قال العبسي: فذلك ما أردت يا ابن هبيرة! - اسكت! فوالله ما تعلم ولا يعلم مسلمة ما يخبئه - له ولكم - الغد! - وتعلم أنت علم الغد يا ابن هبيرة، ولا يعلمه مسلمة؟ - قد كان له ذلك لو كان ابن حرة.
هب عتيبة بن النعمان واقفا قد اخترط سيفه وهو يصيح: أمسك عليك يا ابن هبيرة، فإنه لأعرق نسبا، وأعلى أرومة من كل بني مروان، فإلا تكن أمه من عبس ومخزوم وأمية فإنها إلى الذروة من بني الأصفر!
قال ابن هبيرة ولم يتحلحل عن موضعه: هون عليك يا ابن أخي؛ فإنك لتقف مني موقفا يستحي منه أبوك - غفر الله له - وما أردت أن أتنقص مسلمة، ولكني أعيب عليه أن يركن إلى رجل من أهل الغدر والنفاق قد باع أمته للعدو، فما أجدره أن يغدر بنا كما غدر بقومه! - وترى ذلك يغيب عن فطنة مسلمة؟ - إن لكل فطن غفلة تأتيه من قبل أبيه، أو من قبل أمه، قد تدسست في العرق، وخالطت الدم، وقد كان عبد الملك حازما أريبا ... فذلك ما عنيت يا ابن النعمان. - ومن أين لك أن مسلمة قد غفل عما فطنت له؟ - لقد أتيته أحدثه عن ذاك، فإذا هو قد تغدى وملأ بطنه ونام ... وجلست إليه أحدثه، فما أراه قد سمع شيئا مما قلت أو درى بي! - أفلست تعيب عليه يا ابن هبيرة إلا أنه قد أكل ونام؟ - إن الأحمق يا ابن أخ من يملأ بطنه من كل شيء يجده، وأحمق منه من ينام والحوادث ترقبه بعيون يقظة! - غدا ترى عاقبة أمره وأمرك يا ابن هبيرة. - إن كان وعيدا يا ابن النعمان فقد والله جاوزت قدرك، وإن كان أملا تأمله فإني والله لأرجو مثل ما ترجوه على حذر وتخوف. - ومم تحذر؟ - تدبير ذلك الكلب إليون، فما أظنه الساعة إلا يؤامر الروم على الكيد لمسلمة وقد ملأ مسلمة بطنه ونام! •••
ورجع إليون إلى مسلمة يعرض عليه ما انتهت إليه محادثاته، قال: إن الروم أمة محاربة يا أمير منذ التاريخ البعيد، لم تضع سيفها قط منذ كانت، ولا رضيت الدنية، وقد أدال الله لكم منها فغلبتم خلفاء قسطنطين على أرضهم وديارهم ورعاياهم في سائر فجاج الأرض، ثم جئتم تطلبون هذه الحاضرة فكأن قد دانت لكم كما دانت الممالك وأسلمت مفاتيحها، فقد بلغ منهم الجهد ما رأيت بعيني - وما لا أظنه قد غاب عن فطنة الأمير - فلولا أنهم أهل مصابرة لأسلموا إليكم منذ بعيد، ولكن عيونهم ما تزال تطلع عليكم حينا بعد حين فيرون ضخامة ما اختزنتم من الزاد والعتاد وما لا يزال يرد إليكم من ذلك؛ فيقولون لولا أنكم ترون أجل الفتح بعيدا وأن دونه مصاعب وأهوالا لما أسرفتم فيما تجمعون من هذه الأقوات، وإنهم إلى ذلك ليخشون - لو أسلموا إليكم - أن يقع عليهم حيف في المعاملة، كما يصف لهم بعض رواة الأخبار من فلول المنهزمين أمام جحافل العرب في الأمصار المفتوحة. - وبم يرجف هؤلاء يا إليون؟ - يزعمون أن العرب لم يدخلوا بلدا - عنوة أو صلحا - إلا استرقوا الرجال، واستبوا النساء، وهتكوا الستور، واستولوا على النفائس، وأذلوا السادة، واحتملوا كل ما في البلد من قوت وزاد، فلا يجد أهله ما يحفظ عليهم أرماقهم. - وترانا كما يصفون يا إليون؟ - إن العرب ما علمت لأهل وفاء وذمة وشرف ودين. - فماذا يرون إذن؟ وماذا ترى أنت؟ - أرى الثمرة قد دانت وحان قطافها، ولكنكم إن تدخلوا القسطنطينية بالقهر والغلبة لا تجدوا فيها من السلام والطمأنينة ما يحبب إليكم الإقامة، فهلا دخلتم أصدقاء قد أمنوا وأمنتم وطابوا نفوسا وطبتم! - وأين لنا ذلك؟ - أن تحملوهم بديا على اليقين بأن المدينة طوع أيديكم، فتتخففوا من هذا الزاد الذي جمعتموه ركاما بعضه فوق بعض يوهم من يراه أنكم على نية إقامة طويلة عجزا عن اقتحام المدينة، فإنهم إن رأوا هذا الزاد قد أزيل عن موضعه أيقنوا أنكم قد أزمعتم الاقتحام، فتخور عزائمهم ويفتحون الأبواب.
وأخرى أيها الأمير: أن يكون تخففكم من هذا الزاد بابا إلى اكتساب مودتهم واطمئنانهم إليكم، فتهبوا لهم منه ما يدفع عنهم الجوع ويحفظ عليهم الرمق، فإنهم حقيقون بأن يحفظوا لكم هذه اليد فيشكروها لكم، فتدخلوا المدينة - حين تدخلونها - قد أمنوا وأمنتم، وطابت نفوسهم وطبتم! - وآمرتهم على كل ذلك يا إليون؟ - ووافقوني على كل ما عرضت عليهم باسمك من شروط التسليم، وآية بيننا أن ينبئهم أصحاب الأخبار أنكم قد تخففتم من الأزواد أو جدتم عليهم ببعضها. - لك ما اشترطت يا إليون، فاحمل إليهم ما شئت ودعني وأصحابي نعد العدة للنقلة إلى ما وراء هذه الأسوار!
الفصل السابع عشر
دسيسة العرق ...
- والله لا يقع في مثل هذه الغفلة ابن حرة! - كذلك قال ابن هبيرة قبل أن تقع الواقعة، ونرى أنفسنا في هذا القفر لا زاد لنا، وقد أخذتنا سيوف الروم من كل جانب! - ذلك الكلب الغادر إليون ... - بل قل: ذلك الأبله ابن ورد، لقد خدعه ذلك الكافر خديعة لو كان امرأة لعيب بها! - ونال بها إليون عرش قسطنطين! - ونلنا بها ما نلنا من الهوان والضعف والمذلة، وما أرانا غدا إلا هالكين جوعا وبردا في هذه القفرة المثلوجة! - وا أسفا! لقد كان مسلمة - فيما أرى - أسد بني مروان رأيا وأخبرهم بفنون الحرب! - وما هي الحرب إلا السياسة والتدبير ونصب الفخاخ وتوقي المهالك؟ - وإنه لكذلك، لولا ما تدسس إليه من أمه الرومية، فكأنما حن العرق إلى العرق فاستنام إلى وعد غادر. - أتذكر حين أنشد عبد الملك بين يدي مسلمة وإخوته في حلبة السباق ذات غدوة:
نهيتكم أن تحملوا فوق خيلكم
هجينا
Shafi da ba'a sani ba