فها أنت ذا ترى كل فرد من أفراد الناس، حتى حين يكون الموضوع المطروح شيئا واحدا يشتركون في تلقي معطياته الضوئية والصوتية، هو دنيا وحده، قائمة بذاتها، فما بالك والموضوعات والأشياء والمواقف التي تصادف واحدا في حياته، ليست هي ما يصادف الآخر، فالواقع هو - كما ترى - واقع متغير، في أشيائه، وفي أحداثه وفي الطرق التي يتلقى بها الأفراد ما يتلقونه منه، فانظر بعد هذا إلى الوهم الكبير الذي يعيش في سماديره وأشباحه متوهم يظن أنه سيحيا الحياة كما عاشها أبوه، وجده، ودع عنك أن يطير به ذلك الوهم إلى الجد العاشر ومن سبقه من أجداد! لا، يا صاحبي، لا، لقد خلقك الخالق - جلت قدرته - فردا لتكون فردا، ولفظة «الفرد» تتضمن بذاتها تفردا فريدا تختص به أنت، ولا يشاركك فيه - بكل تفصيلاته - أحد سواك، وإن هذا وحده ليكفيك برهانا على قيمتك ووزنك، فأنت نمط فعلا نسيج وحده بين سائر أنماط الحياة التي تمثلت في الآخرين، حتى لو بلغت عدتهم ملايين، وملايين الملايين! إن أحدا من هؤلاء الملايين لا تغني حياته عن حياتك، وبهذا التفرد العجيب المسئول، كنت «إنسانا» ويجب أن تظل إنسانا حاسا، مفكرا، مريدا، مؤمنا بما تؤمن به ما حييت.
وكأني أسمع منك صرخة تستنكر بها هذا القول العجيب، فإذا كنا - ونحن أفراد - على هذا الاختلاف كله فيما يدور في بواطن نفوسنا وعقولنا، فكيف يتم لنا موقف واحد نتفاهم حوله ونتفق؟ كيف تتكامل الأسرة أسرة، والأمة أمة؟ كيف يتحقق التواصل عبر الأجيال خلفا بعد سلف؟ والجواب يقدمه إليك علماء أتعبوا أنفسهم بالبحث حتى أوصلهم البحث إلى جواب، وهو ذو شقين، أولا، لطالما دق لك العلماء والأدباء أجراس التحذير، حتى لا تتوهم بأن التفاهم بين الناس هو كما يظنون ويزعمون، وثانيا وهو المهم، أننا إذا أحسنا عملية التحليل وجدنا أن بين الأنماط الفردية المختلفة في مجموعة من الناس، نقطة مشتركة، وإن لم تكن بالاتساع الذي نظنه ونزعمه، وخذ مثل المسرح واختلاف الزوايا بين رؤى المشاهدين، فليس هذا الاختلاف وهما، بدليل أن أجهزة التسجيل تؤيده، وهنا ينشأ السؤال: إذا كان مشاهدو المسرحية مائة، وكانت الصور التي تلقتها أبصارهم مائة كذلك، لانفراد كل متفرج بزاوية معينة للنظر، أفلا يكون للواقع الموضوعي الذي وقع بالفعل على المسرح حقيقة معينة محددة، بغض النظر عن تنوع الصورة عند المشاهدين؟ والجواب هو: نعم، للواقع الموضوعي صورة قائمة بذاتها، لا شأن لها بما اختلف عليه المشاهدون الأفراد، وذلك الواقع الموضوعي هو الجزء المشترك بين الصور الفردية المائة، وعلى أساس هذا الجزء المشترك يمكن أن تقام الحقيقة العلمية، وأما ما عداها فملك ذاتي لأصحابه الأفراد، وأود عند هذا المنحنى من حديثنا، أن أزودك بمعلومة، هي غاية في الأهمية، إذا أردت لنفسك تدريبا على النظرة العلمية في دقتها وضبطها، وتلك هي أن رجال الفكر في أوروبا عندما كانت أوروبا على عتبة نهضتها في القرن السادس عشر نبهوا ونبهوا، إلى فرق خطير بين نوعين من الصفات التي تتميز بها الأشياء، وأطلقوا على نوع منها اسم «الصفات الأولية» وعلى النوع الثاني اسم «الصفات الثانوية»، فأما هذه الثانية فهي تلك الصفات التي تخلقها العملية الإدراكية خلقا، عن الشيء المدرك «بفتح الراء» وليست هي في الشيء كما هو واقع، ولقد أسلفت لك في هذا الحديث أن «اللون» و«الصوت» مثلان مما يتكون داخل الكائن الحي، حين يرى الأشياء أو حين يسمع الأصوات، وأما النوع الأول من الصفات، فهو وحده الكائن في الأشياء المدركة «بفتح الراء» كالشكل الهندسي، والعدد، فإذا كان بين يديك أربع برتقالات - مثلا - فصفاتها «الأولية» هي أنها «أربعة» وأنها «كروية» الشكل تقريبا، وأما صفات لونها البرتقالي، وطعمها الذي تعهده في مذاقها، وبأي صوت تسمعه منها، إذا دحرجتها على الأرض، ونقرت عليها بأصابعك، فكل ذلك من أجهزتك الإدراكية.
ومعنى هذه التفرقة بين النوعين من الصفات، مهم وخطير، وهو أن الصفات الأولية وحدها، هي التي تصلح للعلم ودقته، وأما ما عداها من صفات ثانوية «تنشأ داخل الشخص» المتلقي، فهي أمور، إذا صلحت لأديب أو لفرد من عامة الناس، أن تكون مدار حديث، فليعلم هذا وذاك، أنهما إنما يجربان الحديث في دائرة غير دائرة العلم، ولقد كان الوعي بهذه التفرقة، عند مشارف النهضة الأوروبية مفتاحا من أهم المفاتيح لعصر الفكر العلمي بصورته الجديدة.
ولسنا نريد منك أن تضيق الخناق على نفسك، كلما أردت أن تتحدث إلى من تتحدث إليه، فتطرح من حسابك الجوانب الخاصة بك وحدك فيما قد أدركته من دنيا الأشياء، والأحداث؛ لأننا لا نريد، ولا نستطيع، أن نجعل من كل لحظة، في حياة كل فرد من أفراد الناس، لحظة علمية فيها دقة العلم، لكننا نلزم بهذه الدقة العلمية أولئك الذين يتصدون للشئون العامة في حياتنا المشتركة، فصورة الحياة لا تتغير - إذا شئنا لها أن تتغير - بالأمزجة الفردية الخاصة، بل هي تتغير بأداة واحدة وعن طريق واحد، وتلك الأداة هي «العلم»، وهذا الطريق هو منهج التفكير العلمي.
غمار الناس والصفوة
شيخنا قليل العمل كثير الفراغ، وهو معتصم بجدران داره، في عمله وفي فراغه معا، فكل ما يتحرك له بدنه، هو أن ينتقل من كرسي إلى أريكة، ومن أريكة إلى سرير، ثم يعود إلى كرسيه ليعيد الدورة كرة أخرى، وأينما كان مسقط البدن بين كرسي وأريكة وسرير، لم يعرف خياله إلا أن يجتر ماضيه، فللشيخوخة ماضيها الطويل، أما حاضرها فلحظة مخطوفة، وغدها معدوم أو في شحوبه كالمعدوم، ولقد كان له من الحظوظ في ماضيه ما حسن وما ساء، وأحسنها أن الله الحكيم العليم، قد شاء له أن يكون التعليم مهنته، ولا يعرف لذة الأستاذية العلمية إلا من خبرها، فذاق حلاوتها وطعم شذاها، فتلك الأستاذية وحدتها أستاذ وطالب، ينساب الفكر بينهما في تيار متصل، يروح ويغدو، حتى لتوشك الفواصل أن ترتفع، فلا تدري أيهما طالب وأيهما أستاذ؛ فالأستاذ يسأل حينا ليجيب الطالب، وحينا يجيء السؤال من الطالب ليجيب الأستاذ، فحقيقة الأستاذ هي أنه طالب علم، وحقيقة الطالب أنه مشروع أستاذ، أو قل إنه أستاذ في طريق التكوين.
ولقد أنعم الله الحكيم العليم على شيخنا فيما فيه بتلك النعمة الكبرى، التي هي أن يكون عمله الذي يأتيه منه الرزق، هو نفسه هوايته التي يمارسها، حتى ولو لم يكلف بأدائها لقاء رزقه، إن كثرة الناس الغالبة، تعمل ما ليس تهواه، وتهوى ما لا تعمله، وهو شقاء، لو قيل لي: ماذا تكون جحيم الدنيا التي تسبق جحيم الآخرة، لقلت إنه هو ذلك الشقاء الذي تشقى به كثرة الناس الغالبة، وربما كانت تلك القسمة الظالمة، أسوأ ما ينتجه نظام التعليم كما هو قائم، ولو صلح أمره، لأخرج كل متعلم إلى دنيا العمل، على نحو يجعل العمل والهواية شيئا واحدا، وكذلك قد يكون أنكد ما أتانا به هذا العصر بالنسبة إلى نظم التعليم، هو ما نسمعه اليوم وما نقرؤه في تقارير المسئولين، من أن التعليم إنما هو «للتنمية»! فكأنما الأناس قد انقلبوا على أيديهم قطع غيار تخرجها المصانع، تغني واحدتها عن الأخرى، ولو أنهم عكسوا الرؤية فقالوا سنعمل على تنمية المواهب الفردية ليخرج المتعلم مصحوبا بموهبة فطرية فيه، هذبها التعليم وصقلها وأثراها، لتصبح موهبته هي مجال عمله، لكانوا أقرب إلى الصواب.
وتطوف هذه الصورة البشعة بين خواطره التي تنساب بها ذاكرته؛ إذ هو في فراغه يستعيد ماضيه، فيزداد حمدا لله، أن قسم له ذلك النصيب المسعد المريح، وهو أن تلتقي في حياته هواية وعمل، فيكون هذا هو تلك، وتلك هي هذا! لكن شيخنا وهو يستعيد ذلك الماضي، لم يستطع قط أن يغمض عينيه عن مشهد رهيب، هو الانطباع العام الذي تركه في نفسه مجمل حياته، ولعله أن يكون هو الانطباع الذي ظل يدحرجه شيئا فشيئا نحو جدران بيته، يلتمس في حصنها الأمان، وها أنا ذا الآن أذكر ما كتبته - نيابة عن شيخنا - تصويرا لما شهدته بين غمار الناس من عراك مميت، كثيرا جدا ما انتثرت شظاياه حتى بلغت فردوس النعيم الهادئ، الذي قسمه لي ربي حظا سعيدا، وأستأذن القارئ في أن أعيد هنا جزءا من الصورة القلمية التي رسمتها لتلك المعارك، وكان ذلك على وجه الدقة سنة 1950م - أو قبلها بعام - أو بعدها بعام، كتبت فيما كتبت بعنوان «خيوط العنكبوت» (وهي في كتاب الكوميديا الأرضية) فقلت: (بعد أن وصفت كيف ضاقت نفسي ذات ليلة مقمرة، فذهبت لأقضي ساعة عند الهرم الأكبر، قلت): ... وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيال عجيب، حاولت عبثا أن أصرفه عني فلم ينصرف - وظل ماثلا أمامي - يحجب الواقع عني، حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه، جلست على تلك الصخرة العاتية، في حضن الهرم، رأيت القمر عنكبا ضخما قد تدلت منه، وأحاطت به، شبكة من خيوط رفيعة دقيقة، اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أركان الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك، رأيت ذبابا يمسك بتلك الخيوط، صاعدا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد، متفاوت السرعة: فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس، وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينا وتتأخر حينا، وكثيرا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكفيهما الخيط الواحد أن تصعدا معا جنبا إلى جنب فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة، ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى، حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية، حتى تشهدها شدة عنيفة، توشك أن توقعها في الفضاء، لولا مهارة تسعفها، فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى، رافعة أرجلها الخلفية، حتى تمسك بالخيط من جديد، وتأخذ في الصعود مرة أخرى.
هكذا كان شيخنا ينظر إلى تفاهات الذباب، في معاركه أملا في الصعود، ولم يكن الشيخ عندما صورت بقلمي هذه الصورة نيابة عنه، قد بلغ من الشيخوخة ما بلغه اليوم، لكنه إذا كان اليوم يصور صغار الصغار، لما حذف من الصورة شيئا، وقد يضيف إليها أن يلفت الأنظار إلى حقيقتين تفزعانه، أما أولاهما فهو أن المعركة كلها بين الذبان (الجاحظ يجمع الذبابة فيقول «ذبانا» كما ننطقها نحن في حديثنا الدارج) أقول إن المعركة بين الذبان - غالبا ومغلوبا - إنما تقع في حبائل عنكبوت. وإذن فكل ذبابة منها مأكولة أول الأمر أو آخر الأمر، وأما الحقيقة الثانية فهي أكثر بشاعة وفظاعة، وهي أن الذبابة الصاعدة إذا ما بلغت شأوها، فهي عندئذ تصب إمارتها وإدارتها على حشد بين العلماء والخبراء؛ إذ تصبح هي الآمرة، وعلى هؤلاء العالمين والعاملين أن يطيعوا، وهكذا يقع الخلل وتنقلب الموازين.
وكثيرا ما سمع شيخنا من يعلقون على هذا الوضع المقلوب، بقولهم «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي قولة حق في ظاهرها، إلا أنها في جوفها تحمل باطلا؛ لأن الموقف المراد وصفه بها، هو من صنف أشد سوءا، من الموقف الذي قيلت فيه هذه العبارة أول ما قيلت، حتى ليصبح الاستشهاد بها غير مؤد للشهادة المطلوبة فقائل هذه العبارة هو «آدم سميث» وكان من أوائل - إن لم يكن أول - من كتبوا في علم الاقتصاد في العصر الحديث، وكان هذا الفرع من فروع العلم عندما أصدر «آدم سميث» كتابه «ثروات الأمم»، في القرن الثامن عشر، بل وفيما كتبه آخرون بعد ذلك بزمن طويل، يسمى «الاقتصاد السياسي»، على أن المقصود بكلمة «سياسي» هنا، هو - فيما أظن - الإشارة إلى الجانب الاجتماعي في تعامل الناس بعضهم مع بعض عندما يتبادلون السلع والأموال في سوق التجارة. وفي ذلك المناخ قال «آدم سميث» عبارته سالفة الذكر: «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي حقيقة تصف ما يقع بالفعل، لا في زمانه فحسب، بل في كل زمان؛ لأنها حقيقة مستندة إلى الطبيعة البشرية، فإذا كان عندك ورقتان من ذوات الجنيه - مثلا - إحداهما قد ساء شكلها مع الاستعمال، والأخرى جديدة، أسرعت في عملياتك الشرائية، بتقديم الورقة السيئة، لتحتفظ لنفسك بالورقة الجديدة، ومعنى ذلك هو أن ما يدور به التعامل في السوق هو العملة السيئة، وأما ما يحفظ ويصان ، فهو العملة الجيدة، فتصبح العملة السيئة وكأنها تطرد العملة الجيدة من السوق.
Shafi da ba'a sani ba