1 ... ... ... ... - نعم، وقد تناقلها الناس يومئذ وقالوا: ما أنصف عبد الملك مسلمة! - كأنما كان عبد الملك يرى بظهر الغيب ما نحن فيه اليوم! - وقد أخذه سعار الغيظ مما ناله، فلم يأذن بالرحيل وتسريح الجند، كأنما خيل إليه - بعد ما كان - أنه مستطيع في هذه الغزاة أن يفتحها! - بجند قد هزلوا من الجوع، وارتجفوا من البرد، وأثخنوا من الرمي! - قد أبرد بريدا إلى سليمان بمرج دابق يطلب مددا من زاد وعتاد. - وحتى يبلغ البريد ويجيء المدد يصبر العرب على الجوع والبرد تحت هذه الأسوار التي لم تزل تساقط عليهم النيران وتريش إليهم السهام؟ - أظننت أن نفتح القسطنطينية بلا جهد؟ - فقد بذلنا من الجهد ما لا قدرة عليه لبشر حتى دانت الثمرة، ثم أفلتها مسلمة بحمقه!
وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك ما يزال منذ عام وعام قبله مرابطا بمرج دابق على الطريق إلى بلاد الروم، قد أقسم لا يبرحها إلى حاضرته حتى يأتيه بشير الفتح، أو يدركه الأجل ...
وكان البريد يتوالى عليه يوما بعد يوم بما بلغ العرب من أسباب النصر، وما نال الروم من الجهد والإعياء، حتى خيل إليه أن ليس بينه وبين ما أراد إلا غلوة سهم، وأنه لولا حرص مسلمة على دماء المسلمين أن تراق لاقتحمها بخيله ورجله، ووطئ بساط قيصر منذ بعيد ...
ثم جاء إليه النبأ بما آل إليه الأمر، وما بلغ الروم من العرب بالمكر والخديعة، فحوقل واسترجع وامتلأت نفسه هما، ولكنه لم ينكص على عقبيه، وأصر على أن يبر قسمه ذاك، فحشد الحشود، وكتب الكتائب، وجمع الأزواد، وأعد العتاد، وسير ذلك كله إلى مسلمة ...
وكان الجوع والبرد قد أضرا بالعرب ضررا بليغا ، حتى التمسوا أقواتهم من ورق الشجر وعشب البرية ودواب البحر، ولولا أن تراب الأرض لا يستساغ لسفوه سفا؛ ليردوا الجوع عن أنفسهم ويحفظوا أرماقهم!
وكأنما شحذت هذه الخيبة عزيمة مسلمة، فصابر ورابط مقاوما كل ما يكتنفه ويكتنف أصحابه من الشدة، فلم يفك الحصار عن المدينة.
وكان أصحابه يموتون كل يوم مئات، صرعى الجوع والبرد منهم أكثر من صرعى السيوف والسهام والنار الرومية،
2
ولكن مسلمة لم ينكل ... وما يزال أصحابه يطيعونه، والموت يتخطف إخوانهم من حولهم جماعات جماعات يبلغون الآلاف، والمدد الذي أرسله سليمان ما يزال في الطريق. •••
وكان سليمان - مما نال مسلمة - في هم دائم بالليل والنهار، وزاده هما أن ولده أيوب الذي كان يرجيه لولاية عهده قد احتضره الموت شابا في ريعانه، فبكى سليمان وقال: الآن لا يدعون أيوب ولا أبا أيوب!
Shafi da ba'a sani ba