مقدمة
نافخ النار
تلك المعزوفة الكبرى
كان حلما وما زال حلما
موطن الداء
تلك أم المشكلات
حاطب الليل
حقائق الأشياء وظلالها
لولا اخترقنا هذا الجدار
من ذا يزيح هذا الضباب؟
Shafi da ba'a sani ba
وقفة عملية هادئة
فطرة الإنسان تهديه
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
ضمائر العلماء
لجاج واختصام
صورة مصغرة
وللحرية شيطانها
رواية وراويها
على سبيل الفكاهة
اختلط الحابل بالنابل
Shafi da ba'a sani ba
لقاء في الجسرة
غمار الناس والصفوة
وثبة جبارة
وماذا عن عجوز البر؟
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
الشجرة المباركة
عن العقل ونضجه «1»
عن العقل ونضجه «2»
مقدمة
نافخ النار
Shafi da ba'a sani ba
تلك المعزوفة الكبرى
كان حلما وما زال حلما
موطن الداء
تلك أم المشكلات
حاطب الليل
حقائق الأشياء وظلالها
لولا اخترقنا هذا الجدار
من ذا يزيح هذا الضباب؟
وقفة عملية هادئة
فطرة الإنسان تهديه
Shafi da ba'a sani ba
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
ضمائر العلماء
لجاج واختصام
صورة مصغرة
وللحرية شيطانها
رواية وراويها
على سبيل الفكاهة
اختلط الحابل بالنابل
لقاء في الجسرة
غمار الناس والصفوة
Shafi da ba'a sani ba
وثبة جبارة
وماذا عن عجوز البر؟
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
الشجرة المباركة
عن العقل ونضجه «1»
عن العقل ونضجه «2»
بذور وجذور
بذور وجذور
تأليف
زكي نجيب محمود
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة
أردت في فصول هذا الكتاب أن أتعمق حياتنا لأصل إلى جذورها التي منها انبثق جذع تلك الحياة، ثم من الجذع تفرعت الفروع وأورقت وأثمرت ثمارها؛ ثم لم أقف عند الجذور، بل مضيت في الحفر لأصل إلى البذور الأولى التي فعلت فعلها في خفاء التربة، حتى أخرجت الجذور؛ بيد أني في تلك العملية التحليلية، آثرت أن أصطنع فيما أكتبه، ذلك الأسلوب الذي دأبت على اصطناعه في كثير جدا مما كتبته خلال خمسة عقود من السنين أو ما يزيد قليلا عن هذا العدد، وهو الأسلوب الذي تمتزج فيه ذات الكاتب وخبراته وآلامه وآماله، مع الأفكار التي يراد عرضها على الناس، ومثل هذا المزج هو إحدى سمات المقالة «الأدبية»؛ فللمقالة «الأدبية» سمات كثيرة أخرى، ليس هذا مكان عرضها تفصيلا، لكن حسبنا الآن أن نذكر منها هذه السمة الواحدة؛ لأنها قد تعين القارئ على تقويم ما يقرؤه في هذا الكتاب وفي غيره مما صدر لهذا الكاتب، على أن ما قد نشره هذا الكاتب في هذا الكتاب، وفي كثير غيره، من فصول تبدو متفرقة في صورة «مقالات»، وهي في حقيقتها أجزاء من موقف واحد يستهدف هدفا أساسيا واحدا؛ أقول بأن ما قد نشره الكاتب في هذا الكتاب، تتفاوت في فصوله درجات المزج بين «ذات» وخبراتها، و«موضوع» وما يشتمل عليه من أفكار يراد عرضها؛ ومع هذا التفاوت تتفق الفصول كلها في حقيقة معينة، هي أنها «أفكار» عاشها الكاتب وعاناها، وكلها يدور حول تحليل حياتنا تحليلا يردها إلى بذورها وجذورها، لتنشأ فرصة أمام أبصار المبصرين أن ترى أين تكمن القوة وأين يكمن الضعف.
فكانت البذرة الأولى، هي حقيقة «المصري» ما هي؟ من أي العناصر تركبت «هويته» على امتداد التاريخ؟ ثم كيف نرى حياته الآن من هويته تلك، وكان مختصر الجواب أن جوهر المصري هو أن يحيا حياته الدنيا زراعة، وصناعة، وفنا، وحربا، وسلما، أن يحيا تلك الحياة الدنيا بكل أفراحها وأحزانها، على أن ينظر إليها من منظور ديني يبين له أين تتعثر به الخطى وأين تستقيم؟ ولقد تغيرت عليه العقائد الدينية، لكن بقي «التدين»، يصاحبه دائما، ولب «التدين» - مع اختلاف العقائد - هو أن ينظر إلى الحياة الدنيا من حيث هي مقدمة لحياة الخلود، وهي مقدمة ضرورية؛ لأنها تهيئ للإنسان مسرح العمل الذي على أساسه يكون له في حياته الآخرة ثواب أو عقاب، فهي - إذن - حضارة أخلاقية، من عمق أعماقها، وعند هذا الأساس العميق تتلاقى مصر مع سائر أجزاء الوطن العربي الكبير، كما تتلاقى معه بعد ذلك في سائر المقومات الحضارية.
إن ثبات الهوية وديمومتها، لا ينفيان التغير مع متغيرات العصور، ولقد ضربنا لذلك مثلا ذلك السماك الذي أخذت ألواح قاربه تهترئ واحدا بعد واحد، وأخذ هو كلما اهترأ واحد منها، استبدل به لوحا جديدا، حتى جاء يوم لم يعد في القارب شيء مما كان فيه أول عهده، ومع ذلك فلا خطأ في قولنا إن القارب لم يزل هو القارب الذي كان، لماذا؟ لأن «الصورة» الأساسية، أو «الهيكل» الأساسي بقي على حاله، فخلع ثبات الهيكل ثباتا على هويته، وهكذا تكون هوية الأمة، تتغير عناصر حياتها، لكنه إذا بقيت «صورة» العلاقات بين أفرادها قائمة، قلنا إن الهوية ما زالت على حقيقتها الأولى برغم ما قد تغير من عناصر حياتها.
وننظر إلى حياتنا اليوم، فلا نتردد لحظة واحدة، في أن صورة العلاقات التي تربط المواطن بالمواطن قد تغيرت في صميمها، حتى يكاد الأمر يتحول من كون الأمة أمة واحدة، إلى كونها تجمعا من أفراد، كل فرد منهم يسعى إلى الحصول على أكبر نصيب ممكن من «الغنائم»، بأقل قدر ممكن من العمل، ومن هنا كان السابقون في هذا المضمار، هم أبرع الناس حيلة ودهاء، وليس أرفعهم ذكاء وعلما وعطاء، وما يقال عن أفراد الشعب الواحد من شعوب الوطن العربي، يقال عن الشعوب العربية بعضها إزاء بعض، فلم تعد الأمة العربية أمة بينها أواصر الأمة الواحدة، بقدر ما أصبحت عددا من الشعوب يمكر شعب منها بشعب ليظفر دونه بالغنيمة، ولولا بقية جوهرية بقيت، هي أن ذلك التفكك أكثر ظهورا على صعيد السياسة منها على صعيد الثقافة، لقلنا إن الرحمن قد أوشك بنا على الفناء.
وعند هذه النقطة ننتقل إلى «البذرة» الثانية من بذور حياتنا، فلماذا فقد الفرد الواحد من المواطنين في الشعب الواحد، إحساسه «بالآخرين»؟ ما الذي غرس في صدورنا ذلك الضلال الذي شوه الرؤية عند كل فرد حتى ليحسب أنه وحده في هذه الدنيا، له أن يحصد الحصاد كله لشخصه وحده، فإذا كان هنالك «آخرون» فإنما هم «أدوات» تستغل لصالحه وتستثمر لزيادة كسبه، وذلك - بالطبع - إذا استطاع أن يحقق لنفسه ذلك الوهم الكبير؛ إذ هو قد يصطدم بمن هو أشد ضراوة وأمكر حيلة، لعل ما ساعد الأفراد على هذه الأنانية المخيفة في حياتنا الاجتماعية اليوم، هو فقدان الفكرة الموحدة بيننا عن حقيقة «الإنسان»، ما هي؟ لقد درج معظم التاريخ الماضي على أن جوهر الإنسان هو «عقله»، وحتى الديانات الكبرى، التي جاءت إلى أهل الأرض وحيا من السماء، إنما جاءت لتقول لهم إن الجانب الذي كرم به الله الإنسان هو أن وهبه عقلا، يميزه عن سائر الكائنات، ولو بقينا على هذه العقيدة في حقيقة الإنسان، لأرسينا المعاملات الاجتماعية على أسس يرضى عنها منطق العقل، وأول ما يفرضه علينا ذلك المنطق، هو أن الإنسان اجتماعي، بطبيعته، لا يتحقق له وجود إلا إذا نظر إلى نفسه من حيث هو عضو في جسم كبير، دون أن تقلل هذه العضوية من حقيقته فردا مسئولا. وانظر إلى أعضاء الكائن الحي: القلب قلب يؤدي وظيفته كاملة، لكن هذا الأداء نفسه ما كان ليكون ذا قيمة، إذا لم يقم بتلك الوظيفة ليمد سائر الأعضاء بزاد من الدم لتحيا، وهكذا قل في الرئتين، وفي الكبد، وفي المعدة، وفي كل عضو من أعضاء البدن، وتلك العلاقة هي نفسها ما يفرضها منطق الفعل، على أفراد المجتمع، لكنه جاء عصرنا هذا بما يبلبل الفكر عن حقيقة الإنسان، فمن قائل إنه كذا، ومن قائل إنه كيت، مما يندرج تحت عنوان «اللاعقل»، حتى أصبح «اللامعقول» أساسا ينافس المعقول، وقد يغلبه على أمره ليسود، ولقد ساد اللامعقول في كثير من جوانب حياتنا، فكان من نتائج ذلك أن ظن الفرد الواحد أنه يستطيع أن يغض النظر عن سائر الأفراد، كما ظن الشعب الواحد من الشعوب العربية أنه يستطيع أن يسقط من حسابه سائر الشعوب.
وعند هذا التنافر الحاد بين الأفراد في الشعب الواحد، وبين الشعوب في الأمة العربية الواحدة، ننتقل إلى البذرة الثالثة وهي خاصة بالثقافة والمثقفين في حياتنا القائمة، فإذا أبعدنا عن المعاني الكثيرة التي تفهم بها كلمة «ثقافة» ذلك المعنى الذي يجعلها مجموعة العناصر كلها، التي من تركيبها في نسيج واحد، ينشأ نمط الحياة التي تحياها مجموعة معينة من الناس، بقيت لنا عدة معان أخرى، تريد ب «الثقافة» أن تشير إلى خصائص نوعية تتميز بها مجموعة من أفراد الشعب لا تشمل إلا نسبة قليلة من أبنائه، هي تلك القلة التي توجه اهتمامها - إبداعا أو استقبالا للمبدعات - نحو الأدب، والفن، والفكر، والقيم الضابطة للسلوك، والرؤية العامة التي على أساسها ينظر الإنسان إلى الكون وإلى الحياة بصفة عامة، وإلى حياة الإنسان في أركانها الأساسية بصفة خاصة.
وهذه المعاني النوعية للثقافة هي التي نقصد إليها بحديثنا هذا، وليس على واحد معين منها إجماع؛ إذ نجد الرأي في ذلك قد تفرق بين أعلام المفكرين في عصرنا هذا، فضلا عما اختلف به في العصور الماضية، فمن هو «المثقف» في حساب عصرنا؟ قائل يقول إنه ذلك الإنسان الذي يتميز بحب الكشف عن سر الحياة في شتى صورها، وفي صورتها الإنسانية بصفة خاصة، فهو لا يكتفي بالوقوف عند أسطح الكائنات وظواهرها، بل يريد أن ينفذ خلال تلك الأسطح الظاهرة ليرى دوافعها وجوهرها من باطن، فهكذا يفعل الشاعر في البحث عن دخائل النفوس، وهكذا يفعل الروائي والمسرحي والفنان التشكيلي والموسيقي، كل بالمادة الوسيطة التي يستخدمها، وهكذا أيضا يفعل المتلقي لهذه الأشياء جميعا، فهو وإن لم يكن قد أبدعها بالدرجة الأولى، يحاول أن يعيد إبداعها في نفسه حيث يتلقاها بالدرجة الثانية، وسواء أكان صاحب الاهتمام مبدعا أم كان متلقيا، فإنه في أعماق نفسه يبحث عن وسيلة تجمع له كل الرؤى وجميع المبدعات في العصر الواحد تلتقي في هدف واحد، هو غاية أبناء ذلك العصر، فإذا لم تكن هناك غاية معلومة قد أضمرت فيما يبدعه المبدعون ويتلقاه المتلقون، لم نجد في دنيا الثقافة إلا هشيما أعوزه أن يكتمل في كيان حي موحد.
ومثل هذا الهشيم هو الذي نراه في حياتنا الثقافية اليوم؛ فقد تجد أعمالا مفردة كثيرة لكل منها قيمته في ذاته، لكنه يتعذر عليك أن تستخرج غاية مشتركة يستهدفها المثقفون في ضمائرهم، وإن لم يروها ظاهرة في الوعي المباشر. وكيف نطمع في مثل هذه الغاية الموحدة، إذا نحن اختلفنا أولا على طبيعة «الثقافة» ذاتها، واختلفنا ثانيا على هدفها، فطبيعتها تتنازعها آراء، منها ما أسلفنا ذكره، وهو أن يتجه المثقف باهتمامه إلى مجرد الكشف عن دوافع الإنسان، ومنها ما يترك الإنسان وغموضه ليحصر انتباهه في «لغته»، وهنا سيجد غموضا شديدا في فهم الناس للمدركات الأساسية التي تدور حولها رحى الحياة، وعندئذ تكون المهمة الأولى للمثقف أن يزيل ذلك الغموض، تارة بالتحليل المنطقي للمعاني، وطورا بتجسيد تلك المعاني الكلية في أفراد روائية أو مسرحية أو شعرية، ومرة ثالثة تجد من يريد بالثقافة «تنويرا»، ويراد بالتنوير هنا أن تزداد معارف الناس عن دنياهم بصفة عامة، وأن ترسخ عندهم النظرة «العقلية» لأمور حياتهم بصفة خاصة، وقد كنا نتمنى لحياتنا الثقافية أن تأخذ بما شاءت من تلك المعاني؛ لأنها جميعا تؤدي إلى الغاية، لكننا لا نجد شيئا من هذا، وهنا نبحث عن «الغاية» من حياتنا كما تريدها لنا حياتنا الثقافية، فإذا هي غائبة؛ إذ تتقسمها وجهات نظر متناقضة فتمزقها، وحسبنا أن بعضنا يجد غايته في الرجوع القهقرى، وبعضنا الآخر يراها في استباق مستقبل مأمول.
وهنا نلقط الخيط من أيدي الداعين إلى العيش مع الأسلاف في ماضيهم، فنجد أنفسنا أمام البذرة الرابعة من بذور حياتنا الثقافية، وهي «التراث» وما نثيره حوله من ضجة تصم الآذان فلا تصغي ولا تسمع؛ لأن هذا الاسم إنما يشير إلى مسمى هو أوسع جدا وأعمق جدا من أن ينحصر في موضوع واحد يتيح لنا التحدث عنه متفقين أو مختلفين، فإذا نحن حصرنا لكل فئة منا ميدانها أو ميادينها التي تهمها من عالم التراث، ثم دققنا النظر بعد ذلك، وجدنا أنه إذا ما عاد أحدنا إلى الموروث في ميدان اهتمامه، فهو - أولا - قد لا يجد نفسه غريبا، لما يربطه بذوق أسلافه في مذاق مشترك، وهو - ثانيا - يجد أن مشكلات أسلافنا وإن اختلفت عن مشكلاتنا اليوم من حيث الموضوع، فهنالك جانب مشترك يربطنا بهم، ولقد طبق كاتب هذه السطور التجربة على نفسه، وعاد ليعيش لحظة مع أصحاب الفكر الفلسفي في مشكلة عرضوها واختلفوا في أمرها، فوجد نفسه منسجما معهم في جوهر الموقف؛ لأن المشكلة كانت عندهم هي هذه: أيأخذون عن فلاسفة اليونان منطقهم؟ أم أن الأمر في المنطق مرتبط باللغة، وبالتالي لا يكون المنطق اليوناني صالحا للغة العربية؟ فلم يجد هذا الكاتب عندئذ فرقا جوهريا بين سؤالهم وسؤالنا، فما زال السؤال واردا يحتمل اختلاف الرأي؛ إذ نسأل اليوم: أنأخذ عن فلاسفة الغرب؟ أم أن هؤلاء الفلاسفة يفلسفون حياة ليست هي حياتنا؟
Shafi da ba'a sani ba
لكن الدرس الهام الذي خرج به هذا الكاتب من تلك التجربة، هو أننا لو عقلنا ألفينا أن أسلافنا وهم يعالجون تلك المشكلة، التي هي نفسها المشكلة التي نتحدث عنها اليوم على أنها مشكلة «التراث» والحفاظ عليه، نراهم يحصرون المشكلة فيما يمس جوانب ثقافية قائمة بالفعل عندهم، ولم يجاوزوا ذلك ليجعلوها مشكلة تشمل كذلك الجوانب التي لم يكن في حياتهم مثيل لها، فلم يسأل أحدهم: أنأخذ عن اليونان ما قد وصلوا إليه في علوم الرياضة، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والنبات، والحيوان وغير ذلك؟ بل هم لم يسألوا هذا السؤال عن مشكلات إنسانية اجتماعية وجدوا حلولا لها عند اليونان ولم يكن لها مثيل عندهم، ولك أن تراجع كتاب «الأخلاق» ل «مسكويه»، فتراه يأخذ عن التصور اليوناني لعلم الأخلاق أصولا كثيرة، فلم يقلقه هذا الأخذ ولا أقلق سواه مع أن الموضوع خاص ب «الأخلاق» وتنظيرها، مما كان يمكن للمعترض على متابعة اليونان فيه أن يجد الكثير الذي يعترض به؛ إذ «الأخلاق» تمس صورة الحياة الإنسانية في الصميم، فإذا كان هذا هو موقف القدماء في مشكلة «التراث» أيامهم، أليس الأجدر به أن يكون هو موقفنا اليوم إزاء المشكلة ذاتها؟
ومن الحديث عن «الثقافة» ومعانيها التي تحققت في حياتنا أو لم تتحقق، نخصص القول الآن حول عنصر ثقافي واحد، لعله أخطر العناصر جميعا؛ لأن إصلاحه إصلاح للوقفة الفكرية كلها، وفساده فساد للوقفة الفكرية كلها أيضا، ألا وهو عنصر «اللغة»، ولتكن هذه هي البذرة الخامسة من بذور الشجرة الثقافية كما هي قائمة بيننا، ولسنا نريد باللغة هنا نحوها وصرفها واشتقاقاتها، كلا بل نحن لا نريد التحدث عنها من حيث صوابها أو انحرافها عن الصواب، في هذه المفردة من مفرداتها أو تلك، في هذا التركيب اللغوي أو ذاك، وإنما نريد «اللغة»، في فلسفتها ومنطقها ، فها هنا وقع ما وقع مما تعرضت له حياتنا الثقافية كلها من حيث جانبها المتصل ب «الكلمة».
والذي يعنينا الآن هو أن نصب الضوء على أمرين، ومنهما أمر يتشعب شعبتين. أما الأمران فهما أن هنالك ضربين من استعمال اللغة؛ فهي إما تشير إلى واقعة من وقائع العالم من حولنا، وعندئذ يستطيع المتلقي أن يراجع صدقها على الواقعة المشار إليها، وإما تشير إلى حالة خاصة عند المتكلم، كأن يقول إنه يشعر بالظمأ، وعندئذ ليس في وسع أحد أن يراجع قوله تصديقا وتكذيبا، ووجه الخلط الذي نغرق فيه حتى أذقاننا، ونتعرض - بالتالي - لما ليس له حدود من التخبط الفكري، هو أن المتكلم أو الكاتب قد يقول عما يشعر به هو شعورا خاصا، ثم يلزم الآخرين بأن يتقبلوا قوله دون أن يكون لهم حق المعارضة بأن ما قاله بضاعة خاصة به، هو حر في قبولها، والآخرون بدورهم أحرار فيما يشعرون به أو لا يشعرون.
على أن هذا الجانب الشعوري يعود فينقسم قسمين، أولهما أن يجيء الكلام من النوع الذي يتبادل الناس به أحاديثهم بغير قيد ولا شرط، والثاني هو أن يصب الكلام في صورة تجعله «أدبا» فيكون قصيدة من الشعر، أو رواية أو مسرحية أو ما شئت، وعندئذ تكون له ضوابط يمكن على أساسها أن يناقش من الآخرين قبولا ورفضا.
كل هذه الفوارق تسقط من حسابنا، وتنتهي باللغة في حياتنا الثقافية إلى موقف قد يخلو فيه الكلام من أي معنى يتلقاه المتلقي، ومع ذلك فلا المتكلم يدرك ذلك ولا المتلقي يعرف كيف يكون على حذر - وخلاصة ما ينتج لنا عن ذلك كله هي أن اللغة التي من شأنها - إذا أحسن استخدامها - أن تنير الطريق إلى معرفة صحيحة بالعالم، قد أصبحت في حالات كثيرة وسيلة إظلام يلفنا بضبابه ونحن على وهم بأننا في مسقط النور!
ونكتفي من «البذور» بالبذور الخمس التي ذكرناها، مما كان سببا في أن تصاب شجرة الثقافة بشيء من العقم فلا تثمر، أو هي تثمر حشفا من حيث أردنا لها أن تنتج أطيب الثمر، فقد جعلنا البذرة الأولى هوية تحطمت عناصرها حتى لقد فقد الفرد انتماءه، وجعلنا البذرة الثانية فهما مخطئا للإنسان، بحيث أخرجناه من مدار العقل لنضعه على أفلاك اللامعقول، فتقطعت وسائل التفاهم بين الناس.
وكانت البذرة الثالثة «ثقافة» بلا غاية يتغياها المبدعون، كل بوسيطه الخاص بميدانه، فانعكس هذا التيه على المستقبلين، وكانت البذرة الرابعة عن «التراث»، فقد جعلناه هما لنا بالليل ومشغلة لنا بالنهار؛ لأننا أخطأنا تحديد البؤرة التي يجب أن يتجه إليها البصر، وأما البذرة الخامسة فهي طريقة استخدامنا للغة في حياتنا الفكرية؛ إذ تحولت على أيدينا أداة لا تؤدي، وكان الأساس فيها أن تكون أداة توصيل من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ - ومن هذه البذور الخمس تفرعت جذور:
فكان أول ما تفرع عنها أن العملية «الفكرية» في أي ميدان من ميادينها، لم تجد الغذاء الصحي الذي يغذيها فتنمو وتنتج، وإذا كانت مقومات الحياة الثقافية أربعة أساسية: دين وفكر وأدب وفن، فإن الفكر في حياتنا هو أضعف الأربعة، بلا نزاع؛ فقد تجد بين الناتج المتصل بالدين أو الناتج الأدبي ما يستحق النظر، وقد ترى في حصاد الإبداع الفني - تشكيلا وتعبيرا - ما هو جدير بالعرض وبالوقوف عنده كثيرا أو قليلا، أما جانب الفكر الخالص، الذي يستهدف تنظير الحياة العملية، فقلما تعثر له على أثر واحد تعرضه على الناس وأنت مزهو بأعلام أمتك، لقد حدث لكاتب هذه السطور مرتين أن طلبت منه هيئات دولية وجامعية، أن يرشدها إلى ثمار «فكرية» من محصولنا، لتترجم إلى لغات أخرى فيقرؤها الراغبون في المستويات العليا من المعالجات النظرية لمشكلات هذا العصر، فلم يجد ما يقدمه اللهم إلا نتفا يجمعها من هنا ومن هناك، لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد، لماذا؟ لأن الغالب فيما نعددهم من أعلامنا «مفكرين» أن يكونوا أحد رجلين: فإما رجل أحب الماضي فجعل فكره عرضا لروائع السلف، وإما رجل يميل إلى ثقافة الغرب قديمه أو حديثه، فيعرضه كذلك عرضا يشيد به أو ينقده من بعض جوانبه، وإننا لنرى في كلتا الحالتين عملا مفيدا نحمد الله عليه ونثني على من قاموا به؛ لأنه قدم إلينا زادا نقتات عليه، لكن ذلك كله شيء، ومواجهة المشكلات الكبرى في حياتنا مواجهة مباشرة بالتحليل المستقل، وبالنظر النافذ، وبالوصول إلى نتائج تستحق التقدير والنظر شيء آخر.
ولا عجب أن رأينا حياتنا الفكرية تخلو خلوا واضحا من الناقد للفكر، فنقد الفكر شيء يختلف عن نقد الأدب والفن، وليس كل هذا النقد للأفكار مقصورا على مراجعة «المضمون» الفكري، بحيث نصفه بالصواب حينا وبالخطأ حينا، وإلا فمثل هذا النقد المضموني موجود بيننا، فلن يعدم المفكر السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي، أوما شئت من ميادين النظر، أن يجد من يراجعه ليقول له: لقد أصبت أو أخطأت في كذا وكيت، ولكن الذي يغيب عنا غيابا شبه تام، هو أن هذا النقد المضموني لا يجدي كثيرا إذا لم يتعمق الناقد عمله النقدي، ليصل إلى هياكل الأفكار التي عليها بني المضمون المعين، وقد تسأل: وما قيمة تلك الهياكل ما دمت على صواب في المضمون المعد للتطبيق؟ والجواب هو أن المضمون المركب على هيكل نظري متشقق الركائز والأركان، قد يبدو صحيحا في مواقف عملية معينة، وفجأة يظهر لنا بطلانه حين يفاجئنا موقف جديد لم نكن قد عهدناه، وانظر إلى مراحل التاريخ الفكري تجد أن الأئمة العمالقة كانوا يسدلون ستارا على عصر فكري لم يعد صالحا، ليرفعوا ستارا آخر عن عصر فكري جديد، تجد أنه لم يكن ما يعنيهم بالدرجة الأولى خطأ في مضمونات معينة وصوابا في مضمونات أخرى، بل الذي كان يعنيهم هو «المناهج» التي تستخدم في عمليات التفكير، فالمنهج المعين قد يظل قرونا كثيرة وهو محسوب في أنظار العلماء على أنه المنهج الصحيح، بل على أنه المنهج الوحيد، حتى إذا ما تطورت بالناس أوضاع الحياة، بدت لهم مواقف جديدة لا تنفع فيها المناهج المعروفة، وهنا يظهر العملاق الذي يتفتق ذهنه عن منهج جديد للنظر، يصلح لمعالجة الموقف الجديد، فيكون ذلك إيذانا بدخول التاريخ الفكري عصرا جديدا: ومن هؤلاء العمالقة الفاتحين للعصور الفكرية الجديدة، سقراط قديما، وديكارت في النهضة الأوروبية، وأينشتين في عصرنا القائم، وإذا كنت أعيب على حياتنا الفكرية خلوها تقريبا من «ناقد الفكر» بهذا المعنى الذي بيناه، فلست أطمع في أن يظهر منا من يقيم منهجا جديدا لعصر جديد بالنسبة إلى العالم أجمع، بل كل ما أطمع فيه هو أن أجد الناقد الفكري الذي يحث قومه على متابعة المنهج الذي هو محور الحياة الفكرية - علما وغير علم - في عالم اليوم، وبغير هذا التنبه إلى «الهيكل» الأساسي لعمليات التفكير، سنظل يقاطع بعضنا بعضا، ويعترك بعضنا مع بعض، على مضمونات فكرية معينة، يقول أحدنا إنها صحيحة، ويزعم آخر أنها باطلة، مع بقاء كلا الرجلين على هيكل فكري ذهب زمانه وهو لا يدري.
وما دام أساس العملية الفكرية منهارا، فلا أمل في أن يقام لنا في دنيا الفكر النظري بناء سليم، وحسبك أن تراجع أمثلة عملية من مجالات الفكر في أي ميدان تختاره، لترى كم هي مزالق الخطأ التي تنزلق عليها إلى الباطل عن غير وعي منا: فنستخدم أسماء في بحوثنا «العلمية» (أو هكذا يسميها) لا تحديد لمعانيها فتخرج لنا أي نتيجة تميل بنا أهواؤنا إلى تخريجها، ونستدل نتائج من غير مقدماتها، ونحيل مسببات إلى غير أسبابها، ونخلط الفكرة المعينة مع أضدادها، وغير ذلك من ضروب الفكر الغامض، وكل ذلك يحدث ونظل على وهم بأننا نقدم أعمالا «علمية»، ثم نتعجب من ذلك حين نرى معاركنا حول المفاهيم السياسية خاوية أو كالخاوية، أو نرى فكرة اقتصادية نتحمس لها اليوم ثم ننقضها غدا مستنكرين لها هازئين بها، أو نقيم إصلاحا في التعليم على أساس معين هذا العام، ليأتي العام الذي يليه بمن يجعل من ذلك الأساس سخريته وسخرية الجمهور معه، وهكذا إلى غير نهاية.
Shafi da ba'a sani ba
وهنا ننتقل انتقالا طبيعيا إلى «الجذر» الثاني من جذور الضعف في حياتنا، وهو «التعليم» وقد ألتمس ألف عذر للقائمين على إصلاحه؛ لأن العبء أثقل من أن يحمله رجل واحد، أو جيل بأسره، لكن ذلك لا يمنع، بل هو الذي يبرر أن نتقدم بما نراه في هذا الصدد، والذي نراه هو أن جميع ما نبذله من جهود إصلاحية منصب على مواد التدريس، ما الذي نقرر دراسته هنا، وما الذي نقرر دراسته هناك؟ وهل المقررات في مستطاع التلميذ أو فوق مستطاعه؟ وكم يكون طلاب الدراسة النظرية المؤدية إلى الجامعات، وكم يكون منهم من نوجهه إلى قنوات التعليم الفني، وما إلى ذلك، وكلها مشكلات جادة وفي الصميم، لكن هذا الكاتب إذ ينظر إلى الأمر، فإنما يتجه نظره إلى صميم الصميم، فكل المواد الدراسية على اختلافها، هي مواد «علمية» بوجه أو بآخر، وكل وقفة علمية تنطوي على منهج في التفكير يتناسب مع الفكرة العلمية كما نتصورها اليوم، فما لم يخرج المتعلم ملما بالمادة العلمية من جهة، ومتشربا للمنهج العلمي من جهة أخرى، فسوف نظل من وجهة النظر الحضارية حيث نحن واقفون أو راجعون إلى الوراء. والحاصل الآن هو أن المتعلم - على أحسن الفروض - يلم بمادته العلمية المقررة، ولا يتشرب منهاجها، فيخرج آخر الأمر قادرا على ممارسة حرفته أو مهنته، لكنه عاجز كل العجز عن المحافظة على «النظرة العلمية»، ليمارس بها سائر جوانب حياته خارج حدود حرفته أو مهنته، ومن ثم وقع ما نراه من أن الحياة الحرفية والمهنية، قد لا تكون شديدة العطب، لكنها حياة يجاورها جنبا إلى جنب حياة تسودها «الخرافة» فيما هو خارج الحدود الحرفية والمهنية. لا، بل إن المأساة لتعظم حين يرى الجمهور البريء أحد «العلماء» - خارج حدود علمه - يحيا مع ذلك الجمهور في براءته من حيث سهولة الأخذ بما هو مضاد لأي نظر علمي، فيقول الجمهور عندئذ: انظر! هذا هو العالم العلامة يقول كذا وكذا، فمن ذا الذي يجرؤ بعد ذلك على التشكك في صدق ما يقول، مع أن قوله المشار إليه هو مما يهدم العلم هدما لو صدق.
ويقترن غياب النظرة العلمية في حياتنا العامة، بفقر في «المعرفة»، فقر يلفت النظر، فحياة الناس لا تستقيم بالعلوم وحدها وما يقوم على العلوم من صناعة وزراعة وغيرهما، بل لا بد لها كذلك من «معلومات» عن حقائق الدنيا المحيطة بنا، فيكون الفرد من متوسط الناس على علم بالاتجاهات العامة في سياسات البلاد التي نتأثر نحن بها على وجه الخصوص، وعلى علم بالتيارات العامة في النظم الاقتصادية والفكرية، وعلى علم تقريبي بما يتجه به العالم نحو التغيير، وعلى علم بأوجه الضعف في الأوضاع الحضارية القائمة، وعلى وعي بحقوق الإنسان الأساسية على الأقل، وهكذا وهكذا، فكل هذه الجوانب لا شأن لها بالتخصصات العلمية والمهنية والحرفية، لكن لها الشأن كل الشأن بدرجة الوعي عند المواطن العادي؛ إذ يكتسب بها قدرة على النقد الذاتي، وقدرة على ممارسة الديمقراطية ممارسة واعية.
وهذه الإشارة إلى وعي المواطن بحقوقه، تنقلنا إلى ثالث «الجذور» التي تنبتها في حياتنا ما قد أسلفناه من «بذور»، فبين الحقوق الأساسية حق «الحياة» ذاتها، لكننا لا نقف طويلا عند هذا الحق وما يعنيه؛ إذ ربما وقف بنا الظن عند حدود الحياة العضوية، من تنفس وطعام ومشي وقيام وقعود، مع أن الحياة بهذا المعنى مفروضة لا تحتاج منا إلى إعلان وميثاق يلتزمه الناس، وإنما يبنى على هذه الحياة العضوية حقوق ما أكثر ما نجهلها أو نتجاهلها، وفي طليعة تلك الحقوق، حق المواهب في أن تنفسح أمامها فرص النماء والازدهار لتفعل فيها، وانظر إلى حياتنا العلمية باحثا عما نؤديه لأصحاب المواهب، بدءا من الطفل الموهوب فصعودا إلى صاحب الموهبة فيمن بلغ الرشد، تجدنا أقرب إلى طمس الموهبة في برعمها خشية منا أن تتفتح زهرة فيظن صاحبها بنفسه الظنون، إن صاحب الموهبة في حياتنا إذا صمد، فإنما يصمد رغم المجتمع وليس بسبب تشجيع المجتمع، وقد يكون الأمر على غير ذلك في عالم الفن التعبيري كالموسيقى والغناء والتمثيل - لا أدري - لكنه يقينا هو كذلك في حياة العلم والأدب الرفيع والفن التشكيلي الذي لم يدخل حياة الجمهور، فإذا استطاع صاحب الموهبة الخارقة أن يصمد لعمليات التشكيك والخنق، فماذا نقول في المواهب التي هي دون الخوارق بكثير أو قليل؟ وهل من عجب بعد ذلك أن نرى شبابنا - بصفة عامة - قد ضاعت منه حيوية شبابه، فلا مغامرة ولا طموح ولا تفاؤل، بل هو هو شبابنا الذي يرفع فينا لواء العودة إلى وراء.
ورابع «الجذور» هو أن نجد حياتنا الثقافية اليوم كالسفينة، سبحت على سطح المحيط بغير «دفة» تحكم لها اتجاه السير ابتغاء الوصول إلى مرفأ آمن، إنها ثقافة - كما أسلفنا - كلا ثقافة؛ لأنها سير ولا هدف؛ لأن الذي يتحكم في سيرها ليس هو الربان المدرب، بل هي الأهواء الغوغائية في كثير جدا من الأحيان، وماذا نعني بالأهواء في هذا السياق؟ نعني الاحتكام إلى غير «الواقع»، فبدل أن ننظر إلى المشكلة التي يراد حلها نظرة موضوعية إلى عناصرها كما هي واقعة بالفعل، ترانا ننكفئ على بواطن نفوسنا لنرى هناك عاطفة تنعطف بنا منجذبة بالرغبات، والرغبات - كما نعلم - عمياء، لا تريد أن ترى مرارة الواقع، وغلظة الواقع، وخشونة الواقع، لا، إنها تغض النظر عن هذا كله لتحلم وتعيش أحلامها موهمة نفسها بأن أحلامها تلك هي هي الواقع بكل صلابته وبرودته! من ذا الذي لا يعلم منا علم اليقين أن جمهورنا تغلب عليه الأمية، وفقر المعرفة بحقائق العالم الخارجي؟ ومع ذلك نضحك على أنفسنا ونضحك على ذلك الجمهور نفسه، لنوهمه بأنه هو صاحب الرأي والتوجيه، نعم وألف مرة نعم، إنه صاحب الرأي والتوجيه في اختياره لمن ينوب عنه في معالجة مشكلاته؛ لأن التفرقة بين معادن الرجال أمانة وخيانة، صدقا وكذبا، تكاد تكون تفرقة يهديها الإدراك الفطري، حتى إذا ما كان الأمر أمر المشكلات ذاتها: في السياسة، والاقتصاد، والنظم الحضارية، وغيرها، وغيرها، لم يكن مفتاح القدرة عندئذ في أيدي أصحاب الإدراك الفطري السليم، بل لا بد أن يوكل الأمر فيه إلى من كان لهم إحاطة بشيء من العلم الخاص بكل مشكلة وما تقتضيه، إن موضع المشكلات هو «الواقع» وكذلك ينبغي أن يتولى أمور حلها أولئك الذين تعلموا كيف يعالجون «الوقائع» معالجة تبنى على عقل علمي قادر، بل إن الانحراف ليذهب بنا إلى ما هو أبعد من ذلك، بحيث ترانا - إذا حللت الموقف بدقة - نكاد نلغي وجود الواقع إلغاء، لنتعامل مع أوهام صورتها لنا أهواؤنا، وفي ذلك ما فيه من مفارقة تلفت النظر؛ وذلك لأن المصري مزارع وصانع بالدرجة الأولى، والزراعة والصناعة وما إليهما تحتاج إلى دقة الإلمام بتفصيلات الأرض التي نزرعها أو المادة التي نصنعها، ومع ذلك فلم تتكون عند المصري العادي نظرة واقعية شاملة، بل قصر نظرته الواقعية على ميدان حرفته، ثم ترك العنان لشطحاته الهوائية بعد ذلك، وربما كان السر في هذه المفارقة هو أننا بحكم العادة لا ننتبه إلى ضرورة تدريب حواس الطفل على حسن إدراك ما حوله، صحيح أن الطفل بحكم طبيعته ذاتها يدفعه حب الاستطلاع، أن يعرف حقيقة ما حوله من أشياء، إنه يحطم الأواني وغيرها مما يراه حوله من أشياء ما استطاع لها تحطيما؛ لأنه يريد أن يعرف شيئا عن حقيقتها: إنه بعد أن يألف صلابة المادة، قد يوضع في حوض الاستحمام فيلحظ فرقا بين ليونة الماء وما قد عهده من صلابة في سائر الأشياء، فتأخذه فرحة من استكشف حقيقة جديدة، ويأخذ في ضرب الماء بذراعيه ورجليه، ليزداد إدراكا واستمتاعا بذلك الفرق الذي كشف عنه الحجاب، تلك هي طبيعة الطفل في حبه لاستطلاع حقائق الأشياء، لكن فطرته تلك - كأي جانب آخر من جوانب الفطرة - يحتاج إلى التهذيب والإرهاف عن طريق التربية، فلا بد أن تدرب العين على رؤية أوجه الشبه بين المختلفات، وأوجه الاختلاف بين المتشابهات، ولا بد للأذن أن تدرب على التفرقة بين صوت وصوت، وأن توجه نحو النغم الموسيقي لتدرك الفرق بين أصوات تقاطعت فلا تطرب، وأصوات تناغمت فتطرب، فلو أننا تنبهنا في تربية أطفالنا لضرورة تدريب الحواس، لنتج عن ذلك بالضرورة اهتمام «بالواقع»؛ لأن الحواس لا تعمل إلا في مجال الوقائع؛ فالعين إذ ترى فإنما ترى «شيئا» والأذن إذ تسمع، والأصابع إذ تلمس، إنما تسمع أو تلمس «شيئا»، فنكون بهذا التدريب للحواس بمثابة من يشد انتباه الطفل إلى دنيا الواقع، فيتعود فيما بعد أن يحتكم إلى الواقع في الحكم على الأفكار صوابا أو خطأ.
وخامس «الجذور» هو ما يسودنا اليوم من رغبة في الجمود الفكري، وكأننا بذلك نعاند عصرا يتغير في كل يوم بما ينتجه من جديد، ولما كان التغير الدائب مؤديا بالضرورة إلى التفكير في «المصير»، كان مما يلفت النظر ما نلحظه من ميل سائد في مجتمعنا نحو العودة إلى الماضي، نحتكم إليه في أمور حاضرنا فيضيع منا المصير؟ كمن يلوي عنقه لينظر وراءه، فلا يرى فجوة شقت الأرض أمامه إلا بعد أن يقع فيها.
ولا أمل لنا في القضاء على هذه النظرة الورائية، إلا بحركة قوية نحو «التنوير» وما التنوير سوى السير نحو النور، والطريق إلى التنوير هو تربية وتثقيف وإعلام، تتآزر كلها على الإعلاء من شأن «العقل»، كلما أردنا أن نرسم لأنفسنا سبيلا يحقق لنا هدفا.
والله ولي التوفيق.
زكي نجيب محمود
يناير 1989م
نافخ النار
Shafi da ba'a sani ba
ترى أتكون هذه الظاهرة متمثلة في أفراد الناس جميعا، على تفاوت في الدرجة بينهم، أم هي مميزة لبعض دون بعض؟ لست أدري جواب ذلك على وجه اليقين، ولكنني قد عهدت نفسي منذ طفولتي، أن أجد همومي منعكسة في الأشياء التي حولي فأنظر إلى تلك الأشياء، وكأنني أقرأ فيها كلمات تنطق بما قد أثقل صدري من هموم، وأحسبني ما زلت على هذه الحال إلى يومي هذا. وماذا كانت هموم ذلك الطفل، ولقد كان على ميسرة نسبية من العيش؟ ربما كانت أفدح همومه - فيما أذكر - أن يشار له إلى نقص فيه على سبيل الجد أو على سبيل المزاح، فكثيرا ما كانت تسقط من أفواه الناس، بالتلميح أو بالتصريح، أقوال هازئة بضروب من العجز يرونها في مداركه - مدارك الحواس آنا، ومدارك العقل آنا - فتحز تلك الأقوال الساخرة في نفسي وأظل أجترها لعدة أيام بعد ذلك، فإذا وجهت بصري - خلال تلك الأيام - إلى شروخ في طلاء الجدران، أخذت تلك الشروخ تتشكل أمامي صورا تتلاحق، كل صورة منها تمثل لي ضربا من ضروب العدوان: فها هو ذا سبع قد غرس مخالبه في فريسته، وتذهب هذه الصورة لأرى رجلا ضخما شائه الوجه، وأمامه طفل دسر وجهه بين ذراعيه، وهكذا، وأما إذا كان الذي تلقاه الطفل ممن حوله، علامات تشير إلى الرضا، فلقد كانت تلك الشروخ ذاتها في طلاء الجدران، تبدو له وكأنها جماعات الطير تمرح وثوبا في الهواء، أو نقرا في الأرض، وكذلك كان السحاب من أغنى المصادر التي تمد الطفل بما يشتهي من صور، فلقد كان يقرأ كل ما أراد قراءته، في قطع السحاب تتصل وتنفصل في أشكال لا تنتهي.
وبالطبع قد اختلفت أنواع الهموم مع اختلاف مراحل العمر، إلا أنه قد بقيت عندي بقية من الطريقة التي كنت ألجأ إليها - دون أن أدبر الأمر في ذلك تدبيرا مقصودا - وهي أن أقرأ تلك الهموم فيما أجدها متمثلة فيه، من الأشياء التي أصادفها حيثما أقمت وأينما سرت، وأقرب الأمثلة التي أسوقها، ذلك المثل الذي وقع لي منذ وقت ليس ببعيد، وهو أن سؤالا كان يلح على فكري إلحاحا لم يكن لي قبل برده، وهو سؤال من أسئلة كثيرة تعاودني في هذه المرحلة الأخيرة من حياتي، وكلها يدور حول البحث عن علة الكبوة الحضارية التي كبوناها، وعن الطريقة التي يمكن بها أن ننقذ أنفسنا مما نحن فيه، وكان السؤال الذي أشرت إليه هو: إننا قد نجد عند جماعة المثقفين منا، أفكارا كانت لتكفل كل ما نريده لأنفسنا من نهوض، فما الذي شل تلك الأفكار حتى تجمدت على أقلام أصحابها، ولم تجد طريقها إلى الجريان في دنيا السلوك والعمل؟
ورسخ السؤال في رأسي رسوخ الجبل، لا يريد أن ينزاح أو يتحول، حتى أجد له الجواب، كنت أحمله ماشيا، وقاعدا، وواقفا، وراقدا، لماذا لا تتحول أفكارنا الفنية الهادية البصيرة إلى عمل؟ إن في رءوس المثقفين منا أفكارا تتعلق بما هو «الأعلى» و«الأعلم» و«الأقوى» و«الأقوم»، فما الذي يقعدنا ويشدنا إلى أديم الأرض، قانعين بما هو «الأسفل» و«الأجهل» و«الأضعف» و«الأضل سبيلا»؟ وإنه لمما زاد ذلك السؤال إلحاحا على نفسي، هو أنني كلما تلفت حولي، وجدت بشائر الخير، لكنها تأبى أن تجاوز حدود «البشائر» فهنالك في كل ميدان أوجه إليه البصر، من هم على علم بمجالهم، ومن هم على قدرة لو أتيحت لهم الوسائل فأي شيطان - إذن - قام ليحول بين هؤلاء العلماء والقادرين وبين أن يغيروا لنا وجه الحياة؟
وبينما السؤال رابض بكل ثقله الثقيل، مررت في حي قديم من أحياء القاهرة بحداد في دكانه، بجواره غلام جثا على الأرض بركبتيه، وأخذ ينفخ النار للحداد، بمنفاخ ضخم، يعلو بين يدي الغلام ويهبط، والحداد في سرعة لاهثة، يطرق أسياخ الحديد، فوقفت قبالة الدكان، بحيث أرى، دون أن أحدث للحداد وغلامه شيئا من القلق والحرج، على أني لم أطل الوقوف؛ لأنني اكتفيت بأن لمحت نماذج من حديد مشغول، فرغ الحداد من تشكيلها، وأسندها على الجدران، خارج الدكان وداخله.
مضيت في سبيلي، وكان السؤال الملح الثقيل، قد تلقى شعاعا من النور، فوجدته شيئا من الحل، وأول ذلك الحل، هو أن يكون فينا من ينفخ النار، فلقد كانت قطع الحديد الخام المكومة وراء ظهر الحداد، راقدة هناك لا نفع منها إلا أن تكون أثقالا تتعثر عليها أقدام السائرين، لكنها كانت تطوي في جوفها منافع ومنافع، لا ينقصها إلا أن يلهبها الغلام بالنار ينفخها، وعلى الحداد عندئذ أن يخرج من قطع الحديد ما شاء أن يخرج، كما قد أخرج بالفعل كماشات، وسكاكين، وسلاسل، وشكائم، وما لست أدري ماذا مما رأيته مسبوكا ومصفوفا إلى جوانب الجدران.
فتولد عن السؤال القديم سؤال جديد، أيسر حلا من سابقه، وهو: من ذا الذي ينفخ لأفكار رءوسنا، نارا تلهبها، وتذيبها، لتيسر لها أن تتحول من مكانها إلى دنيا المنفعة وتتغير الحياة؟ وبمثل ما كنت أفعل أيام الطفولة الأولى؛ إذ كنت إذا ما ضاق صدري لعسر من أمري، جلست أحوم ببصري في أي مرئي صادفته، فما يلبث الخيال أن يستولد مما يرى أوهاما وأحلاما، تمتلئ بالحياة وكأنها واقع من الواقع، أقول: إني بمثل ما كنت أفعل في أيام الطفولة وخيالها، رأيتني أفعل اليوم، فها أنا ذا لم أزل على مقربة قريبة من دكان الحداد، ولم يزل رأسي مثقلا بسؤاله: ما الذي يحول بيننا وبين النقلة من أفكار خامدة في ذاكرتنا، وكأنها جثث محنطة، إلى دنيا العمل وفي أيدينا تلك الأفكار نفسها، بعد أن نكون قد نفخنا فيها روح الحياة؟ ما الذي يحول بيننا وبين أن نصنع بأفكارنا التي تجمدت في رءوسنا، مثل هذا الذي يصنعه الحداد في قطع الحديد الخام؟
أسندت ظهري إلى الجدار، وحللت عن الخيال الطفلي القديم قيوده، فما هو إلا أن بسط جناحيه ومعي الغلام وقد أمسك بالمنفاخ ليلهب النار، ووراء ظهري كومة من أفكار يبست حتى لتحسها قطعا من الحديد والحجر؟ فناديت الغلام: هات يا غلام أول ما يصادفك من كومة الأفكار اليابسة، وضعها في الموقد وانفخ النار: فكانت الفكرة الأولى التي عاد بها الصبي، هي ما نطلق عليه اسم «الهوية»، وانفرجت لها أسارير وجهي، فهي من تلك النفائس النفيسة، الغنية بمضمونها، وإني لأسمعها تدور اليوم على ألسنتنا وعلى أقلامنا، دورانا لم يترك فردا واحدا منا إلا وقد سمعها أو قرأها، فظن أنه قد عرفها، ولو أنه عرفها حقا لانحلت له مشكلات كثيرة من أضخم مشكلاتنا حجما وأشدها خطرا؟ وحسبك أن تعلم بأن مشكلة «الانتماء» الوطني، والقومي، إنما هي فرع من فروعها: وإن مشكلة «التراث» وما يجب علينا إزاءه، إنما هي الأخرى فرع آخر، لكننا نقول اسم «الهوية» ونردده ونكتبه ونقرؤه، دون أن نعلم شيئا واضحا من مسماه.
وصحت بالغلام: انفخ النار يا غلام، ونفخ الغلام بمنفاخه الضخم، حتى اشتعلت النار وارتفعت منها ألسنة اللهب، وتفككت الفكرة اليابسة، وأخذت عناصرها ومكوناتها في الظهور، فالتقطتها بملقاطي، ووضعتها على السندان، وأخذت أدقها بالمطرقة دقا يخرج من جوفها ما كان كامنا، وأول ما تجلى من كيانها هو الجذر الذي نبت منه اسمها، فمن أين جاءت كلمة «هوية» وكيف ينبغي لنا أن ننطق به؟ وإذا بالحقيقة هينة لا تعقيد فيها، فهي - بكل بساطة - مأخوذة من كلمة «هو»، فنحن إذا ما قابلنا فردا معينا من الناس، ثم غاب عنا فترة، وظهر أمامنا مرة أخرى، عرفناه، وعرفنا أنه «هو » هو نفسه الذي كنا رأيناه؛ وذلك لأننا طابقنا الصورة التي احتفظنا بها في الذاكرة، على الصورة التي نراها الآن ماثلة أمام أعيننا، فعرفنا أن الشخص الأول «هو» هو بذاته الشخص الثاني، وسرعان ما ابتدعنا لأنفسنا اسما لنضيفه إلى محصولنا اللغوي، فقلنا إن «الهوية» واحدة بين الصورتين. ما دام الأمر كذلك، فلم تعد بنا حاجة إلى القول، بأن النطق الصحيح لهذا الاسم، يكون بضم الهاء.
لكن مهلا مهلا يا صاحبي، فلا تسرع بالظن لتقول إن هوية الفرد المعين مرهونة بصورته الظاهرة المرئية بالعين: لا، بل اصبر حتى نرى حقيقة الأمر الكامنة وراء الظاهر.
وناديت بالغلام بعد أن نفخ النار، حتى ينصهر من الأمر ما لم يكن قد انصهر، ومرة أخرى نقلت هذا العنصر الواحد من عناصر المعنى، لأضعه على السندان ولأعيد طرقه بالمطرقة، حتى أسفرت الحقيقة عن وجهها: بالتطابق بين مرئيات العين، هو أقل الجوانب أهمية، أو قل إنه إذا كان أمر «الهوية» في فرد معين من الناس، مرهونا بصورته المرئية بالعين، لما استشكل علينا من حقيقتها شيء، لكن ثبات الهوية الواحدة لفرد من الناس مؤسس على صفات وخصائص مما قد لا تراه الأبصار، ولا ينكشف إلا للعقل بعد إمعان النظر؟ إن الوليد ساعة ولادته، يظل «هو» هو، طفلا، وشابا، ورجلا، مع الفوارق البعيدة والعميقة، بينه وليدا ثم رجلا، فحتى من الناحية العضوية الخالصة، يقال لنا إن كل الخلايا التي تكون منها جسم الوليد، تتبدل ليحل محلها خلايا أخرى (إلا خلايا الجهاز العصبي فيما أتذكر)، فلماذا نظل نؤكد أن هذا «الرجل» هو ذلك «الوليد» برغم التغيرات الجذرية، جسما وعقلا، التي طرأت؟ على أي أساس نؤكد أن ثمة «استمرارية» لهوية واحدة، وليكن من أمر التحولات الظاهرة ما يكون؟ ليس أمر الهوية الواحدة - إذن - موكولا إلى تطابق الصورة المرئية مع سلسلة الصور المرئية التي نراها في الفرد الواحد، كلما اختلفت مراحل عمره، أو ظروف حياته، صحة ومرضا، فرحا وحزنا، صحوا ونوما ... بل إن أمر الهوية الواحدة موكول إلى ما هو أعمق من ظواهر الأشكال كما تبدو للأعين.
Shafi da ba'a sani ba
إن ما يقال عن «هوية» الفرد الواحد، كيف تحافظ على «استمرارية» عبر تغيرات الزمن، مرحلة من العمر بعد مرحلة، ومجموعة من الظروف بعد مجموعة، يقال كذلك عن الأمة الواحدة، ويقال عن البنية الثقافية لتلك الأمة؛ ففي حياة الأمة الواحدة ملايين الأفراد يولدون، وملايين يموتون، وهكذا تظل الموجات البشرية، ترتفع الموجة منها لتختفي، ثم ترتفع موجة بعدها لتختفي، لكن محيط الماء يظل هو محيط الماء، وتظل له خصائصه الأساسية، حتى لو تغيرت في أعماقه كوامنها جميعا، أسماكا بأسماك، وشعابا من الصخر بشعاب من الصخر، وكذلك قل عن البنية الثقافية، بل هيكلها العام، لتلك الأمة الصامدة بهويتها، فقد ينتج أبناؤها - على تعاقب العصور - علما غير العلم، وشعرا غير الشعر، وصورا من الحكم غير الصور، ومع ذلك تبقى هناك بقية راسخة، فتكون هي الجهاز العصبي لحياة الناس الثقافية، ومن هذه البقية الثابتة، يبقى المصري مصريا، ويبقى كل منتم إلى أمة بعينها هو من هو، لا يخطئ حقيقة نفسه حين يقيسها إلى سائر الأنفس، ولا يخطئها الآخرون إذا عرفوها وعرفوا ما يميزها في وحدانيتها وتفردها، إذن فالسؤال قائم بين أيدينا، بالنسبة إلى هوية الفرد الواحد، وإلى هوية الأمة الواحدة، وهوية البنية الثقافية لتلك الأمة، والسؤال هو - نكرر ما أسلفناه - ما الذي يجعل الهوية في كل هذه الحالات هوية واحدة، لها سماتها التي تميزها، ويكون لها - بالتالي - استمرارية متصلة على تعاقب العصور، برغم الاختلافات الشديدة والبعيدة بين عصر وعصر؟
وناديت أن انفخ في النار يا غلام، حتى ينصهر من الفكرة ما لم ينصهر، فيظهر منها ما لم يكن قد ظهر، اشتعلت النار، فعادت إلى ذاكرتي صورة قارب السماك، وكان السماك كلما اهترأ جزء من أجزاء قاربه، استبدل باللوح الخشبي المهترئ لوحا جديدا، وربما اختار اللوح الجديد من خشب أكثر صلابة من خشب اللوح القديم، وهكذا أتيحت لي مراقبة السماك فيما يجدده من أجزاء قاربه، حتى خيل إلي أن كل جزء من تلك الأجزاء قد أفناه عمره، وجاء خلف ليبدأ عمرا جديدا ، تماما كما قد قيل عن الطفل يولد بمجموعة خلاياه، فتختفي كلها مع الأيام، لتكون له مجموعة أخرى من الخلايا، وكما يظل الطفل على هويته برغم ما تبدل من خلاياه، لبث قارب السماك على هويته برغم ما تبدل من ألواحه الخشبية، واحدا بعد واحد، فإذا سألنا: كيف تحققت لكل منهما استمرارية الهوية، برغم ما قد حدث، جاءني جواب (ولست مسئولا عن أي جواب آخر قد يجيء لغيري) وجوابي هو في كلمة واحدة «الصورة» تبقى فتبقى الهوية، ماذا، أتقول «الصورة»؟ فهل عدت مرة أخرى إلى الشكل المرئي بالعين؟ كلا يا صاحبي؟ فلست أعني «بالصورة» تصوير السطح الظاهر، وإلا فهل ترى الطفل يحافظ على ظاهر صورته حتى يكتهل؟ كلا، بل عنيت ب «الصورة» ذلك الجانب الخفي الرواغ، الذي يفلت من بين أصابعك كلما ظننت أنك قد أمسكت به، لكننا لن ندعه هذه المرة ليفلت، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بعد أن نستعرض أمثلة أخرى، نتدبرها، ونتأملها معا، لعلنا نقع على ذلك السر، الذي يضمن استمرارية الهوية للفرد الواحد، وللأمة الواحدة، وللبنية الثقافية الواحدة.
وناديت أن انفخ النار يا غلام، فما اشتعلت ألسنة اللهب، حتى سمعت تاريخ الفن في مصر، يفصح لي عن بعض سره، فسمعته وكأنه يقول: انظر إلى العصر الفرعوني الطويل، والذي زاد في مبدعاته الفنية على أربعة آلاف عام تجده «هو هو» - وأعني أنك واجده - قد حافظ على «هوية» واحدة، عبر مراحل طويلة من الزمن، حتى ليستطيع كل ذي وعي، أن يدرك على الفور إذا كانت القطعة الفنية التي تعرضها عليه، مصرية فرعونية أو لم تكن؛ وذلك لأن الفنان المصري قد بث روحه في مبدعاته، فجاءته تلك المبدعات صارخة بهويته؛ فالمصري في أواخر التاريخ الفرعوني «هو هو» المصري في أوائل ذلك التاريخ، مع أن طول ما بين الطرفين أربعة آلاف عام، فكل أثر فني طوال ذلك العهد الطويل ناطق بما تخلق به المصري، فترى في التماثيل خشوع المصري العابد وحكمته ورزانته ورصانته، وترى في أعمدة المعابد الجبارة جبروته، وترى في المسلات شموخه وطموحه، وترى في مقابره تعلقه بالخلود.
وتمضي القرون ويجيء الفن القبطي لينطق بأن المصري «هو هو» المصري، وإن اختلفت صور الحكم والعقيدة؛ ففي كل مأثور من ذلك الفن، ترى بساطة المصري في إيمانه، وفي زهده، وفي صفائه ونقائه، ثم تمضي القرون مرة أخرى ليجيء الفن الإسلامي معبرا - وهو على أيدي الفنان المصري - عن روح التجرد والتجريد من أوزار الحياة المادية وأثقالها، أو ما يشبه القيود الرياضية، من زخارف هندسية تراها على الجدران، ونقوش تغلب عليها روح التقسيمات الهندسية، على نحاس القناديل، والمدافئ، والصواني، وما إليها، وعلى خشب المشربيات والأبواب والنوافذ وغيرها.
وتمضي مسيرة الحضارة داخل العصر الإسلامي، لنصل إلى عصرنا هذا الحديث، الذي وجد المصري نفسه فيه - لأول مرة في تاريخه - مجبرا على الأخذ عن حضارة صنعها سواه، فكان محتوما عليه أن يوفق بين ما عنده وما عند سواه، وانعكس هذا التوفيق أيضا على مبدعات الفن على اختلافها، فإذا أخذنا منحوتات محمود مختار رمزا يشير إلى روح المصري الحديث منعكسة في فنه، رأيت ذلك واضحا في الجمع بين فلاحة عصرية، تمس بكفها موروثنا القديم ليصحو: فإذا جاز لنا أن نلخص تلك العصور الفنية في التاريخ المصري، تلخيصا يقول في جملة واحدة: ما هي السمة الأساسية الأولى للمصري على طول تاريخه، قلنا إنه التحكم في الحياة الدنيا من منظور الدين، وأعني إخضاع الحياة الدنيا لمعايير مستمدة مما هو أعلى من الحياة الدنيا، فإذا صح رأينا هذا في الشخصية المصرية، كانت تلك السمة هي عماد «الهوية» المصرية، بمعنى أن المصري في كل مرحلة من مراحل تاريخه، كان «هو هو» المصري في سائر المراحل، وإن اختلفت اللغة التي يستخدمها في إبداعه الفني للتعبير عن حقيقة ذاته.
والآن يحق لنا أن نعيد على أنفسنا السؤال الذي طرحناه عن «الهوية» ما أساسها؟ وأحسب أن المثل الذي ذكرناه من تاريخنا الفني، يملي علينا الجواب، وهو أن صلب الهوية هو ما يصمد من الإنسان عبر التاريخ، أي أنه لا بد من «تاريخ» - طال التاريخ أو قصر - لتكون هناك هوية ما: نعم، لا بد من لحظات تتوالى على مر الزمن، لنعرف منها أن شيئا مما كان قائما في لحظة ماضية، ما زال قائما في لحظة حاضرة، كي يتاح لنا القول بوجود هوية صمدت فيها سمة معينة أو سمات.
أقول هذا وأنا على علم بأن أغلب من تعرض للكتابة عن «الهوية» من الفلاسفة، ذهبوا إلى منحى غير هذا المنحى؛ إذ وجدوا أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود محور «غيبي» في الإنسان - أو غير الإنسان - يكون له من الثبات ما يضمن ثبات الشخصية على هوية واحدة، سواء أكانت تلك الشخصية قد لمعت كالبرق الخاطف ثم اختفت، أم دام وجودها ولو إلى حين ليكون لها «تاريخ»، لكن أغلب ظني هو أن فكرة الهوية تندك من أساسها إذا لم يصاحب تلك الهوية وجود ممتد على فترة من زمن، يمكننا من رؤية الصمود على صفة معينة خلال تلك الفترة.
وهنا أشعر بضرورة أن أذكر شيئا عما يسمى في «المنطق» بقانون الهوية؛ لأنه يلقي بعض الضوء على هذا الذي زعمناه، فأول قوانين العقل، التي هي قوانين مجبولة في فطرة الإنسان ذاتها، هو قانون الهوية هذا، ومؤداه أن لدى الإنسان قدرة طبيعية على أن يتعرف إلى شيء ما، بأنه هو نفسه الشيء المعين الذي رآه في وقت سابق، فمنذ مرحلة الرضاعة لا يلبث الرضيع أن يتعرف إلى مرضعته اليوم، وأنها هي التي كانت مرضعته فيما سبق، أي أنه يدرك «هوية» مرضعته وثباتها من لحظة سبقت إلى لحظة حضرت، وذلك معناه - فيما نحن بصدد الحديث فيه - أنه لا مجال لإدراكنا للهوية وثباتها، إلا إذا امتدت بتلك الهوية فترة من زمن، لتتم المقارنة بين سابق ولاحق، ولولا هذه القدرة الفطرية عند الإنسان، على إدراك الهوية الواحدة في أكثر من لحظة واحدة، لاستحالت العملية العقلية استحالة تامة؛ لأنه ما من عملية من عمليات التفكير العقلي، إلا وفيها انتقال من «مقدمات» إلى «نتائج» ترتبت أو أقيمت على تلك المقدمات، ومعنى ذلك أن العقل يدرك «هوية» ما تكرر قيامه في المقدمات مرة وفي النتائج مرة، فدل ذلك على أن ما تقوله النتيجة هو نفسه ما تقوله المقدمة، إذن فالعملية الفكرية صحيحة.
وها هنا أحسست وكأني أسمع سائلا يسألني: ثم ماذا؟ كيف نستضيء بهذا الذي قدمته عن «الهوية» وحقيقة معناها، فيما نعانيه من مشكلات في حياتنا الثقافية، ومنها تلك المشكلة التي ذكرت لنا عنها بأنها ثقلت على صدرك حتى همت على وجهك في الشوارع بغير هدف إلى أن وصلت إلى الحداد وغلامه نافخ النار؟
ولكي أجيب لم أجد بدا من العودة بالفكرة إلى المطرقة والسندان، فصحت بالغلام، أن ينفخ النار، وبعد معالجات جديدة للفكرة، أبرزت أمام السائل أمرين لا أرى أهم منهما في حياتنا الثقافية اليوم: الأمر الأول خاص بالانتماء الوطني والقومي، الأمر الثاني خاص بالانتماء ودوره؛ فأما الانتماء فالدعوة إليه تكون عبثا في عبث، إذا لم ينغمس في الهوية الوطنية والقومية - وأعني المصرية العربية - ولا يكون ذلك إلا إذا جاء ذلك المنتمي حلقة جديدة من سلسلة التاريخ المصري والعربي، وأكرر قولي «حلقة جديدة»، فالمتمرد على سلسلة تاريخه سيخرج عن حلقاتها، ويصبح منذ لحظته نسيا منسيا لكونه بغير تاريخ يضع نفسه في حلقاته، والذي يكر راجعا إلى حلقة ذهب زمانها، فيدمج نفسه في أصحابها يكون قد جعل نفسه واحدا منهم فسقط حسابه من عداد الحاضرين، فلا بديل لإثبات الوجود إلا بأن يكون الموجود الحاضر «حلقة» من سلسلة تاريخه، وأن تكون تلك الحلقة «جديدة» فيها ما يصلها بالماضي، وفيها ما يصلها بزمانها.
Shafi da ba'a sani ba
ذلك عن «الهوية» وكيف تلد «الانتماء» وأما عن «الهوية» و«التراث» فواضح مما أسلفناه أنه لا هوية إلا إذا صمدت عناصر بعينها من ماض إلى حاضر، تكون بمنزلة الهيكل الذي يقام عليه البناء، فكما قلنا عن قارب السماك الذي أخذ يستبدل بألواحه الخشبية المهترئة ألواحا جديدة: فبقي الهيكل واحدا، وبالتالي بقيت للقارب هويته برغم ما قد تغير من أجزائه، فكذلك يكون وجود الأمة الواحدة: ناس يذهبون وناس يجيئون، لكن هيكل القيم التي تقام عليها الحياة الاجتماعية هيكل واحد في سمائه الأساسية، فتبقى الأمة صامدة بهويتها على مر الزمان، لكن حذار أن تقع في غلطة يقع فيها كثيرون، فتفهم من ثبات الهيكل القيمي ثباتا في صور السلوك بين ماض وحاضر، فالقيم معايير نقيس بها ما نقيسه، وليست هي نفسها الشيء الذي يقاس، شأنها في ذلك شأن «المتر» في قياس الأبعاد المكانية، أو «الميزان» في تقدير الأثقال، فثبات المتر أو ثبات الميزان لا يعني ثبات ما يقاس بهما أو يوزن؛ فقد يكون الشيء المقاس بالمتر جدارا، أو ثوبا من القماش أو قامة إنسان، وكذلك قل في الميزان وما يزن.
لقد طالت بي السرحة الذهنية أمام دكان الحداد، لكنها عادت إلي بشيء يخفف عن صدري ثقل السؤال الذي تحيرت في جوابه، وهو: أن في رءوسنا أفكارا جيدة كثيرة، فلماذا تجمد في الرءوس ولا تتحول إلى فعل يغير ما فسد من جوانب حياتنا؟ وها أنا ذا قد عدت من سرحتي مع نافخ النار بشيء من الجواب، وهو أن بعض الحل يكمن في تحليل تلك الأفكار لتنكشف عناصرها فتفهم، فتتحول إلى سلوك، فكما يلهب الحداد بالنار قطع الحديد الخام، ليسهل تشكيلها فئوسا ومحاريث تؤدي أدوارها في الحياة العملية، كذلك يزج بالأفكار المصمتة في لهب النار حتى تلين، لتكون في أيدي أصحابها وسائل حياة، بعد أن كانت لهم في تيبسها كالتوابيت للموتى.
تلك المعزوفة الكبرى
الفكرة الهادية، الخصبة، الولود، لا تأتي إلى الناس كما تأتي القشة الهزيلة، محمولة على تيار الماء، تتأرجح في هزالها ذات اليمين وذات الشمال، ثم هي لا تكاد تظهر حتى تختفي إلى حيث لا ندري، بل هي تأتي لتمكث في الأرض وهي هي الكلمة الطيبة، التي قال عنها الكتاب الكريم إن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإنما يشير الأصل الثابت إلى دوام نفعها، هنا في هذه الحياة الدنيا، وأما فرعها الذي هو في السماء، فيرمز إلى حسن الثواب في جنات الخلد، يجزى به من أحسن بها صنعا.
الفكرة العظيمة ينبوع لا ينفد، يظل يعطي كل من جاءه ليستقي، بقدر ما يستطيع ذلك المستقي أن يأخذ، وإن الفرد الواحد من الناس، ليظل يزداد فهما لها، كلما ازداد مع الأيام معرفة واتسع مع تراكم الخبرة أفقا؛ وذلك لأن الفكرة العظيمة لا تولد مكتملة العناصر، واضحة النتائج، بل تبدأ أول ما تبدأ، أقرب إلى «مشروع» قليل الخطوط، بسيط التكوين، تماما كما يبدأ الجنين علقة ثم يتطور لينمو، فكلما انقضى على الفكرة عصر وجاء عصر، تناولتها عقول قادرة لترى فيها من الجوانب ما لم يكن أسلافهم قد رأوه، وانظر - مثلا - إلى فكرة «الحرية» ماذا كانت تعني عند الأولين، وماذا أصبحت تعنيه عند المعاصرين.
على هذا النحو تقاطرت الخواطر في رأسي، عندما هممت أن أكتب في موضوع يشغلني ويشغل كل مصري، وكل عربي على امتداد الوطن الكبير، وهو هذا التمزق الذي تفككت به أوصالنا؛ فالشعب الواحد من شعوبنا قد انفرط أفرادا، والأمة العربية بدورها قد انفرطت شعوبا، ومن أخذ منا بغير ذلك، فإنما هو إنسان قد صعب عليه ابتلاع الوقائع فلجأ إلى الأماني، وخير لنا أن نواجه النكسة لنسأل: ماذا حدث ولماذا حدث، وكيف السبيل إلى نجاة؟
ولما كنت من أشد الناس إيمانا بحق «الحرية» للأفراد، حرية تذهب إلى أمد لا يحده إلا أن تجيء تلك الحياة الحرة المسئولة، منخرطة مع غيرها من حيوات حرة للأفراد الآخرين في الوطن الواحد، بحيث تتألف للشعب - آخر الأمر - حياة موحدة، والذي يوحدها، برغم حرية أفرادها فكرا وسلوكا، هو نفسه الرباط الذي يجمع تفصيلات العمل الفني - أيا كان نوعه - في بناء عضوي واحد، وانظر إلى قصيدة الشعر، كيف تتوالى أبياتها، بل وقد تتعدد الصور في البيت الواحد، ومع ذلك فهي بانطباعها عند المتلقي، كما كانت يوم إبداعها عند الشاعر، قصيدة واحدة، وتلك هي الحال حتى في الشعر العربي القديم، الذي أشعنا عنه فقدان «الوحدة العضوية»، ومن ذا الذي قرأ قصيدة عظيمة لأي شاعر عربي عظيم، ولم يحس في قراءتها وبعد قراءتها، بأنه إنما كانت تغمره «حالة نفسية» واحدة، مهما يكن من تعدد النقلات فيها، من نسيب، إلى مدح، إلى قتال ، إلى حكمة، إلى لقطة هنا ولقطة هناك من بيئة الشاعر أرضا وسماء، وقل عن أي عمل فني، من موسيقى وتصوير وعمارة وغيرها، ما قلته عن قصيدة الشعر، ففي الإبداع الفني درس بليغ، يعلمنا كيف تتعدد المفردات، وكيف تتألف في كيان موحد واحد.
فما أن بلغت بخواطري هذا الذي بلغته، حتى فاجأتني الذاكرة بمكنون من مخزونها، هو أنفس ما يمكن أن تفاجئني به في لحظتي هذه؛ إذ قدمت إلي تلك الفكرة العظيمة التي كان قد طرحها الفيلسوف العقلاني، الرياضي، التحليلي، «ليبنتز» في القرن السابع عشر، وهي إن تكن فكرة قد طرحت في سياق بعيد جدا عن السياق الذي نتحدث فيه الآن، إلا أنها ككل فكرة عظيمة أخرى تتيح لأبناء العصور المختلفة، أن يقرءوها قراءات مختلفة، كل قراءة منها تجيء متلائمة مع محيطها، وملقية ضوءها على ما قد أشكل أمره على الناس، فلما كان «ليبنتز» رياضي الفكر والنظر والمزاج، فقد نظر إلى كل شيء وكأنه صيغ في قالب رياضي، ومن أبرز ما يتميز به الفكر الرياضي، أنه «تحليلي» بمعنى أنه إذا تحدث عن شيء ما ذكر العناصر - كلها أو بعضها - التي ينطوي عليها ذلك الشيء، فهو بذلك لا يضيف إلى الموضوع المطروح شيئا جديدا، وإنما هو يفصح عما كان مضمرا خبيئا في ذلك الموضوع، وخذ مثلا بسيطا يوضح لك ما نريد، هذه المعادلة الحسابية: 1 + 4 + 2 = 7، فموضوع الحديث هنا هو العدد 7، فماذا قلنا عنه في هذه المعادلة؟ كل ما قلناه هو أننا عرضنا العناصر التي كانت مدمجة في العدد 7، وعلى منوال هذا المثل البسيط الواضح قس كل حالة من حالات الفكر الرياضي، أيا كان موضوعه، فالفقيه الإسلامي حين يستخرج من آية قرآنية كريمة ما قد انطوت عليه من أحكام شرعية يفكر بمنهج التحليل الرياضي، حتى ولو لم يكن كلامه أرقاما أو رموزا كالتي نعهدها في الحساب والجبر والهندسة؛ وذلك لأن الفقيه يوضح ما كان مستترا في الآية الكريمة، توضيحا يستند فيه إلى «تحليل» الصيغة اللغوية التي بين يديه، ليخرج مكنونها ولا يضيف إليها ما ليس فيها.
ونعود بحديثنا إلى «ليبنتز» ورؤيته الرياضية إلى كل شيء أراد أن «يحلله» ليعلله، فهو إذا سأل نفسه - مثلا - متى يتوافر الصدق لجملة معينة يقولها قائل، وفي مجال «العلم» بصفة خاصة (ومثل هذا السؤال، ومحاولة الإجابة عنه، يلخص لك الشطر الأعظم من العمل الذي يضطلع به الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر) أقول: إن «ليبنتز» إذا سأل نفسه سؤالا كهذا، فإنه لا يجيب عنه بقوله: إننا نراجع مضمون الجملة العلمية المذكورة، على حقائق الواقع الخارجي، لنرى إذا كانت تطابقها أو لا تطابقها بل يقول: إننا نحلل «موضوع» الجملة لنرى هل نجد ما أخبرتنا به الجملة موجودا في عناصر ذلك الموضوع، أي أنه يحصر عمله في الجملة ذاتها، لا يغادرها إلى وقائع العالم، تماما كما يفعل الرياضي؛ فالرياضي لا يراجع وقائع العالم حين يريد أن يعرف أن عبارة «3 + 2 = 5» صحيحة أو غير صحيحة، بل هو يحلل مفهوم العدد «5» ليرى إذا كان مشتملا على العددين «2» و«3» أو غير مشتمل، فكذلك الحال عند «ليبنتز» في أي جملة يقولها قائل، تنسب خبرا إلى مبتدأ، كأن يقال - مثلا - «الإنسان يتميز بالعقل»، فصواب قول كهذا، مرهون بتحليل ما تتضمنه كلمة «إنسان»، فهل نحن واجدون عنصر «العقل» بين العناصر التي نرد إليها فكرة «إنسان» أو أن هذه الفكرة يجوز لها أن تكتمل دون أن يكون «العقل» عنصرا من عناصرها؟
وبهذه الرؤية الرياضية، نتخيل أن «ليبنتز» قد ألقى على نفسه هذا السؤال: ما طبيعة «الإنسان»؟ وإلى أي حد تعتمد طبيعته تلك، على تفاعله مع بيئته؟ فنجد جواب ذلك عنده واضحا وحاسما، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد ولد وفيه كل مقوماته، وما حياته بعد ذلك إلا نشر لما كان منطويا فيه، فهو في ذلك أشبه ببرج مغلق الجدران، لا نوافذ فيه يطل منها على خارجه، أو يطل منها خارجه عليه، إنه في هذا التكوين المستقل بذاته، كالجملة العملية التي هي من النمط الرياضي دائما، ولقد أسلفنا لك شرحا يوضح كيف أن الجملة الرياضية مكتفية بذاتها، نعرف صحتها أو خطأها من طريقة تكوينها وبنائها، دون النظر إلى أي شيء مما يحيط بها من أشياء العالم ووقائعه.
Shafi da ba'a sani ba
ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك كذلك، ونحن نرى بأعيننا، ونسمع بآذاننا أن أفراد الناس يتعاملون مع الأشياء من حولهم، ويتبادلون الأحاديث بعضهم مع بعض؟ إن «ليبنتز» إذا كان ليجيب عن هذه الأسئلة وأمثالها، لكان الأرجح أن تجيء إجابته شبيهة جدا بما قاله بعض الفرق الإسلامية قديما، وهي الجماعات التي أخذت بمذهب «الجبرية» أخذا صارما، فما من لفظ ينطق به عند تلك الجماعات وما من فعل تتعلق به إرادته، إلا ويتم حين يتم «عند» شعور الإنسان بتلك «الإرادة» في داخله، وليس «ب» تلك الإرادة، فكل شيء مرهون بمشيئة الله، سواء أتحركت في داخل الإنسان إرادة أم لم تتحرك، وهكذا - ربما - كان ما تصوره ليبنتز حين تصور أفراد الناس أبراجا مغلقة على نفسها، فإذا كان هنالك تعامل بين برج بشري وبرج آخر، فإنما هو توافق شاءته وأحكمت تدبيره وتوقيته مشيئة الله، وفي هذا يقوم مبدأ «التناسق الأزلي» الذي أخذ به «ليبنتز»، ومؤاده أن الله سبحانه وتعالى قد قدر لكل حدث ميقاته ولا يستثنى من ذلك التدبير الشامل الكامل أقوال الناس وأفعالهم، وعلى هذا الوجه نفهم كيف يتم التعامل والتبادل بين أفراد الناس، وهنا يسوق لنا «ليبنتز» أحد تشبيهاته الدقيقة الرائعة، فيقول ما معناه: أئذا وجدنا الساعات في مختلف أماكنها، متباعدة أو متقاربة، أئذا رأيناها جميعا تشير إلى وقت محدد تتفق عليه جميعا، دهشنا وسألنا: كيف أمكن لهذه الساعات أن تتفق، برغم أن كل ساعة منها مغلقة على نفسها مستقلة بذاتها؟ أليست علة اتفاقها هي مهارة صانعها الذي أحكم صناعتها فدارت تروسها، وتحركت مؤشراتها، بحيث اتفقت جميعا؟
لكن التشبيه الآخر، والأروع، هو هذا الذي جعلته عنوانا لهذا الحديث، وأعني التشبيه بالمعزوفة الموسيقية؛ إذ يقول ما خلاصته: افرض أن أعضاء الفرقة الموسيقية على اختلاف آلاتهم، قد تفرقوا، بحيث جلس كل عازف منهم في غرفة وحده، هذا يعزف على الكمان، وذلك يعزف على البيان، والثالث يزمر في مزمار ، الرابع يقرع الطبلة بضرباته، وهكذا، على أن تكون مدونة المعزوفة مع كل منهم، وعزف الجميع معا، دون أن يتصل أحدهم بالآخر، ألا ترى أن السيمفونية تكتمل لمن استطاع أن يسمع وهو على مبعدة؟ فإذا سألت: لكن أين قائد الفرقة الذي لولا إشاراته إلى العازفين، لما عرف أي منهم متى يبدأ، ومتى ينتهي؟ كان الجواب - مرة أخرى - هو أن قائد الفرقة، وواضع مدونتها، هو الخالق جل وعلا، قدر في الأزل لكل عازف ما يعزف، وأين يعزف، ومتى يعزف، بحيث يتكامل للحياة الإنسانية تناغم أفرادها في تعاملهم وفي تبادلهم، وفي كل ما يجتمعون على قوله أو فعله.
الكون كله يؤلف معزوفة كبرى، ليس فيها نغمة نشاز، هنالك سدم تعد بألوف الملايين في كل سديم منها نجوم تعد بملايين الملايين، كل نجمة منها ترسل الضوء ليسري بسرعة تقاس بآلاف الملايين من وحدات، كل وحدة منها «سنة ضوئية» - أي ما يقطعه الضوء في سنة كاملة - علما بأن الضوء يقطع في جريانه ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة. وهنالك في الكون قوة خفية اسمها «الجاذبية»، وبهذه القوة كل جسم يجذب كل جسم آخر، غير أن الأكبر من تلك الأجسام أقوى جذبا من الأصغر، والأقرب أشد وأسرع جذبا من الأبعد، وبهذا التجاذب بين أطراف الكون يتعادل البناء ويتوازن، وهنالك وهنالك وهنالك، ولكل شيء مما هنالك فعله، إلا أنه فعل يتكامل مع فعل سواه، فأي عجب في أن رجلا نافذ البصيرة مثل «ليبنتز» ينظر إلى هذا التناغم المدبر المحكم العجيب، ثم يوجه النظر بعد ذلك نحو مجموعة البشر فوق هذا الكوكب الأرضي، فيرى فيها شيئا من ذلك التناغم بين أفرادها، هذا إذا صلحت أمورها واستقامت، وإلا ففسادها يحيل أنغام المعزوفة إلى خليط من أصوات تتنافر فتصبح ضجيجا يصم الآذان؟
على أن كاتب هذه السطور، إذ يقدم ذلك الهيكل الإطاري في تصور المجتمع السليم، والذي خلاصته أن يعزف كل فرد من أفراده، على آلته التي يحسن العزف عليها، شريطة أن يلتزم في عزفه، تلك «المدونة» الواحدة ، لكي تتآلف النغمات الآتية من مجموعة المواطنين، على اختلاف نزعاتهم، فتتكون منها معزوفة موحدة متنافسة، أقول إن كاتب هذه السطور، إذ يقدم هذه «الرؤية» العظيمة، يشعر بضرورة أن ينبه قارئه، بأنه في وجهة نظره العامة، لا يأخذ بما أخذ به «ليبنتز» في وجهة نظر العامة، وأهم مصدر للاختلافات بين الوجهتين، هو أن «ليبنتز» - كما أسلفنا عنه القول - قد صدر في رؤيته، عن مبدأ أول، هو «رياضية» الكون وكائناته، فكأنما هو بذلك قد جعل الصيغة الرياضية وحدها هي معيار الحق في كل شيء، صغر أو كبر؛ ولذلك فهو يتوقع من أي شيء ومن كل شيء، أن تجيء مسالكه كلها منتزعة من طبيعته، بغض النظر عن المؤثرات المحيطة به، على غرار ما يكون «المثلث» - مثلا - هو المثلث بكل خصائصه التي نعرفها له في علم الرياضة، مهما يكن من أمر في ظروف حدوثه ووجوده، ولم يكن «ليبنتز» في ذلك المبدأ الرياضي عند النظر إلى حقائق الوجود، وحيدا ولا فريدا، بل الأمر على عكس ذلك؛ إذ نستطيع القول - اختصارا - بأن ذلك المبدأ قد ساد العصور الماضية كلها حتى لقد كان فلاسفتهم يبحثون دائما عن طريقة تمكنهم من النظر إلى «العلوم الطبيعية» على أساس المنهج الرياضي، لعلهم يخرجون منها بحقائق علمية فيها «يقين» العلوم الرياضية، لكن هذا الموقف قد تبدل في عصرنا، حين تبين، بما لا يدع مجالا لريبة مرتاب، أن ما يصدق على علوم الرياضة، لا يصدق على علوم الطبيعة، وأن لكل من هاتين المجموعتين منهجا خاصا، يختلف به اختلافا جذريا عن منهج المجموعة الأخرى، وربما كان هذا التغيير الجذري العميق، أعظم كشف في منجزات الفكر الفلسفي المعاصر جميعا؛ لأنه كشف يضرب بفروعه هنا وهناك، فإذا نحن أمام نظرة جديدة لم تعرفها العصور السابقة، وهي النظرة التي يبني عليها كاتب هذه السطور موقفه.
لكن هذا الاختلاف في الأساس، لا يمنع صاحب النظرة الجديدة من قراءة الأفكار العظيمة قراءة جديدة، ليفيد من عظمتها وعمقها واتساع أفقها، دون أن يتنازل عن وجهة النظر الجديدة ومنطقها وأسسها ، فلئن كان «ليبنتز» قد بنى هيكل المجتمع على صورة سيمفونية، تصان فيها فردية الفرد بميوله وقدراته التي يتميز بها، لكنها كذلك تلتزم أن تتناغم مع سائر الأفراد، بأن ينخرط الجميع في مدونة موسيقية واحدة، معتمدا في تصوره على أن كل فرد هو في ذاته كالجملة الرياضية القائمة وحدها داخل مبناها، فليس ثمة ما يمنعنا من الأخذ بتلك الصورة السيمفونية في تصور العلاقات، التي نريد لها أن تربط الأفراد بعضهم ببعض في شعب واحد، بل وتربط الشعوب العربية بعضها ببعض كذلك في أمة عربية واحدة، فيكون كل الفرق بيننا وبين «ليبنتز»، فيما يختص بتصورنا للعلاقة بين المجتمع وأفراده، هو أننا لا نفهم طبيعة الفرد على أنها برج مغلق الجدران، فتحصره في حدود طبيعتها الفطرية وحدها، بل نضع نحن النوافذ في تلك الجدران، لينفتح الطريق بين الفطرة الداخلية من جهة، والعالم الخارجي لكل من فيه وما فيه من جهة أخرى، فيحدث بين الطرفين تفاعل حي، يتطور بطبيعة الإنسان ذاتها، تطورا يتيح لها النماء.
وحقا نحن في أمس الحاجة إلى هذا التصور السيمفوني، لنصلح به ما قد أفسده الدهر من بنائنا الاجتماعي، حتى لقد انفرط الشعب أفرادا متنافرة متباعدة - كما أسلفت القول - وانفرطت الأمة العربية شعوبا متخاصمة الحكام، إن لم تكن متنافرة فيما هو أبعد من الحكام، وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن تمثلنا للتصور السيمفوني فيما نحن بصدده من نهوض بحياتنا، هو خير ما نهتدي به في ميادين التعليم، والسياسة، والاقتصاد، والبنى الاجتماعية على اختلافها، فهو تصور يجمع المبدأين الأساسيين معا، وهما: حرية الفرد في أن يحيا وفق طبيعته التي ولد بها ولا حيلة له فيها من جهة، وتماسك البناء الاجتماعي بما هو أصلب من أسياخ الحديد، برغم ما قد كفلناه للأفراد من حرية النمو من جهة أخرى.
لقد امتد بي العمر بحيث أستطيع المقارنة بين جيلين مقارنة واعية، والمقارنة التي أريدها هنا مقصورة على الركيزتين الأساسيتين اللتين أسلفت ذكرهما، وهما - أكرر مرة أخرى - حرية الفرد في تحقيق ما يتلاءم مع طبيعته التي انفرد بها دون سواه، سواء أكان ذلك في مجال التعليم، أم في مجال العمل، أم في حياته الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تصاغ تلك الحرية الفردية - عن طريق التربية والتوعية الإعلامية - صياغة تجعلها متسقة مع سائر الأفراد في منظومة واحدة، فإذا ما أجريت مقارنة بين الجيلين من حياتي الواعية، فيما يختص بهذين الجانبين، قلت على سبيل الترجيح الذي يقرب من اليقين، إن الجيل الماضي كان أقل من الجيل الحاضر حرية فردية، لكنه كان أكثر منه اتساقا وتناغما، فإذا كان هذا الجيل قد ترك لكل فرد (بالتشبيه الموسيقي) حرية اختيار الآلة التي يعزف عليها، والطريقة التي يعزف بها، فقد ترك أبناءه ليتنافروا لحنا ونغما، حتى لم يعد بينهم ما يربطهم في سيمفونية واحدة، وعكس ذلك صحيح بالنسبة لأبناء الجيل الماضي، فقد قيدت حركاتهم في حدود الإطار الاجتماعي، داخل الأسرة وخارجها على السواء، فنتج عن تلك القيود أن تناسق البناء الاجتماعي وتماسك، فإذا صدقت هذه المقارنة تبين لنا سبيل الإصلاح في أي مجال نريد أن نصلحه، وهو أن نبقي على الجانب المكسوب - وهو الزيادة في حرية الفرد - وأن نسترد الجانب المفقود، وهو تناسق النغمات الفردية في معزوفة اجتماعية كبرى.
وقد يكون من المفيد لنا أن نتذكر بأن الجانبين المذكورين: اكتساب الحرية الفردية وفقدان التناسق بين الأفراد، ليسا مقصورين علينا - وأعني المصريين شعبا والعرب أمة - بل هما ظاهرة ملحوظة في العصر كله، وإن تكن أقطار العالم تتفاوت درجات في تلك الظاهرة، فمنها من أفرط في حرمان الأفراد من الحرية حفاظا على شيء من التناسق الاجتماعي، ومنها من كاد يصرخ قائلا على ألسنة أفراده: إلى الجحيم بذلك التناسق المطلوب، في سبيل أن يبرطع كل فرد حرا من القيود الاجتماعية، في أي فلك يشاء أن يدور، وقد سمعت ذات يوم في الصيف الماضي (1987م)، خطبة قصيرة مذاعة بالراديو، لرئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا، ألقاها في حفل تكريمي أقيم في مناسبة لم أعرف ماذا كانت، فأخذ رئيس المحكمة يوجه العتاب المر إلى الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، قائلا إن هؤلاء جميعا، في غير شعور كاف بالمسئولية الاجتماعية الملقاة على عواتقهم، يهدمون بعنوان واحد كتب بالخط العريض في صحيفة ما، أو بدردشة مستهترة تدور في مذياع أو تلفاز، ما قد أخذ القضاء الصابر المتأني يبنيه في شهور أو في أعوام، ليصل إلى حكم عادل، فجمهور اليوم لا يعبأ بعدالة الحكم على متهم، بقدر ما يرغب في التخلص من متهم صورت له أوهامه - أعني جمهور الناس - بأنه مجرم، ثم ختم رئيس محكمة الاستئناف العليا خطبته القصيرة بقوله يصف هذه الفترة الزمنية وبنيها: لقد تحطمت الروابط والضوابط، التي لم يكن منها بد لمجتمع سليم، فانحلت روابط الأسرة حتى لم تعد أسرة، وتبخر الإيمان الحقيقي بالدين، فتبخرت معه الحدود بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، ووهنت القيم الاجتماعية، حتى أصبح كل فرد يسلك وكأنه لا ضوابط ولا ضواغط تلزمه وتقيده، وغضت الأبصار عن رؤية «الآخرين»، فكأنه قد خيل لكل فرد أن ليس في الدنيا سواه.
ذلك ما وصف به رئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا أبناء وطنه اليوم، وأحسب أننا لا نخطئ إذا جعلناه وصفا يصدق على العالم كله، وإن يكن ذلك بدرجات تتفاوت بها الشعوب، فإذا كنا نحن قد وجهنا أنظارنا اليوم بقوة نحو إصلاح الجهاز التعليمي من جذوره، بل مما هو أسبق من الجذور وهو البذور، فلا يكفي أن نسلط معظم الأضواء على عمليات «التنمية»، التي كثيرا ما نعني بها التنمية الاقتصادية من ناحية الإنتاج؛ لأن هذه النظرة سرعان ما توجه انتباهنا إلى ما يضاف أو يحذف من «المقررات»، ابتغاء أن نصنع من المتعلمين «آلات» إنتاجية مدربة، ويفوتنا أن مجموعة آلات بشرية مدربة إلى أقصى درجات التدريب، على القيام بصناعة أعلى، وزراعة أوفر، وهندسة أدق، وهكذا، لا تصنع «شعبا»، وإنما يصنع الشعوب ذلك الجانب الآخر، الذي يوائم بين الأفراد في سياق اجتماعي منغوم، نعم، إنني على علم بأن دعاة الإصلاح التعليمي، لا ينسون أن يذكروا «التنمية الاجتماعية» إلى جانب التنمية الاقتصادية ليتم التكافؤ، لكني أشك في أن هذه التنمية الاجتماعية المذكورة في البيانات والتقارير، تحمل معها معنى دقيقا في الأذهان، بحيث نعرف في وضوح ماذا يراد لنا أن نصنعه، في مدارسنا وجامعاتنا، لنخرج المواطن المحترف بحرفة إنتاجية والذي يكون في الوقت نفسه مواطنا متسق النغمات مع سائر مواطنيه.
إننا - يا سادة - نعيش اليوم حياة، كان المواطنون فيها يسالم بعضهم بعضا حتى أمس القريب، وأصبحنا فإذا بعض يذبح بعضا من أجل قبضة مال، وبعض يخنق بعضا من أجل منصب لا يكاد يأتي حتى يزول، وبعض يفتك ببعض من أجل فكرة يتعصب لها غير واثق أنه فيها على صواب، فحتى لو صلحت آلات العزف في أيدي الأفراد، فقد تهتكت الروابط التي تجعل من حياتنا معزوفة كبرى.
Shafi da ba'a sani ba
كان حلما وما زال حلما
كانت السن في مرحلة الشباب المتأخر، وكان اليوم يوما من الصيف، وكانت الساعة أصيلا أخذ ينحدر نحو الغروب، وكان المكان ريفا في الطرف الشمالي من دلتا النيل، وكانت المشية بطيئة الخطى وبلا هدف، وكان البصر كلما دار فيما حوله من خضرة الأرض وزرقة السماء لحظة قصيرة، غلبته البصيرة لحظات طوالا، فتسد عليه الطريق، لينصرف الشاب إلى خواطره الدافئة خاطرا في ذيل الخاطر، وكان الخيط المشترك الذي يشد تلك الخواطر بعضها إلى بعض، سؤالا أخذ يتردد في صدره في حرارة أخذت تندرج صعودا، حتى أوشكت أن تصل به إلى رعشة الحمى: لماذا هم كذا ولماذا نحن كيت؟!
لماذا يغوص شبابهم الجاد إلى أغوار البحار باحثين كاشفين، ولماذا يلهو شبابنا على شواطئهم في ضحكات بلهاء؟ لماذا يتسلق شبابهم من الجبال أعتاها صخورا، وأوعرها طريقا عواصف وثلوجا، لا تهدأ لهم أنفس حتى ينكشف لهم المجهول وتصفو لهم شوامخ الطبيعة وتخشع؟ ولماذا يثقل الزمن الأجوف الفارغ على أبدان شبابنا، لا يعرفون كيف يقضون ساعاته المملولة الجدباء، إلا فيما لا يقضي لهم شأنا، أو في ثرثرة طفلية تزيد العقول البليدة بلادة، والقلوب الميتة مواتا؟ لماذا يكد علماؤهم، لا يستريح لهم جنوب على مضاجع، حتى يفضوا عن هذه أو تلك من ظواهر الطبيعة أختامها، وحتى يخضعوها للبحث فتنكشف أسرارها وإذا هم أمام قوة ألجموها فسخروها؟ ولماذا يقنع علماؤنا بأحرف وكلمات، خطفوها خطفا من هنا أو من هناك، فحفظوها، صحيحة حينا، شوهاء حينا، ثم قالوا لأنفسهم وللناس: ها نحن أولاء قد أوينا إلى فراشنا بالأمس جهلاء، وأصبحنا مع الصبح علماء.
كان الشاب في مشيته تلك، ينقل خطاه الوئيدة على جسر النيل أمام قريته، متجها بها نحو الشمال إلى القرية المجاورة، لم يكن بين القريتين إلا مقابر القريتين، ثم يعود قافلا بخطواته البطيئة نحو الجنوب نحو قريته، وسيل الخواطر الداخلية، لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟ لا يكاد يترك لبصره لحظة يجول فيها ذات يمين أو ذات شمال: فعن يساره وهو متجه بسيره نحو الشمال، كانت حقول الذرة في الأرض الممتدة بين الجسر والنهر، وهي أرض يغطيها النيل إذا فاض، ثم يزرعها الزارعون إذا غاض عنها النيل وانحسر، لم يكن يخلو يوم، في تلك الفترة من الصيف، من أن يقع البصر على جماعة من الزارعين، وقد تحلقت حول ركوة من النار يوقدونها بأوراق النبات الجافة، ويشوون عليها أكواز الذرة أكداسا أكداسا، ويأكلون المشوي نحتا بأسنانهم، ضاحكين بما يملأ جو السماء مرحا، وأما عن يمينه وهو متجه بمشيته نحو القرية المجاورة، فكانت المقابر عبرة لمن أراد أن يعتبر، ولكن أين هو الذي يعتبر؟ لقد تلاقت القريتان عند مقابر موتاهما، وأما أحياؤهما فقد كانوا - في ذلك الزمن البعيد البعيد - يحترقون غيرة، إحداهما من الأخرى ثم تتفجر الغيرة - آنا بعد آن - في معارك ساخنة بين شباب من هذه وشباب من تلك، مما لم يكن يزيد في حقيقته عن عبث الصغار، الذي لم يفلح قط في أن يفسد للود قضية بين الشقيقتين.
لكن الشاب، في مشيته تلك، في تلك الساعة، من ذلك النهار، في ذلك الصيف، قد حدث له أمر عجب وهو يقطع المسافة المجاورة للمقابر، وكانت نقطة البدء أن وثب إلى ذاكرته قول أبي العلاء، مخاطبا السائر على الأرض، أيا كان السائر، وأينما كانت الأرض، بأن يرتفع بقدميه عن أديم الأرض إذا استطاع، فيطير بهما في الهواء، بدل أن يدوس بهما سطح الأرض، لماذا لأن أديم الأرض إنما هو رفات الموتى، فألوف السنين بعد ألوفها، قد ألقت في اللحود ملايين الموتى بعد الملايين، وتحللت الأجساد وباتت ترابا من التراب، الذي لا بد أن يكون قد ملأ الرحب، أينما سارت بسائر قدميه، وإذا كان كذلك بالنسبة إلى أي أرض وإلى أي سائر، فماذا يكون الشأن بسائر في جوار المقابر، التي هي مقابر أهله وذويه؟ ثم ماذا يكون الشأن إذا كان هذا السائر قد امتلأ فؤاده بمثل الخواطر الحسيرة التي ذكرناها، والتي أخذ يتساءل بها في حسرته: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
وهنا أوشكت قدماه أن تتجمدا، خشية أن تتحرك فيهما قدم فتقع على رفات، وانحنى الشاب فالتقط كتلة صغيرة من تراب ناعم تلاصق بفعل الرطوبة ثم تيبس، وما هو إلا أن ذكرته قبضة التراب بذلك الحوار الساخر بين هاملت وحفار القبور، حين أظهرت فأس الحفار جمجمة مدفونة، وكان مما قاله هاملت في تأملاته، إن ساكن الكوخ إذا ما حدث ثقب في جدار كوخه، وأدخل له الثقب هواء الشتاء البارد، فأسرع إلى قبضة من تراب الأرض، وعجنها طينة وسد بها ثقب الجدار، ألا يكون - وهو لا يدري - قد وقع على جزء مما كان ذات يوم ملكا يحمل الصولجان ويتحكم في رقاب الناس؟
ولم يلبث الشاب عند هذه الخاطرة أن نظر إلى قبضة التراب في يده، وقال وكأنه يوجه إليها السؤال: ترى من أي جسد بشري جئت؟ حدثيني! كان كاتبا تقع كلماته على آذان صماء؟ أم كان خطيبا يعظ بما لا يفعله هو ولا يفعله أحد من سامعيه؟ أكان حاكما مغرورا بسلطانه الزائف الزائل، أم كان محكوما مظلوما لا يدري كيف يثبت للحاكم أنه بريء؟ أكان رجلا يستبد بأهل بيته ويطغى، أم كان امرأة قيدتها أغلال العبودية ثم أوهموها بأنها هي حرية المرأة وكرامتها، حدثيني يا هذه الرفات من تكونين؟ فما هو إلا أن سمع صوتا متقطعا معدني الرنين، يخرج من قبضة التراب في يده، فأخذه من الفزع الراجف ما أخذ، لكنه مع الفزع قد استمع، وإذا بالصوت المعدني المتقطع يقول له في أحرف واضحة: لست واحدا من هؤلاء، فأنا قبضة من رفات من جسد، والإنسان - أي إنسان - هو بأفكاره وأعماله، وهذه إن صلحت ثبتت على الدهر لا تموت ولا تدفن ولا تصير إلى تراب، فاحذر الخلط بين ما يدوم وما يفنى.
جاءت هذه الكلمات إلى الشاب، كما تجيء لمعة البرق فتشق سواد ليل زاده السحاب الأسود سوادا؛ إذ وجد فيها نورا يضيء له الطريق إلى جذور دقيقة دفينة، لم يكن رآها وهو يبحث عنها، فهو حين كان في حيرته يسأل: لماذا هم؟ ولماذا نحن؟ لم يكن قد أدرك الفرق بين من ينذر حياته لما يدوم ويبقى، ومن ينذر حياته فيما يزول ويفنى.
استدار الشاب نحو الجنوب، ليعود إلى الدار مسرع الخطى، ما أسعفه تراب الجسر - جسر النيل - الناعم من سرعة، فكأنما كانت الفكرة البسيطة الواضحة التي خيل إليه أنه قد سمعها منطوقة من كتلة التراب المتلاصق في قبضة يده، بمثابة المحرك إلى الخطوة السريعة، هل قالت قبضة التراب - التي هي في حقيقتها رفات من إنسان مجهول - هل قالت تلك القبضة شيئا سوى أن جثامين الموتى ليست هي أشخاصهم، وإنما أشخاصهم هي ما أنجزوه في حياتهم الدنيا من فكر يسري ومن فعل يبقى، والشاهد على هذا وذاك هو الأرواح لا رفات الأجساد، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين فرقت بين «شاهد» و«شهيد»، فمن هم «الشهداء» من الناس؟ إنهم هم الذين «جسدوا» ما قد آمنوا به من فكرة وعقيدة، تجسيدا يمكن أن تشهده الأعين الشاهدة، ومنها ما يكون من ذات الإنسان نفسه، فيشهد على نفسه بنفسه.
ورسخت تلك الفكرة البسيطة الواضحة في وعي الشباب، رسوخا زاد ولم ينقص مع أعوام طال بها عمره حتى اكتهل وشاخ، ولقد أراد له ربه أن ينشغل في شيخوخته بالبحث عن «الجذور»، بل وما قبل الجذور من «البذور»، التي انبثقت منها فروع لا أول لها ولا آخر، من ظواهر الضعف، والتفكك، والتراخي، في حياتنا الحاضرة أفرادا وجماعات، فلئن حق لذلك الشاب في شبابه البعيد البعيد، أن يأخذ منه القلق مأخذه، كلما قارن بين «هم» و«نحن»، فلقد جاءت حياتنا الراهنة بما هو أفدح وأخطر، مما يدعو إلى القلق وإلى البحث عن العلل، فقد كان ذلك الشاب وهو في مرحلة شبابه، يستطيع أن ينظر حوله فيرى جهدا وجهادا نحو التحرر من مستعمر جاء فاحتل أرضه، ولم يعد اليوم مستعمر لنا ولا محتل، وكان ذلك الشاب يستطيع أن ينظر حوله ليرى أعلاما، يشقون في حياتنا الجديدة طرقا جديدة، اقتصادا مصريا بعد أن لم يكن، فنونا جديدة، من موسيقى إلى تصوير ونحت، بعد أن لم تكن، تصورا جديدا لأدب جديد، من رواية، ومسرح شعري، ومسرح نثري، ومبادئ جديدة لنقد أدبي وفني جديد، وإحياء واع لبعض تراثنا، يصاحبه اعتراف أوعى من بحار العصر الجديد، نعم - كان ذلك الشاب في شبابه القلق - يستطيع أن ينظر حوله ليرى هذا كله، ومع ذلك أقلقه أن يرانا في كثير جدا من ذلك الجديد والتجديد، إنما نقف عند حدود النقل والمحاكاة، سواء أكان المنقول عنه ماضينا أم كان عصرنا متمثلا في مبدعيه من أوروبا وأمريكا، وسواء أكان الذي نحاكيه أبا أو جدا من آبائنا وجدودنا، أم كان غريبا عنا في شعب بعيد، كان ذلك الموقف السلبي من حضارة العصر «وأعني الموقف الذي يأخذ من الناتج الحضاري الذي أنتجه آخرون»، ثم لا يضيف من عنده ولا يعطي، هو الذي أقلق الشاب في مرحلة شبابه، حين أخذ يتساءل في لهفة المحترق: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
Shafi da ba'a sani ba
فماذا يقول وقد تقدمت به السنون، إذا ما نظر حوله فرأى شبابنا الآن وقد تحولوا من سلبية النقل والمحاكاة في حركة البعث، إلى سلبية أخرى خانقة حتى الموت؟ إنهم يرفضون العصر، ثم هم لا يفهمون الماضي، وبين هذا الفهم الغائب وذلك الرفض الغبي البليد، يقضون حياتهم في وخم متثائب حينا، أو في سخافات ينشطون بها نشاط من يهدم وليس نشاط من يبني، ولسنا نريد بهذا أن نغمط حق مئات الألوف، استغفر الله، بل ربما بلغت تلك الألوف حدود الملايين، من شبابنا الذين عمروا لنا الأرض بما زرعوا وما صنعوا، والذين ضاقت بهم ساحة الوطن فهاجروا، لينبغ منهم من نبغ، كلا ولكن هؤلاء وأولئك - في الأعم الأغلب - ما زالوا يقفون ذلك الموقف الناقل المحاكي، الذي أسخط ذلك الشاب وأقلقه، ثم زاد علينا في مرحلتنا الحاضرة، ملايين أخرى ممن أخذهم الضعف، فأخذهم العجز، فلجئوا إلى تطرف جاهل مجنون، ينحازون به إلى اليمين مرة وإلى اليسار مرة، غير عابئين بما ينطوي عليه هذا التردد بين الطرفين، من تناقض في الفكر وتخبط في العمل.
ويتذكر الشيخ شبابه القلق، الحائر، الساخط، المتسائل: لماذا هم يبدعون ولماذا نحن محاكون وناقلون؟ يتذكر الشيخ ذلك، حين يتذكر شبابه ماشيا بخطواته الوئيدة، على جسر النيل، فيما بين القريتين الشقيقتين، خلال إجازات الصيف، فيبتسم أسفا وحسرة؛ إذ يرى الليلة أشبه بالبارحة، لا، لا بل إن الليلة لم تعد تشبه البارحة؛ لأن البارحة وإن تكن قد ركنت في نشاطها إلى الأخذ عن الآخرين بغير عطاء إلا القليل، فلم تكن ترفض الحاضر وتشد ركابها قافلة إلى وراء، وينظر الشيخ كما نظر سلفه الشاب، ليقارن شبابا هنا بشباب هناك، فيرى في ناحية، قعودا، وخمولا، وتراخيا، وفي ناحية أخرى لا يخلو قط أن يرى أمثلة تشد الانتباه شدا، وتدعو إلى عجب وإعجاب، من وعي متيقظ، ونشاط متوفر، ومغامرة طموح، ورغبة جامحة للكشف عن مجهول من أسرار هذا الكون العظيم.
إنك لترى روح الأمة، في أي عصر من عصورها، منعكسة في منجزات أبنائها وبناتها، ولا يعني ذلك أن نتوقع الإنجاز العظيم من كل فرد من أفرادها، فذلك ضد طبائع الأشياء بل يكفيك أن يشهد على روح الجماعة نسبة عددية من أعضائها، فنحن إذ نقول - مثلا - إن القرن الرابع الهجري قد شهد ذروة الثقافة العربية في تاريخها القديم، لا نعني أن كل عربي كان نابغا في ناحية من نواحي الحياة الثقافية ، بل نعني أن روح الأمة العربية قد تمثلت في قمم، وكل قمة منها - بالطبع - تلحق بها درجات دونها متفاوتات، فهنالك - مثلا - في دنيا الشعر المتنبي وأبو العلاء، لكن هناك أيضا عشرات من شعراء دونهما، لا يبلغون الذروة، وأن يكونوا أكبر قدرا من أن يهملهم تاريخ الشعر العربي، وفي الفكر الفلسفي إبان القرن الرابع الهجري، تجد قمما مثل الفارابي وابن سينا، لكن هنالك كذلك عشرات دونهما، تتفاوت درجاتهم، وهكذا قل في كل حياة ثقافية ناهضة، في أي عصر من العصور الناهضة، أما إذا ركدت الحياة بحيث خلت من قوة الإبداع الضخم، فهنالك قد تجد الوهاد الوطيئة، ولكنك لن تجد القمم العالية، هذا هو ما نراه في حياتنا اليوم: فهي بالطبع لا تخلو من سهول ووديان، لكنها يقينا تخلو من القمم العالية في أي ميدان تختار أن تضعه موضع النظام، فالقمم البشرية، شأنها في ذلك شأن قمم الجبال، يراها الناس من بعيد، أي أن العظيم حقا هو من عظم قدره للعالم كله فيما يدفع الإنسانية إلى الأمام من جانب في جوانب حياتها، ولقد كان أهم ما ضاق له صدر ذلك الشاب الغاضب، أن رأى أمته تخلو من أمثال تلك القمم العالية، دون أن ينكر عليها نوابغها فيما دون الذرى، حتى إذا ما تقدم العمر به إلى شيخوخة تحيا في أيام الناس هذه، رأى السفوح العليا - ودع عنك القمم العالية - قد خسفت لتنبسط في أسطح تستوي مع أسطح الماء انخفاضا، فليس الأمر - إذن - هو أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، ولا طب ولا هندسة، لا فكل ذلك موجود بدرجات، وإنما الذي غاب هو القمم العليا أولا، والسفوح المرتفعة ثانيا، وربما بقيت لنا بعض السفوح السفلى مع مسطحات السهول، ومنخفضات الوديان.
إن جبال الأرض، التي شمخت بذراها حتى اخترقت بها كبد السماء، لم تفعل فعلها ذاك إلا بعد أن ارتج جوف الأرض بمخاض عنيف، تفجرت به البراكين الثائرة، فأرسلت أنفاسها الحرى حمما، فلما بردت نارها، كانت قد تركت خلفها تلك القمم العالية التي نراها، وكذلك تكون الحال في قمم البشر العمالقة العباقرة، فهؤلاء لا يظهرون من فراغ، بل تسبق ظهورهم روح تسري في عامة الناس، تستجيب للتحدي من أي ناحية جاء، سواء أجاء من عدو يعتدي، أم جاء من طبيعة تتحدى بصلابتها وعنادها، فإذا رأينا أمة قد انطفأت الجذوة في شبابها، بحيث تكثر حولهم عوامل التحدي فلا يتحرك منهم جمع ليستجيب، علمنا أن الفرصة لولادة القمم قد ضاقت، ومن هنا رأينا شاب الأمس البعيد وقد أخذه القلق، حين راح يتساءل: لماذا هم في الغرب كذا وكذا؟ ولماذا نحن على امتداد الوطن العربي كيت وكيت؟ وما قد أقلق شاب الأمس البعيد، ما زال يقلق شيخ اليوم، كلما رأى هناك شبابا يتوقد طموحا في مواجهة الصعاب، بل إنه ليخلق الصعاب خلقا لتسنح له فرصة للمجاهدة والكفاح، وإن هذا الشيخ ليتابع بروح قلقة شفقة على أبنائه الشباب، أقول إنه يتابع ما يحدث هناك وما يحدث هنا، فلا يجد هنا من معالم الطموح المكافح إلا قليلا جدا، إذا ما قيس إلى ما يجده هناك، ولنضرب أمثلة قليلة مما سمع عنه هناك في صيف واحد «صيف 1987م»: شاب يحاول - وحده - خلال أشهر الصيف، أن يشق الطريق الثلجي في المحيط المتجمد الشمالي، لعله أن يجد سبيلا مباشرا يربط المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي، ب «تخريمة» قصيرة عن طريق القطب الشمالي، ولقد كان هذا العام عامه الثالث في مغامرته تلك، ويقرأ الناس - أو يسمعون - وصفا لما يلاقيه، وشرحا لما يتغلب به على ذلك الذي يلاقيه، وأن الأخطار العنيفة المخيفة لتحيط به عند كل خطوة يخطوها، فما الذي دفع شابا كهذا أن يترك المراقص والملاهي والمصايف، حيث كان يستطيع أن يلهو ويعبث ويسترخي، ليواجه الثلوج جبالا جبالا، ولتعصف به العواصف القواحف عصفا؟! وذلك شاب آخر يتأهب لمحاولة أخرى يحاول بها تسلق الجانب الشمالي الشرقي من جبال الهملايا، وهو جانب لم يتسلقه إنسان بعد، ويعرف عنه العارفون أنه عنيد، ويسأله سائلون: فيم إصرارك أنت وزملائك على هذه المخاطرة عاما بعد عام؟ فيجيب الشاب - وعمره نحو عشرين عاما - بقوله: إن جوابي هو نفسه ما كان أجاب به «مالوري» عن سؤال كهذا من الخمسينيات، عندما نجح في وصوله إلى قمة «إفرست» من جبال الهملايا، وهي أعلى قمم الدنيا جميعا، حيث قال إنني جاهدت لأبلغ تلك القمة «لأنها هناك»، أي أن مجرد وجود الشيء المستعصي، كفيل وحده بأن يتحداه الإنسان ليقهره، وذلك شاب ثالث ضرير، واسمح لي بأن أكرر القول بأنه شاب «ضرير»، قد أعد عدته ليعبر المحيط الأطلنطي وحده في سفينة، فإن لم يكن هو أول «إنسان» يعبر وحده ذلك المحيط، إلا أنه سيكون أول إنسان «أعمى» يفعل ذلك، ويسأله سائلون: وماذا وراء مغامرتك تلك؟ فيجيب بأن الذي وراءها هو أن الإنسان بروحه القوي، لا بعينيه، وقد أراد بعضهم أن يعرف كيف يستطيع مفقود البصر أن يغامر مغامرة كهذه، فيشرح الشارحون بأنه سيعتمد على جهاز السمع «رادار»، يتسمع به إن كان في طريقه سفينة أخرى فيجتنبها. هؤلاء جميعا شباب ما زالوا في الجانب الأصغر من مرحلة الشباب، أمامهم عوائق عسيرة في الطبيعة، وكأنها تتحدى قدرة البشر، فيستجيبون هم لهذا التحدي يغالبونه حتى يغلبوه.
وإذا سادت هذه الروح المغامرة الطموح شباب أمة، فهل من عجب أن تظهر فيها القمم الشوامخ بعد قليل؟ إن الأمر في حيوية الشعوب، هو كما قال الشاعر التونسي الشاب:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
إلا أن الفرق بعيد بعيد بين شعب «أراد» الحياة وشعب «أراد» الموت (وأرجوك أن تقف قليلا عند معنى «أراد» حين تنصب تلك الإرادة على نمط الحياة الذي يريد الإنسان أن يحياه)، لقد أنبأني عميد لإحدى الكليات «العلمية»، أنه أراد أن يكون لنفسه فكرة مأخوذة من الواقع، عما يقرؤه الطالب إذا قرأ، فأخذ يجمع الشواهد مما يقع عليه بين الطلاب، فشاءت له المصادفة أن يكون أول كتاب رآه مع أول طالب يصادفه قارئا، هو كتاب عن «عذاب القبر». فقلت للأستاذ العميد: كفى! كفى! نشدتك الله لا تمض في ذكر الأمثلة؛ لكي أنعم بالظن الواهم ، إن ذلك المثل الذي ذكرته وحيد نوعه، ليس له بين الطلاب ثان وثالث.
لكني أعلم علم اليقين أن لذلك المثل الأول الذي قدمه لما يقرؤه الشباب، ثانيا، وثالثا، ورابعا، وإلى أي عدد تشتهي، وكأنه شباب أراد لنفسه «الموت» أكثر مما أراد لنفسه «الحياة»، فإذا تدرج شاب من هؤلاء على درج العمر، وصار «عالما» أو «طبيبا» أو «مهندسا»، أو ما شئت من مسالك الحياة في أعلى درجاتها - ودع عنك درجاتها فيما دون ذلك - فماذا تتوقع أن ترى؟ إنك لن ترى - في الأعم الأغلب - إلا رجلا وقف عند حدود العلم كما هو موجود، وكما درسه وحفظه مما درس أو قرأ، في الجامعة وما بعد الجامعة، وذلك على أحسن الفروض الممكنة؛ لأن بيننا من لا يتابع المستحدث أولا فأولا حتى في دائرة تخصصه، فيتخلف بعلمه بضع عشرات من السنين عما هو عليه الآن، ومع ذلك فلا علينا الآن من هؤلاء - وهم كثيرون - ولنأخذ بأحسن الفروض، وهو أن علماءنا والصفوة من أصحاب المهن، يتابعون المستحدث أولا فأول، فهلا وقفنا قليلا عند كلمة «يتابعون»، أي أنهم يقفون عند الأبواب، في انتظار ما يكشف عنه الكاشفون، أما أن نشارك نحن بقسط في صنع العلم أو غير العلم من مقومات العصر حضارته وثقافته، فذلك أمر بعيد الحدوث، فمن كان في شبابه يقرأ عن «عذاب القبر»، بعيد عنه بعد ذلك أن يضيف إلى حياة الناس حياة.
كان الشاب القلق الطموح يحلم بأن يكون لنا نصيب يتناسب مع تاريخنا المجيد، في الإبداع الحضاري الجبار، الذي نسمع عنه عند سوانا، والذي نشتري بعض ثماره لنمسها بأطراف الأصابع، ولنذوقها بطرف اللسان، ثم خرج من ذلك الشاب شيخ ما زال يراوده الحلم.
Shafi da ba'a sani ba
موطن الداء
المسئول الكبير، الذكي اللامع، إذ كنا نسمر معا سمرا ظاهره انسياب الخواطر، انسيابا لا يستهدف غاية إلا حلاوة السمر، وباطنه هدف مضمر، هو البحث عن أسس ثابتة يقوم عليها إصلاح التعليم، فسألني الصديق الكريم سؤالا، جاء في سياق الحديث وكأنه عابر، فقال: إن اعتقادنا اليوم، هو أننا قد فرغنا من إرساء الدعائم لخطة اقتصادية طويلة المدى، ونريد الآن أن نتجه بمثل ذلك الجهد المركز، نحو أن نرسي دعائم البناء التعليمي، وقد يقتضي ذلك تغييرا من الجذور في «مقررات» الدراسة على اختلاف مراحلها، فماذا ترى؟ قلت: قد تكون «المقررات» بحاجة إلى مثل ذلك التغيير، لكي تتكافأ مع ما تغيرت به الدنيا، إلا أني على عقيدة راسخة، بأن «مقررات» تذهب، وأخرى تجيء، لن يغير وحده من مواطن الداء إلا قليلا.
وأما الذي نرجح له أن يحدث التغيير، فهو اكتساب الدارسين للنظرة العلمية، بأن يستخلصوها مما درسوه من «مقررات»، فما من «مقرر دراسي» في مدرسة، أو معهد، أو جامعة، إلا وقد سيق في سياق تنتظم فيه الروابط بين الأسباب ومسبباتها، فلو أننا عنينا بأن يتشرب الدارس لمقرر معين، ما قد سرى في أوصاله من منهج السير، خرج المتخرج آخر الأمر بشيئين: مادة المقرر المدروس، ومنهاج «النظرة العلمية» معا. فإذا كانت «المقررات» تعد الدارسين لضروب العمل المهني والحرفي، فإن «النظرة العلمية» التي يتشربها، تخرجه «إنسانا» يساير عصره الذي خلق ليعيش فيه.
إننا إذ ننظر إلى من أخرجتهم مراحل التعليم عندنا - وهم في ميادين العمل - أطباء، ومهندسين، ورجال قانون، ورجال اقتصاد، ومعلمين، وعلميين في شتى فروع العلم، لا يسعنا إلا الشهادة لهم بالقدرة - بعد سنوات قليلة من التدريب والخبرة - فهؤلاء هم بناة العمران في مصر، وفي كل ركن من أركان الوطن العربي، لكن أخرج بهؤلاء القادرين أنفسهم من دوائر تخصصاتهم، ليواجهوا مع جمهور الناس مشكلات الحياة العامة، ثقافية وسياسية واجتماعية؛ تجد كثرة منهم ينظرون بالمنظار نفسه الذي ينظر به من لم يظفر بحظ من تعليم المدارس والجامعات، فكلاهما على حد سواء لا يجد في كيانه البشري ما يصده عن تصديق الخرافة، وإذا قلت «الخرافة» فقد قلت رد الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية، ولكي أبين الفرق بين الحالتين، أروي هذه الحادثة: فقد أراد هاو من هواة التسلق إلى قمم الجبال المنيعة، أن يتسلق جبلا في إسبانيا، فاستعان بدليل من أهل المنطقة ليصحبه، فلما بلغ بهما الصعود نقطة مرتفعة، جلسا للراحة والطعام، وأخرج الرحالة عددا من حبات البطاطس وأشعل لها الموقد لتنضج، ووصل الماء في إناء الطهو إلى درجة الغليان، ولبث يغلي فترة طويلة من الزمن، لكن البطاطس لم تنضج، ودهش الرجلان كلاهما: لماذا لم يؤد الماء في غليانه إلى إنضاج البطاطس؟ فأما الدليل في جهالته، فلم يتردد في اعتقاده بأن روحا شريرة قد حالت دون ذلك، وأما الرحالة في استنارته العلمية، فقد تذكر على الفور أن درجة غليان الماء تقل كلما ارتفعنا به عن مستوى سطح البحر، فهو يغلي عند سطح البحر في حرارة مقدارها مائة، وأما على سفوح الجبال العالية فقد تقل درجة الغليان بحسب درجة الارتفاع، فربما غلى الماء بدرجة ثلاثين أو أربعين، وفي هذه الحالة لا يكون حارا بالقدر الذي ينضج البطاطس، برغم أنه يغلي، فلقد كان الرحالة ذا «نظرة علمية»، وهو يربط النتائج بأسبابها، وأما مرافقه من أهل الإقليم فقد لجأ إلى الخرافة في التعليل، ومرة أخرى أقول إن تعريف ما نطلق عليه اسم الخرافة، هو: «رد الظواهر إلى غير أسبابها»، فالنظرة العلمية، والنظرة الخرافية، كلتاهما تحاولان تعليل الحوادث، لكن شتان بين تعليل وتعليل.
إنه لمن أيسر اليسر أن تلقن الدارسين «مقررا» بعينه، وضعت مادته في كتاب، ثم يلخص ذلك الكتاب المطول في كتاب يعرض في الأسواق، يقتصر على ذكر «النقط» أو رءوس الموضوعات، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في ذلك الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، وواضح أن «النقط» التي تستخلص من «المقرر» ليحفظها الدارس، قد خلت خلوا تاما من الروابط المنطقية، التي تربط كل نقطة منها بسياقها الذي يفسرها ويعللها، كما خلت في الوقت نفسه من الروابط التي تربطها بأخواتها، ليتكون من مجموعها كيان فكري واحد، فيتخرج الدارس وفي جعبته «نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية، أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياقه ليفهم.
نعم إن دراسة «المقررات» هي أيسر اليسر، وأما العسير حقا، فهو أن تأخذ بأيدي الدارسين ليستخلصوا من تلك المقررات منهاجها، وإذا كان تغيير المقررات معدودا، وكأنه تناول لمشكلة التعليم من «جذورها»، فإنني أدعو إلى ما هو قبل الجذور، وهي البذور التي نبذر بها في عقول الدارسين نظرة علمية، فقد تنسى المقررات المدروسة فلا يبقى منها عند الدارس حرف واحد، وأما النظرة العلمية المستفادة، فهي تدوم سمة من سمات المتعلم ما دام حيا، تتغير الموضوعات التي تنشأ له في طريق حياته، فيعالجها بما قد ثبت في نفسه ورسخ، وهو الطريقة العلمية في الفكر والعمل.
فإذا كنا قد نجحنا إلى حد قد نختلف على مداه، في أن تخرج لنا «المقررات» الدراسية، من يقومون ببناء حياتنا المادية والعملية، من منشآت هندسية، ومستشفيات، ومعاهد دراسية، ومحاكم للقضاء، وجهاز كامل للدولة، وللإعلام، ولغير ذلك من مسالك الحياة، فيقيني هو أننا لم نوفق في تزويد أنفسنا بالشطر الثاني، الذي هو - كما أسلفت القول - التدريب على «النظرة العلمية» في إطارها العام، في كل ما يصادفنا من مواقف ومشكلات خاصة أو عامة على حد سواء، وإذا غابت النظرة العلمية، كان حتما أن تحل محلها نظرة أخرى تنبني على ما هو أعمق جذورا في فطرة الإنسان، ألا وهي لجوء الإنسان إلى ما تمليه عليه غرائزه، وعواطفه، وانفعالاته، وسائر ما هو مزود به، بحكم طبيعته الإنسانية والحيوانية معا، من قوى تدفعه إلى كذا وتمنعه عن كيت، دون أن يكون في ذلك الدفع أو المنع سند من منطق العقل، وماذا نعني بمنطق العقل؟ إنه بكل بساطة وإيجاز، التعامل مع دنيا الأشياء، على أساس من واقع تلك الأشياء، دون أن نضيف إلى حقائقها الواقعية، أو أن نحذف منها شيئا، حتى إذا ما عرفناها على حقائقها، كان من حقنا بعد ذلك، أن نستدل الطريقة التي نستخدمها بها على النحو الذي يخدم منافعنا ويحقق أهدافنا.
وقد تسأل متعجبا: وهل هنالك بين الناس إنسان يفعل ذلك؟ هل هنالك إنسان يرى قطعة الصخر فيزعم لنفسه أنها سبيكة من ذهب؟ أو يرى قنابل الأعداء تهوي لتقتل الناس وتهدم البيوت، فيقول إنها زهور تتناثر لتنشر عطرها؟ والجواب هو: نعم، فقد تكونت النفس الإنسانية، لترى الأشياء - لا سيما في ساعات الشدة والحرج - على هواها، فهي في حالة ضعفها وخوفها ترى شيئا، فإذا انقلبت إلى قوة وثقة، رأته شيئا آخر، فكم من دجال قدم إلى ساحات القضاء ليحكم عليه بما يحكم به، عقابا له على تضليله للأبرياء، بعد أن لم يجد فيه هؤلاء الأبرياء إلا بركات وقدرات تشفي المريض، وتعيد الأسر المحطمة إلى وئامها، وترد الخاسرين إلى رواج وازدهار، إن عامة الناس أميل بحكم فطرتهم إلى أن يخلعوا على الطبيعة صفات كصفات البشر، فإذا أصابهم خير من ظاهرة طبيعية، كالمطر أو فيضان النهر، رأوا في تلك الظاهرة ما يستحق التقديس، أو رأوا شرا صبوا عليه اللعنات، إنهم يحبون أن يكونوا ممن شفت قلوبهم حتى لترى المستقبل قبل حدوثه، فهم يتذكرون حلما من أحلامهم جاءت رؤياه صادقة على المستقبل، وينسون ألف حلم رأوه ولم يتحقق منه شيء.
كثيرة جدا هي العوامل الداخلية التي تتحكم في الإنسان، فتميل به إلى رؤية الأشياء على غير واقعها، وإن شئت فانظر إلى رجلين، نشأ كل منهما في بيئة اجتماعية، أو تعليمية مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها الآخر، واطرح عليهما سؤالا عن قيمة حضارية معينة، كتعدد الزوجات، أو التعليم المختلط بين الجنسين، أو الطريقة التي تعالج بها جثث الموتى، فعندئذ ترى ما يوجبه أحدهما وجوبا لا تردد فيه، يستنكره الآخر استنكارا يحسبه من وحي البديهة التي لا تخطئ، فقد ذكر المؤرخ اليوناني «هيرودوت» كيف أنه على سبيل المقارنة أثناء جولته في مصر وبعض البلاد الآسيوية، سأل مصريين: ماذا ترون فيمن يحرق جثث موتاهم؟ والمصريون - كما نعلم - يدفنون الموتى، فاستنكروا تلك القسوة ممن يقترفون هذا الإثم المخيف. ولما سأل أفرادا ممن يحرقون الجثث في الهند، قائلا: ماذا ترون فيمن يدفنون جثث موتاهم؟ عجبوا كيف تطاوعهم قلوبهم أن يدفنوا أحباءهم في حفر تحت الأرض. وهنالك من القبائل من يأكلون موتاهم - وبصفة خاصة جثث الآباء - عقيدة منهم بأنهم بذلك يضيفون قوة الراحلين إلى أبنائهم حتى لا تضيع سدى، وأظن أن «فرويد» في كتابه «الطوطم والتحريم» يعلل أكل الولد لجثة والده، أو حتى أكله لأبيه في حالة مرضه إذا استعصى شفاؤه، بأنه في أعماقه نوع من انتقام الابن من أبيه، لقاء ما سلبه أبوه من حرية، ولقد قرأت - فيما أذكر - لأحد الباحثين في الثقافات المختلفة، أن جماعة من إحدى القبائل آكلة الموتى، حين سئلت عما تراه فيمن يدفنون الموتى، وفيمن يحرقون الموتى، فكاد المسئولون أن يغمى عليهم من الذهول، كيف تبلغ الغلظة بقلوب أولئك أو بقلوب هؤلاء، فيفعلون تلك البشاعات بموتاهم! نعم، إن ظروف النشأة قد تعمي وتصم، فلا يرى صاحب الرأي إلا ما هو راسخ في فؤاده هو، مما دس فيه من أولياء أمره أيام النشأة الأولى، وإننا لنعاني من اختلاف الرأي في حياتنا الفكرية، لا لأي سبب آخر سوى اختلاف الظروف الدراسية التي أحاطت بهذه الجماعة منا أو بتلك، فأصبحنا إذا ما طرح موضوع للرأي، قال هؤلاء نقيض ما قاله أولئك، والموضوع واحد، والشعب واحد، وما ينفع الناس أو ما يضرهم يمكن إخضاعه للحساب الذي يتفق عليه الجميع، ذلك لو احتكموا في مشكلاتهم إلى منطق العقل، وليس للأهواء التي اختلفت باختلاف الظروف.
وأول خطوة في سبيلنا إلى تربية أطفالنا على رؤية الأشياء على حقائقها الخارجية، تمهيدا للحكم عليها حكما غير مؤسس على أوهامنا وأهوائنا؛ هي أن يتعلم أولياء الأمر في تنشئة الطفل، من والدين ومعلمين، مضافا إليهم الوسائل الإعلامية، كيف يرهفون حواس الطفل لتعمل عملها على وجه أوفى وأكمل؟ فمجرد وجود العين قد يضمن لنا أنها «تنظر» ولكنه لا يضمن لنا أن «ترى»، ومجرد وجود الأذن قد يضمن لنا أنها تسمع الصوت آتيا من مصادره، ولكنه لا يضمن لنا تركيز «الانتباه» فيما يختلف به، أو ما يتشابه فيه، صوت وصوت، وتهذيب الحواس، وإرهافها، وتدريبها، هو الوسيلة الأولى، التي تتيح للناشئ أن يجمع معلومات دقيقة وصحيحة، عما حوله وعمن حوله، ولئن كان «فرنسيس بيكون» قد صاح صيحته المدوية في أوروبا النهضة، حين قال: «العلم قوة.» قاصدا بذلك إلى لفت أنظار الناس، بأنه ليس من العلم في شيء ذلك التحصيل الذي كان رجال القرون الوسطى في أوروبا يجمعونه من الكتب ويحفظونه، ما دام عاجزا عن أن يضيف إلى دارسه «قوة» يستطيع بها أن يلجم ظواهر الطبيعة ليجعلها طوع أمره، فالتحكم في نبات الأرض نوعا ومحصولا، يحتاج إلى «علم»، والتحكم فيما يخرجه الإنسان من جوف الأرض، يحتاج إلى «علم»، واختراع وسائل النقل السريعة والمريحة، يحتاج إلى «علم»، وحفظ الطعام أو مخزون الدم بالمستشفيات، يحتاج إلى «علم»، وذلك هو الجدير باسم «العلم»؛ لأنه ضروب من «القوة» التي يقوى بها الإنسان على إخضاع الأشياء لصالحه؛ أقول: لئن كان «بيكون» قد صاح صيحته تلك منذ أربعة قرون، لعل القوم أن يتجهوا بدراساتهم وجهة أخرى، يمارسون بها «الأشياء» ولا يقتصرون على قراءة ما تركه أسلافهم عنها في بطون الكتب، فالصيحة الجديدة في عصرنا - فيما يتصل بموضوع حديثنا - هي: «المعلومات قوة.» بمعنى أن سيطرة الإنسان - طفلا وغير طفل - على الأشياء، مرهونة بمقدار ما يجمعه من معلومات صحيحة عن تلك الأشياء، والوسيلة إلى ذلك تبدأ منذ الطفولة، بأن ندرب أعين الأطفال على أن «ترى» ما تراه بتفصيلاته، وأن ندرب آذانهم على أن تتبين في الأصوات أوجه الشبه وأوجه الاختلاف، ولكل حاسة أخرى وسائل تدريبها على أن تفعل فعلها، فمن أراد أن يلم بالعالم المحيط به، إلماما يضمن له مزيدا من المعرفة، ومزيدا من الدقة، كانت حواسه هي أبوابه ونوافذه، التي لا يملك سواها من نوافذ وأبواب.
Shafi da ba'a sani ba
إن من أهم ما قد لاحظه كاتب هذه السطور، خلال أسفاره وقراءاته ومقارناته، أن الطفل في البلاد المتقدمة - أخذا بمتوسط الحالات - يفوق الطفل عندنا في محصوله من المعلومات التي يجمعها عما يراه ويسمعه عن الأشياء والكائنات، بدرجة تلفت النظر، ثم يطرد هذا الفرق، بل ويتسع بينهم وبيننا في شرائح العمر بعد ذلك: وحسبك أن تلقي سؤالا على واحد من المشتغلين بمهنة أو بحرفة معينة، أو من رجال الفن والأدب، أو مما شئت من فئات الناس، عندهم وعندنا، لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في القليل الذي يعرفه عن موضوع السؤال؟ وتعليل ذلك يسير؛ فالأعين والآذان هناك مدربة على أن ترى وأن تسمع ما حولهما وعما حولهما، والأعين والآذان عندنا تركت لتتلقى ما تتلقاه، دون أن يقابل ذلك في الإنسان المتلقي إرادة متعمدة للتدقيق في تفصيلات ما قد وقع من تلقاء نفسه على الأسماع والأبصار، ثم تجيء بعد ذلك عادة القراءة عندهم - وما يقرب من انعدام القراءة عندنا، فيضاف هذا العامل إلى العامل السابق - لنصل إلى نتيجة صحيحة ومفزعة، خلاصتها أنهم هناك يعرفون، وأننا هنا لا نعرف.
ثم لا يقتصر موقفنا في دنيا المعرفة على هذا القصور في «الكم»، بل يضاف إليه قصور آخر في «الكيف»، من شأنه أن يوسع من الفجوة التي تفصل الإنسان عندنا عن العالم الذي يعيش فيه، وذلك أن ما يعرفه العارف منا بشيء يغلب أن يكون مستمدا من مقروء، ويندر أن يجيء عن طريق اللقاء المباشر بين «الشيء» وعارفه، فينتهي بنا الأمر إلى أن نكون - إذا استبحنا شيئا من المبالغة - سجناء كلمات، قرأناها، أو سمعناها، منذ طفولتنا فصاعدا إلى أعمار النضج، وكأننا قد تحولنا بأشخاصنا إلى مخزون من ألفاظ أو عبارات، حفظتها لنا الذاكرة، حتى إذا ما أريد لنا أن نعالج الأشياء ذاتها، في موقف معين، تعذر علينا ذلك أو استحال، وبرهان ذلك ما نضطر إليه، كلما استعصت مشكلة عملية، أن نستدعي لها «الخبراء الأجانب»، حتى باتت هذه العبارة موضعا للتفكه، إننا قد «نعرف» ولكنها معرفة بما كتب أو قيل عن الشيء موضوع تلك المعرفة، وأما الشيء نفسه فهيهات أن تكون بيننا وبينه صلة مباشرة، لقد كنت أتحدث ذات يوم مع أستاذ في إحدى كليات الزراعة في جامعاتنا، فقال لي في حماسة شديدة، إنه لا بد من إدخال «مقرر» جديد في كليات الزراعة، وهو ما يسمى الآن «بالهندسة الوراثية»، وبين لي أهمية هذه المادة العلمية الجديدة، التي تتزايد أهميتها، وخطورتها، كل يوم، وأخذ الأستاذ الفاضل يشرح لي كيف أصبح في مستطاع علماء هذه المادة، أن يدخلوا تنويعات جديدة في أنواع النبات والحيوان، ليس فقط في النطاق المحدود الذي عهدناه في عمليات التهجين، بل ربما تلاقحت أجزاء من نوع معين بأجزاء من نوع آخر من أنواع الحيوان والنبات، وإذا بنا أمام كائن جديد كل الجدة، متميز بخصائص لم تكن من جنس الخصائص التي كانت لأي من النوعين اللذين اندمجا فأنتجا ما أنتجاه، فلما فرغ الأستاذ العالم من عرضه وشرحه، مؤكدا ضرورة إدخال هذا المقرر الدراسي الجديد، سألته: إلى أي حد يكمن القول بأن طلاب الزراعة، أو أساتذة الزراعة، إذا ما أضيفت في مقرراتهم مادة «الهندسة الوراثية» قادرون بعد ذلك على إجراء تلك العمليات الانقلابية في عالم الأحياء؟ فضحك وقال: إلى حد الصفر، فنحن ندرس ثم لا قدرة على التطبيق في أمثال هذه الميادين.
ليست المسألة في تطوير التعليم عندنا - إذن - هي إضافة مقررات وحذف مقررات، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك، تغيير في الأسس التي نقيم عليها صروح التعليم، بحيث ننتقل بها من محورية «الكلمة» إلى محورية «الفعل» والفعل بطبيعة الحال، يستلزم أن يكون مدار التعليم هو الشيء الذي ينصب عليه ذلك الفعل.
إن من أميز ما يميزنا بالقياس إلى سائر الأمم، هو عمق الإحساس الديني، فلكل إنسان على وجه الأرض عقيدته الدينية، ولكننا أعمق صلة بالعقيدة، وربما كان ذلك لطول الزمن الذي عشناه في ظل الدين، فمنذ فتح لنا التاريخ كتابه ليسجل كان السطر الأول فيما سجله عن أمتنا، أنها أمة جعلت الدين محور حضارتها، وعماد ثقافتها، وهكذا ظلت العصور تتعاقب علينا، بديانات ترسخ في قلوبنا لرسوخ الأساس الذي تبنى عليه، وجاء الإسلام لنؤمن به إيمانا، اشتدت حرارته وعمقت جذوره، لسابق عهدنا الطويل بحياة دينية، وكان مما أكد عليه الإسلام، وجوب أن يصل المؤمن نفسه بظواهر الأرض والسماء، بدرسها فيزداد معرفة بعظمة الله سبحانه وتعالى، والحق أن الفارق بعيد بعيد في إدراك العابد لعظمة الله وجلاله، وهو يعرف الأشياء من أسطحها معرفة عابرة، بل ربما اقتصر علم كثيرين بالشيء المعين، على معرفة اسمه، وبين أن يمعن العابد نظره ولو في شيء واحد، كأن يمعن النظر في سمكة وكيف تسبح وتعيش في الماء، أو في طائر وكيف يطير؛ لأن المؤمن إذا ما عرف التفصيلات، ولو في كائن واحد، لانطلق لسانه، وبغير عمد منه، يقول: الله أكبر، سبحانه من خالق! لقد استمعت مرة في إذاعة أجنبية، لعالم يشرح للسامعين كيف يستطيع البرغوث أن يقفز مثل قفزته العالية، فصغر حجمه قد تثير السؤال: من أين لهذا الحجم الضئيل، تلك «الطاقة» الدافعة التي تمكنه من قفزته العالية؟ وأخذ يبين العالم للسامعين نتيجة أبحاثه العلمية مع زملائه في هذا الصدد؛ إذ وجدوا أن الساقين الخلفيتين للبرغوث أطول من الساقين الأماميتين، وأن تلكما الخلفيتين موصولتان مع جسم البرغوث بوصلة من المطاط، فهو حين يهم بالقفز، يمد ساقيه الخلفيتين، فتمتد الوصلة المطاطية، ثم يترك نفسه، فإذا بالجزء المطاطي المتوتر يدفع البرغوث إلى كل الارتفاع الذي يصل إليه في قفزته، وما إن فرغ العالم من شرحه، حتى نطقت قائلا: سبحان الخالق العظيم، فبمعرفة التفصيلات في الكائن الواحد، تدرك مواضع الإعجاز.
فلو أردنا - حقا - ثورة تعليمية، لم يكن لنا بد من البدء بالطفل وحواسه، لنفتح له نوافذ السمع والبصر، فيرى ويسمع، ويجمع ما استطاع جمعه من معلومات عن «الأشياء»، وأن ندربه تدريبا متواصلا، في كل مناسبة، وفي كل درس أيا ما كان موضوعه، على أن يبحث لكل جملة تقال أو يقولها، عن «الأشياء» التي جاءت تلك الجملة لتشير إليها، لكي نحصنه منذ بداية الطريق من أن يألف القول الفارغ من أي معنى، وهو لا يدري أنه فارغ، فإذا ما اجتزنا به مرحلة الطفولة، وسرنا معه إلى مرحلة تعليمية أعلى، بدأنا له شوطا آخر من التدريب على «النظرة العلمية» التي نعمده لاكتسابها، وتلك هي أن نأخذ في توجيه انتباهه إلى اللغة وما فيها من فخاخ يقع فيها كل إنسان إذا لم يكن على حذر؛ فأصحاب اللغة في استعمالها للتفاهم، سواء أكان ذلك بين أبناء الجيل الواحد المتعاصرين، أم كان بين الأجيال المتعاقبة، بأن يكتب جيل سابق ليقرأه جيل لاحق، أقول إن أصحاب اللغة مضطرون اضطرارا، إلى التعميم اختصارا للمفردات اللغوية التي يستخدمونها، فهم - مثلا - يكتفون بقولهم «ناس» ليختصروا بها ملايين الأفراد الذين منهم يتكون النوع الإنساني، وهم يقولون «مصر» ليشيروا بلفظة واحدة إلى تاريخ امتد أكثر من ستة آلاف من السنين، بكل ما فيها من أناس وأحداث، وهكذا، فواجب المتلقي - في الحالات التي تستوجب الدقة العلمية - أن يفك هذا التلخيص، بالدرجة التي تتناسب مع أهمية الموقف القائم بين يديه، وهي عميلة تحتاج إلى تدريب طويل، ربما طال ما طال العمر، لكننا بعيدون جدا عن مثل هذا التدريب، حتى ليجيز الواحد منا لنفسه، أن يقذف بالكلمات قذفا كما اتفق، في سياقات ربما كان لها من الخطورة ما تهتز له حياة أمة بأسرها.
خذ أمثلة لذلك: قسمنا شعبنا إلى خمس مجموعات، تنظيما لممارسة الحقوق السياسية ممارسة تكفل العدالة بنسب صحيحة، فقلنا إن تلك المجموعات الخمس هي: العمال، والفلاحون، والجنود، والمثقفون، والرأسمالية الوطنية، وللوهلة الأولى حسبنا تقسيما واضح الحدود، أما حين جاءت الوهلة الثانية، وأعدنا النظر، تبددت لنا الفواصل بين الفئات، وكأنها من شدة غموضها لا فواصل، فمن هو العامل؟ ومن هو الفلاح، ومن هو المثقف؟ وما هي حدود الرأسمالية الوطنية؟ إننا إذا استثنينا فئة «الجنود» التي قد تكون على شيء من التحديد، وجدنا صعوبة في تحديد الفئات الأربع الأخرى، وحتى فئة «الجنود» على تحديدها، لا تخلو من التداخل في غيرها، فالجنود هم جنود ومثقفون، فلا غرابة إن أخذنا نعيد ونصحح ما نعنيه «بالعامل» وما نعنيه «بالفلاح»؛ لأنهما فئتان لهما أهمية خاصة، ما دمنا قد جعلنا لهما الحق في نصف المقاعد على الأقل، في كل تجمع نيابي، وتركنا الفئات الثلاث الأخرى تتخبط في غموضها.
خذ مثلا من اللاعلمية في استخدام الألفاظ، حتى على المستويات الرسمية، فقد رفعنا شعارا عن التعليم ، كان في الأصل جملة أدبية الصياغة قالها طه حسين، والشعار هو أن التعليم حق للجميع كالماء والهواء، ومرة أخرى سحرتنا الألفاظ دون النظر إلى تحديد معانيها، فوقعنا في محظورات كان يمكن أن ننجو منها لو تمهلنا وقيدنا أنفسنا بدرجة من «العلمية»، فما هي حدود «التعليم» الذي هو حق للجميع، هذا سؤال واحد لو تأملناه في أوانه لما فتحنا الأبواب على مصاريعها للقادرين وغير القادرين بحكم استعداداتهم الفطرية، وخذ مثلا ثالثا شعارا وطنيا رفعناه ذات حين، وهو أن تكون السيادة في حياتنا «لأخلاق القرية»، فما هو تعريف «القرية»؟ وما هي «الأخلاق» التي تكون لأبناء القرية ولا تكون لأبناء المدينة؟ إني بهذا التساؤل، لا أقرر صوابا وخطأ، بل الذي يعنيني هو أن أبين إلى أي حد، وعلى أي مستوى، نلقي بألفاظ لا نتقيد بتحديد معانيها، برغم ما لها من عمق الأثر في حياتنا العامة، إن كاتب هذه السطور ليعترف أمام القارئ بأنه قد أخذته الدهشة من سذاجة فكره، حين اجتمع المفاوضون المصريون مع المفاوضين من إسرائيل، حين أرادوا بحث مشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة، فكانت الصدمة الأولى أن قال الإسرائيليون: إن المقصود بالضفة والقطاع، هو السكان وليس الأرض! فإلى هذا الحد يجب استعداد الإنسان بالتحليل والتحديد، كلما وجد المقام جديرا بذلك.
من أجل هذا كله وما هو أكثر منه، قلت للمسئول الكبير الذي قرر لي بأن الدولة مقبلة على ثورة تعليمية تبدأ من الجذور، قاصدا «بالجذور» «المقررات الدراسية» إن الرأي عندي هو أن نبدأ مما يسبق الجذور، فنعنى بإعداد التربة وانتقاء البذور.
تلك أم المشكلات
مشكلاتنا كثيرة، يعرفها عابرو السبيل كما يعرفها العلماء الباحثون، الحكام المسئولون، لا فرق في ذلك بين واحد وآخر إلا في التفصيلات أو في القدرة على رد الوقائع إلى أسبابها، فالجميع يعرفون مشكلاتنا، لأننا جميعا نكابدها ونعانيها، أو - إن شئت دقة في العبارة - قل إن كلا منا يعرف من مشكلاتنا ذلك الجانب، أو الجوانب، التي تمس حياته مسا مباشرا، وقد يفوته من تلك المشكلات ما ليس يدخل في حياته العملية فيعانيه ، واستوقف أول عابر سبيل يصادفك في الطريق العام، واطلب منه أن يذكر لك ما يعرفه عن مشكلات حياتنا الراهنة، فلن يعدم القدرة على جواب، إلا يكن جوابا شاملا للقائمة كلها، بتفصيلاتها، كما تفعل الأبحاث العلمية، أو التقارير الرسمية، فلا أقل من أن يذكر لك ثلاثا منها أو أربعا، وهو إذ يفعل ذلك، فهو لا يفعله على نحو ما نراه في تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في وقتنا الحاضر، حين يحفظون نقاط الموضوع المعين حفظا أصم وأبكم ليفرغوا ما قد حفظوه على ورقة الامتحان، دون أن تهتز له في كيانهم الحي شعرة واحدة، بل إن عابر السبيل يذكر لك مشكلات ينام مستغرقا في همومها إذا أمسى عليه المساء، ويصحو غارقا في همومها إذا أصبح عليه الصباح، فهي مشكلات تقع من حياته موقع النبضة الزائدة إذا نبض بها قلب المريض، أو موقع الوجع الذي يأتيه من أحشائه ولا يعلم من أي حشى معين من تلك الأحشاء قد جاء الألم.
Shafi da ba'a sani ba
الفرق بين عابر السبيل وبين غيره من العلماء المتخصصين، أو من الرؤساء الحاكمين، هو في «الأسماء» التي يطلقها هؤلاء على أنواع المشكلات، ولا يعرفها هو، فهم يقولون - مثلا - عن مشكلة معينة أنها في «التضخم» أو في «أسعار الصرف» أو في «عجز في الموازنة»، أو ما شئت من أسماء، وأما عابر السبيل فيقولها بلغة الحياة المتوجعة بآلامها؛ إذ يقول إنه لم يعد في مستطاعه الحصول على العدس والفول، وإن ابنه في حاجة إلى درس خصوصي في الرياضة وليس في يده ما يدفعه أجرا للمدرس الخاص، لا، إنه لا يعرف النار حق المعرفة إلا من اكتوى بلهيبها، ولا تصدق من زعم لك العلم بمشكلة هو منها على مبعدة فلا يراها إلا مرقومة على ورق، وانظر إلى البلاغة القرآنية المعجزة حين فرقت بين حالتين في معرفة الإنسان لحقيقة «الجحيم»، الأولى هي أن يعلمها «علم اليقين»، والثانية هي أن يقذف به في سعيرها فيرى من عذابها ما هو «عين اليقين»، نعم، فالفرق بعيد بعيد، بين من عرف الألم وهو منه بمنجاة، وإنما قرأ عنه ما كتبه الكاتبون، وبين من عرف الألم لأنه في كبده أو في عظمه أو عصبه، وكيف أنسى لحظة الحوار القصير الذي دار بيني وبين رجل يحمل قمامة العمارة التي أسكن فيها، فقد صادفني بلمحة منه خلال زجاج النافذة المطلة على السلم الخلفي، حيث تكون أوعية القمامة، فنقر الزجاج بأصبعه وفتحت النافذة الصغيرة لأسأله: ماذا يريد؟ فسألني إن كنت أستطيع الأخذ بيده في مرضه ظانا أنني طبيب، فقلت له إنني «دكتور جامعة» ولست طبيبا، ولكن ما علتك؟ فذكر لي جانبا من مرضه، فأخذني فزع أن تكون تلك هي حالته، ومع ذلك فهو يحمل ذلك المقطف الكبير المليء بما هو مليء به، لينزل به تلك الطوابق كلها على سلم حلزوني ضيق، فقلت له: اذهب يا رجل إلى قصر العيني اليوم قبل الغد، فأجابني بأنه قد فعل، لكن المرض عاوده وليس في وسعه أن يضيع أياما بلا عمل، فأعدت له القول في انفعال من يعلم عن النار شكلها ولكنه لم يحترق بلهيبها: عد إلى المستشفى لأن حالتك قد تسوء فلا يصلح لها علاج، فنظر إلي نظرة معبرة، وتمتم وهو يستدير بالمقطف الكبير على ظهره قائلا: ومن أين يأكل العيال؟
فمعرفة المشكلات من صنفين: معرفة لا تتضمن معاناتها، ومعرفة أخرى هي «عين اليقين» لأنها معرفة من يعاني، وإذا قلت عن مشكلات حياتنا إنها كثيرة، وكلنا يعرفها أو يعرف شيئا منها دون شيء، فقد أردت كذلك أن أبين الفرق بين عارف وعارف، ومن ذا لا يعلم أن في حياتنا مشكلات في الاقتصاد، ومشكلات في زيادة السكان زيادة كالانفجار ومشكلات في الإسكان، وأخرى في مساحة الأرض الصالحة للزراعة، ومشكلات في التعليم، ومشكلات ومشكلات؟ كلنا يعلم، وبعضنا يعاني ما يعلمه، ولكننا جميعا، إذ نبحث عن حلول تلك المشكلات مخلصين، كثيرا ما ننوء تحت العبء الثقيل، فنعجز آسفين، وما أكثر ما وجد كاتب هذه السطور نفسه عاجزا آسفا بين هؤلاء العاجزين الآسفين كلما هم بالنظر في مشكلة التعليم.
إنهم قليلون جدا، ربما لا يزيدون عن أصابع اليدين، أولئك الذين قضوا في التعليم ما قضى هذا الكاتب من سنين، أوشكت في عددها على الستين، فلا غرابة في أن يعلم من أسرارها أكثر مما يعلم آخرون، وفي أن تشتد به الرغبة آنا بعد آن في أن يتناول مشكلة التعليم بالنظر الفاحص: أين مواضع العلة؟ وماذا يكون العلاج؟ وها هو ذا يشرك القراء معه في خواطره، فالمشكلة هي - حقا - مشكلة الجميع، وأول خاطر في هذا السبيل هو أن «التعليم» ليس - فقط - مشكلة من المشكلات كما قد نظن عند الوهلة الأولى، بل هو أم تلك المشكلات الأخرى جميعا؛ لأنه في تخليص التعليم من أوجه نقصه، يكون علاج سائر المشكلات، ومن إصابة التعليم بما أصيب به من نقص، ولدت المشكلات الأخرى: إن لم يكن كلها، فأكثرها بكل اليقين، وكيف؟
فلنتصور معا أننا أمام طريق ذي طرفين، في طرف منهما أقيم الجهاز التعليمي التربوي، بجميع أجزائه وطوابقه من الطفل في دار الحضانة، فصاعدا إلى طالب الدراسة العليا، الذي يعد نفسه لإجازة الدكتوراه في فرع من فروع العلم، وأما الطرف الثاني فقد امتدت فيه ميادين الحياة العملية بشتى صنوفها وأشكالها: فهنالك أرض تزرع وأرض تستزرع، ومصانع تدور آلاتها وتنتج ما تنتجه ومصانع أريد لها أن تعمل لكن أصابها شلل، وهناك سياسة تتقسمها أحزاب من الداخل، ويشد لها حبل في الهواء لتمشي عليه متوازنة الخطى، في تعاملها مع الخارج، وهناك مواصلات وبترول وكهرباء، واقتصاد يواجه شئون المال صادرا وواردا، وهناك تعليم، وإعلام، إلى آخر منوعات النشاط البشري إذا كان لها آخر، لكننا إذ ننظر إلى هذا الطرف من طرفي الطريق نرى أمرين: أولهما أن تلك الميادين المدوية بهدير نشاطها تئن وتشكو من علل أصابتها، فأخذت تنذر بالخطر، وأما الأمر الثاني فهو أن «التعليم» الذي يزاحم غيره في الأنين والشكوى كان هو نفسه الذي رأيناه قائما وحده هناك عند الطرف الأول من طرفي الطريق، الذي افترضنا أننا قد وقفنا أمامه ننظر ونرى، وفي هذه الازدواجية في موقع «التعليم » يكون مربط الفرس ، كما يقولون؛ وذلك أن الجهاز التعليمي وإن يكن أحد الجوانب التي فيها تتألف حياتنا العملية، بحسناتها وسيئاتها فهو أيضا وفي الوقت نفسه هو الجهاز الذي نعلق عليه رجاءنا في أن يكون وسيلة الإصلاح فهو مريض بين المرضى، ولكنه دون سائر المرضى هو الطبيب المرتجى.
فمعظم مشكلات الحياة العملية إن لم يكن جميعها، إذا أصابها قصور، لم يكن أمامنا إلا الجهاز التعليمي، نلجأ إليه ونعيد فيه النظر، نلتمس المواضع التي يجب أن تتغير، راجين أن يكون في هذا التغيير ما يسد أوجه القصور التي أصابت جسم الحياة العملية؛ فجهاز التعليم (ومعه جهاز الإعلام) هو مشكلة مع سائر المشكلات، ولكنه كذلك هو المشكلة الأم، التي تلد سائر المشكلات كما تلد الهرة هريراتها، فتعالوا - إذن - نتعقب معا ذلك الطريق الواصل بين مشكلاتنا في الحياة الواقعية كما نعيشها ونكابدها، وبين جهاز «التعليم» لنرى ما الذي ينبغي له أن يتغير وبأسرع الخطى من جهازنا التعليمي مما عساه أن ينعكس على جسم الحياة العملية، بما أصابه من علل فتسد الثقوب ويعتدل المعوج ويقوى الضعيف، ويبرأ العليل من أسباب علته.
ومشكلات حياتنا العملية - كما أسلفناه - معروفة لكل ذي بصر يرى وأذن تسمع، فاقتصادنا وإن يكن شهد له بسلامة هيكله، إلا أنه بغير شك يصارع موجا من فوقه موج من فوقه سحاب، ويكفينا دليلا على خلل البناء الاقتصادي أن أصبح أصحاب الملايين يعدون بعشرات الألوف (كما أقرأ وأسمع)، وإلى جانبهم مكافحون يأخذهم القلق كلما وضعوا مع قدوم الليل رءوسهم على الوسائد خشية أن يجيء صباح ليس فيه إفطار، واختل الميزان حتى أصبحت الشغالة تتقاضى أجرها الشهري مساويا لرواتب ثلاثة أطباء تخرجوا، وكان رجاؤهم هو أن يجدوا طريق الحياة ممدودا أمامهم، وأصبحنا لا نقرأ صحيفة الصباح إلا وعلى صفحاتها شيء من جرائم المخدرات وشيء من طغيان الإرهاب، وهنالك مشكلة التفجر السكاني الرهيب، وهجرة الأيدي العاملة وارتحال العقول القادرة إلخ إلخ، وإذا أمعنت النظر في كل هذه المشكلات، وجدتها منطوية على عاملين ضفر أحدهما في الآخر: أحدهما هو الجانب المهني أو الحرفي، والثاني هو «الإنسان» نفسه من حيث هو إنسان، وفي كل عامل من هذين العاملين أوجه قصوره؛ فقد يكون الطبيب - مثلا - قليل الخبرة أو منقوص الأجهزة الحديثة، لكنه كذلك قد يكون في جانبه الإنساني البحت على غير ما يرجوه منه مواطنوه.
وأمام هذا التركيب الثنائي لكل مشكلة على حدة، وأعني الجانب العملي منها والجانب الإنساني المتمثل في شخص القائم بالعمل، أقول إننا إذا قفلنا معا راجعين من مشكلات حياتنا إلى جهاز التعليم لنصلحه، رجاء أن ينصلح بإصلاحه ما قد فسد من جوانب حياتنا، وجدنا أكثرنا يتجه مباشرة إلى «مقررات» التعليم، ظانا أنها هي موطن الداء، وأما «الإنسان» من حيث هو إنسان، فقلما نلتفت إليه ونحن في سبيلنا إلى إصلاح التعليم, وربما كان ذلك لأن معالجة القصور في تكوين الإنسان أصعب جدا على المصلح، من أن يغير جزءا من مقرر التاريخ، ويحذف جزءا من مقرر الكيمياء، وهو كذلك أصعب جدا من إعادة توزيع السنوات الدراسية، فنجعل هذه المرحلة المعينة سنة واحدة بدل سنتين، وندمج تلك المرحلة في سابقتها، ليكون هناك مرحلة واحدة بعد مرحلتين وهكذا.
وأود أن أؤكد أمرا خاصا بالجانب المهني والحرفي في القائمين على شئون حياتنا العملية، قبل أن تطغى سيئاتنا على حسناتنا فتمحوها، فأقول: إنه برغم ما قد يكون في قدرات العاملين من قصور، فهؤلاء العاملون هم هم أولئك الذين أقاموا لنا كل هذا العمران الذي ننعم به، وينعم به معنا كل ركن من أركان الوطن العربي، فحيثما وجهت النظر وجدت أطباءنا ومهندسينا ورجال القانون، والمدرسين، وحينما وجهت النظر وجدت على أيدي هؤلاء الذين أخرجتهم جامعاتنا ومعاهدنا تنشأ صناعة وتزدهر زراعة، ويبرع فكر وفن وأدب، وإنك لتستطيع القول بأن من يشكو هذا النقص أو ذاك في حياتنا العملية، فلقد تعلم كيف يحس النقص فيشكو، وهي مرحلة يرتقي بها الإنسان بعد مرحلة تسبقها، تنعدم في المواطن العادي خلالها القدرة على الشعور بأن شيئا ما ينقصه، ويستحق أن يكون موضعا للشكوى، بل للثورة عليه إذا لم تفلح الشكوى.
وبعد هذا التأكيد على قدرات من أخرجهم الجهاز التعليمي خلال قرن كامل أو ما يزيد، نعود لنسير معا من مشكلاتنا الحية، متجهين إلى أجهزة التعليم لنرى أين يجب فيها الإصلاح وكيف؟ وهنا أقول: إذا أرجأنا الحديث مؤقتا عن الجانب «الإنساني» وتقويمه، وهو الجانب الذي أزعم أنه المسئول الأول عما نحن فيه، على نحو ما سأبين بعد حين أقول: إذا أرجأنا هذا الجانب الإنساني مؤقتا لنحصر انتباهنا في الجوانب «العملية» - مهنية، وحرفية، وإبداعية - وجدنا أن علة العلل ليس مكمنها أن تضاف مادة دراسية معينة أو تحذف، وإنما مكمنها الذي يتستر في خفاء حتى لا تراه أعين المصلحين، هو أننا منذ نهضنا بالتعليم في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، قد عمدنا إلى سلخ المادة العلمية من منهاجها العقلي، فيتخرج المتخرج من جامعته أو من معهده، وهو على دراية لا بأس فيها بمادته العلمية التي ستكون مجالا لعمله، ولكنه يكون على قليل جدا من «النظرة العلمية»، إذا هو فارق مجال عمله الذي تخصص فيه: ومن هنا جاز أن نجد ألوفا وعشرات الألوف ومئاتها من المتعلمين، مهروا في ميادين تخصصاتهم، حتى إذا ما خرجوا عن حدود تلك الميادين ليعيشوا مواطنين كسائر المواطنين، لم تجد فيهم من منهج الرؤية العقلية، ما يحميه من قول «الخرافة» في شتى صورها؛ فليس في تكوينهم العقلي ما يمنعهم من رد الظواهر إلى غير أسبابها، كما هي الحال مع أي مواطن آخر، لم يكن له حظ التعليم بأية درجة من درجاته، ولقد كانت هذه الكارثة لتهون، لو أنها اقتصرت على تفكير «خرافي» في حياة الإنسان الخاصة، لكن الكارثة تمتد لتشمل ميادين التخصص العلمي والمهني ذاتها؛ وذلك بأن يقف المتعلم في حدود المادة العلمية التي «حفظها» أيام الدراسة (وأشدد على كلمة «حفظها»)، حتى لو فتح الله على أحد منهم فتابع الدرس، وتابع القراءة والتحصيل، فيما يستحدث من علوم وتقنيات خاصة بميدان تخصصه، فهو ما يزال «يحفظ» ما كتبه سواه على إثر كشف علمي جديد تحقق على يديه، فموضع الداء في جهازنا التعليمي، الذي يترتب عليه كثير جدا مما نعانيه من قصور وعجز وضعف، هو انعدام القدرة الابتكارية، أو ما يقرب من الانعدام، كل فيما هو مختص فيه.
ولست أشك لحظة واحدة في أن أقوى العوامل التي انتهت بنا إلى هذا الموقف «العلمي
Shafi da ba'a sani ba
ومناهجها المتجسد فيها، وهي حقيقة لم أمل من ذكرها مرة بعد مرة؛ لأنني أجد فيها أس البلاء، ولشرح ذلك أقول: إنه ما من كتاب علمي، أو بحث علمي، يعرض حقائق علمية معينة، في مجال من مجالات العلوم - إلا وهو يسير في انتقاله من خطوة إلى الخطوة التي تليها، على منطق استدلالي محكم، هو الذي يجعل المادة المعروضة «علما»، ولو غابت تلك الروابط الاستدلالية من المادة المعروضة، لأصبحت «دردشة» حتى ولو دارت تلك الدردشة حول حقائق علمية، فيخرج منها الدارس بنقاط الموضوع الذي يدرسه، لكنه يفقد «المنهج» الاستدلالي، الذي هو قلب التفكير العلمي وصميمه، والذي يحدث في جهازنا التعليمي من أدناه إلى أعلاه، من تلميذ المدرسة الابتدائية إلى طالب الجامعة، هو التحول في عملية التحصيل الدراسي من الكتاب المرتب ترتيبا علميا إلى كتب أو مذكرات أو ملخصات، يكون التركيز فيها على «نقط» الموضوع المدروس، فيحفظها الدارس، ويسهل عليه بعد ذلك تذكرها ليضعها على ورقة الامتحان، وتجيء عملية «التصحيح» فلا تبالي أن يكون المعروض بين يديها مادة مفككة الأجزاء مسلوبة المنهج، فيتخرج المتخرج مع مراتب الامتياز والشرف، وليس في حقيبته إلا «كومة» من «نقط» يمكن الاستعانة بها في مجالات التطبيق مع بقاء «العقل» كما كان قبل الدراسة، مفقود المنهج، فلا يكون فرق - خارج مجال التخصص التطبيقي - بين حامل الدكتوراه والأمي في براءته، فكلاهما عجينة سهلة التشكيل في أي يد قوية، قادرة على تشكيل الأنظار والرؤى وطرائق السلوك.
والوسائل المؤدية بنا إلى تغيير هذا الموقف التعليمي الأعرج في متناول أيدينا، إذا حسنت النوايا وقويت إرادة الإصلاح ، وأولها وأهونها وأعمقها أثرا، هو أن يشترط على الدارس، أيا ما كانت درجة التعليم التي يدرس فيها، من المدرسة الابتدائية وصعودا إلى الجامعة، أن يكون الكتاب العلمي في المادة المعينة هو أداة الدراسة، وأن يمنع منعا باتا لجوء الدراسة إلى الصور الأخرى الشائهة من كتب تعرض «النقط» الأساسية، إلى مذكرات وملخصات يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم وطلابهم، وكل ذلك يتحقق لنا إذا نحن تدبرنا طرقا للامتحانات، تضطر الدارس اضطرارا إلى مواجهة المادة العلمية في كتابها العلمي.
وفوق هذا الأساس الأولي المبدئي، تقام دعامتان، ليس لنا عنهما غنى، إذا أردنا أمة قوية الأصلاب متحدة الأهداف، بحيث إذا اختلفت تيارات الفكر فيها، كان الاختلاف مقصورا على «الوسائل» التي تؤدي إلى بلوغ تلك الأهداف، وأولى الدعامتين هي أن يشترك أبناء الشعب وبناته جميعا في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، ولنقل - مثلا - إنها الستة الأعوام الأولى، لا يتشعب فيها التعليم إلى معاهد دينية من جهة ومدارس عامة من جهة أخرى ومدارس أجنبية من جهة ثالثة؛ لأن مثل هذا الانقسام - وهو أمر قائم في التعليم الآن - يستحيل ألا ينتج لنا عدة وجهات للنظر وهي نتيجة نحسها في حياتنا الراهنة بقوة، ونحس آثارها في تفتيت وجهة النظر القومية إلى حد خطير، ولست بهذا القول أريد أن أقرر كيف يكون طريقنا إلى دمج الفرعين في تيار واحد، فتلك مسألة تقع على عاتق علماء التربية، والمهم هو أن يسير النشء جميعا في مرحلة موحدة أول الأمر، لتكون هي بمثابة الجذور المشتركة بين أبناء الأمة جميعا، حتى إذا ما جاء أوان التفريع، عند المرحلة الثانوية - مثلا - انقسمت الفروع بحسب المستقبل المنظور، فللدراسة الدينية فرع يصب في الأزهر، وللزراعة، والصناعة، والمحاسبة، فروع، وللدراسة النظرية، بجانبيها - العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضية - فروع.
وأما الدعامة الثانية فهي استخراج أصحاب «المواهب» بشتى اتجاهاتها، لتجعل منهم الأساس القوي المكين الذي تبنى عليه الآمال في مستقبل حياتنا، ويتم فرز «المواهب» في كل مرحلة من مراحل التعليم، عند الانتقال من المرحلة الدراسية المشتركة إلى مرحلة التفريع ثم عند الانتقال من الفروع في مدارسها الثانوية إلى مرحلة الجامعات أو المعاهد العليا، ثم أخيرا عند الانتقال من الدراسة الجامعية الأولى إلى مرحلة الدراسات العليا، نعم إن التعليم حق للجميع، كل بحسب قدراته وميوله، ولن يحرم مواطن واحد من هذا الحق، إلا أن أصحاب المواهب هم في البناء القومي رواده، وعليهم أكثر من سواهم، ينعقد الرجاء في مستقبل أفضل.
ويلحق بهذه النقطة الأخيرة أن يتوافر في جهازنا التعليمي، متخصصون في علم النفس من ناحية «الإرشاد»، المبني على دراسة الأفراد لاستخراج ما قد كمن فيه من قدرات وميول، لكي يتجه كل ذي موهبة في الاتجاه الذي تنمو فيه تلك الموهبة، فأبناء الأمة وبناتها هم أغلى ما فيها، هم أمل المستقبل كله، وأصحاب المواهب الخاصة منهم، هم بمثابة الدر في أصدافه.
إلى هنا وقد قصرنا الحديث على الجوانب «العملية» من حياتنا كما تجري بها الأيام، ورأينا كيف يمكن للجهاز التعليمي أن يخرج لتلك الحياة اليومية الجارية، مواطنين يحملون عبأها، على أحسن صورة ممكنة، فوجهة النظر موحدة في أبناء الأمة جميعا، بفضل الفترة الأولى المشتركة بين الجميع، وأصحاب المواهب هم - في آخر المطاف - حملة المشاعل الذين يشقون الطريق بمواهبهم، وبين هؤلاء وأولئك متخرجون تعلموا ما يمكنهم من أداء الأعمال المختلفة، مع الحرص على أن ترهف فيهم النظرة العلمية العامة، كلما كان الموقف بحاجة إلى فهم صحيح لعناصر الواقع، وإلى سلوك يقام على ذلك الفهم، وفي هذا الجانب من موضوعنا، ينصب الإصلاح على «المقررات» وطريقة تدريسها، والمراحل التي يجتازها الدارس.
وبقي أمامنا ما هو أشد عسرا، فأكثر مشكلاتنا استشكالا، ليست هي العمل المعين ومن يؤديه وكيف يؤديه، فذلك كله - كما أسلفنا - توافر في حياتنا بدرجات يغبطنا عليها من هم في مثل موقفنا، ويكفينا أن نعلم عن حق، بأننا نعير لسوانا أصحاب المهن والحرف من أبنائنا، ولا نكاد نستعير من سوانا أحدا ليؤدي لنا عملا عجزنا عن أدائه، إلا في الحالات النادرة.
وأما علة العلل في حياتنا، فهي «الإنسان» الذي يضطلع بما يضطلع به من مهنة أو حرفة ، فلقد طرأت على «الإنسان» المصري - والعربي بصفة عامة - صفة لم تكن قط من صفاته البارزة في أي عصر من عصور تاريخه، وألخصها بقولي إن الفرد منا قد فقد إحساسه بوجود «الآخرين»، وكأنه خلق وحده على هذا الكوكب الأرضي، وأما كل من عداه وما عداه، فأدوات مسخرة لخدمته، ثم يتفاوت الأفراد في إطار هذه النزعة نحو تجاهل «الآخرين»، بتفاوت قدراتهم على التسلط، إنه إذا كان «المصري» هو ما نتحدث عنه، فالمصري قد رسخت فيه روح «الأسرة» منذ فجر التاريخ، وإذا كان «العربي» بصفة عامة هو موضوع حديثنا، فلقد رسخت روح «القبيلة» فيه «بحكم البيئة الطبيعية ذاتها التي يسكنها»، والتي تحتم على أفراد القبيلة أن يتجمعوا في حلهم وفي ترحالهم، فكيف - إذن - هبطت على المصري أو العربي في عصرنا هذا صفة التشرنق في قوقعته، ألا يشاركه فيها إلا أقرب الأقربين، فتغمض الأعين وتصم الآذان داخل القوقعة، حتى كان حدودها هي حدود العالم؟ ومن هذه الصفة المحورية الطارئة علينا، انبثقت صفات لم يعد بيننا واحد ينكر قيامه أو يشك في وجودها، فما أوسع ما شاع بيننا أن آفتنا الراهنة هي «التسيب»، بمعنى انعدام الضوابط التي توقف حريات الأفراد عند الحدود التي تبدأ منها حريات الآخرين، فالتسبب جعل كل فرد منا وكأنه النهر في سطوة الفيضان، بغير جسور تحد من طوفانه، وكذلك ما أوسع ما شاع فينا أن أميز ما يميز هذا الجيل عن الأجيال التي سبقته «اللامبالاة»، وهي مصطلح يعني ما أسلفنا ذكره حين قلنا إن الفرد لم يعد يحس وجود الآخر أو الآخرين، إنه لا يبالي ماذا عسى أن يصيب الآخرين من أذى، ما دام هو قد ظفر بما أراد، وللامبالاة ظل آخر من ظلال المعنى، وهو أنه لم يعد فرق بين حق وباطل؛ فالفرد حين يختار ما يختاره، يكاد يوقف نفسه في نقطة وسطى متساوية البعد عن طرفي الفضيلة والرذيلة، بمعنى أنه لا يعنيه أن يتجه بسلوكه نحو هذه أو تلك، فلا غبار على الطبيب - مثلا - من حيث هو طبيب، ومن قد سافر منا ليعالج على أيدي أطباء في الخارج، كثيرا ما سأل نفسه: فيم الاغتراب وطبيبنا إن لم يكن أفضل من طبيبهم فهو يساويه؟ لكن الفرق الكبير يكمن فيما يضمره الطبيب نحو مريضه؛ إذ هو يضمر في نفسه أشياء الله أعلم بها، تدور كلها حول البحث عما ينفعه هو قبل البحث عما ينفع مريضه، وأستغفر الله فما قصدت بهذا المثل أطباءنا على وجه التحديد، بل أردت أي مثل يوضح ما أزعم أنه الآن هو المسلك العام بين «الأنا» و«الآخر»، مما حطم فينا روح الجماعة، وهدم فينا روح الثقة في النفس والثقة في الآخرين، وهي كلها عوامل أكلت «الانتماء» أكلا، حتى جعلته كعصف مأكول.
تلك هي علة العلل، وإصلاحها في مستطاع الجهاز التعليمي، لا على صورته القائمة، التي هي في حد ذاتها مشكلة كسائر المشكلات أو أشد فسادا، بل الجهاز التعليمي كما ينبغي أن يكون، ووجه الإصلاح في هذه الحالة لا هو في «المقررات» والحذف منها أو الإضافة إليها، ولا هو في دمج المراحل التعليمية أو تفرقها، ولا هو في مجانية التعليم ولا في أن يكون التعليم حقا للجميع كالماء والهواء، إنما وجه الإصلاح مرهون بروح الانضباط الصارم في المدارس والجامعات، فيكون العمل الجاد عشرة أشهر في السنة، وليس أربعة كما هو الآن، وتكون الدراسة معظم ساعات النهار، ولا تكون في حالة من الفوضى التي تسمح لأي طالب أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، وما يصدق على الطالب يجب أن يصدق بصورة أقوى على الأستاذ أو المدرس، فأنا أعلم عن التحلل من جميع الضوابط بين هؤلاء، ما لو ذكرت بعضه لأثار الهلع عند من لا يعرفون، الانضباط الصارم كفيل وحده أن يخرج لنا شبابا قادرا على التفرقة في الحياة العملية، بين الجائز، والواجب، والممتنع، فيستقيم المعوج، ويصلح الفاسد بإذن الله.
حاطب الليل
Shafi da ba'a sani ba
سعيد هو ذلك الذي يجد في عتمة الليل سراجا يضيء له الطريق كالمنارة ترسل أضواءها، لتنفذ في سماء البحر والسماء كلاهما قد التف في سواد الليل والسحاب، فتقع السفينة في حيرة ربانها، حتى تتلقى من منارة الشاطئ أضواءها الهادية، فتهتدي إلى طريقها نحو المرفأ الآمن.
وما أكثر ما وقعت الأمم، عبر تاريخها، في حيرة شبيهة بحيرة تلك السفينة التائهة وربانها، قبل أن تهديها المنارة بأضوائها، وقد تختلف مواقع الحيرة في حياة الأمم، لكن أبرزها ظهورا، موقع تجد الأمة نفسها فيه، وقد تنازعتها أقسام الزمن الثلاثة: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، يريد كل قسم منها أن يحتكرها لنفسه، وكان الأصل في الحياة السليمة، أن تتناسق تلك الأقسام الثلاثة جميعا، بحيث يأخذ كل قسم منها موضعه الصحيح، كما تتناسق طفولة الإنسان القوي وشبابه، مع مرحلة الرجولة الناضجة، إن أحدا لا يطالب الرجل المعافى أن يظل على طفولته اللاهية، برغم ما يكون في لهو الطفولة من نعمة وبراءة، ولا أن يطالبه بأن يقف عند شبابه الحالم، برغم ما تحمله أحلام الشباب من لذة الأمل، ومع ذلك، فالرجل الناضج القوي المعافى، لا بد له من لحظات يغفو فيها عن حاضره المليء بالنشاط والعمل، ليرتد بذاكرته إلى أيام طفولته، ليرى براءتها اللاهية فيبتسم، كما يحدث أن يعود كاتب بلغ ذروة الأدب، إلى كراسة الإنشاء عندما كان تلميذا صغيرا في أوائل مرحلته الأولى من مدراج التعليم، فيقرأ ليضحك ضحك المشفق العاطف على الطفل الذي كان، والذي خرجت من جلده عبقرية أدبية فيما بعد، ولقد صدق القول الذي يقول: «إن الطفل هو أبو الرجل» بمعنى أنه من البذور التي كانت في حياة الطفل، نشأت جذور، ومن هذه تكون الساق، فالفروع، فالأوراق، فالأزهار والثمار، وعند هذه المرحلة من اكتمال النماء والنضج، تتكون في حياة الإنسان مرحلة اكتماله ونضجه، ليتلوها انحدار إلى ذبول فموت.
وكما يرتد الإنسان من ذروة اكتماله ونضجه، آنا بعد آن، إلى طفولته وذكرياتها، يرجع إلى عهد شبابه، وهنا لن يجد شيئا كبراءة الطفولة ولهوها، بل يجد حيرة بين ممكنات عدة، لا يدري في أي منها يشق طريقه إلى مستقبله؟ وكلنا يعلم من تاريخ حياته كيف وجد نفسه، وهو في مطلع شبابه، أمام بدائل كثيرة، يظن أنه قادر عليها جميعا، ولا يبقى عليه سوى أن يختار منها أحدها، إنه أشبه بمن يجد نفسه في مفترق طرق كثيرة ومتفرعة، كل منها يؤدي - بالطبع - إلى نهاية غير التي تؤدي إليه البدائل الأخرى، وإنه لقادر على السير في هذا الطريق، قدرته على السير في ذاك، ولكن عليه أن يختار لنفسه طريقا؛ لأنه لا يستطيع السير فيها كلها معا في وقت واحد، نعم كلنا يذكر كيف خيل إليه في مطلع شبابه، أنه يستطيع أن يمشي في طريق الشعر ليكون واحدا من فحول الشعراء، أو أن يمشي في طريق العلم ليكون من كبار العلماء، أو أن يمشي في طريق المال، أو في طريق القوة العسكرية، أو في طريق السياسة، لكن الحيرة هي: أي الطرق يختار، وقلما تكون الحيرة منصبة على «القدرة»؛ لأن الشباب يفترض في نفسه القدرة، وكثيرا ما يسرف في افتراضه هذا، حتى ليتحول معه الموقف إلى شطحات الخيال الجامح، إلى أن يصدمه «الواقع» العنيد، فيرده إلى صوابه، وكل ذلك لا ينفي أن يكون شباب المرء بما فيه من ثراء الممكنات، هو الينبوع الذي انبثق منه نضج الرجولة، عندما تتبلور الممكنات الكثيرة في طريق «واقعي» واحد.
هكذا تختلف المراحل في حياة الفرد الواحد، اختلاف التناسق، وليس اختلاف تناقض هدام: طفولة تنبثق منها مراهقة وشباب، ومن الطفولة والشباب تنبثق مرحلة النضج، ثم يبدأ الذبول فالرحيل، لتتعاقب الأجيال، لكن هذا التناسق الحيوي البناء، لا يتحقق في صورته المقبولة إلا في حالة الصحة وسلامة التكوين، أما إذا اضطربت خطوات السير بالمرض أو ضعف النشأة وسوء التنمية البشرية، فهنا قد تجد طفولة تمتد مع صاحبها من مهده إلى لحده، أو تجد مراهقة قد حلت محل النضج، وبهذا الاضطراب تمر الأعوام على غير مألوفها، فكأنها لم تعد أعواما تمضي بصاحبها في مدارج الصعود نحو اكتمال النضج والإبداع، بل انقلبت مراحل الزمن لتصبح وكأنها يوم واحد مكرر، أو ليصبح الزمن وكأنه وعاء بلا قاع يمسك خيرات الحياة ليراكمها فتزداد قوة وهداية.
ومثل هذه الاستقامة أو العوج في تتابع المراحل من حياة الفرد الواحد، قد يتسع ليصيب أمة بأسرها؛ فالأمة السليمة المعافاة، تحيا حياتها كما يحيا الفرد السليم المعافى حياته، فتبدأ مرحلة البساطة، لتنتقل منها آخر الأمر إلى نضج حضاري يوازي نضج الرجولة في قوته، وفي مغامرته نحو أن يقهر الصعاب ليخضعها لسلطانه قبل أن تخضعه، فتتركه بين أيدي الأقوياء هزيلا ذليلا، وإذا شئت مقارنة بين الحالتين، فقارن أربعة قرون في حياة الأمة العربية امتدت بين القرن السابع الميلادي والقرن الحادي عشر، بأربعة قرون أخرى في حياة الأمة ذاتها، امتدت بين القرنين السادس عشر والعشرين، ولا أظنك إلا واجدا في الحالة الأولى إنسانا يصعد درجات أربعا في قوة تتزايد، وفي علم يتزايد، وفي إبداع حضاري يتزايد، كما أني لا أظنك إلا واجدا في الحالة الثانية إنسانا يهبط درجات أربعا، في قوة تتناقص، وفي إبداع علمي يتناقص، وفي قدرة على البناء الحضاري تتناقص، وإني - على قول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فالمعول في الصعود أو في الهبوط هو «الإبداع»؛ فالصاعد «يبدع» لنفسه ما يصعد به، وأما الهابط فتضيع منه القدرة على الإبداع فيهوي إلى الحضيض، على أن الحضيض هنا نوعان: فحضيض منهما يكون فيه الضعف والجهل والفقر، وما إليها من ظواهر الانحلال والتدهور، وحضيض آخر فيه العلم مأخوذا من الآخرين، وفيه الصحة مأخوذة من طب الآخرين، وفيه قوة القتال معتمدة على سلاح صنعه آخرون، وفيه - على الجملة - جوانب حضارية قائمة، لكنها جوانب مشتولة من بساتين الآخرين، وبهذا يكون هذا النوع الثاني من الحضيض، حضيضا ظاهره ثراء وعلم وسلطان، وباطنه عود من الحطب الجاف، علقت عليه الثياب الزاهية.
على هذا النحو كنت بالأمس أتأمل حالة «القلق» التي تجتازها الأمة العربية اليوم، بكل شعوبها ولا نستثني شعبا منها، حتى لقد بادرني زائر لسؤاله: فيم تفكر؟ فلما أجبته قائلا في صدق: كنت أفكر في حالة القلق التي تملأ صدورنا، أسرع من ناحيته إلى اعتراضي فقال: «القلق» يا أخي حالة «طبيعية» في فطرة الإنسان، وإذا سكن القلق في إنسان، كان معناه أن ذلك الإنسان قد مات، وحالة القلق عامة لا تقتصر على فرد دون فرد، ولا على أمة دون أمة أخرى، ففيم حملك للهموم في غير عائد ولا طائل؟ فقلت معلقا: أحسبك يا صديقي قد خلطت بين قلق وقلق؛ فالقلق الفطري الذي هو في صميم الحياة البشرية شيء، والقلق الذي تحدثه الأحداث الطارئة شيء آخر، وأشرح لك الفرق كما أراه، شرحا مختصرا فأقول: إن القلق الحيوي الذي لا يشكو منه أحد، ومصدره تداخل اللحظات الثلاث: الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، في كل نبضة من نبضات الوعي؛ وذلك أن الإنسان وهو في لحظته الحاضرة، يرى فيها ما يراه، ويسمع ما يسمعه، تكون اللحظة السابقة لا تزال تجرجر أذيالها لتمضي، أي أن لها بقية من حضور، وكذلك تكون اللحظة القادمة قد أخذت ترسل إلى بؤرة الوعي بشائرها ومقدماتها، فيكون الإنسان عندئذ مشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما مضى، ومشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما هو على وشك الظهور، وأما بقية الانتباه الواعي فتتركز فيما هو ماثل بين يديه، فينتج نوع من الشد والجذب، هو الذي يحدث الشعور الدائم بالقلق، بل إن الحياة العضوية نفسها ليعتريها قلق دائم من هذا القبيل، وهو سر قيام الحياة في الكائن الحي، وانظر إلى حركة التنفس شهيقا وزفيرا، وفي نبضات القلب إذ هي تنبض ثم تستريح لتعود فتنقبض، وفي حالتي الجوع والظمأ، يزولان بالطعام والشراب، ليعودا بعد حين بنداء جديد، ففي جميع هذه الحالات وأشباهها، تستبد بالكائن الحي حالة معينة فيأخذه قلق، فيشبع صاحب تلك الحالة ما قد اعتراه من نقص، فيزول القلق، ثم لا يلبث أن يعود، وهكذا دواليك وتلك هي «الحياة» في صميم صميمها.
لكن هذه الحالات القلقة، وإشباعها، ثم عودتها، وكذلك حالات الوعي المشدود بين «حاضر» مخلوط ببقايا لحظة فاتت - من جهة وبمقدمات لحظة آتية - من جهة أخرى، وما يتولد عن تلك الحالة الطبيعية من قلق، أمر يختلف عن القلق الطارئ علينا بفعل الحوادث والظروف، وهذا النوع الثاني هو ما نشكو منه، ونريد أن نتعقبه إلى بذوره وجذوره، لعلنا نزيل أسبابه فيزول وعندئذ نسترد أنفاسنا، ونسير مع السائرين في ركب الحضارة القائمة، ومشاركين في البناء فلا نكتفي بالأخذ عما ينتجه الآخرون، وإذا ما تحقق لنا ذلك، عدنا إلى سابق عهدنا من ريادة وإبداع.
Shafi da ba'a sani ba