل المصري من قيد ظروفه، بل هو أن نرى ماذا في مستطاعه أن يفعل، وهو كما يحيا في إطار معين من مكان، وفي امتداد معين من التاريخ، أما المكان المعمور حتى الآن فهو - كما نعرف - منحصر تقريبا في الوادي الضيق! وأما التاريخ فقد امتد به عبر أربع حضارات - وهو الآن يخوض الخامسة - التي هي حضارة هذا العصر، وهكذا أخذت التقاليد تتراكم على كتفيه حضارة بعد حضارة حتى أصبحنا أمام مصري (لو أخذنا المصري على نقائه في الريف) له في كل خطوة يخطوها قيد يحد من حركته، فهنا تقليد يأمره بأن يراعي كذا، وهناك تقليد يأمره بأن يراعي كيت.
ومضى الراوي في خطابه إلى هواء غرفته، فقال: كان أول ما خطر لي من خواطر، بعد أن تحفظت بالمقارنة التي أجريتها، بين الظروف المحيطة بالأمريكي الذي يمكن اعتباره مؤشرا يشير إلى إنسان العصر الجديد، والذي انعكست صورته - بغير شك - في عجوز البحر عند «همنجواي»، وبين الظروف التي تحيط بالمصري، الذي يمكن بدوره، أن يؤخذ ممثلا للشعب العريق الذي يحمل في عروقه تاريخا طويلا، وما لا بد أن يحدثه ذلك التاريخ من تقيد بتقاليد الآباء والأجداد إلى حد بعيد أو إلى حد قريب، أقول إن أول خاطر خطر لي بعد تلك المقارنة السريعة، هو أن أتخيل «عجوزا آخر» أختاره من الحياة المصرية، أو من الحياة العربية على إطلاقها، يشبه «عجوز» همنجواي في تقدم السن من جهة، وفي الرغبة في الإنجاز قبل أن يأتي الأجل القريب من جهة أخرى؛ لأرى ماذا تكون الفوارق الأساسية بين العجوزين، ومن خلال ذلك ألمح الفوارق بين الحياتين! فكان أول ما لمع في الخيال، هو أن يكون عجوزنا المختار، عجوز «بر» لا عجوز «بحر»، نعم نحن نملك الإطلال الطويل على بحرين، إلا أن مسارح نشاطنا يغلب أن تكون في البر لا في البحر، إذن فليكن عجوزنا عجوزا بريا، ومن هذه البداية كدت بادئ ذي بدء، أن أقول: إن الدافع القوي يبدأ في صورة «العجوز والبحر» في رواية همنجواي، بالرغبة القوية في إنجاز كبير، وإن مثل هذه الرغبة لا يظهر واضحا عندنا، لا في العجوز ولا في الكثرة الغالبة من الشباب، لكني سرعان ما أمسكت قائلا لنفسي: أدر بصرك فيما عرفت من مواطنيك، تجد ضروبا لا تحصى ولا تعد من الطامحين في إنجاز شيء مذكور: فكم من أصحاب الملايين، إذا ما رويت روايات حياتهم، قيل لنا إن فلانا بدأ عاملا بأجر يومي ضئيل، وإن فلانا تحول من حالة الفقر إلى حالة الغنى بسرعة كأنما سحره ساحر! وكم من أصحاب المناصب العليا قد أمسكوا بصولجان القوة وهم بعد في مرحلة الشباب، وفي مجال التعليم ترى العجب إذ ترى ولي الأمر لا يملك قوت يومه، ويصر على أن يتعلم ولده حتى يبلغ من درجات العلم والشهادات أعلاها، لا يصرفه عن هدفه هذا أن يقال له - بل وأن يرى بعيني رأسه - إن حامل تلك الشهادات قد لا يظفر في ميادين الحياة العملية بأكثر من شظف العيش! وأمثلة المجاهدين في كل جوانب الحياة كثيرة، وأمثلة «الإرادة» القوية المصممة بين مواطنينا ظاهرة لمن شاء أن يرى، أفلا يكون في كل واحد من هؤلاء «عجوز بر» يقابل عجوز البحر عند همنجواي؟
ولأمر ما أمدني الخيال بصورة، وأريد ألا أختم هذه المرحلة من حديثي إلا بذكرها؛ لأنها صورة - هكذا أوحى إلي خيالي - قد تحمل من الخصائص ما يفتح أعيننا على شيء ذي بال في طبيعة حياتنا، برغم كل ما فيها من طموحات وعزائم، وأما الصورة فهي لعجوز من عجائز البر، جعل من «العلم» هدفه الأول، وهدفه الأوسط، وهدفه الأخير، لقد تتعدد صنوف القوى بين الطامحين: فهناك من أراد قوة النفوذ، ومن أراد قوة المال، ومن أراد قوة الشهرة، ومن أراد، ومن أراد، أما صاحبنا فلم يرد إلا أن يعلم ويعلم، وأن يعرف، ويعرف، وشاء له ربه أن يجعل له ميدان العلم والمعرفة مصدر رزقه، فنعم بنعمة الله عليه، نعيما ما فتئ له حامدا؛ إذ وجد عمله هو هوايته، وهوايته هي عمله، وتلك سعادة لا يعرفها إلا من عاشها! فلعل أشقى ما يشقى به بنو آدم في هذه الدنيا، هو محنة العمل الذي يجبر عليه عامله، إما كسبا للعيش، وإما تسخيرا من مستبد ظالم، وجنة الحياة التي هي توحد الهواية والعمل لم تكتب إلا لنفر قليل، ولا عجب أن رأينا مؤلفي «المدن الفاضلة» - كما يطلق عليها - لا يفوتهم أن يجعلوا حق العالم أن يختار عملا يتفق مع هوايته، وبذلك يصبح كل عامل «فنانا» في ميدانه، يسعد هو بحرية التعبير الفني فيما يؤديه، ويسعد سائر الناس بما ينتجه لهم.
ومثل تلك الجنة الأرضية هي ما شاءها الله سبحانه وتعالى لصاحبنا «عجوز البر»، الذي أرادني خيالي إلا أن أحكي حكايته، فلئن كان البحر الهائج المائج هو ما اختاره همنجواي مسرحا لعجوزه، فقد اختار القدر لعجوزنا مكتبته مسرحا، فليس صيده الكبير المرتجى سمكة ضخمة تنفغر لها أفواه المشاهدين دهشة، بل صيده الكبير المرتجى هو «أفكار» تضيء له السبيل وللآخرين، ومع ذلك الفارق بين عجوزنا وعجوزهم - برا هنا وبحرا هناك - فقد تشابها من وجه وتباينا من وجه آخر، من حيث ما سلط على صيدهما من شر الشياطين، فكانت أسماك القرش هي محنة العجوز في بحر همنجواي، وكانت مشانق الصمت هي محنة عجوزنا في البر، ولئن وجد العجوز هناك في نهاية رحلته هيكلا عظميا أكلت القروش لحمه نهشا في الطريق، فلقد وجد عجوزنا في آخر رحلته أوراقه وكأنها أكفان الموت، على أن العجوزين كانا في الصمود ومضاء العزيمة أخوين.
واستأنف الراوي حكايته التي يحكيها لسامعه الأوحد، الذي هو هواء غرفته، فقال ... وبعد أن فرغت من المقارنة بين الحالتين، من حيث الظروف المحيطة التي من شأنها أن تشكل صور الكفاح، ومن حيث ما قد يصاب به العاملون من شر الشياطين، اتجهت إلى ما هو خير وأبقى، فاتجهت إلى مقارنة أخرى قد تنفع الناس، وهي هذه المرة مقارنة بين «ملامح» الكفاح عند المكافحين هناك والمكافحين هنا؛ إذ لا بد أن يكون بينهما تباين شديد في السمات والقسمات، وإلا فلماذا أدى بهم هناك كفاحهم في مجمل نتائجه، إلى طيران في السماء، وأدى بنا كفاحنا في مجمله إلى سير يشبه القعود، حتى ليحق للسلاحف إزاءه أن تباهي بسرعة جريها؟ نعم، لقد أردت هذه المرة أن أقارن بين ملامح وملامح ، فوقع بصري على نقطتين، الأولى: وهي أهونهما خطرا: هي أن طموح الطامحين هناك ينشد الإنجاز الكبير، الذي يفقأ بضخامته أعين الجاحدين، ولست أقول إن كل ذي طموح قد أنجز مثل ذلك الإنجاز العظيم الذي يجيء من أيدي صانعيه ليرسخ على صدر الزمن، ولكن شعبا يسوده طموح متوثب في أبنائه، مهما اختلفت فيه درجات النجاح، فلا بد أن يقع على نفر من هؤلاء الأبناء، يقيمون له من العظائم ما يصنع له المجد في تاريخه، وإن لنا نحن من آيات المجد في تاريخنا، المصري والعربي، ألف شاهد وشاهد، على صدق هذه الحقيقة الحضارية، وهي أن مجد الأمة إنما هو حلقات متتابعة من «عظائم» المنجزات، تراها الأعين، وتمسها الأيدي، وليس مجد المجيد مكونا من «فتافيت» يتركها الصغار، بل هو مركب من منجزات كبرى تصمد للزمن، وما قد يراه الصغير عظيما يراه العظيم صغيرا كما أشار المتنبي شاعر العرب بقوله:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
كانت تلك هي النقطة الأولى، من نقطتين انتهت إليهما المقارنة التي أجريتها، وهي أن حياتنا الراهنة، مهما يكن فيها من آثار الجهد المبذول، فهو جهد المقل الذي يقنع بالقليل، ويريد للناس أن يقنعوا به: علماؤنا، يتلقون العلم من صانعيه ليدرسوه ويحفظوه، ولو أنهم أجادوا الدرس والحفظ، لكان ذلك خير ما نرجوه ونتوقع، ومع ذلك نضحك على أنفسنا وعلى شبابنا، لنوهمهم بأننا كبار مع الكبار، وذلك قد ينفع في بث الروح الوطنية والعزة القومية، لكنه كذلك يغرقنا في أوهام تميت ولا تحيي، ولا غرابة أن ترانا عند المفاخرة والمباهاة، نستمد الشواهد من آباء لنا وأجداد؛ لأننا لا نجد بين أيدينا ما يبيح لنا أن نقول لمن نباهيه: ها أنا ذا؟ وقديما قال الشاعر العربي:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
Shafi da ba'a sani ba