The Least Action
فلا تحيد المادة عن القريب وتتخطاه إلى البعيد، ولا تدع الطاقة موضعا لا مقاومة فيه لتمضي إلى موضع تجد فيه المقاومة وتتعثر فيه بالعوارض والموانع، وهنا فرنكلين الهادئ الرصين الذي لا يكلف نفسه ولا يكلف أحدا في عمل من الأعمال فوق حقه من العناء وشغلان البال، وهنا فرنكلين الفيلسوف المؤمن الذي يبني على هذه السنة - سنة القصد - حكمة القصد الإلهي التي لا تخلق الأرواح لتزيلها وتفنيها ولا تخلقها عبثا ليتساوى عندها بقاؤها وفناؤها بعد ظهورها في عالم الحياة. ومن عجائب النفس البشرية أن المطبوعين على التهكم الذين يتهكمون على كل غلو في التفكير والإحساس هم أقرب الناس إلى الوقوع في هذا الغلو الذي يعرضهم للتهكم من أناس دونهم في الذكاء وأصالة التفكير، ولولا ذلك لما غلا فرنكلين في عقيدة «الجهد الأقل» حتى طبقها على الموازنة بين الدراسة والمشاهدة بغير عناء، ففي خطابه المتقدم يقول أنه لم يجشم نفسه مشقة الدراسة في تحقيق طبيعة السيد المسيح؛ لأنه إذا كان سيرى الحقيقة عيانا في العالم الآخر فالرؤية أيسر عليه من الدراسة!
وكفى بهذا حجة لمن ينفي عن فرنكلين شبهة المغالطة في العقيدة التي استقر عليها، فإن المرء ليغالط في كل شيء إلا في الطبع الذي يتأصل منه وراء الوعي والمشيئة.
وبديهي أن عقيدة فرنكلين هذه لم تكن عقيدة الأكثرين من الخاصة والعامة بين قومه وغير قومه، وأنه ليعلم ذلك ولا يخطر له أن يزعج ضمائر الناس بالجدل والنقاش ليقنعهم بصواب رأيه، وليس سكوته هذا حبا للسلامة أو مراءاة لمخالفيه، بل هو الصواب في رأيه حين تعنيه السلامة وحين لا تعنيه، وقد كان ينصح به أناسا لم يكن لهم عنده حق الصداقة والنصيحة، ومنهم من تحول عن صداقته وجافاه بعض المجافاة كما حدث في العلاقة بينه وبين الكاتب المفكر الكبير توماس پين
فإنه قرأ كتابه المخطوط الذي سماه عصر العقل وأرسله إليه لاستطلاع رأيه، فكتب إليه في الثالث من شهر يوليو سنة 1786 يقول: «إن الحجج التي اعتمدت عليها في إنكار الحكمة الخاصة - وإن لم تنكر الحكمة الإلهية العامة - لتضرب المعول في أساس كل دين؛ إذ لا باعث للعبادة والخوف من الجزاء أو التوسل بطلب الوقاية إذا زال الإيمان بإله يحرس ويهدي ويخص بالرضوان بعض الناس، ولست أريد أن أناقشك في تلك الحجج، وإن كنت أحسب أنك تطلب هذه المناقشة، وحسبي في الوقت الحاضر أن أقول لك: إن حججك قد تبلغ من المهارة أن تقنع طائفة من القراء، ولكنك لن تفلح في تغيير الإجماع الإنساني على الشعور المتفق في هذه الأمور، وكل ما تجنيه من نشر هذه الرسالة أن تجلب على نفسك الكراهية، وأن يصيبك الضرر بفعلك ولا ينتفع به أحد. واعلم أن من يبصق في وجه الريح، فإنما يبصق على وجهه. وهب أنك نجحت فيما قصدت إليه، فهل تخال في ذلك نفعا كائنا ما كان؟ إنك قد يسهل عليك أن تعيش عيشة فاضلة بغير معونة الدين، وأن يكون فهمك الجلي لمحاسن الفضيلة ومساوئ الرذيلة مع قوة عزيمتك كفيلا بتمكينك من مقاومة الإغراء والغواية، ولكنك قمين أن تعلم كم من ذوي الجهالة والضعف بين الرجال والنساء، وكم من الأغرار والطائشين بين الناشئين تنفعهم بواعث الدين في اجتناب الرذيلة والثبات على الفضيلة والصبر على هذا الثبات حتي يصبح في حكم العادة التي تهم جدا في صيانتها ومناعتها، ولعلك أنت نفسك مدين بتربيتك الدينية لهذه العادات التي ترفعك بحق في نظر نفسك. وإنك لتستطيع أن تستخدم ملكاتك البارعة وقدرتك على الاستدلال في علاج موضوع دون هذا الموضوع في مزالق الخطر، فتحتل مكانك بين المؤلفين النابهين منا؛ إذ ليس من اللازم بيننا - كما هو لازم بين آكلي البشر من الهوتنتوت - أن يبرهن الشاب على بلوغه مبلغ الرجال واستحقاقه للحسبان منهم بإقدامه على ضرب أمه.»
4
ومن الواجب في مقام التعريف بحقائق النفس الإنسانية أن نفرق بين هذا الخلق، وبين خلق الرياء الضعيف أو الكذب المرذول، فليس أبعد من الفارق بين الرياء الذي يخدم به المرء نفسه ولا يبالي منفعة الناس، والإيمان بالصواب الذي ينفعهم ويحق له أن يحرص عليه. ولم يعرف عن فرنكلين قط أنه كان يرائي أحدا في عقيدة من عقائده التي يحفظها لنفسه ولا يرى من الواجب عليه أن يعلنها لغيره، فإذا سأله سائل ذو مكانة عنده ولم يكن من الأدب في رأيه أن يهمله ويسكت عن جوابه صارحه بما يعتقد وأبلغه عقيدته على حقيقتها، ولو أنه كان يستبيح الرياء مع أحد لاستباحه مع أبويه وهو الحريص على إرضاء الناس عامة فضلا عن حرصه على مرضاة الوالدين. فقد أبلغه أبوه أن أمه تشكو إليه أن ولدا لها يدين بمذهب الآريين، وأن أخاه يدين بمذهب الكنيسة الشرقية، وكان فرنكلين يومئذ في الثانية والثلاثين فأجاب أباه ولم يكتم معتقده، بل قال له ولأمه بأسلوب صراح: «ما هو الآري وما هو تابع الكنيسة الشرقية؟ لا أستطيع أن أقول: إنني أعرف الفرق بينهما حق المعرفة، والواقع أنني قليلا ما أشغل عقلي بالبحث في هذه الفروق والخلافات، وأرى أن الدين الصحيح يمنى بالخسار كلما غلبت المراسم على الفضيلة، وأن الكتب المقدسة تؤكد لي أننا نحاسب في اليوم الآخر على ما عملنا لا على تفكيرنا في المذاهب، ولن تكون شفاعتنا أننا طفقنا نصيح: يارب يارب! بل يشفع لنا ما صنعناه من الخير لخلائق الله.»
5
فمذهب فرنكلين في كتمان عقيدته أشبه شيء بمذهب الجلة من الحكماء الأقدمين الذين كانوا ينصحون بكتمان الحقائق الغامضة عمن لا يدركونها ، ولم تمنعه مخالفة السواد أن يحبب إليهم التدين والاجتماع لسماع العظات وأداء الفرائض التي يعتقدونها، وساءه زمنا أن يرى سواد الناس معرضين عن الصلاة؛ لأنه رأى منهم بوادر الإباحة والتهافت على المنكرات، فشرع في تنقيح كتب الصلوات ومذاكرة المصلحين من رجال الدين عسى أن يهتدوا إلى أسلوب من أساليب الإرشاد أجدى في إقناع شعبهم من أساليبهم العتيقة التي درجوا عليها، وسوى بين الملل والأديان في وجوب الاحترام، فساعد أناسا من غير المسيحيين على إحياء شعائرهم في جواره، وقال: إنه لو علم أن المفتي الأعظم بالقسطنطينية يوفد إلى الديار الأمريكية رسولا من دعاة الإسلام لتلقاه بالترحاب.
6
Shafi da ba'a sani ba