تمهيد‏

الجزء الأول: عن فرانكلين‏

معالم الطريق‏

العالم‏

الكاتب‏

السياسي‏

الفيلسوف‏

الإنسان‏

الجزء الثاني: من فرانكلين‏

تمهيد‏

تقويم ريتشارد المسكين‏

رسائل‏

خرافات وحكايات ذات مغزى‏

علميات‏

اجتماعيات‏

محاكمة السحرة في جبل هولي‏

خاتمة‏

تمهيد‏

الجزء الأول: عن فرانكلين‏

معالم الطريق‏

العالم‏

الكاتب‏

السياسي‏

الفيلسوف‏

الإنسان‏

الجزء الثاني: من فرانكلين‏

تمهيد‏

تقويم ريتشارد المسكين‏

رسائل‏

خرافات وحكايات ذات مغزى‏

علميات‏

اجتماعيات‏

محاكمة السحرة في جبل هولي‏

خاتمة‏

بنجامين فرنكلين

بنجامين فرنكلين

تأليف

عباس محمود العقاد

تمهيد

إنسان وافر النصيب من ثناء الناس، ومن ثناء الذين لا يثنون على أحد إلا بمقدار، وقلما يثنون بمقدار.

حياه فولتير فسماه «فرنكلين المجيد الحكيم».

1

وحياه دافيد هيوم فقال: «إنه الفيلسوف الأول والأديب الأول الذي جذب أنظار أوروبا إلى البلاد الأمريكية.»

2

وحياة المصلح الناقد صمويل روميلي فقال بعد زيارته: «بين المشاهير الذين اتفق لي أن رأيتهم في حياتي، يلوح لي أن فرنكلين - بسيماه وحديثه - أجدرهم بالتنويه فطلعته الأبوية وبساطته في هيئته وكلامه، وجدة ملاحظاته، تركت في نفسي رأيا فيه أنه من صفوة الرجال الذين وجدوا في كل زمان.»

3

وقال بلزاك: «إنه اخترع عمود الصواعق، واخترع القفشة، واخترع الجمهورية.»

وخاطبه رئيس قومه واشنطون فقال: «إذا كان التبجيل إكراما للخير، وإذا كان الإعجاب إكراما للنبوغ، وإذا كان التقدير للوطنية، والحب للإنسانية خليقة أن تلهم عقل الإنسان الرضا والغبطة، فلا مشاحة يتوافر لك السلوان بالحياة التي لا تذهب سدى.»

4

وقال رئيس قومه فرنكلين روزفلت وهو يحيي ذكراه بعد مائة وخمسين سنة: «إن بنيامين فرنكلين الذي تدين له الجامعة - جامعة ييل - بالكثير، قد أدرك أيضا أن المبادئ الأساسية في العلم، والأخلاق، وآداب الاجتماع على خلودها تتجدد بالتطبيق والتنفيذ على حسب المعيشة من جيل إلى جيل، وإنني على يقين أنه لو كان معنا اليوم لقرر أن الواجب الأكبر على الفيلسوف والمعلم أن يحققا المثل العليا للحق، والخير، والعدل بقسطاس الحاضر لا بقسطاس الزمن الغابر.»

5

هؤلاء يحملون غصن التحية.

وأناس آخرون يثنون عليه وهم لا يحملون غير الميزان، وقد يحسنون حمله باليمين وباليسار.

قال ليونل الفين

Lionel Elvin

في كتابه رجال أمريكا:

كان للحياة في نفسه حب وعلاقات شتى، وكان يحسن المتعة باللغو، ويجتذب إليه القلوب ويملكها بتلك المودة التي تنجم من القناعة العميقة والصفاء القرير. وحق أنه كان إلى العطف أقرب منه إلى الشعور اللاعج، وإلى الفطنة أقرب منه إلى القريحة الشعرية، وإلى الأخلاق العملية أقرب منه إلى السريرة الصوفية، وإلى الإصلاح أقرب منه إلى الثورة، والانقلاب، وإلى أن يعد في زمرة أبناء الدنيا أقرب من أن يعد في زمرة الأنبياء، ولو أنه قذف به إلى جزيرة خالية لكان مسلكه فيها كمسلك روبنسون كروزو، ولم يكن مسلكه ثمة كمسلك إسكندر سلكيرك من تصنيف كوبر، وإن اختلاف الرأي في عرض هذا الخلق على معيار النقد ليتوقف على مزاج الناقد وتقديره، وإنما أساس النقد كله أن فرنكلين قد أفرط في التوحيد بين الفضيلة والنجاح المحترم، أو كما كتب على هامش ترجمته: ما من شيء كالفضيلة يكفل للمرء حظه، ولكن مما يوضع له في الكفة الأخرى أنه إذا لم يكن قد عبر علمه وحبه لخير بلاده الأمريكية، كما جعل الدنيا كلها مكانا أصلح للعيش فيه. وقد صعد بمجهوده في سلم وطنه الجديد، وقذف بكل عن أرفع الآفاق وأبعد الأعماق في الطبيعة الإنسانية. قد جعل بفضل ما عنده في معركة الديمقراطية التي تقابل المجتمع الخاضع لسلطان الاستبداد، وآمن بأن الناس جميعا ينبغي أن يكونوا - في كل مكان - راضين سمحين أحرارا مثقفين، وأن العمل لمثل هذه الغاية وحسن الإبانة عنها ليس بالمطلب الصغير ولا بالأمر الهين.

ومن الذين يثنون عليه من لا يحملون غصن التحية ولا يحملون ميزان الحساب، ولكنهم يحتكمون إلى هوى العاشق وشوق المفتون، ويقولون بلسان قائلهم لورنس نبي الجسد في القرن العشرين: «إنني لأعجب به.» «أعجب بشجاعته الدءوب قبل كل شيء، ثم أعجب بحصافته، ثم ببصره النافذ في غمائم البروق والرعود والكهربا، ثم بفكاهته الدارجة؛ كلها خصال الرجل العظيم الذي لم يكن قط أكبر من مواطن عظيم.»

ثم يقول، أو تقول شيعته كلها بلسانه: «إنه طابع، فيلسوف، عالم، مؤلف، وطني، زوج صالح، مواطن، فما باله لا يكون نموذجا يقاس عليه؟»

أتراه رائدا؟ يا للرواد!

لقد كان بنيامين رائدا من أكبر الرواد في الولايات المتحدة، ولكننا لا نستطيع أن نسلك معه، فما هو جانب الخطأ فيه؟ وما هو جانب الخطأ فينا؟ «إنني لأذكر في صباي كيف كان أبي يشتري الكتاب الذي يسمى التقويم، وتظهر على غلافه صور الشمس والقمر والنجوم، وتتخلله النبوءات عن الحروب والمجاعات، ومعها في الزوايا نوادر وأضاحيك تمازجها العبر والعظات، وقد كنت أضحك ضحكتي الصغيرة الغريرة من تلك المرأة التي تعودت أن تعد الكتاكيت قبل انفراج البيض عنها وما إلى هذه الفكاهات، وعلمت من ثم أن الأمانة أفضل سياسة بشيء من تلك الغرارة، وكان مؤلف هذه الشذور ريتشارد المسكين، وكان ريتشارد المسكين بنيامين فرنكلين، كاتبا ما كتب في فلادلفيا قبل أكثر من مائة عام، وربما كنت حتى اليوم لا أسيغ تلك العبر والعظات، ولا أزال ضائقا بها، كأنها الشوك في لحم الصبي الصغير، ولأنني لا أزال أومن بأن الأمانة أفضل سياسة أراني أبغض السياسة بحذافيرها، وإنه لسواء عندي أن تعد الكتاكيت قبل مولدها، وأن تعدها منهوما بمنظرها بعد خروجها من البيضة، ولقد لبثت السنوات الطوال، وعانيت الوخزات التي لا عداد لها كي أخلص من ذلك السلك الشائك الذي أقام به ريتشارد المسكين أسوار الأخلاق.»

وقبل ذلك يقول لورنس عن فرنكلين والروح الإنسانية: «إن الروح الإنساني غاب ألفاف، وفرنكلين يقتطع منه حيزا يحرثه ويدير عليه حائط البستان.»

6

وهذا هو الشرط الناقص في معيار لورنس نبي الجسد في القرن العشرين، أو نبي النزوات الحسية على التعبير الصحيح.

فلا يوافق ذوقه نظام متكشف لضوء النهار، ولا بد من الألفاف المتشابكة على غير نسق معلوم، ولا بد من الزوايا المظلمة، واللفحات المضطربة هنا وهناك، ولا بد من صدع الحائط حول البستان ليزول البستان اسما وسمة، ولا يبقى غير الغابة ذات الألفاف، وذات السباع، وحبذا لو اتسعت للأفاعي مع السباع!

ولا يطلب من كل عظيم أن يكون وفقا لشروط لورنس فيما يستحق به المحبة والعاطفة المشتعلة، حسب العظيم أن يكون وفقا لإعجابه وتعظيمه بسبب أو سببين، وقد كان فرنكلين وفقا لشروط إعجابه بأسباب كثيرة: شجاعة وحصافة وبصر نافذ خلل الغمام، وفكاهة دارجة ووطنية جديرة بالإعظام والإكرام.

ولا نكتم عن أنفسنا أننا نرضى عن معيار لورنس في تقدير العظمة بعض الرضا، ولا نحس في صميم الوجدان أننا ننكره كل الإنكار.

أتكون عظمة بغير نار مقدسة؟

كلا. لا غنى عن هذه النار المقدسة في عظمة عظيم، وليس من حق النظام ولا النور أن يسلبها تلك النار التي لا يقر لها قرار.

إلا أن العبقرية كلها نار مقدسة، والعبقرية كلها لا يقر لها قرار مع اضطرام تلك النار.

وفرنكلين على وفاق هذا الشرط بغير شذوذ ولا استثناء، فلا دخان ولا شرر ولا قعقعة من الوقود المتأجج بين الضرام.

ولكن النار هناك في الموقد المصون.

لا صاعقة تنقض على الحطام بين البروق والرعود، ولكن العمود هناك يتلقى الصاعقة في أمان.

والتفرقة بين النارين حتم في مقام الكلام على عبقرية فرنكلين. أليس هو صاحب الموقد الذي نحس ناره ولا نحس دخانه وشرره؟ أليس هو صاحب العمود الذي يستنزل الصاعقة ويروضها بعد الجماح رياضة الفارس الخبير؟

إن العبقرية التي يعجب بها لورنس كالنار التي تلتهب في المدخنة، ثم تطير الحرارة منها بين الجدران وبين الهواء والهباء.

ولم تذهب هذه النار بين يدي فرنكلين؛ لأنه صاحب الموقد الذي اخترعه ليحفظ النار ويبثها على السواء بين الجدران، وليرسل منها إلى الفضاء ما تستغني عنه الأبدان.

والصاعقة لم تذهب كذلك بين يديه، ولكنه ساسها وقادها وأسلس زمامها، فهي صاعقة في طريقها بين السماء والأرض، ولكنها من قبيل العبقرية التي خلقت لفرنكلين!

ويوشك أن يكون التشبيه هنا واقعة محتومة لا مجاز فيها، ويوشك أن يكون الموقد وعمود الصاعقة من اختراع هذا العبقري؛ لأنهما أشبه النيران بعبقريته الطيعة الرفيقة: عبقرية تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.

لهذه العبقرية محلها بين العبقريات في كل زمن، ولعلها أولى بالمحل الأول من هذا الزمن خاصة؛ لأنه زمن لا تعوزه عبقريات اللهيب والدخان، وقد تعوزه المئات من عبقريات النور والهداية والأمان.

ومن رسائل هذه العبقرية في هذا الزمن أنه زمن ضاعت فيه الشخصية الإنسانية بين التخصص والكثرة العددية، وكلاهما «فناء» لمزايا الإنسان أشبه بفناء «النرفانا» في عقائد المنهزمين المنكرين للحياة.

إن «التخصص» قد جار على «الشخصية الإنسانية» فلم يترك في كل امرئ إلا جزءا من إنسان مستغرقا في جزء من المعرفة وجزء من العناية بالعالم الواسع الذي يعيش فيه، وليس أضر، ولا أوخم من هذه التجزئة في الزمن الذي ولدت فيه الفكرة العالمية وأصبحت علاقة العالم الإنساني بعضه ببعض حقيقة متمكنة تتطلب الإنسان كله للمساهمة فيها، ولا تقنع منه بجزء ناقص محبوس في أصداف المحار.

وإن هذه العبقرية التي تعددت جوانبها وتشعبت شواغلها، مع الاتزان والاعتدال وحسن الإحاطة والإجمال، لهي الترياق الذي يشفي من هذه الآفة، والقدرة التي تستنهض الهمة لمحاكاتها، ثم لا تيئسها من بلوغ الغاية في المحاكاة؛ لأنها - بطبيعتها - تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.

وقد جارت الكثرة العددية على معالم الشخصية الإنسانية فوق هذا الجور الذي ابتليت به من داء التخصص والانحصار، وقد تجدي هذه العبقرية جدواها التي لا تشبهها جدوى العبقريات الأخرى في إنصاف «الشخصية» الممتازة من طوفان الكثرة العددية؛ لأنها من هذه الكثرة خرجت، ولهذه الكثرة عملت، وعلى هذه الكثرة عولت في كل مرحلة من مراحل النجاح وعلى كل درجة من درجات السمو والارتفاع، فلم يمنعها ارتفاعها من غمار الكثرة العددية أن تكون من زمانها إلى هذا الزمان مثلا نادرا «للشخصية» الفذة التي لا تضيع في غمار.

والصفحات التالية صور متتابعة لهذه الشخصية أو لهذه العبقرية، لم نحفل فيها بسجل الأرقام ولا بإحصاء الأيام، ولم نكتبها لنبدأ فيها بسنة الولادة، ونختمها بسنة الوفاة، ونمضي فيها مع التقويم شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، ولكننا كتبناها كما نكتب تراجمنا عامة لنعرض فيها لمحة بعد لمحة تتم بها ملامح الصورة بعد الفراغ من النظر إليها، وقد يتابعها القارئ فلا يفوته من ذلك سجل الأرقام ولا إحصاء الأيام، وإنما يلم بها حيث يعبرها في طريقه، ويستغني عنها بعد ذلك إذا شاء، أو يبقيها على حد سواء.

وسنبدأ «الصورة» بترجمة مجملة ترسم مراحل الطريق، أو ترسم حدود النظر إلى الإطار الذي يحيط بملامحها وقسماتها، ثم نتبعها بصورة لكل جانب من جوانب هذه الشخصية على أعمها وأوسعها، مع صعوبة التعميم والإحاطة بهذه الشخصية الفذة التي لم تدع شأنا من شئون عصرها إلا اشتغلت به في وقت من الأوقات، ثم ندع لها أن تتكلم بلسانها، وتعبر لنا عن كل جانب من جوانبها، ولعل الكلام الذي نسمعه منها أدل عليها من كل كلام يقال فيها.

ولنبدأ بالترجمة: ترجمة العالم الكاتب السياسي الفيلسوف الإنسان.

عباس محمود العقاد

الجزء الأول

عن فرانكلين

معالم الطريق

كتب فرنكلين سيرته التي سماها المفكرات، وسميت فيما بعد بالترجمة الذاتية، وبدأها وهو ينوي أن يخص بها أبناء أسرته للاستفادة بها في شئونهم العائلية، ثم اطلع عليها بعض أصدقائه فأعجبوا بها وأشاروا عليه بإتمامها وتعميم نشرها، ولكنها لم تنشر في حياته ولم يحصل عليها الناشرون كاملة، إلا بعد مساومات ومفاوضات طويلة مع الذين جمعوا أجزاءها في فرنسا، حيث ظهر الجزء الأول منها للمرة الأولى مترجما إلى اللغة الفرنسية.

وقد كتبت هذه الترجمة على أربعة أجزاء في أوقات متعددة وأماكن متفرقة.

كتب الجزء الأول منها في إنجلترا وهو في الخامسة والستين من عمره، واشتمل بعد تاريخ أسلافه على تاريخ حياته من مولده في سنة 1706 إلى زواجه سنة 1730.

وكتب الجزء الثاني في باسي بفرنسا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة (أي سنة 1784).

وكتب الجزء الثالث بعد أربع سنوات (1788) على أثر عودته إلى فلادلفيا وبلغ به حوادث سنة 1757 حين كان في الحادية والخمسين.

والمظنون أنه أضاف إليها الجزء الرابع ما بين أواخر سنة 1789 وأوائل سنة 1790 قبل وفاته بفترة وجيزة.

ولا توجد بين الترجمات الذاتية ترجمة لها نصيب هذه الترجمة من الإقبال والقراءة العامة؛ لأنها حديث شائق عن رجل مشهور محبوب يروي قصة حياته ، ويحسن روايتها على النسق الذي يهم كل قارئ وقارئة كأنها قصة للتسلية، وكأنها في الوقت نفسه قصة القارئ في حياته الإنسانية التي تتشابه بين جميع الناس على اختلاف الحوادث والأوقات.

وهذه الترجمة تصور صاحبها أصدق تصوير فيما ذكره من أخباره وأعماله، وفيما يستخلصه القارئ من بين السطور على غير قصد من المؤلف؛ لأن أسلوبه فيها يفسر الناحية المهمة في شخصية فرنكلين، وفي عوامل نجاحه وسهولة مسلكه بين الناس في كل مكان عمل فيه، من وطنه إلى إنجلترا إلى فرنسا، ومن بيئة الصناع الفقراء إلى بيئة الملوك والأمراء والنبلاء، ومن طوائف الأميين وأشباه الأميين إلى طوائف العلماء والحكماء وقادة الآراء.

إن الرجل لم يكسب هذا المسلك السهل بالملق والموافقة؛ لأنه كان يبدي رأيه على أتمه إذا خالف سامعيه، وكان لا يثني على أحد بغير أسلوب العالم الذي يعني كل ما يقوله وإن تلطف في التعبير، ولكنه كسب هذا المسلك السهل بتسليمه للضعف الإنساني حيث لا تجدي المكابرة، فكان يعرف عيوبه ولا يداريها، وكان حكمته التي كتبها في تقويمه «نظف أصابعك قبل أن تنظر إلى بقعي» شعارا له يتبعه ولا يلزم أحدا أن يتبعه مثله، فإذا كتب عن عيوبه خيل إلى القارئ أنه بريء من تلك العيوب، وإذا شرح أعماله وتكلم عن أسباب نجاحه لم يكتم القارئ أنه فخور بها كما يصنع الكثيرون من أدعياء التواضع وإنكار الذات، ولكنه يتكلم عنها ويدع القارئ يفهم أنه قادر على مثلها إذا أراد، وأن الأسباب التي استعان بها مبسوطة بين يديه لأنها في ميسوره ومقدوره.

ومن مفتتح الترجمة إلى ختامها يجري المؤلف على هذا الأسلوب الصريح بغير تكلف ولا مداجاة، فيقول في مفتتح الترجمة أنه كتبها ليرضي شهوة التحدث عن النفس التي تملك الشيوخ في أخريات أيامهم دون أن يضجر أحدا من سامعيه؛ لأنهم أحرار في السماع أو الإعراض، وأنه لا يكتم عن القارئ أنه فخور بنجاحه، ولا يبدأ الكلام قائلا على سبيل الاعتذار «بلا فخر، ولا ادعاء» ثم يتلوه كلام كله فخر وادعاء، وبمثل هذا الأسلوب يجرد الفخر من شوكته المؤذية، ويجرد التواضع من طلائه الكاذب، ويقف «بإنسانيته» الضعيفة القوية بين أيدي إخوته من الناس.

ويستخلص القارئ من الترجمة صفة أخرى كان لها ولا ريب أثرها العظيم في ألفة فرنكلين للناس، وألفة الناس إياه، فإن القارئ ليفهم من الصفحات الأولى أنه يعيش مع «مخلوق اجتماعي» من فرعه إلى أصبع قدمه، وقد قيل قديما وحديثا: إن الحاسة العائلية أساس الحاسة الاجتماعية وقرارها الذي ترجع إليه في الأعماق، وهذه الحاسة العائلية أو هذه الحاسة الاجتماعية هي التي تنضح بها كل صفحة من صفحات الترجمة من بدايتها إلى نهايتها، فإنه على علمه بفقر آبائه وأجداده، وعلى عزيمة الهجرة الأبدية التي اعتزمها مؤثرا دار الهجرة على مواطن الآباء والأجداد، وعلى كثرة الشواغل التي تشغل السفير الأمريكي عند حكومة الدولة البريطانية في إبان الخلاف والشقاق، لم يمنعه هذا كله أن يبحث عن تواريخ أسلافه البسطاء، وأن يتحرى منها كل ما أمكنه العثور عليه، وأن يثبته كما انتهى إليه بغير صقل ولا تزويق وبغير حشو ولا ادعاء.

ويستطيع القارئ من قراءة السطور وما بينها أن يفهم أن «بنيامين» قد ورث من كل سلف مذكور حمل اسم فرنكلين بنية قوية ومزاجا كأقرب ما يكون المزاج الإنساني إلى الاعتدال، فسلك سبيله بين الناس بغير عقدة خفية، وبغير خبيئة مطوية، واستعان بتلك البنية على احتمال ما يعيا به الكثيرون من خلائق الناس التي تطاق أو لا تطاق، ولا وجه لاستغراب النجاح من رجل عليم بالضعف الإنساني مقتدر على المعذرة مطبوع على الحاسة الاجتماعية، سليم الأعصاب، غير مضطرب المزاج.

ونحن لا نريد في هذا الفصل - بداهة - أن ننقل الترجمة كلها، أو نلخصها، ولا نريد كما ذكرنا في التمهيد أن نستقصي هذه الترجمة في سائر فصول الكتاب؛ لأننا آثرنا أن نتكلم على جوانب الصورة التي ترسم لنا ملامح فرنكلين، وندع الكلام عن وقائع الحوادث وأرقام السنين، فيعنينا فرنكلين العالم كيف كان عالما، وفرنكلين الكاتب كيف كان كاتبا، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف كيف كان في مناهجه السياسية وفي آرائه الفلسفية، وكيف كان فرنكلين الإنسان بعد ذلك إنسانا حقا في جميع تلك الجوانب، أو جميع تلك الملامح من الصورة الشاملة، ولا يعنينا ما عدا ذلك من التاريخيات التي لا تصحبها «نفسية» من هذه النفسيات.

نحن لا نريد أن ننقل الترجمة أو نلخصها، ولكننا لا نستطيع مع هذا أن نغفلها وندع النقل منها في كتاب عن «شخصية» الكاتب الذي ألفها، فما ننقله هنا من الترجمة فإنما هو الجزء الذي يكفي للإبانة عن أسلوبه والجزء الذي تنفرد الترجمة به، فلا يشاركها فيه مصدر آخر من مصادر السيرة التاريخية، وذلك هو الجزء الذي يتكلم فيه فرنكلين عن سلفه إلى مولده وطفولته واختياره لصناعته على آسال من سوابق أولئك الأسلاف، ثم نتبع هذا الجزء بالإشارة إلى خطوات هذه الحياة الحافلة بين أرقام السنين؛ لأنها سجل يراجع عند الضرورة كلما دعت الحاجة إليه في متابعة فصول الكتاب، ولا يفوتنا أن نعد من أسباب هذا الاكتفاء أن مفكرات فرنكلين ليست من قبيل التراجم التي تختصر وتلخص فيغني عنها الاختصار والتلخيص؛ لأنها بنية حية، وليست أشتاتا من الحوادث يمسكها السمط، ويأتي من يشاء فيقطع السمط حيث يشاء، ولكنها تؤخذ جانبا جانبا كما تؤخذ الصور من جوانبها المتعددة، وهذا هو جانبها الذي اخترناه لنقله بغير تصرف فيه، للسبب الذي قدمناه.

قال فرنكلين في النسخة الأولى من مفكراته:

هنا سأرضي تلك النزعة المألوفة في الشيوخ: نزعة التحدث عن أنفسهم وأعمالهم الماضية، دون أن أزعج بها غيري ممن يحسبون - رعاية للسن - أنهم مطالبون بالإصغاء إلي، إذ كان في وسعهم أن يقرءوا أو يدعوا القراءة متى شاءوا، وسأعترف أخيرا بأنني سأرضي غروري لأنني إن أنكرته لم يصدقني أحد، والحق أنني ما سمعت ولا قرأت قولة لقائل في التمهيد لكلامه: أنه لا يريد أن يدعي أو يغتر، إلا رأيت بعد ذلك ضربا من الادعاء أو الغرور يأتي على الأثر، وإن كثيرا من الناس ليبغضون الغرور في الآخرين مهما يكن من وفرة نصيبهم منه، ولكنني تعودت أن أفسح له مكانا كلما التقيت به، لعلمي أنه يفيد أحيانا من يغترون ومن يتصلون بهم في جوارهم، وليس من العبث إذن أن يشكر الإنسان ربه على ما يسديه إليه من الغرور بين سائر النعم التي يستمتع بها في حياته.

والآن أقول بعد حمد الله متطامنا بين يديه أنني مدين بما نعمت به من السعادة لحكمته الرحيمة التي هدتني إلى الوسائل التي توسلت بها وبلغت ما بلغت من النجاح بفضلها، وأن يقيني بهذا يدعوني إلى الأمل، وإن كنت لا أعلم الغيب، أن تلك الحكمة الرحيمة سوف تتولاني لاستبقاء تلك السعادة أو للصبر على ما يصيبني من خيبة الرجاء كما يصيب الآخرين؛ إذ لا يعلم مصيري غير الله القدير على أن يجعل في كل شيء بركة حتى العذاب.

إن المذكرات التي أسلمها إلى أحد أعمامي المعنيين مثلي باستطلاع الأخبار والنوادر عن أسلافي قد زودتني ببعض المعلومات الخاصة عن أولئك الأسلاف، وقد علمت من هذه المذكرات أن العائلة سكنت القرية بعينها - قرية أكتون في نورثامبتون شاير - ثلثمائة سنة، ولا يعلم كم من السنين أقامت فيها قبل ذلك، ولعلها بدأت منذ اتخذت اسم فرنكلين، الذي كان علما على طائفة من الناس، لقبا لها يوم ذهب الناس جميعا يقرنون أسماءهم بالألقاب في سائر أنحاء المملكة.

وكانوا يعيشون على نحو ثلاثين فدانا مستعينين مع غلتها بصناعة الحدادة التي احترفتها الأسرة إلى أيامه، وكان أكبر الأبناء يتدرب من نشأته على هذه الصناعة، عادة جرى عليها الآباء من القدم، ونهج هو، وأبي على مثالهم فيها.

ولما ذهبت لمراجعة السجلات المحفوظة في قرية أكتون وجدت فيها تسجيلات لمولدهم وزواجهم ووفاتهم منذ سنة 1555، ولم أجد لهم تسجيلات محفوظة قبل تلك السنة، وعلمت من تلك التسجيلات أنني كنت أصغر الأبناء لأصغر الأبناء خمسة أجيال متعاقبة، وكان جدي توماس الذي ولد سنة 1598 معمرا عاش في أكتون حتى أقعدته السن عن مباشرة الصناعة، فذهب إلى بانبري من إقليم «أكسفورد شاير» ليعيش مع ابنه جون الذي كان يحترف الصباغة وعلى يديه تعلم أبي هذه الصناعة، وقد توفي جدي ودفن بها ورأينا شاهد قبره سنة 1758.

وسكن ابنه الأكبر - توماس - في منزل أكتون ثم تركه ومعه الأرض لابنته الوحيدة التي باعت الميراث - هي وزوجها المسمى فيشر من ولنجبورو - لمستر استيد مالك الأرض الآن.

وقد كان لجدي أربعة أبناء شبوا وكبروا وهم توماس، وجون، وبنيامين، وجوشيا، وسأخبرك بما علمته عنهم بعيدا من مراجعي وأوراقي معتمدا على ما وعته الذاكرة. فإن لم تكن تلك الأوراق قد ضاعت، فإنك واجد فيها مزيدا من التفصيلات.

نشأ توماس حدادا بصحبة أبيه، ولكنه كان ذكيا فشجعه السيد بالمر عميد البلد كما شجع إخوته على التعلم والاستزادة من المعرفة، فتدرب على كتابة العقود ونبه شأنه في أمور البلد، وأصبح وعليه المعول في توجيه المسائل العامة بنورثامبتون وقريته التي روت لنا أخبارا كثيرة عنه، وذاع صيته في أكتون فتولاه لورد هليفاكس يومئذ برعايته. ثم مات في السادس من شهر يناير سنة 1702 حسب التقويم القديم قبل مولدي بأربع سنوات، وتدل سيرته التي تلقيناها من شيوخ أكتون كما أذكرها على أمر عجب لشدة الشبه بينها وبين سيرتي، ولو أنه مات في نفس اليوم الذي ولدت فيه لخطر لك أنني تقمصت روحه.

ونشأ جون صباغا يشتغل على ما أظن بصبغ الصوف، ونشأ بنيامين صباغا للحرير متتلمذا في الصناعة بلندن. وكان رجلا ألمعيا أذكره جيدا؛ لأنه جاءنا إذ كنت طفلا ليزور والدي في بوستون، وسكن معنا بالمنزل بضع سنوات، وقد عمر طويلا، وحفيده صمويل فرنكلين يعيش في بوستون اليوم، وقد ترك بعده مجلدين من نظمه يشتملان على مقطوعات منظومة لمناسباتها موجهة إلى أصدقائه وأقاربه، ومنها واحدة وجهها إلي.

1

واخترع طريقة للاختزال علمني إياها، ولكنني لم أستعملها قط ونسيتها الآن. وقد سميت على اسم هذا العم للعطف المتبادل بينه وبين أبي، وكان تقيا جدا شديد المواظبة على حضور العظات من أبلغ الوعاظ يسمعها ويدونها بطريقة الاختزال ويحتفظ عنده بمجموعات كبيرة منها. وكان كذلك مشغولا بالسياسة كثيرا، ولعل اشتغاله بها كان أكثر مما يلائم مركزه. وقد عثرت له في لندن على مجموعة للكراسات التي صدرت في موضوعات المسائل العامة من سنة 1641 إلى سنة 1717، ضاع منها بعضها كما يتبين من ترقيمها، وبقي منها ثمانية مجلدات من القطع الكبير وأربعة وعشرون مجلدا بين متوسط وصغير، وكان رجل من باعة الكتب القديمة أعرفه وأشتري منه بعض الكتب قد عثر بها فأحضرها إلي، ويظهر أن عمي تركها عند سفره إلى أمريكا إذ كان قد جاوز الخمسين من عمره، ودون على هوامشها كثيرا من تعليقاته وملاحظاته.

لقد كانت عائلتنا الخاملة هذه بين السابقين إلى قبول مذهب الإصلاح، ولبثت على المذهب البروتستانتي خلال حكم الملكة ماري، وتعرضت للمتاعب أحيانا من جراء غيرتها في مقاومة البابوية، وكان لديهم نسخة إنجليزية من الكتاب المقدس يحتالون على إخفائها بوضعها في داخل كرسي ينطوي وينبسط ويضعه جدي الأكبر على ركبتيه كلما أراد أن يقرأ على الأسرة شيئا من آياته، وكان أحد الأطفال يقف عند الباب لينبههم إلى قدوم الرقيب الموظف بالمحاكم الروحية كلما بصر به قادما من بعيد، فينطوي الكرسي في هذه الحالة، ويختفي الكتاب المقدس فيه كما كان. وقد أنبأني بهذه القصة عمي بنيامين، وعلمت أن الأسرة كلها دانت بمذهب الكنيسة الإنجليزية إلى أيام شارل الثاني التي حدث فيها فصل بعض القساوسة لانحرافهم عن مذهب الكنيسة الملكية، فاستقلوا بنحلتهم في «نورثامبتون شاير» وانضوى إليهم بنيامين وجوشيا وظلت بقية الأسرة على مذهب الكنيسة الرسولية.

وتزوج أبي - جوشيا - صغيرا فانتقل بزوجته وأطفاله الثلاثة إلى نيو إنجلاند بأمريكا حوالي سنة 1682 لصدور القانون بتحريم قيام النحل المخالفة للكنيسة في البلاد الإنجليزية، وأقنع طائفة من صحبه بالهجرة إلى هذه البلاد لما كان يلقاه من العنت في وطنه، فاقتنع هو وصحبه بضرورة الهجرة أملا في التحرر من الحجر على عقائدهم، وولد له من زوجته الأولى أربعة أطفال آخرين، ثم عشرة أطفال من زوجة أخرى، فتم عددهم سبعة عشر، وأذكر منهم ثلاثة عشر يجلسون على مائدته عاشوا حتى أصبحوا رجالا ونساء وتزوجوا جميعا. وكنت أنا أصغر الأبناء وأصغر الأطفال جميعا ما عدا طفلتين أصغر مني، وولدت في بوستون بنيو إنجلاند.

وزوجته الثانية - أمي - هي آببا فولجر بنت بطرس فولجر أحد السابقين من المهاجرين إلى نيو إنجلاند، وأشار إليه كوتون ماثر إشارة مشرفة في تاريخه لكنيسة ذلك الإقليم فقال عنه - إذا لم تخني الذاكرة: إنه رجل إنجليزي صالح مثقف.

وسمعت أنه كتب مقطوعات متفرقة كثيرة في مناسباتها لم تطبع منها غير واحدة اطلعت عليها منذ سنوات، وقد نظمها في سنة 1675 على النسق الذي كان متداولا مألوفا يومذاك، ووجهها إلى القائمين بالحكم في ذلك الحين حاثا فيها على حرية الضمير منافحا عن عقيدة العماديين وجماعة الصحابيين وغيرها من النحل التي كانت عرضة للحجر والاضطهاد، وعزا فيها مصائب الحرب الهندية والمصائب الأخرى التي ابتليت بها البلاد إلى تلك السيئة البغيضة التي يصب الله غضبه على مرتكبيها، داعيا إلى إلغاء القوانين التي سنت للتضييق على ضمائر الناس، وقد لاح لي أن المقطوعة كلها كتبت بأسلوب الصراحة اللائقة والرجولة الكريمة في الذود عن الحرية، وإني لأذكر سطورها الستة الأخيرة حيث يقول: إنني لأمقت المذمة من كل قلبي، وأناديكم من مدينة شربورن التي أقيم فيها موقعا باسمي، غير مسيء إلى أحد منكم، أنا بطرس فولجر.

وتتلمذ إخوتي الكبار جميعا في صناعات مختلفة، وأدخلت أنا مدرسة الأجرومية في الثامنة من عمري، وأراد والدي أن ينذرني للكنيسة لأنني عاشر أبنائه، وقد كان استعدادي المبكر لتعلم القراءة - ولا بد أنه كان مبكرا جدا لأنني لا أذكر زمنا كنت فيه أجهلها - موافقا لنبوءة أصدقائه الذين اعتقدوا أنني خليق بمستقبل حسن في الأستاذية، فشجعه اعتقادهم على إتمام مقصده. وقد أقره عمي بنيامين على رأيه، واقترح أن يهب لي كل ما عنده من مجاميع العظات الدينية، ولكنني بقيت في المدرسة مدة لا تزيد على السنة نقلت خلالها من وسط الفصل إلى مقدمته ثم نقلت من هذا الفصل إلى الفصل الذي يليه كي أنتظم في الفصل الثالث عند نهاية السنة.

على أن والدي وجد أثناء ذلك أن التعليم الجامعي كبير النفقة لا ينهض بأعبائه مع تكاليف عائلته الكبيرة ووفرة مطالب المعيشة التي تلائم المتعلمين، وسرد هذه الأسباب على مسمع مني لأصدقائه تسويغا لنقلي من مدرسة الأجرومية إلى مدرسة أتعلم فيها الكتابة والحساب يديرها رجل مشهور يسمى جورج برنويل ناجح في صناعته لوداعته وطيب معشره، ومنه تعلمت الكتابة المقبولة في وقت وجيز، ولكنني أخفقت في تعلم الحساب ولم أتقدم فيه، ولما بلغت العاشرة خرجت من المدرسة لمساعدة والدي في صناعته وهي صناعة الشمع والصابون التي لم يكن قد تدرب عليها منذ صباه، بل اتخذها بعد وصوله إلى نيو إنجلاند؛ لأن رزقه من الصباغة لم يقم بنفقة العائلة الكبيرة لقلة الحاجة إليها في نيو إنجلاند، فعملت في قطع الفتائل للشمع وصب السائل في القوالب وملاحظة الدكان وإيصال الرسائل والطلبات.

ونفرت من هذه الصناعة وشعرت بميل شديد إلى العمل في البحار، ولكن والدي أبى علي هذا العمل، وظللت - لقربي من الماء - متعلقا بالبحر، فتعلمت السباحة وتسيير الزوارق وأصبح من المألوف كلما اجتمعت في زورق أو قارب مع زملائي من الصبية أن يعهدوا إلي في تسييره، وبخاصة في الحالات المتعسرة، وتكررت قيادتي لهم في غير تلك الحالات، فكنت أقودهم إلى بعض المناوشات التي أذكر هنا مثلا منها لما فيه من الدلالة على الدوافع العامة، وإن لم يكن مثلا لحسن تدبيرها وتصريفها.

كان في جوارنا مستنقع ملح يحيط ببركة المصنع، تعودنا أن نقف عند حافته ساعة المد لنصطاد السمك الصغار، وطال ترددنا على تلك الحافة حتى توحلت وجعلت تسيخ بأقدامنا. فعن لي أن نبتني عليها رصيفا نستخدم في بنائه كوما من الحجارة معدا لإقامة منزل جديد بجانب المستنقع وصالحا كل الصلاح لبناء الرصيف الذي نريده، وعلى هذا جمعت بعض الرفاق - بعد انصراف العمال في المساء - وأخذنا في نقل الحجارة كأننا سرب من النمل يتعاون اثنان منا أو ثلاثة أحيانا على نقل الحجر الواحد حتى نقلنا الحجارة كلها، وأتممنا بناء الرصيف، وجاء العمال صباح اليوم التالي، فدهشوا لاختفاء الحجارة وعلموا أنها نقلت إلى الرصيف الذي بنيناه، وبحثوا عن الجناة فعرفونا وشكونا إلى آبائنا، ولم ينفعني عند أبي اعتذاري له بأنه عمل نافع؛ لأنه قال لي: إنه ما من عمل يخل بالأمانة يوصف بالمنفعة.

وأحسبك تواقا الآن إلى الإلمام بشيء من صفاته وأخلاقه. فاعلم أنه كان ضليع البنية معتدل القامة لا بالطويل ولا بالقصير، ولكنه مدمج الجسم قوي الأركان، ذكيا يرسم رسما حسنا، ويجيد العزف على آلات الموسيقى بعض الإجادة، وله صوت مقبول يتغنى به حين يوقع المزامير على القيثار كما تعود في المساء بعد الفراغ من أعمال النهار، فيطربنا جدا أن نصغي إليه، وكانت له براعة في تناول الأدوات والآلات يستخدم منها ما ليس من صناعته فيحسن استخدامه. غير أن المزية الواضحة التي كان يمتاز بها سلامة الفهم والرأي في تناول المسائل الخاصة والعامة، وإن تكن شواغله العائلية لم تدع له قط وقتا للعمل في هذه المسائل العامة، واستغرقت أوقاته جميعا في القيام بتعلمها والتفرغ لكسب الرزق مع قلة المورد والعائدة. إلا أنني أذكر جيدا أن أناسا من الوجهاء البارزين كانوا يزورونه فينة بعد فينة؛ لاستشارته في شئون البلد أو شئون الكنيسة التي ينتمي إليها، ويتقبلون منه الرأي والنصيحة بالتجلة والاحترام، كما أذكر أن أناسا من أصحاب المشكلات الخاصة كانوا يسألونه النصيحة ويحتكمون إليه فيما يشجر بينهم من خلاف، وكان من عاداته أن يدعو إلى مائدته صديقا أو جارا من ذوي الفطنة يتحدث إليه، ويحاول على الدوام أن يختار للحديث موضوعا يفتق أذهان الأطفال ويلفتنا بهذه الوسيلة لما ينبغي من الخير والعدل والحكمة في تدبير شئون الحياة.

هذه النبذة من مفكرات فرنكلين معينة لنا - على وجازتها - في تصوير الجانب الموروث من تكوينه واستعداده وعامة أخلاقه، وتتلخص في قوة البنية، واستقامة الطبع، وسداد الفطنة، والاعتراف بالواقع مع الشجاعة، وإباء الضيم، والتأهب للمخاطرة إيثارا لها على الخضوع للمذلة، وقد تكون هذه النبذة الوجيزة معينة لنا في تصوير الاستعداد الاجتماعي الذي ينتقل بالوراثة مع كيان البنية، ولكنه لا يظهر في المجتمعات كافة على درجة واحدة، بل يتوقف ظهوره على مؤاتاة الحوادث والبيئات، ومن هذه الموروثات الفطرية الاجتماعية حسن الاستعداد للسلوك مع الناس من الأنداد والرؤساء، وحسن الاستعداد للفهم والمعرفة، وحسن الاستعداد للحكم على عوارض الحياة ما كان منها عاما مشتركا، وما كان منها خاصا محصورا في شئون المرء وذويه، وقد تكون الدراية بالصناعات من المعادن «المصنوعة» كما يؤخذ من اسمها ولكنها لا تكسب في جميع البيئات على السواء، ولا تكسب في البيئة الواحدة على درجة واحدة، وقد يطول البحث في وراثة المزاج الذي يعين صاحبه على مطالب الحياة الاجتماعية، هل هو موروث كله، أو هو مكسوب كله من البيئة الاجتماعية؟ غير أننا نخال أن البحث قليل في صلاح المرء للسلوك مع الناس، وحسن التصرف في علاقاته الاجتماعية، كلما اعتدل مزاجه، وسلم تكوينه، واستقامت فطرته. فلا شك هنا في معاونة الأخلاق الموروثة للأخلاق الاجتماعية، ولا في التفرقة بين الصالحين للحياة وغير الصالحين لها كائنة ما كانت شروط المجتمعات على الأحياء.

بهذه الوراثة - وراثة الصلاح للحياة - ولد فرنكلين وعاش إلى ختام حياته في سنه العالية، وقد كان هذا المزاج الموروث فيه أشبه بالبنية الصالحة لاهتضام كل طعام واستخراج كل ما فيه من غذاء، فما كان عسيرا على غيره أن يهتضمه ويستفيد منه لم يكن عسيرا عليه أن يجعله غذاء صالحا على ما يعيبه من غثاثة أو مرارة، ولم يكن يعيبه أن يهيئ ذلك الغذاء لغيره بعدوى الحكمة المطبوعة والسجية السمحة، وقد يصنع ذلك مع الزملاء المنافسين كما يصنعه مع الرؤساء والمرءوسين، ونادرته مع جفرسون - وهو من أعظم زملائه في قيادة الثورة الأمريكية - مثل لهذا الخلق المطبوع على الترويض والتهوين: ترويض الطبائع العصبية وتهوين المشكلات الصعاب.

فقد عز على جفرسون أن يعارضه آباء الاستقلال في كل كلمة كتبها في الإعلان الذي أذيع به استقلال الأمة الأمريكية، وجلس كئيبا حانيا رأسه بين يديه لا يدري ماذا يصنع بتلك الملاحظات المتناقضة؟ وكيف يكتب ما يرضاه هذا الفريق وذاك الفريق وهم يجددون الملاحظة مع كل تعبير، ولا ملامة عليهم في التدقيق الشديد؛ لأنه إعلان تاريخي توزن فيه كل كلمة بموازين الحقوق والأرواح.

فخرج فرنكلين من تلك الجلسة الغائمة بفكاهة من فكاهاته السمحة، هونت على جفرسون ما كان يلقاه ونشطت به إلى تجديد العناء في الحذف والإبدال والإصغاء.

قال فرنكلين: إنها قصة جون تومبسون تعاد من جديد.

وسأل جفرسون: من جون تومبسون هذا؟

فعاد فرنكلين يقول: جون تومبسون هذا صديق قديم، كان يتتلمذ على معلم مشهور بصناعة القبعات، ثم خطر له أن ينفرد بالعمل ويفتتح له دكانا يكتب له إعلانا جامعا يجتذب إليه طلاب القبعات. فكتب الإعلان وقال فيه: «إن جون تومبسون قبعاتي، يصنع القبعات ويبيعها نقدا». وراح يعرض الإعلان على أصدقائه ليسألهم رأيهم فيه، فقال له أولهم: إنه لا حاجة به إلى كلمة «قبعاتي» ما دام في الإعلان أنه يصنع القبعات ويبيعها، وقال له الصديق الثاني: إن الناس لايهمهم أنه صانع القبعة ما داموا يجدونها أمامهم معروضة للبيع، وقال له الثالث: إنه من السخف أن يقول «يبيعها نقدا» ما دام معروفا عنه أنه لم يكن من أصحاب المصارف التي تقرض على الحساب، وقال له الرابع: إنه ما من أحد ينتظر منه أن يتبرع له بالقبعة إحسانا، أو هدية، فما حاجته أن يقول أنه يبيع القبعات؟ وبقي الإعلان هكذا بعد كل هذه التنقيحات: (جون تومبسون. قبعات) فقال له الصديق الخامس: إنه لا حاجة إلى كلمة قبعات ما دامت صورة القبعة مرسومة في الإعلان، وانتهت النصائح والتعديلات ببقاء اسم جون تومبسون وإلى جانبه صورة قبعة، وهكذا تنتهي بلاغة البلغاء كلما عرضوها على الناس للتنقيح وإبداء الآراء.

وهذه القصة - وحدها - كلمات فارغة لا يقرؤها أحد ويظن أنها تساوي أن ينفق فيها وقت استماعها، ولكنها في ذاكرة فرنكلين وضعت في موضعها فصلحت لتفريج أزمة، ودفع سآمة وتجديد نشاط في نفس عظيمة، ولم يستطع فرنكلين أن يصنع بها هذه المعجزة لأنه يعرف حكاية تروى، وإنما استطاع المعجزة لأنه اتخذ من تلك الحكاية أداة للطبيعة السمحة المفطورة على تذليل الصعاب، وتقدير المعاذير، وقبول الدنيا على علاتها وأخذ الناس جملة بما طبعوا عليه من الهنات.

ونحن لا يفوتنا في معرض الكلام على الأخلاق الفطرية ، أو الأخلاق الموروثة، أن نقرر تلك الحقيقة المشهودة التي يتوقف عليها إنصاف «الشخصية الإنسانية» وتقويم كل ترجمة من تراجم العظماء بقيمة صاحبها، ونعني بتلك الحقيقة المشهودة أن الخلق الموروث لا يلغي المزايا الفردية ولا ينقص من فضل الفرد في الانتفاع بما ورث مع اختلاف الزمن وتبدل المواطن والمناسبات التي ينتفع فيها بتلك المزايا. فإذا استطاع الفرد في الجيل الحاضر أن يستخدم مزاياه الموروثة التي كانت نافعة لآبائه قبل جيل أو جيلين فلا بد من فضل له في حسن الاستخدام وحسن الاحتفاظ بما آل إليه من تراث الأقدمين، وإذا كان الحطام الموروث قابلا للضياع، أو كان الغالب عليه أن يضيع ولا يبقى، فالأخلاق الموروثة تضيع كما يضيع الحطام إذا آلت إلى المفرط فيها والعاجز عن صيانتها، وقد توضع الفطنة في غير موضعها فتضر ولا تنفع، وتجور الشهوات على الجثمان القوي فتنهكه، وقد يكون الشعور بالقوة من بواعث الشطط والتمادي في الغواية، وقد كان مساك الاعتدال في خلائق الآباء والأجداد.

وفرنكلين لم يضيع ما ورث ولم يحتفظ به كما ورثه، بل نماه وثبته وقواه، وعاش إلى ختام أيامه بثروته النفسية وعليها أضعاف مضاعفة من ثمرات السنين.

رآه شاب من شارلستون يسمى فيليب ماكنزي وهو في السبعين فكتب إلى صديق له يقول: «إنه يقارب خمس أقدام وتسعة قراريط، وبدنه أضخم مما يناسب طوله، وعيناه رماديتان نفاذتان كالصلب الحديد. وله رأس كبير وجبين عال وعلى خده الأيسر خال. لا يلبس الشعر المستعار وشعره الطبيعي مرسل يتدلى على كتفيه، ومن الغريب أنه لم يخطه الشيب إلا قليلا مع أنه في السبعين، وقد تحدث إلى أعظم العظماء في العالم، ولكنه كان يصغي إلى تعليقاتي الغريرة كأنها تستحق الإصغاء حقا، وقد أبديت ملاحظتي هذه بعد انصرافه لصديقي ايد روتلدج فضحك وقال لي: «إياك أن تخطئ فهمه. إن الدكتور فرنكلين كان مهتما حقا وأنت لا تعرف، فإنه ليهتم بكل شيء وكل إنسان، ويعنيه من تكون أنت وماذا عملت في حياتك».»

2

واهتمام فرنكلين هذا الاهتمام بكل شيء وبكل إنسان ، هو موطن العجب والإعجاب بتلك القدرة التي صمدت لمهام الحياة طوال ذلك العمر المديد، ولم تبخل على مهمة منها بحقها من العناية ولا على أحد بحقه من المبالاة، وبقي الرجل بعد هذه التكاليف جميعا وكأنه في وهم من يراه لا يهتم بشيء ولا يكثرث لخطب ولا يرى على حال من القلق والاضطراب.

وليس أكثر من الحوادث والأنباء التي اعترضت هذه الحياة في مراحل طريقها، بل طرقها العديدة. وليس من اللازم للتعريف به أن نحصيها ونرتبها على حسب تواريخها، فكل ما يهمنا في ترجمة العظيم من حوادثه وأنبائه أن تصور لنا جانبا من جوانب شخصيته وسرا من أسرار عظمته واقتداره، وسنتحرى ذلك فيما سنكتبه عن فرنكلين العالم، وفرنكلين الكاتب، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف، ونكتفي بالسلسلة التالية من أرقام السنين ومعالم الطريق لمراجعة المواقيت كلما دعت الحاجة إليها في مناسباتها، وهذه هي كما نقتبسها من تقويم سيرته في كتاب رجال أمريكا تأليف ليونل الفين، وهو تقويم واف في بابه لمن يتتبع مراحل الطريق من هذه السيرة:

السنة

الحدث

1706

ولد في السابع عشر من يناير في بوستون.

1714

قضى سنة في مدرسة الأجرومية.

1714-1716

في مدرسة تجارية.

1716

مساعدا لأبيه في عمله.

1718

تلميذا لأخيه من أبيه، جيمس، في صناعة الطباعة.

1721

ينشئ جيمس فرنكلين صحيفة «ذي إنجلاند كورانت» رابع صحيفة في المستعمرات.

1722

بنيامين فرنكلين يحرر الصحيفة أثناء حبس أخيه لانتقاداته السياسية.

1723

أخوه لا يحسن معاملته فيهجر بوستون إلى فلادلفيا ويعمل في الطباعة.

1724

يغرى بالسفر إلى لندن لشراء اللوازم ويتخلى عنه صاحب عمله الحاكم كيث ولا يبعث إليه برسائل التوصية التي وعده بها، ويعمل في الطباعة.

1725

ينشر كتابه الأول نقدا لبعض الآراء الدينية.

1726

يعود إلى فلادلفيا ليعمل في دكان، ولكنه يعود إلى الطباعة.

1730

ينفرد بحيازة مطبعة، ويتزوج.

1730-1748

طباع ناجح مطرد النجاح. يصدر تقويم ريتشارد المسكين وصحيفة بنسلفانيا جازيت، ويتولى شئونا مهمة في حياة فلادلفيا العامة، ولا سيما مشروعات إصلاح المدينة وخدماتها الاجتماعية. يشتغل بمباحثه ومخترعاته العلمية، ويؤسس في سنة 1743 جماعة الفلسفة الأمريكية، وتناط به أمانة سرها.

1748

يعتزل العمل محتفظا بمورد سنوي منه يكفل له معيشته.

1749-1752

تجاربه الكهربية الأولى، وإثباته للكهربية في الصواعق، واختراعه لعمود الصاعقة، وشهرته العلمية الواسعة.

1751

نائب عن فلادلفيا في هيئتها النيابية.

1753

نائب مدير لمصلحة البريد في المستعمرات.

1754

ينوب عن بنسلفانيا في مؤتمر ألباني للمستعمرات ويقترح تكوين الاتحاد.

1755

منظم تموين البعثة التي قادها الجنرال برادوك في قتال الفرنسيين والهنود الحمر.

1757

سافر إلى لندن للنيابة عن الشعب في خلافه مع ملاك الإقطاع في بنسلفانيا.

1762

عاد إلى أمريكا.

1764

سافر إلى إنجلترا مرة أخرى.

1766

نوقش علنا بمجلس النواب في مطالب الأمريكيين بصدد القانون المعروف بقانون الدمغة.

1767-1775

تزداد شكوكه في سياسة وزراء جورج الثالث، ويزداد اقتناعه بضرورة إعلان المستعمرات لاستقلالها، ويثابر مع ذلك على بحوثه العلمية، وتتصل صداقته العلمية والسياسية والفلسفية بالعالم «بريستلي»، ويتصل العطف بينه وبين بيرك خطيب الأحرار.

1775

يعود إلى وطنه، ويختار عضوا للمؤتمر القومي الثاني، وعضوا في لجنته المنوط بها تحرير إعلان الاستقلال، ويباشر إعداد العدد العملية للمقاومة.

1776

أرسل مع اثنين للنيابة عن بلده في فرنسا.

1777

نجاح عظيم، وشهرة سياسية وفلسفية ودبلوماسية في فرنسا.

1778

عقد المعاهدة بين فرنسا والولايات المتحدة، وفرنكلين هو المندوب الأمريكي الوحيد في فرنسا.

1783

أحد المندوبين في مفاوضات الصلح مع بريطانيا العظمى، ويتم توقيع معاهدة الصلح بباريس.

1785

يعود إلى وطنه، ويتقلد رياسة بنسلفانيا.

1787

مندوب في لجنة الدستور.

1788

يعتزل الحياة العامة.

1790

توفي في السابع عشر من شهر أبريل.

العالم

إذا وجب أن نكتفي بصفة واحدة لفرنكلين تغني عن جميع صفاته، وتنطوي فيها جميع الملكات والمواهب التي أعانته على جميع أعماله وآرائه، فتلك هي صفة العالم.

يقول كروثر في كتابه عن مشاهير رجال العلم في أمريكا: «إنه لولا شهرته العلمية لم يكن خليقا أن يصبح عبقري أمريكا السياسي في باريس.»

1

وهو قول صحيح من وجوه كثيرة. ولكننا لا نعني هذه الشهرة التي استفادها من بحوثه العلمية حين نقول: إن صفة العالم تغني عن صفاته الأخرى إذا وجب أن نكتفي منها بصفة واحدة، وإنما نعني أن ملكته العلمية كانت ملحوظة في جميع أعماله على اختلافها، فكان عالما في سياسته، وكان عالما في صناعاته اليدوية والفكرية، وكان عالما في وظائفه الإدارية، وكان عالما في معيشته اليومية، وربما استطاع في أطوار كثيرة من حياته أن ينسى أنه سياسي، أو ينسى أنه موظف، أو ينسى أنه كاتب، أو ينسى غير ذلك من تكاليفه، وجهوده، إلا صفته العلمية فإنها لم تفارقه قط في مهمة من المهام الكبرى أو الصغرى التي تصدى لها طول حياته، ولم يكن يشرع في مهمة منها إلا كانت ملكته العلمية أسرع ملكاته إلى الظهور فيها والاقتران بها إلى أن يفرغ منها.

والملكات العلمية كثيرة حين ننظر إليها متفرقة في العلماء المنقطعين لدراسات العلم وتجاربه، وإذا قلنا عنها: إنها «ملكة علمية» بصيغة المفرد، فهي في هذه الحالة عنوان لصفات كثيرة قد تجتمع للعالم الواحد، وقد تتفرق بين كثير من العلماء، ولكنها في جملتها لم تتوافر للكثيرين كما توافرت لفرنكلين من بواكير صباه إلى ختام حياته.

فمن الملكات العلمية جمع الحوادث المتفرقة المتشابهة في ظاهرة واحدة. وقد كان فرنكلين عالما في طفولته حين رأى أباه يصلي صلاة البركة على طعام كل وجبة فسأله: لماذا لا تصلي يا أبي على الذبيحة مرة واحدة تغنيك عن تكرار الصلاة قبل كل وجبة؟

ومن الملكات العلمية ملاحظة الأحوال الطبيعية التي تعرض لنا مصادفة، ثم تكرار التجربة عليها للتثبت من حصولها بالاتفاق أو على التواتر والاطراد. وقد كان فرنكلين عالما في صباه حين راقب نفسه وهو يسبح في الماء وفي يده طيارة الورق، فرأى أن العوم أيسر له وأسر له في هذه الحالة من العوم بغير طيارة، وعاود التجربة على أوضاع مختلفة حتى تثبت من تيسير الطيارة لجهود السابح في الماء على أوضاع متعددة.

وقد كان فرنكلين عالما في اختيار الخطة التي تيسر له إتقان الكتابة، وكان عالما كذلك في اختيار الخطة التي يتوخاها لمراقبة أخلاقه وتهذيب نفسه، والعلم بنصيبه من كل خلق من هذه الأخلاق ومقدار حاجته إلى المرانة عليه في معيشته اليومية، فقد كانت التجربة والملاحظة والإحاطة بالعوامل المختلفة والبحث في جملة الفروض الممكنة بعض وسائله في هذه المحاولات وما جرى مجراها، وكان قياسه للنجاح الفكري والنجاح النفساني مرصودا عنده على الورق يقرره ويستدل منه على مبلغه من التقدم فيه ومبلغ الصعوبة أو السهولة في هذا التقدم على توالي الأيام.

أعجبه أسلوب الكاتب الإنجليزي «أديسون» في مجلة السبكتاتور فأراد أن يمتحن نفسه في القدرة على محاكاته، وأن يدرب قلمه على الكتابة بهذا الأسلوب وهو في أوائل عهده بالكتابة، فاختار مقالة من مقالات الكتاب ودون معانيها وأغراضها العامة على ورقة، ثم ترك القراءة في الكتاب لينسى عباراته وألفاظه. وعاد إلى الورقة بعد أيام فأعاد كتابة المعاني التي دونها فيها معنى بعد معنى بعبارات من عنده لا يذكر ما يقابلها من عبارات الكتاب، ورجع إلى الكتاب بعد ذلك ليقابل بين الأسلوبين في التعبير عن المعنى الواحد، فوضح له الفرق بينهما ووقف على الأخطاء التي تحتاج إلى العناية بإصلاحها واجتنابها، وعرف من عيوبه أنه قليل المحصول من مفردات اللغة، وأنه يبحث عن الكلمة التي يؤدي بها المعنى فلا يجدها حاضرة في ذهنه. فعمد إلى المقالات ينظمها شعرا؛ لأنه يعلم أن الشعر يحتاج إلى المترادفات من الكلمات التي تتفق في معناها وتختلف في أوزانها وعدد حروفها ومقاطعها، وأنه يحتاج إلى القوافي والفواصل في سطوره المتوالية، وأنه على ذلك سهل الحفظ والإعادة؛ لأن الكلمة التي نبحث عنها مع العلم بوزنها وقافيتها لا تتعبنا في البحث كما تتعبنا الكلمة المرسلة بغير وزن ولا قافية. وكان يجرب مع هذه الطريقة طريقة أخرى في امتحان القدرة على الترتيب والتعبير، فكان يدون المعاني مختلطة مبعثرة، ثم يعود إليها بعد أيام ينسى فيها ألفاظها وعباراتها، فيبدأ بجمعها وترتيبها ثم يعاود كتابتها بألفاظ وعبارات من عنده، ويسجل الفروق بين أسلوبه وأسلوب أديسون، كما يسجل درجات التقدم في تجربة بعد تجربة، فلا يترك هذا التسجيل للظن والتخمين، بل يراه أمامه محصورا بالأمثلة والشواهد والأرقام، ولا يبالغ في الثقة بنفسه، ولا في قلة الثقة بها على الحالين، بل يعرف عيوبه وحسناته ويقول لنا في ترجمته لنفسه أنه كان يغتبط أحيانا كلما رأى له عبارة تفوق عبارة الكاتب في جمالها ودقتها.

وأراد في سن الرجولة أن يروض نفسه على محاسن الأخلاق، وأن يهتدي إلى حظه منها ومبلغ افتقاره إلى زيادتها أو تمكينها أو تهذيبها، فأحصى الأخلاق المثلى، وعرفها على النحو الآتي: (1)

الاعتدال:

لا تأكل حتى الشبع، ولا تشرب حتى النشوة. (2)

الصمت:

لا تنطق إلا بما ينفع الناس أو ينفعك، وتجنب الفضول والثرثرة. (3)

النظام:

اجعل لكل شيء موضعه، واجعل لكل جزء من أعمالك وقته وموعده. (4)

العزيمة:

اعزم على أن تعمل ما يلزم، واعمل ما تعزم على عمله بغير وناء ولا تقصير. (5)

القصد:

لاتنفق شيئا في غير مصلحة لك أو لغيرك، ولا تبدد شيئا أو تنفقه عبثا. (6)

النشاط:

لا تضيع وقتا، واشغل وقتك بما يفيد، وانقطع عن كل عمل لا ضرورة له ولا داعية إليه. (7)

الإخلاص:

لا تلجأ إلى خداع ضار، وفكر ببراءة وإنصاف، وتكلم وفقا لما تفكر فيه. (8)

العدل:

لا تسئ إلى أحد بما يضره، ولا تهمل منفعة واجبة عليك. (9)

التقدير:

تجنب الإفراط والتفريط، ولا تستسلم لرد الإساءة بما توحيه إليك بواعثها. (10)

النظافة:

لا تغفل عن النظافة في شخصك، ولا في ملبسك، ولا في مسكنك. (11)

السكينة:

لا تقلق للصغائر، ولا للحوادث التي لا تمتنع ولا حيلة لك فيها. (12)

العفة:

لا تطاوع شهوات الجسد في غير داع من دواعي الصحة أو الذرية، ولا تبلغ بها مبلغ البلادة والضعف أو الإضرار بسلامتك وسمعتك أو سلامة غيرك وسمعته.

وأنبأه بعض أصدقائه أنه يوصف أحيانا بالكبرياء، فأضاف إلى هذه الأخلاق خلق التواضع ولم يعرفه كما عرفها، بل اكتفى بأن كتب أمامه: «سر على منهاج المسيح وسقراط.»

ولما فرغ من إحصاء هذه الأخلاق بعد عرض الأخلاق الإنسانية جميعا على ذهنه، ورأى أن هذه الأخلاق التي اختارها هي مساك المروءة وأجدرها منه بالارتياض عليها واستدراك نقصها - جعل لها درجات يومية في كل أسبوع، وأخذ نفسه بتقدير هذه الدرجات ومحاسبة ضميره عليها، ليبدأ الأسبوع التالي على عزيمة وبصيرة بحظه من النجاح، والإخفاق.

وهكذا كان يصطحب مقياسه العلمي في معيشته اليومية وفي ملاحظاته العارضة، ولا ينتهي إلى حكم فيها إلا على قدر معلوم وحساب مرقوم، ومن تجاربه العارضة في ذلك أنه رأى في طريقه واعظا يلقي على الناس خطبة من خطبه الدينية، وأحب أن يعرف مقدار الإقبال عليه ومبلغ أثره في سامعيه، فتراجع إلى أقصى مكان في الحلقة وعد خطواته وراقب انصراف الناس عن الخطيب وبقاءهم حوله، وقدر لكل رقعة محدودة من الأرض عدد الواقفين عليها، وعلم بذلك مكانة الخطيب.

أما كشوفه العلمية فقد كانت مقاييسه فيها تجمع هذه المقاييس وتزيد عليها خصلتين نادرتين في زمانه، ولا تزالان نادرتين في هذا الزمان، ولعلهما من الخصال التي لا تكثر في زمان من الأزمنة.

هاتان الخصلتان هما: توحيد القوانين الطبيعية في أرجاء الكون، وتفتح الذهن لكل فرض واحتمال.

فقد كان له عقل يفكر في حوادث السماوات والأرضين على نسق واحد، ولا يقيم بين الحوادث فرقا تختلف فيه قوانين الطبيعة بين مكان ومكان، فلم يجد في تفكيره فرقا بين انتقال الكهربا من سحابة إلى سحابة، وبين انتقالها من جسم إلى جسم في الأجهزة المصنوعة على النمط البدائي الذي شاع بين العلماء في القرن الثامن عشر، ولم يجد فرقا بين حركة الهواء في الحجرة من أثر التسخين الصناعي، وبين حركة الهواء في عواصف البحار والمحيطات.

وكان يلتفت إلى المشاهدات ولا يرفض منها شيئا بغير بينة وقبل التجربة والمراجعة، وسنقرأ له في المختارات من كلامه أنه كان يعيب المحدثين لاستخفافهم بمشاهدات الأقدمين، ويعيب العلماء لاستخفافهم بمشاهدات العامة والجهلاء، فكل مشاهدة لها عنده حق من الاستماع والعناية إلى أن يتحقق من صحتها أو بطلانها، وربما انتهى إلى حكم فيها ثم علق هذا الحكم على التجارب التالية التي يتهيأ لأصحابها أن يكشفوا عن عواملها وأسرارها ما ينكشف للباحثين في الوقت الحاضر.

ونذكر لهذه الخصائص العقلية أسبابا شتى لتعليمها والرجوع بها إلى ظروفها وملابساتها.

فمن هذه الأسباب أنه كان يعيش في عصر «نيوتن» علامة الفلك والرياضة في عصره، وأنه اطلع على قوانين نيوتن التي يعلل بها حركات الأجسام العلوية والسفلية، وألوان النور المنبعث من الشموس، ومن المصابيح الصناعية.

ومن هذه الأسباب أنه سليل آباء وأجداد من الصناع الذين تعودوا التجربة العملية في تركيب المعادن والأجسام، وقد سلمت طوائف الصناع بعض السلامة من التقاليد الخرافية التي يتوارثها المتكلمون على الغيب وعلى عوارض الخصب والجدب والوفر والشح في محصولات الأرض ومزروعاتها، فتحرر ذهنه من الخرافات الموروثة التي تعلل الحوادث بغير عللها المتكشفة لعقل الإنسان، وتسنى له أن يصل إلى العلة المعقولة من طريق لا تعوقه فيه السوابق والغوامض والمحجبات.

وأسعده على هذه الخصلة أنه كان من سلالة الثائرين على السلطان الديني في القرون الوسطى، وأنه لم يكن هو ولا آباؤه من المتقيدين برياسة كهنوتية في مذهبه أو غير مذهبه، فلم يشعر بالحجر الذي كان يشعر به الجامدون على العقائد الموروثة من بقايا القرون الوسطى.

ويحصي كروثر صاحب كتاب مشاهير رجال العلم المتقدم ذكره أسبابا موضعية أو محلية هيأت له النجاح في بحوثه العلمية، ولم يكن - على رأيه - لينجح فيها لولا تلك الأسباب.

فعنده أن هجرة فرنكلين من بوستون إلى فلادلفيا كان لها أكبر الأثر في الوجهة التي اتجه إليها وفي المباحث العلمية التي توافر عليها؛ لأن بوستون كانت على أيام فرنكلين معقلا للمحافظين والمتشددين في العقائد والأفكار التي ترتبط بالديون وعادات الاجتماع.

وعنده أن فلادلفيا كان يتوافر فيها الجفاف الذي يعين على التجارب الكهربية، وكانت تتوافر فيها إلى جانب ذلك مواد الخامات التي تجرى عليها تلك التجارب وتصنع منها أصناف االورق كالخرق والنفايات، ولولا هذه المواد الميسرة لأحجم فرنكلين عن تجاربه الكهربية وعن التعويل على الصحافة والطباعة ونشر المطبوعات.

وقد تقبل هذه التعليلات جميعا، وتبقى بعدها بقية لا يفسرها إلا انفراد فرنكلين بالعبقرية التي ميزته بين الألوف من المشاركين له في جميع هذه الظروف وجميع هذه الأسباب.

فماذا كان فرنكلين يعلم من قوانين نيوتن وسائر القوانين الطبيعية إلى جانب علم الفطاحل من أعضاء مجمع العلوم في بريطانيا العظمى؟

لقد كانوا في مجموعهم على الأقل يحيطون بما لم يحط به من معارف عصره، ولكنه أدرك أن الكهربا في البروق والصواعق هي الكهربا في الصمغ والزجاج، وأغربوا هم ضاحكين حين أفضى إليهم بهذا الرأى فلم يتحولوا إليه إلا بعد سنتين.

وربما صح أن افتقاره إلى العلم كان من مزاياه، ولم يكن من عيوبه في تلك الآراء التي كان يسبق إليها العلماء المتخصصون؛ لأنه - كما قال برنارد جاف في كتابه عن علماء أمريكا

2 - لم يكن مثقفا، ولكنه لم يكن مشكولا أو مربوطا (Untramell)

فلم تقف عقبات الآراء المحفوظة في طريقه، ولم تعقه القواعد التقليدية في دراسة الآراء، ولكن فقدان الشكال على كل حال لا يوجد لنا الجواد، فلا بد من جواد سباق وراء ذلك اللجام المخلوع أو المفقود.

ويجوز أن «فلادلفيا» ساعدت على التجارب الكهربية، ولا يمتنع أن يكون الجو الرطب مساعدا عليها في معرض آخر من معارض البحث والدراسة. ولقد حصل فرنكلين من بوستون على جهاز أعاره إياه صديقه الدكتور سبنس

Spence

الذي لا نعلم عنه شيئا غير هذه الإشارة إليه لهذه المناسبة في ترجمة فرنكلين، وكم بين المنتقلين من بوستون إلى فلادلفيا من مسافر ومقيم؟ وكم بينهم من فرنكلين؟

إن الملكة العلمية الطبيعية في هذا العقل العبقري هي التفسير الذي لا غنى عنه لجميع أعماله وبحوثه، وغير هذا التفسير تفسيرات كثيرة من قبيل ما تقدم، لا يستغني واحد منها عن هذا المرجع الأول والأخير لجميع تلك التفسيرات.

وهذه الملكة الطبيعية هي التي أوحت إليه بغير تعليم وبغير تلقين أن يضع البحث العلمي في موضعه الواجب، فكل ما يقع تحت الحس فهو موضوع بحث ودراسة من الوجهة العلمية. وربما عاش معه في عصره - أو عاش قبل عصره - أناس من الباحثين جعلوا هذه البحوث ترفا مختارا ترتقي إليه بعض الموضوعات وتقصر دونه موضوعات أخرى، ولكنه هو لم يكن ليفرق بين ما هو صالح للحس، وما هو صالح للبحث والدراسة، فتراوحت مباحثه بين السحب والأمواج، وبين درجات الحرارة وألوان الأقمشة، وبين إصلاح النظارات، وإصلاح نظام الإضاءة في المدن، وبين التبريد بالتبخير ، وتهذيب الحروف الأبجدية، ولم يتفتح أمامه موضوع بحث فأعرض عنه؛ لأنه لا يدخل في صدد البحوث العلمية كما يصنع الباحثون الذين لم يرزقوا مثل هذه الهبة الفطرية.

وقد كان للخيال شأنه - كما كان للواقع شأنه - في البحث الذي اشتهر به وأكسبه إعجاب العارفين وغير العارفين، وهو بحثه في الكهربا، واستخدامه في الوقاية من الصواعق، أو من غضب الآلهة كما كانوا يسمونه في الأزمنة الغابرة.

فقد كان المعجبون به يقولون عنه: إنه انتزع الصولجان من عاهل الدولة البريطانية، وانتزع الصولجان من رب الصواعق والبروق جوبيتير إله الآلهة عند الأقدمين، ولم يخلع الخيال على عمل فرنكلين هذا مكانة أكبر من مكانته الحقيقية التي لا مجاز فيها، فإن الوقاية من الصواعق حقيقة أعظم من خيال المتخيلين عن عروش الأساطير، وحقيقته العظمى فوق ذلك أنه صحح العقول والعقائد فأدركت حوادث الأرض والسماء كما ينبغي أن تدرك، وأدركت صفات الإله المعبود كما ينبغي له من التنزيه والتعظيم.

ولقد تناول فرنكلين بحوث الكهربا وهي - على أحسن ما تكون - لعبة للتسلية، فإن هذه البحوث بدأت في حجر الكهربا الذي تنسب إليه قبل الميلاد بستة قرون، وعرف طاليس (600 ق.م) أن الكهربا المحتكة تجذب الزغب والنثارة الخفيفة فلم يفهم منها إلا أنها «ذات روح» أو ذات حياة، ثم جاء ثيوفراستس

Theophrastus

فاكتفى بتسجيل مشاهداته، ولم يهتد إلى تفسير معقول لهذه الظاهرة. ووقفت التجارب الكهربية عند هذا الحد إلى القرن السادس عشر، ثم تقدمت خطوة أخرى على يد العالم الإنجليزي وليام جلبرت طبيب الملكة اليصابات حين استطاع أن يثبت أن هذه الظاهرة تتكرر في بعض المواد، وأن أجساما غير الكهربا تجذب الزغب والنثارة بعد حكها وتسخينها كالشمع والكبريت والماس، وبعض المعادن النفيسة، وأن الرطوبة تفقدها هذه القوة إذا صبت عليها السوائل، إلا الزيت فإنه لا يضعف تلك الجاذبية فيها، وأن لأحوال الجو تأثيرا في الجاذبية يختلف باختلاف الرطوبة والجفاف، وتقدم جويرك

Guericke

مخترع المضخة الهوائية قليلا بالبحث الكهربي، فلاحظ أن الأجسام المكهربة تتدافع أحيانا وأن الشرر يتطاير من بعضها ويصحبه صوت مسموع بمقداره من القوة، ثم ورد خاطر التشبيه بالبرق والرعد على ذهن العالم الإنجليزي وال

Wall

ولكنه لم يفسره وترقب أن ينبغ في العالم ذهن عبقري يفلح في تفسيره، ووقفت الدراسات العلمية والاختراعات الصناعية بهذا البحث عند هذا الحد فلم تستخدم في شيء أنفع من تركيب بعض الأجهزة التي تعرض هذه الظواهر ولا تقرن بها «نظرية» عامة أو فرضا من الفروض التي تؤسس عليها العلوم.

وفي هذه المرحلة تسلم فرنكلين مباحث الكهربا، فلم يزل بها حتى وضع لها تلك الفروض على قواعدها المقررة إلى هذا اليوم، فوحد بين ظواهر الكهربا في الأرض والسماء، وعرف الكهربية الزائدة والكهربية الناقصة، أو الكهربية المشبعة والكهربية المتعطشة وهما المعروفتان اليوم باسم الموجبة والسالبة، وراقب خاصة التوصيل والاقتباس فصنع الطيارة المشهورة لاستخراج الكهربا من السحاب، ولم تكن هذه التجارب مأمونة العاقبة في تلك المرحلة؛ لأن خصائص المادة الموصلة للكهربا لم تكن معروفة بتفصيلاتها ولم تزل متفرقة مبعثرة لا تربط بينها رابطة تجمع المتشابهات منها على قاعدة واحدة، وفي إحدى هذه التجارب أوشك أن يهلك لابتلال الخيط الذي ربط به الطيارة أثناء نزول المطر، ولولا أنه لم يتشبع بالماء في جميع أجزائه لهلك رعدة كما هلك الأستاذ ريشمان

Richmann

السويدي في تجربة مثل هذه التجربة كان يجريها في بطرسبرج، فكان استمرار فرنكلين على تجاربه - مع هذه العوارض المبهمة - مخاطرة أخطر مما يقال عنه: «إنه لعب بالنار.»

ونحن في عصر التحليل وتوزيع الأعمال نتساءل: هل كان فرنكلين عالما أو مخترعا؟ هل كان يدرس العلم بعقل الباحث الذي ينقب عن الحقيقة ويضع النظريات، ويوفق بين الحوادث المبعثرة ليجمعها إلى قانون واحد، أو كان يدرس العلم دراسة الصانع الحاذق الذي يخترع الآلات أو يحكم صنعها بزيادة المعرفة والتحقيق؟

إن التفرقة بين العقلين سهلة بينة في كثير من الأحوال؛ فهناك العالم الذي يحسن التفكير والفهم والإحاطة بالأفكار والمفهومات، ولكنه لا يحسن تنفيذ الأفكار في آلات مخترعة، ولا يحسن توجيه المنفذين إلى صنعها واختراعها، وهناك الصانع الذي يباشر التركيب والفك، وإعادة التركيب بمهارة يدوية وحيلة تطرأ في ساعتها من تلك الحيل التي جعلت العرب يطلقون اسم علم الحيل على علم المكنات، وربما كانت هذه الحيل جميعا خفية على الصانع عند ابتداء المحاولة الأولى، ثم تظهر له بالمعالجة والاختبار كأنها طرق يسير فيها حتى يراها مغلقة أمامه فيرجع عنها ويتحول إلى غيرها، أو كأنها في النهاية من قبيل المصادفة التي لم يكن ينتظرها.

وفرنكلين كان صانعا نشأ بين الصناع يعمل ويجرب ويحاول ويعتمد على التواتر كما يعتمد على المصادفة، ولكنه في البحث عن النظريات والعلاقات بين الحوادث المبعثرة لم يكن مقصرا عن شأو أمثاله من المفكرين الباحثين، فلم تكن تعوزه ملكة لازمة للعالم الباحث عن الحقائق والنظريات، وكل ما يحتاج إليه هذا العالم الباحث من تفتح الذهن وصدق الملاحظة وحسن الترجيح والموازنة بين الأسباب والاحتمالات فهو من عاداته الذهنية في مباحثه العلمية وفي معيشته اليومية، فلم يكن ينهض من مكتب العالم ليدخل إلى مصنع العامل المخترع، بل كان مكتبه ومصنعه موضعا واحدا تشترك فيه ملكاته وخصائص ذهنه هنا وهناك.

إلا أنه كان يعتقد أن المعرفة مصلحة إنسانية، وأن العلم الذي لا يتحول إلى منفعة عامة لا قيمة له في العقل ولا في الحياة، ومن رأيه أن الكشف العلمي الذي لا يوضع موضع التطبيق في المنافع العامة ولا يصلح لشيء من الأشياء هو كشف «غير صالح» على الإطلاق.

وكأنما كان خجلا من إضاعة الوقت في قدح الشرر وجذب الريش والزغب وتجريب هذه الألاعيب الكهربية على غير جدوى، فكتب (صيف سنة 1749) إلى صديقه العالم الإنجليزي كولنسون

Collinson

يروي له - في شيء من التهكم - كيف يعتذر إلى أولئك الذين ساءهم، أو أحفظهم، قليلا أن يسمعوا عن تجارب الكهربا، ولا يحسوا لها أثرا ملموسا في نفع بني الإنسان، فقال له: إنه خرج مع طائفة من صحبه إلى نزهة خلوية تطهو طعامها على نار مستمدة من الكهربا: «ويشتعل فيها الكحول بشرارة تعبر النهر من شاطئ إلى شاطئ بغير موصل غير الماء، ويقتل فيها ديك رومي بالهزة الكهربية، وينضج على سفود تديره الكهربا أمام نار مقدوحة من القناني الكهربية، وعما قليل يستطاع أن يشرب نخب الكهربيين المشهورين في إنجلترا وهولندا وفرنسا وألمانيا في أكواب مكهربة ترعش الشفاه قليلا عند مساسها بفعل التيار المنبعث من بطرية كهربية.»

3

ومنافع الكهربا اليوم لا تحصى، ولا يضارعها شيء مما كان يستخدم قبلها في الصناعة وتيسير أعمال الناس أو تيسير الأعمال للملايين من المهندسين والصناع والتجار والوسطاء بين الصناعة والتجارة، ولكن فرنكلين استطاع أن يقنع العالم بفائدة لها تساوي جهود المئات من العلماء في المئات من السنين؛ لأن العمود الذي اخترعه للوقاية من الصواعق قد وازن تلك الجهود وأربى عليها، ولم يوازنها ويرب عليها عند الذين أصابتهم الصواعق أو تعرضوا للإصابة بها حيث يتتابع نزولها، بل هو قد وازنها وأربى عليها عند الملايين من الذين لا يتعرضون للصاعقة، ولا يعرفون منها إلا اسما يهول ويتردد في مقام الإنذار والوعيد، ووازنها وأربى عليها عند أرباب الخيال الذين تصورا جوبيتير على السحاب وتصوروا فرنكلين على الأرض ندين يتبارزان، ويخلع الند البشري منها سلاح الند السماوي المقدس في ملاحم الشعر ومزاعم الأساطير.

ولم يعدم المازحون قائلا يقول: «إن عمود الصواعق قد صب على فرنكلين صواعق الغضب والنقمة من عاهل في الأرض يناظر جوبيتير في السماء، ذلك هو جورج الثالث ملك إنجلترا في أيام الثورة الأمريكية». فإنه كره أن يشيع في العالم اختراع رجل ثائر على التاج ولم يقدر على منعه وتحريمه؛ لأن خوف الناس من صواعق السماء أعظم من كل خوف يخافونه من صاحب التاج، فتوسل بكل وسيلة يقدر عليها لهزيمة فرنكلين في هذا الاختراع.

وكان فرنكلين على طريقته البسيطة قد عرف أن كهربا السحاب تنجذب إلى الموصل السهل فتسري فيه ولا تصطدم بعائق على الأرض تنفجر الصاعقة من جراء المصادمة بينها وبينه، فاختار لجذب الكهربا السحابية وتوصيلها إلى الأرض بغير عائق وبغير مصادمة عمودا قائما ينتهي إلى أسلاك صالحة للتوصيل بالكهربية الأرضية، وفضل العمود المسنن على العمود المستدير من أعلاه؛ لأنه يقلل المصادمة وبواعث الانفجار.

فلما ثبتت فائدة العمود لمنع الصواعق نشب الخلاف على الرأس المسنن والرأس المستدير أيهما أسلم في الوقاية وأصلح في تحقيق النظرية العلمية، فأوعز الملك إلى سير جون برنجل

رئيس مجمع العلوم أن يفضل العمود المستدير على العمود المسنن، ونقل المسألة من ميدان العلم إلى ميدان السياسة وواجبات الولاء والطاعة، فأجابه العالم النبيل بالجواب الذي يستحقه وألقى إليه في جوابه أن قوانين الطبيعة لا تخضع للمراسيم الملكية، واعتزل العمل في منصبه الرفيع إيثارا للأمانة العلمية على الحظوة والجاه، وشاعت يومئذ في إنجلترا أبيات من الشعر خلاصتها أن صواعق الغضب التي تملكها أيها الملك جميعا لا تنفعك إذا أردت أن تجاوز الحد

The point

وهي كلمة في الإنجليزية ترادف معنى السن والنقطة وتقابل في هذا المقام معنى الدائرة والكتلة، يريد الناظم بذلك حد العمود المسنن الذي فضله فرنكلين ووافقه على تفضيله كبير العلماء، ومعه سائر العلماء.

ومباحثه العلمية التي لم تشتهر هذه الشهرة منوعة في جوانب منوعة من الحياة العامة والخاصة، أحاطت بالعلاج الكهربي وعلاقة الصحة بالعرق والتبريد بالتبخير، وفنون شتى من الاستشفاء بالوسائل الطبيعية، وشملت البحث في غازات المستنقعات وحفائر الأرض وسرعة السفن في الماء الضحل والماء الغزير، ولغات القبائل البادية في أمريكا الشمالية، وإشارات التخاطب بين النمل والحشرات، ومستقبل الطيران ومستقبل علم الضوء على اعتبار الضوء حركة من حركات التموج في الفضاء، ولم يدع البحث في التشريح ووظائف الأعضاء وأساليب التطبيب، ولا في الموسيقى وفن الإيقاع ولا في الألوان والأشكال، وجرى في هذه المباحث كلها على وتيرته المعهودة من تسخير المعرفة للمنفعة وتطبيق النظريات على الوقائع المتداولة، وهي عادة ذهنية لا تعيب التفكير العلمي الصحيح إلا إذا كانت المنفعة المقصودة منفعة شخصية ينسى المرء في سبيلها منافع أبناء نوعه وحقائق العلم أو قوانين الطبيعة، وتلك هي الخلة التي برئ منها هذا العقل العلمي المطبوع، فكانت فائدة بني الإنسان أجمعين مقدمة لديه على كل فائدة، ولم يكن نصيبه من هذه الفائدة الكبرى غير الفتات على المائدة.

وقد ظهر موقفه من المباحث النافعة في اختراعه للموقد الذي سمي باسمه ويعرف الآن باسم موقد فرنكلين، على ما دخل عليه بعد ذلك من التعديل والتحسين.

فهذا الموقد من الآلات التي يمكن أن تصنع بالمئات والألوف، ويحتكرها المخترع فلا تباع إلا من مصنعه أو بإذن منه، وكان تعويل الأمريكيين قبل اختراع هذا الموقد على كوانين المداخن التي تستنفد الكثير من الوقود، وتضيع الكثير من الحرارة المستفادة منه. وتصيب المستدفئين بكثير من الأضرار؛ لأنها تدفئ الجانب المواجه لها من الجسم والجانب القريب إليها من الحجرة، وتدع الجسم كما تدع المكان مختل التوازن في درجات الحرارة مع غلاء الوقود الضائع، وشدة الحاجة إلى الدفء والوقاية من البرد في الشتاء، وشدة الحاجة إلى المواقد على العموم لمطالب الغذاء وغيره من اللوازم البيتية.

فاخترع فرنكلين موقدا يوضع وسط الحجرة، وينقل إلى حيث يشاء الساكن، ويحفظ الحرارة كلها للتدفئة، ويرسل الدخان إلى المدخنة من أنبوبة تركب عليه وترفع منه على حسب الحاجة، وأراد حاكم المدينة أن يكافئه على هذا الاختراع، فكتب له تسجيلا باحتكاره، وقرر أن يحرم صنعه وبيعه بغير إذن من مخترعه، فشكره فرنكلين واعتذر من قبول هذا التسجيل، وقال في اعتذاره: إنه ينتفع هو وأبناء عصره بمخترعات الأقدمين، ولا يؤدون إليهم ثمنا لمنافعها الجزيلة، فمن الإنصاف أن ننفع إخواننا وأبناءنا بما نهتدي إليه من المصنوعات والمخترعات بغير جزاء.

ولم يجهل فرنكلين وهو يعتذر هذا الاعتذار أن الشهرة الأدبية غير مضمونة للمخترعين والباحثين، وليست عوضا خالصا من الحسد والادعاء، فقد كان أعلم بالطبيعة الإنسانية من أن ينخدع هذه الخديعة، وكان يكتب إلى صديقه جون ليننج

Lining

بعد ظهور العشرات من مخترعاته فيقول: إن الحسد يأبى على المنافسين أن يعترفوا للمخترع بفضل اختراعه، وإن الغزو يسول لهم بعد ثبوت نفعه أن يدعوه لأنفسهم ويكابروا في الدعوى فيصدقهم الحساد والجهلاء، وإنه ما من إنسان مالك لقواه العقلية يتمنى لصديقه أو لولده أن يشتغل بالاختراع.

4

ولعله من مصداق ما تقدم في كل معنى من معانيه حوار الدكتور جونسون وتلميذه بوزويل عن تعريف فرنكلين للإنسان.

قال بوزويل: «أحسب أن تعريف الدكتور فرنكلين للإنسان تعريف حسن: حيوان صانع للآلات.»

والذين قرءوا مفكرات بوزويل عن أحاديث الدكتور جونسون يعلمون أن الأستاذ لم يسمع من تلميذه فكرة إلا سارع إلى مخالفته فيها، وأنه لم يكن من عادته أن يمنح موافقته لشيء من الأشياء بغير اعتراض.

وعلى هذه العادة أجابه الدكتور قائلا: «لكن كم من الناس لم يصنع آلة قط، وهب إنسانا بغير ذراعين، فإنه لا يقدر على صنع آلة من الآلات؟»

إن تعريف فرنكلين للإنسان في الحقيقة أصدق تعريف له وأوفاه بالشرط الجامع المانع في التعريف، فما من فارق بين الإنسان والحيوان أوضح وأثبت من قدرة الإنسان على صنع الآلة واستخدامها، وهذه القدرة هي المقصودة بتعريف فرنكلين لا وجه للاعتراض عليها بتفاوت الناس فيها. فليس الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الناطق أن بعض الناس لا ينطقون ولا يفكرون، وأن بعضهم يولدون بكما أو مجانين، وليس من الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الاجتماعي أن يشذ بعض الناس ويتأبد في الخلاء وينفر من الاجتماع، ولكن العبرة من هذه القصة أوسع وأدق من أن يحيط بها تعليق واحد، وكفى منها هنا أن تبرز قدرة العقل العلمي المطبوع على التعريف وإقامة الحدود والفوارق، وأن تبرز تلك الرابطة الوثيقة في طبيعة فرنكلين بين الإنسانية وصنع الآلات، وأن تبرز مع هذا وذاك سهولة الإنكار حتى من الفضلاء!

ولم يقنع فرنكلين بخدمة العلم بفكره منفردا مستقلا عن القادرين على خدمة العلوم في بيئته وعصره، فأنشأ نادي «الجاتنو» الذي أصبح مجمعا للعلوم والآداب، ثم أصبح بعد ذلك جامعة بنسلفانيا القائمة إلى اليوم، ونظم الجماعة الفلسفية الأمريكية، كما نظم أول مكتبة عامة تقتني الكتب بالشراء والاستعارة وتعيرها القراء ومن يحتاجون إلى المراجع من أصحاب المباحث والدراسات، وقد كافأته الجماعة الفلسفية على غيرته العلمية وجهوده في نشر المعرفة، وتمكين العلماء من نشرها بانتخابه رئيسا لها مدى الحياة، وهو تقدير من النخبة المختارة يفوق التقدير الذي يلقاه طلاب الرياسة في مناصب السياسة، وكان فرنكلين فخورا به متعزيا به عما كان يلقاه من حساده الأقوياء من البخس المتعمد ونكران الجميل.

ومهما تتعدد جهوده ومشاركاته في الأدب والسياسة والاجتماع، فليس من الحصر الذي يزري بها أن نقول: إنها كانت في جملتها وتفصيلها جهود العالم المطبوع، بذلك المعنى الذي افتتحنا به الكلام في هذا الفصل عن فرنكلين العالم، وزبدته أن الملكة العلمية لم تفارقه قط في تلك الجهود والمشاركات.

الكاتب

إذا كنا قد عرفنا طبيعة هذا العقل من الإلمام السريع بحياته العلمية، فمن اليسير علينا أن نعرف خطته إذا اشتغل بالكتابة في عصر المطبعة، فإنه على التحقيق لم يكن ليستطيع أن يعفي نفسه من عمل يتصل بهذه الصناعة، وكذلك كان كاتبا وطابعا وناشرا ومديرا للعمل، وسنرى كيف كان كاتبا يسهم بقلمه في جميع الموضوعات التي تسهم فيها الأقلام. أما الطباعة فقد كان فيها صفافا وحفارا ومديرا للمكنات ومصلحا لما يختل منها، ويكاد يحسب مع المهندسين المكنيين في زمانه؛ لأن هذه الهندسة لم تتشعب في ذلك الزمن تشعبا يصعب عليه أن يحيط به على طريقته في الإحاطة بكل عمل قريب من رأسه ويديه! وأما النشر فلم يترك شيئا يشتغل به الناشر في عصره دون أن يتولاه ويبلغ به مداه.

ويقول فرنكلين في ترجمته لنفسه: إنه لا يذكر زمنا لم يكن يقرأ فيه، وهذا مع ذاكرته القوية التي أعانته على حفظ الكلمات وادخار المفردات والعبارات، واستيعاب ذلك المحصول اللفظي، والفكري، الذي يسر له الكتابة المشوقة بأسهل أسلوب.

وقد قيل عنه: إنه لم يوجد في العصر الحديث كاتب كان حظه من التعليم المدرسي أقل من حظه، وكان فضل المعلمين عليه أقل من فضله في تعليم نفسه، وكان عاشر أبناء أبيه فنذره لخدمة الدين، ثم تبين أن التعليم في المدرسة الكهنوتية يفوق طاقته فأدخله مدرسة من مدارس الأجرومية والتربية الأولية، ومكث في هذه المدرسة - مدرسته الثانية - من الثامنة إلى العاشرة، ثم أخرجه أبوه لمساعدته في صناعته.

وكان الصبي المشغوف بالقراءة يلتهم كل ما صادفه من الكتب في داره وعند أقربائه، فقرأ الكتب التي يقتنيها أبوه في مسائل الدين وخلافات المذاهب ومناظرات العلماء اللاهوتيين، ووقعت له نسخة من كتاب «رحلة الحاج» للكاتب المتصوف بنيان

Bunyan

فقرأها وأعاد قراءتها، ثم باعها ليشتري بثمنها أجزاء من مجموعة المتسببين

1

Chapmen Books

التي تنشر تباعا وتلم بالموضوعات المنوعة من التاريخ والجغرافيا والنوادر والسير والعجائب الصناعية أو الطبيعية، وهي قراءة توافق ذهن فرنكلين المشغول بالتوسع والتنويع.

ولم يبلغ السادسة عشرة حتى كان قد استوعب العشرات من أمهات الكتب النافعة من قبيل تراجم بلوتارك، وذكريات زينوفون، ودراسات لوك وشافتسبري، ورسائل ديفوي، ومقالات كوتون ماثر عن فعل الخير، وغيرها من أشباه هذه المؤلفات القيمة التي كانت في متناول يده، وقد أعجب أصحاب أبيه بذكائه وإقباله على القراءة وفهمه لما يقرأ، فتبرعوا بإعارته ما عندهم من الكتب، وشجعهم على إعارته بإعادته كل ما يستعيره في أيام معدودات، ومنهم بائع كتب كان يعيره ما يطلبه كتابا كتابا في المساء ليعيده إليه في النهار التالي، ولا يتمكن من البر بوعده إلا أن يسهر على مطالعته طوال الليل إلى الفجر على نور المصباح الضئيل.

والذي قرأه على هذا المنوال كثير ليس فيه كتاب واحد من كتب اللغو والفضول، فبلغ السادسة عشرة، ومعلوماته تزيد على معلومات أبناء الثلاثين من طلاب العلم، والمشتغلين بالاطلاع، وفكر في الكتابة على سبيل التجربة، فأحسن اختيار المؤلف الذي يقتدي به، ويوافق منحاه وثابر على الاقتداء به والطموح إلى محاكاته والتفوق عليه إذا تسنى له سبيل التفوق، حتى أخذ منه كل ما في وسع تلميذ أن يستفيده على البعد من أستاذ.

كان اختياره للكاتب أديسون صاحب مجلة السبكتاتور دليلا على ملكة ناقدة مبكرة عرفته بملكات ذهنه ومنهج تفكيره وتعبيره، فليس في الكتاب من تتراءى ملامحه جلية مفصلة في أسلوب فرنكلين مدى حياته كما تتراءى فيه ملامح هذا «الأب» الفكري الذي اختاره لقدوته بين عشرات من الكتاب.

وكان أخوه جيمس في هذه الأثناء قد اشتغل بالطباعة وعهدت إليه صحيفة بوستن جازيت

Boston Gazette

بإصدارها في مطبعته، فأصدر منها في أواخر سنة 1719 أربعين عددا ثم اختلف أصحابها معه، فعهدوا بطبعها وإصدارها إلى مطبعة أخرى ، فخطر له أن يستقل بإصدار صحيفة يملكها ويحررها ويدير عليها أعمال مطبعته التي أوشكت أن تتعطل وتخسر سمعتها وعملاءها أمام المطبعة الأخرى التي تنافسها، فأنشأ صحيفة جواب إنجلترا الجديد

New England Courant

في شهر أغسطس سنة 1721.

وألحق قرنكلين بالعمل في المطبعة متتلمذا على أخيه في صناعة الطباعة وهو في الثانية عشرة، فلما استقل أخوه بإصدار صحيفته لم يكن قد جاوز الخامسة عشرة، ولم يبق في الصناعة عمل لم يجرب يده فيه ولم يتقنه غير الكتابة، فأخذ في معالجة هذه الصناعة على منهجه الذي شرحناه إجمالا في الكلام على طريقته العلمية.

وكان حب الإتقان في هذه الصناعة مطلبا طبيعيا يحسه من أعماق نفسه، فلم يذهب مع الغرور، وتحرى الإتقان من أبوابه الصالحة، وعلم أنه لا يستغني - بعد كل ما قرأه - عن المزيد ثم المزيد من القراءة، فاقتطع من قوته ليشتري الكتب التي لا تستعار، وخيل إليه من بعض مطالعاته أنه آمن بمذهب النباتيين، فاقترح على أخيه أن يعطيه طعاما بغير لحوم، ويضيف ثمنه إلى أجره القليل، فكان يشتري الكتب بثمن الطعام.

وأدركته حصافته التي لا تغيب عنه وهو يطرق أبواب الشهرة الكتابية فأخفى اسمه واتخذ له توقيعا مستعارا باسم سيلنس دوجود

Silence Dogood (أي صمتا واعمل خيرا أو واصنع معروفا) وجعله اسما لامرأة وصفها في بعض مقالاته، وعني في جميع تلك المقالات بالتشويق واجتذاب القراء بالفكاهة والنقد الاجتماعي الذي يعجب القراء من الرجال والنساء معا؛ لأنه يلمس شكاياتهم ويحدثهم عن مشكلاتهم وأوجاعهم ولا يحيف على طائفة لمرضاة أخرى، بل يسوي بينهم جميعا في النقد وملاحظة العيوب. ومن دأب الناس دائما أن يعجبوا بهذا التعميم في الملامة والسخرية؛ لأنه يصيبهم كما يصيب الآخرين، ويقيم الكاتب أمامهم مقام الحكم العدل، أو الحكم الحكيم الذي يعرف أحوالهم، ولا يجور على أحد منهم أو يحابيه بإخفاء ما يعرفه عن نفسه وعن صحبه من المآخذ والعيوب.

وأصلح ما يكون لهذا النقد الشامل كاتب مقنع واسم مستعار؛ لأن هذا الاسم المستعار يجرده من «اللون الشخصي» الذي يدعو إلى الاتهام بالحيف والمحاباة، أو يدعو إلى المنافسة والحسد، وتقدير الكاتب بمظاهره الاجتماعية دون مزاياه الكتابية، وقد خطر لفرنكلين حين أخفى اسمه أن مقالاته عرضة للإهمال والاستخفاف قبل النظر فيها، وربما بخسها أخوه، وزملاؤه الذين يراجعون معه موضوعات الصحيفة كل حق لها حتى حق النشر والاستحسان، وصح تقديره بعد انكشاف أمره ومعرفة اسمه. فإن أخاه قد توهم أنه اغتر بالسمعة والإعجاب، وتطلع إلى منزلة أكبر من منزلته في أعمال الصحيفة، فتغيرت معاملته وتعددت مشاجراته واضطر الأخ الصغير بعد حين إلى مفارقة الأخ الكبير ومفارقة المدينة كلها ثم مفارقة الديار الأمريكية إلى العاصمة الإنجليزية.

ومن يقرأ البقية الباقية من مقالات «سيلنس دوجود» يشعر أن النواة كلها كامنة فيها، فقد برزت فيها ملامح الرجل التي يراها قارئه لأول وهلة في كتاباته بعد الستين وبعد السبعين والثمانين، وكل ما جد عليها فإنما هو من قبيل النمو الطبيعي للبنية المتكونة أو الصقل والتركيب للجوهر النفيس.

وقد تعلم الفرنسية بعد سن الكهولة وكتب بها أو ترجم إليها بعض كتاباته الإنجليزية، وأخلصت أستاذته فيها - مدام بويون - في امتحان أسلوبه الفرنسي فقالت: إنه «واضح إن لم يكن صافيا» وقال غيرها: ما يشبه هذا في كتاباته الفرنسية والإنجليزية على السواء، فهي واضحة سهلة محكمة، والنقاد متفقون على دقتها وجلائها وصحة تعبيرها عن معانيها، ولكنهم يختلفون فيما عدا ذلك من محاسن البلاغة ومقاصد الكتابة، ولا سيما القدرة على النفاذ إلى الأعماق أو التحليق في القمم، والآفاق.

وقد لخص آراء النقاد فيه كتاب مدرسي وجيز في تاريخ الأدب الأمريكي لثلاثة من أساتذة الأدب في الجامعات الأمريكية. يغربل هذه الآراء من مصادرها المتعددة، ويجتهد في أمانة النقل كما يجتهد في حسن الموازنة والترجيح.

فذكر من محاسن هذه الكتابة وضوحها وسلامتها وقوة تعبيرها وما يتخللها من الصور الخلابة والفكاهة السائغة والقدرة على جوامع الكلم مع سلامة الإدراك وإيراد الحقائق التعليمية في صياغة ترضي وتشوق.

وذكر من عيوبها أنها تفتقر إلى جزالة الخيال والرشاقة التي اتسم بها أسلوب أستاذه أديسون، والإفراط في النزعة العلمية المادية التي لا ترتفع إلى القيم العليا.

2

ونعتقد أن هذه الموازنة تلخيص عادل لما قيل في محاسنه وعيوبه الكتابية، وأن فرنكلين نفسه لم يكن يجهل هذه العيوب ولم يشغل باله بمحوها أو إنكارها، وألقى باله كله إلى محاسنهم المحققة فاحتفل بتحسينها وحافظ عليها.

وكل ما كتبه عن البلاغة الكتابية يعزز تلك الآراء عن «نزعته العملية المفرطة» وإخضاعه كل فكرة تجول في ذهنه لحدود التقرير والتطبيق.

وفن الكتابة عنده كغيره من مزاولات الحياة وضروب الأعمال وسائر الفنون؛ فكرة تتجمع من البحث في الغرض المقصود منها، ثم نظرية يتأدى إليها من ذلك التفكير، ثم تطبيق يصححه بالتجربة والمراقبة وتقدير التقدم فيه بمقياس من مقاييس الواقع المحسوس.

ومن الحوار التالي نتبين مذهبه في الفكرة النظرية عن الكتابة وعن التطبيق العلمي الناجح لتلك الفكرة النظرية.

قال: «كيف نحكم على جودة الكتابة؟ أو ما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر للكتابة كي تعد من الكتابات الجيدة التامة في نوعها؟

والجواب أن الكتابة تكون جيدة إذا جنحت إلى إفادة القارئ بزيادة قسطه من الفضيلة والمعرفة، وبغير نظر إلى نية الكاتب ينبغي أن يكون المنهج محكما يستطرد - على انتظام - من الأمور المعلومة إلى الأمور المجهولة في تحديد وتوضيح وبغير لبس ولا اختلاط، وينبغي أن تكون الكلمات المستخدمة أقواها تعبيرا عن معانيها على شريطة أن تكون كذلك أشيعها وأدناها إلى الأفهام، ولا ينبغي أن يقال في كلمتين ما يمكن أن يقال في كلمة، ولا حاجة إلى المترادفات إلا نادرا، وعلى أن يكون وقعها في جملته سائغا في الأسماع، ونوجز فنقول: إنها ينبغي أن تكون سلسة واضحة موجزة؛ لأن الصفات التي تناقض هذه الصفات لا تروق. وننظر إلى المسألة من ناحية أخرى فنقول: إن الرجل السيئ قد يكتب المعنى السيئ كتابة جيدة، وإنه إذا ساءت نيته قد يستخدم أصلح الأساليب والبراهين على حسب القراء للوصول إلى بغيته، وعلى هذا الاعتبار نقول: إن أجود ما يكتب هو أجود ما يصيب به الكاتب مرماه.»

فالكتابة الناجحة هي الكتابة الجيدة في تقدير فرنكلين، ومقياس النجاح هو «التطبيق العملي» لفكرة مقررة ووجهة مرسومة، وهذا هو فرنكلين كله مرة أخرى يتمثل في صناعة القلم وفي كل صناعة.

ويصادفنا في تراجم فرنكلين رأي متفق عليه بين الواقعيين العمليين والنظريين المثاليين، وهو هذه الغاية الواقعية العملية التي يرتادها في كل مطلب يعنيه، وربما لمسنا في كلام الواقعيين العمليين شيئا من الإعجاب في التنويه بهذه الصفة، وربما لمسنا من الجانب الآخر شيئا من الغضاضة في تصريح النظريين المثاليين بها أو تلميحهم إليها، ولكنهم لا يختلفون في وصفه بهذه الصفة واعتبارها إحدى صفاته البارزة، بل كبرى صفاته العقلية والنفسية بين سائر الصفات.

على أننا نرى أن النزعة الواقعية والنزعة المثالية فيه تتقاربان، أو أنهما على الأقل لا تتنافران ولا تتعارضان؛ فإنه يستقصي العمل إلى غاية مداه ولا يستطيع أن يدخر جهدا من جهوده يتسع أمامه المجال لبلوغ الكمال الواجب في عمل من الأعمال.

وقد نجح في الكتابة الصحفية وقرر مكانته فيها وأصبح في مجالها علما فردا لا يدانيه أحد من معاصريه، وكان هذا النجاح خليقا أن يقنع غيره بالوقوف عنده والاكتفاء به في صناعة الصحافة وصناعة الطباعة، ولكنه لم يقنع به ولم يقف عنده، ولم يدع شيئا يقدر عليه في هذه الصناعة، إلا حاول أن يبلغ منه ما يعينه على الاستقلال والكفاية، حتى سبك الحروف للمطبعة، ولم يكن في بلاده يومئذ سباكون للحروف.

وديدنه في هذه الخطة هو ديدنه في كل مطلب، فإنه يفكر في الشروط التي ينبغي أن تتوافر للصحفي ثم يأخذ نفسه بتحصيلها وتوفيرها ولا تثنيه عقبة ترصد له في طريقها، مما ينثني أمامه النظريون المثاليون ولا يتجشمه كل عامل من المجتهدين الواقعيين، وعلى هذه الخطة أخذ نفسه بالاطلاع على المعلومات الفلكية الضرورية لإصدار التقويم، وفهم أن الإلمام باللغات مزية واجبة للصحفي الذي يريد أن يتقن عمله بين زملائه، وبخاصة في ذلك الزمن الذي تعددت فيه لغات النازلين بالولايات الأمريكية، ولم تنتشر فيه لغة واحدة للكتابة والكلام كما حدث بعد حرب الاستقلال، فتعلم من الأسبانية والإيطالية والألمانية ما يكفيه، وتوسع بعض التوسع في اللغة الفرنسية، وجرى في تعلم اليونانية واللاتينية على مذهبه في التعليم المدرسي متوسطا بين الإهمال والإلزام، فهو لا يهملها ولا يرى أن تفرضا على الطالب فرضا إن لم يكن يشعر بالحاجة إليهما في مطالبه الثقافية، وأحق منها بالفرض في البرامج لغات الأحياء أو اللغات الحية الشائعة بين أمم الحضارة، وبين أبناء وطنه على التخصيص.

ومما يدخل في هذه الخطة العملية المثالية أنه يجتنب تبديد الجهود ويأبى الإسراف بطبعه فيما يبتغيه من الكماليات أو الضروريات، وهو لا يجور بذلك على حق الكماليات؛ لأنه كذلك لا يسرف ولا يبدد الجهد في طلب الضروريات.

ولا يخفى على الذين اختبروا تعلم اللغات أن الصعوبة فيها درجات؛ أولاها درجة الفهم من الكلام المكتوب، وتليها درجة الفهم من الكلام المسموع؛ لأنه يرتبط بلهجات النطق الذي لا يسهل التقاطه على السمع ساعة النطق به، كما يسهل التقاط الحرف المكتوب ثم التأمل في الكلمات على الإجمال، وتلي هذه الدرجة في الصعوبة درجة السماع والإجابة عليه بالكلام المفيد، ولا سيما الكلام المصطلح عليه فيما جرت به تقاليد أبناء اللغة من المثقفين وغير المثقفين.

وفرنكلين لم يبدد جهده في لغة من اللغات التي تعلمها لغير ضرورة، وقد عاش في فرنسا زمنا، واتصل فيها بصفوة العلماء والمتعلمين، وعالج الكتابة وأحسنها إلى حد الرضا من طبقة المتكلمين بالفرنسية النقية في زمانه، ولكنه ظل إلى آخر أيامه بين الفرنسيين يفهم الكلام في المجلس، ولا يفهم الكلام في الخطابة العامة، ولا سيما الخطابة السريعة التي لا تجري مجرى الحوار على حسب المفهوم من السؤال والجواب، والتي يترتب على فوات معنى من معانيها فوات المعاني التالية لها إلى آخر الخطاب.

ومن طرائفه في هذه المآزق - وهي طريفة تدل على لطف الحيلة كما تدل على حب المجاملة - أنه حضر اجتماعا عاما تعاقب فيه الخطباء وتعذر عليه أن يتابع فهم الخطب، وعز عليه أن يهمل واجب التحية وينفرد بهذا الإهمال بين المستمعين، فاحتال على الخروج من هذا المأزق بمراقبة إحدى السيدات الحاضرات ممن يثق بذوقهن وفهمهن وبعدهن من الغرض في مهب الأهواء السياسية، وجعل يتابعها بالتصفيق كلما صفقت، وبالسكوت كلما سكتت، وهو يحسب أنه قد أحسن الحيلة، وتخلص من المأزق، وأدى واجب المجاملة للمتكلمين والمستمعين، ثم علم بعد ذلك أنه كان يجامل نفسه على غير قصد منه، وقال له حفيده: إنه كان يصفق للثناء عليه والتنويه بمآثره! وإنه كان يكثر من التصفيق كلما أكثر الخطباء من الثناء والتنويه، وكان لا يكتفي بتصفيق السيدة، ومن يصفقون معها بل يحب دائما أن يزيد عليه فضلة من عنده ... ولعله لم يخسر بهذا الموقف الطريف الذي ساقه إليه جهله باللغة وحبه للمجاملة، فإن أذكياء الباريسيين والباريسيات لا تفوتهم حيلته التي كشفها لهم على الرغم منه، ولا تضيره عندهم ولا تحرمه لديهم من ابتسامة العطف والتسلية! ... وقد روى الكثيرون ممن سمعوه يتكلم الفرنسية مع صفوة المجتمع الباريسي من العلماء والنبلاء أن الخطأ في كلامه كان أحب إليهم من الصواب؛ لأنهم يتفكهون به ويكشفون ما ينطوي فيه من حسن الاحتيال على التعبير.

ولم يكتب فرنكلين لغير الصحافة إلا القليل، وأطول مؤلفاته ترجمته التي كتبها لنفسه ولم يتمها إلى نهايتها ولم تظهر في حياته، وله رسالة في الأخلاق كتبها في إنجلترا وسماها «مبحث في الحرية والضرورة والسرور والألم» غلبت فيها عليه فلسفة العصر كله، وذهب فيها مذهب القائلين بأن الفضيلة والرذيلة لا وجود لهما في الطبيعة التي تسيرها قوانين الضرورة وتدار وفاقا لتلك القوانين كما تدار الآلات، ثم عدل عن هذا الرأي أو عدله تعديلا يبقي للفكرة قالبها ويغير جوهرها، فكان مذهبه الذي صمد عليه بقية حياته أن الفضيلة أهل لأن يفضلها المختار لو أنه أحسن الاختيار، وأن الخبثاء الدهاة لو عرفوا قيمتها لأصبحوا باختيارهم فضلاء بوحي من الخبث والدهاء، وتعود بنا هذه المصالحة بين الضرورة والاختيار إلى تلك النزعة الواقعية التي تلاقي النزعة المثالية في منتصف الطريق، فتتقاربان، أو هما على الأقل لا تتنافران.

وفيما عدا الترجمة والرسالة الأخلاقية، لم يفرغ لتأليف الكتب مع اشتغاله بالصحافة والتجارب العلمية ووظائف الحكومة التي وكلت إليه بعد اشتهار اسمه وذيوع مخترعاته وعلومه. وقد كان عمله في الصحافة أعمالا متشعبة كما تقدم، فإنها كانت تشمل التحرير والطباعة والنشر وإنشاء الصحف وتوزيعها وبيع الكتب التي يطبعها أو يستوردها من البلاد الإنجليزية، وكانت الطباعة التي يتولاها تشمل سبك الحروف. وإدارة المكنات وحفر النقوش وكل صناعة طباعية يحتاج إليها الصحفي والناشر في عمله. وقد عقد النية منذ فارق أخاه على أن يشتغل بإنشاء صحيفة يملكها ويتصرف في إدارتها وتحريرها، فبدأ بعد عودته من لندن إلى فلادلفيا بشراء مطبعة نجحت في إتقان مطبوعاتها وتوفير عملائها، ثم اشترى في سنة (1729) صحيفة بنسلفانيا جازيت، وأصدر تقويم ريتشارد المسكين بعد ذلك بثلاث سنوات، وضم إلى الصحيفة مجلة سماها المجلة العامة

The General Magazine and Historical Chronicle

صدرت في سنة (1741) وكانت ثانية المجلات التي صدرت في الولايات الأمريكية، وحاول في أثناء ذلك إصدار صحيفة ألمانية يكتبها أستاذ من أساتذة اللغات، فصدرت منها أعداد قليلة، ولكنها لم تعمر طويلا لقلة القراء باللغة الألمانية، ومكنته سمعته الحسنة في الصحافة والطباعة من المشاركة في بعض صحف الجنوب، ثم أرادت الجماعة النيابية بكارولينا الجنوبية أن تشجع الطباعين على إنشاء مطبعة فيها، فتبرعت بألف جنيه لمن يقيم مطبعة كاملة في الولاية، فاتفق فرنكلين مع أحد زملائه على إقامة المطبعة مشتركين في إدارتها وأرباحها، وحيل بينه وبين الحصول على المعونة الموعودة فلم يكف عن السعي حتى حصل عليها بعد وفاة الطباع المزاحم له (سنة 1732) وأصبح هو وشريكه مستقلين بإصدار صحيفة الولاية باسم «سوث كارولينا جازيت» أي صحيفة كارولينا الجنوبية.

وكان فرنكلين كفؤا لكل صعوبة تعترضه في أعماله الصحفية، ولا سيما أعمال النشر والتوزيع، ومن أخطر هذه الصعوبات التي تغلب عليها أنه مني بمزاحمة أندرو برادفورد مدير البريد يوم كان البريد «التزاما» يتولاه المدير لحسابه، ولا يدخل في عداد المصالح الحكومية، فمنع برادفورد سعاته من توزيع صحيفة فرنكلين وأوشك أن يشل حركتها لولا ذلك الخلق المطبوع الذي أسعد فرنكلين بالأنصار والأعوان في جميع المآزق المحرجة، وهو خلق الكياسة، وطيب المعاشرة، وحسن التفاهم مع الناس من كل طبقة، فلم يلبث أن تفاهم مع السعاة، واسترضاهم بالهدايا تارة والإقناع تارة أخرى، فأقبلوا على توزيع صحيفته على غير علم من مديرهم، ونجح حيث أخفق مدير البريد.

وأعانه هذا الخلق على اجتذاب العملاء، فأقبلت دواوين الحكومة على طبع أوراقها عنده، واختاره تجار الكتب لطبع الكتب التي يوزعونها، وكان هو يطبع من التصانيف السلفية ما يقدر له الرواج في كل زمن، كالمجاميع القانونية، ومجاميع الصلوات، ودساتير الماسونيين، ومفكرات التطبيب، والإسعاف، ودواوين القصائد التي تصلح للمناسبات، ونصائح الإرشاد في مشكلات الأسر، وأصحاب المعاملات، ومراجع الصناعة التي تجمع بين العلم والفائدة، غير ما كان يستورده من المطبوعات الأدبية الي يقبل عليها قراء الشعر والنثر من خاصة القراء، ولم يكن يستورد منها غير العدد الذي ينفد لساعته، ويضمن له ثقة الخاصة من قراء الإقليم وتعويلهم على مطبوعاته ووارداته.

ومن المحرجات في صناعة الطبع والنشر ما يحسه فرنكلين بصفة خاصة؛ لأنه على إيمانه بحرية الرأي يكره العداوات، ولا يميل إلى إغضاب المخالفين ما استطاع أن يرضيهم بالكلمة الحسنة والصراحة المقبولة، وليس من اليسير على طابع أو ناشر أن يقصر مطبوعاته ومنشوراته على ما يرضي الناس جميعا ولا يسوء أحدا منهم، وأعسر ما كان ذلك في عصر المجادلات السياسية والدينية بين أناس من مختلف الأقدار والعقائد والميول، فاجتهد فرنكلين في اجتناب ما يمكن اجتنابه مما يسوء القارئ لغير ضرورة، ولم يبال بعد ذلك أن ينشر ويكتب ما يخالف أناسا ويوافق آخرين، وكتب دفاعه عن صناعة الطباعين توضيحا لمسلكه بين الآراء المتضاربة، فكاد يرضى الجميع به لو كان إلى إرضاء الجميع من سبيل.

إلا أنه - مع حرصه على المجاملة حرص الإفراط في بعض الأحيان - لم يجامل أحدا فيما يشذ عن آداب المناظرة أو يقحم المثالب الشخصية بين مباحث النقد ومناقشات الآراء، وكان يقول كما ذكر في ترجمته: «إنني أتحاشى في تحرير الصحيفة كل إساءة شخصية من تلك الإساءات التي وصمت بلادنا في السنوات الأخيرة. وكلما ألح الملحون علي لنشر كلام من هذا القبيل واحتجوا كعادتهم بحرية الصحافة، وشبهوا الصحيفة لتسويغ طلبهم بالمركبة الحافلة التي ينبغي أن تتسع لكل راكب وكل مشترك - كان جوابي لهم أنني على استعداد لطبع كلامهم على حدة ولهم أن يطبعوا منها النسخ التي يريدونها ويباشرون توزيعها، ولكنني أنا غير مسئول أن أشترك معهم في عمل لا أرضاه.»

ولا نخاله كان بحاجة خاصة إلى مطبعة خصوصية لطبع رسائله في باريس، فربما كان حكم العادة وحب الصناعة التي شب عليها سلواه في أيام الشيخوخة وباعثه الأول إلى اقتناء المطبعة الخصوصية قبل كل باعث من بواعث الأعمال السياسية أو الأدبية، ولكن مطبعة «باسي» على هذا قد أخرجت له نخبة من الرسائل والنشرات لم تخرج مطابعه الأولى نظيرا لها أيام الشباب، ولو سقطت هذه المطبوعات من مجموعته الكاملة لاختفى باختفائها أجمل ما كتب من الفكاهة والنقد بعد تهذيب السن وحنكة الشيخوخة والاطلاع.

وفقا للخطة المقررة.

هذه عبارة شاعت أيام الحرب الأخيرة، في بلاغات القيادات العسكرية، وتعود القراء بعد تكرارها أن يفهموا منها أنها تكتب في البلاغات التي تنذر بالارتداد من غير اعتراف بالهزيمة! فإذا سمعوا خبرا يبتدئ بالتراجع والارتداد بادروا إلى تمامه متهكمين: نعم. وفقا للخطة المقررة.

ترى هل كان أصحاب هذه البلاغات من قراء فرنكلين؟

لا نظنهم قرءوه. ولكنه قد سبقهم إلى هذه العبارة وأمثالها، وعود قراءه قبلهم أن يتوقعوا كل حركة كبيرة من حركات سيرته الحافلة، وفقا للخطة المقررة! وعودهم أن يبتسموا لهذه الخطة التي ترسم كل حركة من حركاته سلفا حتى حركات الأفكار والأخلاق! ولكنهم يبتسمون هنا لتلك العادة المزمنة التي لا تتغير ولا تذكر إلا مقرونة بأخبار النجاح، فليس في ابتسامتهم المتوالية شيء من التهكم أو السخرية على إخفاء الفشل بالدعوى، بل هي ابتسامات العطف التي ترتفع إلى الشفاه كلما نظر الناظر فرأى أمامه وجها قديما يطالعه من جديد، ويرجع إليه في كل مرة على ديدنه وهجيراه.

قال فرنكلين يصف مقدمات سيرته الطويلة: «إن الذين يكتبون عن فن الشعر يعلموننا أننا لا ننظم شيئا جديرا بأن يقرأ إلا إذا رسمنا له من البداءة خطة مفصلة عن مقاصده، وإلا تورطنا في السخف والإطالة، وأراني أعتقد أن هذه الخطة تصدق على الحياة برمتها، خلافا لمنزعي الأول إذ كنت لا أتبع في حياتي خطة موحدة، ولا أرى الحياة على هذه الحالة إلا شتيتا من المناظر لا تربط بينها رابطة. وإنني الآن لمقدم على حياة جديدة، ولا بد لي من عزائم أمضي عليها ومسالك في الأعمال أتوخاها؛ كي أعيش من جميع الوجوه عيشة مخلوق عاقل. فليكن لزاما علي إذن أن أتحرى القصد زمنا لأبرئ ذمتي من كل زيف، وأن أروض نفسي على قول الصدق في كل موقف، فلا أدع إنسانا يتوقع من كلامي أملا لا يتحقق، ولا أحيد عن سنة الإخلاص في كل كلمة أفوه بها أو عمل أعمله، وهي أحب السنن في مناقب العقلاء، وأن أفرغ نفسي بجهد وعناية لكل شاغل أقدم عليه، فلا أنصرف بذهني عنه سعيا وراء الأمل الخادع في الثروة العاجلة؛ لأن الاجتهاد والمثابرة أضمن وسائل الثراء، وعلي ألا أنبس بكلمة مسيئة عن إنسان من الناس ولو في سياق الإفضاء بالحقيقة، بل أحاول أن ألتمس المعاذير لما أسمعه من أخطاء الناس، وأن أذكرهم بالثناء في كل مقام.»

3

وعلى هذا البرنامج سار فرنكلين في حياته الكتابية وحياته الصحفية، فلم يقصر عن غاية كان في وسعه أن يبلغها، وتقدم إلى الطليعة بين كتاب عصره في وطنه وغير وطنه، ونظم من حياته قصيدة لا اختلال في أوزانها على النحو الذي رواه عن فن الشعر في رأي معلميه. ولا ريب أن هذه القصيدة الحية، بل هذه الملحمة الوافية، أبدع قصائده من منظوماته وأناشيده، فلم ينظم من الشعر ما أبقاه أو تركه للبقاء، ولم يطاوع هواه مع عروس الشعر إلا ليستعين بها على حفظ كلمات المنثور أو توقيع الأناشيد في مجلس من مجالس الحبور، فلم تبق له غير قصيدة واحدة ذات قواف متعددة، هي الحياة على هذا الوزن الرتيب، ومن قوافيها المتعددة قافية الكاتب الأديب.

السياسي

يعمل في السياسة اليوم أناس كثيرون كلهم له وظيفة سياسية، وكلهم له عمل غير أعمال الآخرين، وقد يقضي الواحد منهم حياة معمرة ولا يشتغل في السياسة بوظيفة غير الوظيفة التي استعد لها بترتيبه وتعليمه.

فالوزير، أو الزعيم، الذي يقود الرأي العام سياسي، والسفير الذي ينوب عن دولته عند الدول الأخرى سياسي، والحاكم الذي يدير الديوان أو يحكم الإقليم يعد من ساسة البلد، والعالم الباحث الذي يدرس النظريات الاجتماعية ومبادئ الحكم عالم سياسي أو خبير مختص بعلم السياسة.

وهذه كلها أعمال محدودة في العصر الحاضر، لا يختلط واحد منها بغيره، وإن كانت كلها تنتظم تحت عنوان السياسة.

ولكنها لم تكن محدودة في عصر فرنكلين، ولم تكن محدودة في وطنه بصفة خاصة إبان حركة الاستقلال؛ لأن الشعب الأمريكي في ذلك العصر كان يتطلع إلى زعمائه البارزين في كل مشكلة، ويتطلب منهم العمل والهداية في كل موقف، وكان يواجه المسائل والخطوب جملة واحدة بكل ما عنده من قوة وقدرة، فهو يندب الرجل الذي يراه أمامه للمشكلة التي يراها أمامه، وينتظر من الفقيه أن ينفعه في تدبير شئون القتال، ومن المقاتل أن ينفعه في تدبير شئون الحكم، ومن التاجر أن يعمل عمل السياسي، ومن السياسي أن يعمل عمل التاجر، ولا يملك الوقت ولا التنويع أو التقسيم الذي يتيح له أن ينتظر لكل عمل صاحبه ولكل رجل رسالته، فكل مشكلة لساعتها، وللرجل الذي يلفت الأبصار ويقرع الأسماع في تلك الساعة، وهذه هي المحنة التي امتحنت كل معدن من معادن الرجال البارزين فأخرجت في معصرة الشدة خير ما فيه.

وأخرجت من هذا فئة صالحة من الزعماء لا تفوقهم فئة من قبيلها في عهد من عهودها التالية، بعد النهضة والتقدم والاتساع والارتفاع.

وكان فرنكلين واحدا من هؤلاء الزعماء المدخرين للشدائد في أوقاتها، وللسياسة بجميع مقاصدها: سياسة الزعيم، وسياسة السفير، وسياسة الحاكم، وسياسة الباحث في كل سياسة.

ونجح حيث طلبوا منه النجاح، ولم يخيب الظنون في رجاء يناط به أو ناطته به حوادث الأيام.

في عصرنا هذا قد نترجم السياسي ونلتمس أسباب نجاحه في أوائل نشأته ومبادئ تربيته وتعليمه .

وفي عصر فرنكلين نفسه ربما جاز التماس الأسباب - أسباب النجاح - في النشأة والتربية والتعليم.

ولكننا لا نستغني في عمل من أعمال فرنكلين - خاصة - عن الرجوع به إلى الفطرة الموروثة قبل غيرها، فلم تكن في عصره علوم مقررة وبرامج محفوظة لتخريج الساسة الناجحين في كل ضرب من ضروب السياسة، ولو كانت هناك تلك العلوم والبرامج لما فسرت لنا شيئا من نجاحه في سياسته؛ لأنه - كما قيل - لم يوجد أحد قط كانت فائدته من المدرسة أقل من فائدة فرنكلين.

ولا بد أن تنظر في تكوينه الفطري، وفيما هو من قبيل هذا التكوين، لتفسير كل قدرة له لم يستفدها من المرانة والتعليم.

ولا يستطيع مترجم له أن ينسى في هذا الصدد قوة البنية التي ورثها من أبويه، فإن قوة البنية أصدق أعوان السياسي في كل عمل من أعماله يتطلب الهدوء واعتدال المزاج، وكل عمل من أعمال السياسي يتطلب النفس الهادئة، والمزاج المعتدل.

وحب النظام خصلة يتعلمها الإنسان في المدرسة وفي تجارب الحياة، كما يتلقاها استعدادا بالوراثة مع البنية الطبيعية، ومهما يكن من فضل التعليم والتجربة في هذه الخصلة، فلا شك في اختلاف الاستعداد لها بالطبيعة الموروثة، فقد يغني قليل من التعليم والتجربة مع الاستعداد الطبيعي حيث يضيع التعليم الكثير والتجربة الطويلة عبثا مع فقدان ذلك الاستعداد.

ولقد كانت قوة البنية عونا لفرنكلين على التنظيم وكابحا لدوافع الخلل والاندفاع والتقلقل بين رأي ورأي، وبين نظام ونظام، وقال عارفوه - بعد الأربعين على الخصوص: إنهم لم يروه قط في ربكة أو عجلة، وهذه أيضا عدة من عدد النجاح في السياسة لا يستغنى عنها، ولا يقدر عليها أحد كما يقدر عليها الرجل المكين البنية المستقر على نظام لأعماله وأوقاته يمنع الخلط بينها والارتباك في البدء بها والانتهاء منها، ويمنع الربكة والعجلة تبعا لذلك، فلا يفقد طمأنينته، ولا يفقد العاملون معه طمأنينتهم إليه.

ويلحق بالاستعداد الفطري أنه كان عاشر أبناء أبيه، فلم ينشأ نشأة الطفل المدلل، ولا نشأة الطفل الوحيد الذي يقضي أيام الطفولة بعيدا من أمثاله غريبا عن شعور الزمالة والعشرة الطبيعية. وفتح عينيه على الدنيا وهو يصاحب أطفالا أكبر منه وأصغر منه بين إخوة وأخوات من الجنسين، فلم يصعب عليه بعد ذلك أن يسلك مع الناس، وعرف الكبار والصغار في أخص حالاتهم وأعمها معرفة البداهة السهلة والفهم الصحيح. وكان له من كل أخ وكل أخت نموذج مختلف ينوع أمامه طبائع النفوس، فلا تخفى عليه حقائق النفس البشرية على تعدد الأمزجة والطباع.

ولسنا نرى أن المقدرة السياسية كان لها الفضل كله في نجاحه حيث نجح في «وظائفه» السياسية التي لم تنحصر في مجال واحد من مجالات السياسة، فمن قيادة الرأي العام إلى المفاوضة إلى الإدارة والتنظيم إلى مباحث الحكم وفلسفة الاجتماع - كل أولئك كان له فيه أعوان من ظروف الزمن وظروف النهضة الفكرية وظروف المجتمع الأمريكي نفسه في إبان تكوينه قبل الخلاف مع الدولة البريطانية وبعد الاستقلال عنها إلى يوم وفاته.

فالنزاع بين بريطانيا العظمى وفرنسا كان له شأنه في ضم فرنسا إلى جانب الثورة الأمريكية وتحريضها على الانتقام من بريطانيا العظمى لسعيها الحثيث في طردها - أي طرد فرنسا - من أمريكا الشمالية نفسها، وقد كانت رغبة فرنسا في طرد الدولة البريطانية من تلك البقاع لا تقل عن رغبة الأمريكيين الساخطين على حكومة لندن وحكومة المستعمرات.

وهذه معاونة من الظروف لا تهمل في تقدير مساعيه وتقدير أسباب نجاحه، ولكنها إذا وضعت في الميزان وجب أن توضع أمامها عوامل أخرى في السياسة الأوروبية، كانت تميل بفرنسا إلى الحذر والأناة في تشجيع الثوار الأمريكيين، بل كان من هذه العوامل التي تدعو إلى الحذر والأناة أمور ترجع إلى فرنسا داخل حدودها، ولا تمتد إلى ما وراء الحدود في القارة الأوروبية أو القارة الأمريكية، وتلك هي مخاوف القصر والنبلاء من بوادر الثورة الفرنسية التي كانت تهددهم بالنذير بعد النذير حتى قضت على لويس السادس عشر - ملك فرنسا - الذي استقبل في بلاطه فرنكلين.

ومن الظروف التي أعانت على النجاح ما لا يحسب لفرنكلين في ميزان القدرة السياسية، ولكنه يحسب له راجحا مرجحا في غير ذلك الميزان، وشهرته العلمية ظرف من أكبر هذه الظروف، وسجاياه المحبوبة ظرف آخر لا يقل في تمهيد الطرق أمامه وفتح الأبواب له عن الشهرة العلمية.

وهنا أيضا ينبغي أن نعادل بين الكفتين ونضع شيئا في كل كفة منهما، ولا نقصر المرجحات على كفة واحدة.

هنا أيضا ينبغي أن نعلم أن الظروف المؤاتية تصادف الساسة في كثير من المهام الكبرى والصغرى ولا يحسنون الاستفادة منها، بل لعلهم يعكسونها ويضيعون فرصتها بالغلطات التي يستغلها الخصوم ويحسبونها في جانبهم من الظروف المؤاتية!

وقد كان خليفة فرنكلين في تمثيل بلاده عند الدولة الفرنسية رجلا من مشاهير الأمريكيين، بلغ إلى رياسة الجمهورية وعده المؤرخون الأمريكيون والأوروبيون من آحاد الرؤساء النابهين، وكانت له فلسفة سياسية ومبادئ ديمقراطية تدرس الآن بين أصول الحكم الدستوري والحرية الفكرية، وحل هذا الخلف العظيم محل سلفه العظيم فأحس بالعبء الفادح من اللحظة الأولى، وكتب إلى قومه يقول: إنه يحل محله ولكنه لا يغني غناءه، ولم يكن جفرسون ممن يتلطفون أو يمدحون على حساب الحقيقة والعدل باسم التواضع المكذوب.

والظروف المعاونة في استنباط قواعد الفلسفة السياسية تشبه هذه الظروف وأمثالها في مسائل المفاوضة الدبلوماسية. فقد كان أذكياء العصر يرقبون هذه الفلسفة وهي تولد وتترعرع وتنمو مع الحوادث والمطالب الشعبية من جانب الطلاب وجانب المعارضين والمنكرين، وكان له رأي عن التمثيل النيابي وحقوق الدولة في تحصيل الضريبة، وحقوق المحكومين في المحاسبة عليها، وحقوق الطبقات في المساواة أو الامتيازات الموروثة - قضية قائمة مسموعة الحجج من طرفيها منجمة على حسب الحوادث، بل على حسب الأفراد والأقاليم في كثير من الأحوال، وكان صاحب الرأي الفلسفي يعمل «فلسفته» عملا وينفذها تنفيذا ولم يكن قصاراه منها أن يقرأها على الصفحات ويناقشها بالبراهين، وكان جو الدولة البريطانية من أقصاها إلى أقصاها يتماوج ببقايا الثورة الدستورية، ويردد الأصداء القريبة التي يسمعها الحاكمون كما يسمعها المحكومون، وكانت فرنسا تتنسم الأنفاس من هذا الجو وتنفثها في صرخات فولتير وزملائه المتمردين المتحفزين، ولم تسمع نظرية واحدة من نظريات الفلسفة السياسية التي شاعت في ذلك العصر، إلا وهي لاحقة بحادثة تؤيدها، أو سابقة لحادثة يوشك أن تتجسم للحس والعيان، وهذه هي النظريات التي تستجيب لها طبيعة فرنكلين ويتقبلها ذهنه ويقيم عليها أفكاره وأعماله في وقت واحد، فليست الأفكار فيها إلا أعمالا مفسرة، وليست الأعمال فيها إلا أفكارا مطبقة، أو في انتظار التطبيق.

ويوضع كل هذا في كفتي الميزان حيثما وزنت قدرة فرنكلين ومعونة الظروف في مساعيه السياسية وفي قيادة الرأي العام إلى الفلسفة الاجتماعية، ويوضع في الميزان قبلها وبعدها تقدير واحد ينبغي ألا ينساه من يزن عملا من الأعمال أو سيرة من السير، وربما كان هذا التقدير سؤالا يلقيه المؤرخ على نفسه ويجيبه ثم يفترض جوابه المعقول في حساب المسئولين الآخرين: فإذا كان صاحب السيرة لم يعمل عمله بفضل قدرته وحدها دون غيرها، فهل عملته الظروف وحدها بفضل قدرتها دون غيرها؟ وهل كل عامل ينجح مثل هذا النجاح إذا وجد في هذه الظروف؟

إن كانت الظروف لا تغني عن العامل، فذلك هو الفضل الذي يوضع له في ميزانه، وإذا كانت الظروف المؤاتية لا تنقطع عن الدنيا ولا تتجرد منها حادثة من الحوادث العظمى، فهي لا تعلو ولا تهبط بكفة ميزان.

كانت قيادة الرأي العام من «وظائف» السياسة العامة التي نهض بها فرنكلين أو أنهض لها - على الأصح - لأنه لم يطلبها بأدواتها ولم تكن لديه أدواتها في البلاد التي تنال فيها قيادة الشعب بالتأثير في الجماهير. فلم يكن خطيبا يملك عواطف السامعين ويثيرها ويلعب بها على هواه، ولم يكن من عاداته أن يسرف في الوعود، وأن يقول ما لا يعمل ولا ينوي أن يعمله ساعة الوعد به في ساعة من ساعات الحماسة وهياج الخواطر والأفكار، ولم تكن الحماسة من طباعه في علاقة من علاقاته بالناس خاصة أو عامة ومهتاجين أو هادئين، وكان فصيحا مبينا في الإعراب عن رأيه والإقناع بحجته وشرح أفكاره التي استقر عليها والتي لا تزال بين التردد والاستقرار، ولكن هذه الفصاحة المبينة ليست بالعدة الماضية في قيادة الجماهير من منصة الخطابة ، وليست على الأخص بالعدة الماضية في عصر النزاع واضطراب الأهواء وجماح المطالب إلى غير وجهة ثابتة يتفاهم عليها القادة والمفكرون فضلا عن الأتباع المنقادين بغير تفكير.

فلما نهض فرنكلين بقيادة الرأي العام أنهض لها على الأصح من غير سعي لها وغير تدبير مقصود للوصول إليها، اللهم إلا أن نحسب نتيجة عمله غاية مقصودة يناط بها التدبير.

فقد كانت ثقة الناس به من نتائج شهرته بالتقويم السنوي الذي سماه تقويم ريتشارد المسكين وكاد يحمل اسمه والإعجاب به إلى كل بيت في الولايات، وكانت هذه الثقة في موطنه وبين عارفيه من نتائج الاطمئنان إلى حسن إدارته وأمانة يده وضميره، ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الشدائد والأزمات بما يلائمها من الرأي الحاضر والفكر الهادئ والتصرف المريح الذي يرتضيه أطراف الخصومة بعد سكون الزوبعة وانقضاء النزاع والخلاف.

ولم يحاول قط، ولا كان في قدرته، أن يثير الجماهير بفصاحة الشارع وارتجال الدعوى الكاذبة التي لا تسأل عما تقول ولا يذكرها أحد بما قالت ولا يذكر أحد ما سمع منها بعد حينه، ولكنه كان يقدر على ما هو أصعب وأخطر في مخاطبة الجماهير: كان يقدر على تهدئة الجماهير الثائرة، وهي قدرة لا طاقة بها لأقدر الخطباء على إثارة الجماهير الهادئة، وكانت عدته النافعة في هذه المواقف رباطة جأشه وطيبته المرتسمة على سيماه ونظرته الأبوية التي تعدي الناظرين بما يقابلها، فلا يملكون إلا أن ينقادوا له طائعين، كما ينقاد الأبناء للآباء.

ومن هذه المواقف الثائرة أن بعض الأغرار على الحدود سمعوا بمعركة بين السكان البيض، والهنود الحمر فهجموا على قبيلة من القبائل الهندية للاقتصاص منها، وفر أبناء هذه القبيلة وبناتها إلى فلادلفيا يحتمون بها من مطاردة الناقمين المتعطشين إلى الثأر والانتقام، فثار بهم غوغاء فلادلفيا وتعقبوهم في الطرقات ليفتكوا بهم وينتقموا منهم على السماع بغير تمييز بين المعتدين والمسالمين، وطلب الحاكم من فرنكلين أن يقمع الفتنة بفرقة من الجند الرديف، فلم يعمل فرنكلين بالأمر وآثر التجربة بالحسنى قبل الوثوب إلى السلاح، وذهب إلى الثائرين منفردا أعزل لا يحمل في يده شيئا حتى عصاه، وكانت رؤيته كافية لتوقف الجمهور الهائج في ثورة غضبه للإصغاء إلى الأب فرنكلين، وكتب هو عن هذا الحادث إلى صديق له في لندن يقول: «في خلال أربع وعشرين ساعة كان صديقك القديم جنديا ومستشارا ودكتاتورا على نوع ما وسفيرا إلى الغوغاء. ثم عاد إلى منزله نكرة كما كان.»

وبهذا الوقار على أسلوب آخر كان يؤدي أمانة القيادة بين كبار القادة من فطاحل الزعماء، فلما عهد إليه مع فئة من هؤلاء الزعماء أن يكتب إعلان الاستقلال لم يرض عن كلمة جفرسون التي قال فيها عن حقوق الأمريكيين «أنها مقدسة لا تنكر» واقترح بديلا منها «إنها ثابتة بذاتها» لأن القول بأنها لا تنكر لا يطابق الدقة العلمية مع وجود من ينكرونها ويقاتلون في سبيل إنكارها، ولأن القداسة في الحقوق العامة قد ابتذلت بدعوى الملوك الذين يزعمون أنهم يتلقون السلطان من السماء، ودعوى رجال الدين الذين يزعمون أن القداسة مستمدة منهم، وقد يتسللون من وراء هذه الكلمة إلى المطالبة بالرقابة على حقوق الشعب «المقدسة»، فكانت قيادته للأمة لا تستغني عن وقار تفكيره بين الدهماء ولا بين الزعماء.

والسياسي المفاوض يلي السياسي الزعيم في القدرة والخبرة بأساليب المفاوضة في كل ظرف من ظروفها، وهي تلك الظروف التي تتناقض بين يوم ويوم، وبين خصم وخصم، وبين قضية وقضية.

فتولى المفاوضة في بلده بين البيض والهنود الحمر، وبين أبناء الولايات وأبناء كندا الفرنسية، وتولى المفاوضة في إنجلترا نائبا عن بعض الولايات الأمريكية.

وتولى المفاوضة في فرنسا ليستعين بها على مقاومة بريطانيا العظمى، ويعقد معها معاهدة تعترف فيها باستقلال الولايات، وتسجل لهذه الولايات كيانها «الرسمي» في عالم السياسة الدولية.

وكانت عدة «السياسي المفاوض» لديه أكمل من عدة السياسي الزعيم أو السياسي الذي يقود الجماهير بالأقوال والوعود.

كانت المسالمة طبيعة فيه، وكان من مبادئه «العلمية» صيانة الجهود عن التبديد، فلا يقدم على نضال يستطاع اجتنابه بوسيلة من وسائل التراضي، أو حيلة من حيل المجاملة والتفاهم على أواسط الأمور، وعنده أنه «لا حرب حسنة ولا سلم سيئة»، بل السلم خير من الحرب ما دامت المسالمة تغني عن القتال.

وفاوض الهنود الحمر فنجح؛ لأنهم يحسون منه دخيلة شعوره في مسألة الفوارق بين الأجناس، وقد كان يقول: إن الفتك بأبناء قبيلة هندية انتقاما من أبناء قبيلة أخرى جور قبيح كانتقامنا من الهولنديين مثلا لعدوان يصيبنا من الفرنسيين واعتذارنا من ذلك بأنهم «كلهم بيض الوجوه».

ولم يسمع الهنود منه هذا الرأي، ولكنهم كانوا يحسونه من شعوره ومعاملته، وإيثاره للتراضي والمصافاة.

ولما ذهب للمفاوضة في إنجلترا كان في رأسه كل حل وكل محاولة قبل القطيعة وإعلان العداء.

كان في ذهنه أن تتعاون أجزاء الإمبراطورية على نمط «الكومنولث» الذي اهتدى إليه الساسة البريطان بعد الحرب العالمية الأولى، وكان في ذهنه أن تختار للإمبراطورية عاصمة في الولايات تتبعها الجزر البريطانية، كما تتبعها الولايات الأمريكية وغير الأمريكية، وكان في ذهنه أن تنفض الخصومة بتقرير حقوق الهيئات النيابية في كل بلد، وتقرير حقوق التاج على المساواة بين الجميع، فلا يكون لبرلمان إنجلترا حق في فرض الضرائب مع وجود البرلمانات المحلية، ولا يشترك التابعون للتاج في هذه المساواة.

وهذا المفاوض الذي كان من طبعه أن يذهب مع المفاوضة إلى الحد الأقصى، لم يكن يذهب بها إلى غير حد ولا نهاية، فلما جاء العدوان في بلده من الهنود الحمر وظهر من العدوان أنه استضعاف وسوء فهم لمعنى المسالمة والمداراة، كان هو المقاتل المصر على القتال إلى أن يتبدد هذا الفهم وتزول من نفوس المعتدين مظنة الاستضعاف. ولما فتح كل باب للمسالمة مع الساسة البريطان ويئس من كل حل وكل حيلة، كان هو في طليعة الدعاة إلى المقاومة بالسلاح وعلى رأس العاملين على توفير الأسلحة وتجنيد الفرق واتخاذ الحيطة في مواضع الهجوم والدفاع.

أما المفاوضة في فرنسا فقد كانت في نصف الطريق أكبر مجازفة، وكانت في النصف الآخر أكبر نجاح.

برح الديار الأمريكية سرا في السادس والعشرين من شهر أكتوبر (1776) مع ثلاثة من الزعماء لمفاوضة الدولة الفرنسية في عقد معاهدة مع الدولة الأمريكية المستقلة تمهد لغيرها من المعاهدات مع الدول الأخرى، وتبدأ الاعتراف بالدولة المستقلة الجديدة في المعاهدات الدولية، وكان سفره على سفينة صغيرة لا تحتمل زعازع المحيط الأطلسي في تلك الآونة، وأخطر من زعازع المحيط الأطلسي رقابة الأسطول البريطاني على السفن التي تفارق الشواطئ الأمريكية، ومن عسى أن يكون فيها من الثوار العاملين في خدمة الثورة ومناجزة الدولة الحاكمة، ولا خفاء في الجزاء الذي ينتظر فرنكلين لو وقع في قبضة الأسطول المنتشر في عرض البحار، فإنه لا ينجو من الشنق بتهمة الخيانة العظمى قصاصا منه وعبرة لأمثاله، وما كان هذا الجزاء الرابض له ليخفى عليه قبل سفره، فقد كان جون هانكوك

Hancock

يوقع إعلان الاستقلال ويقول والقلم في يده: «علينا يا صحاب أن نتعلق جميعا بعلاقة واحدة» وهي عبارة باللغة الإنجليزية ترادف الكلمة العربية التي تعبر عن هذا المعنى «بالاعتصام» بحبل واحد، فقال فرنكلين: نعم، وإلا تعلقنا بحبال كثيرة متفرقين!

سافر من بلاده في السبعين وهو يعلم هذا الخطر الذي يترصد له في الطريق، ولكنه لم يصل إلى «نانت» ليهدأ بعض الشيء على أثر هذه الرحلة المقلقة في السفينة المضطربة حتى أحس طوالع النجاح بعينيه، وعلم أن الحفاوة التي سيلقاها من الأمة الفرنسية تفوق كل ما خطر على باله وبال أصحابه، وانقضى اليوم السابق لدخوله باريس دخول الفاتحين في التساؤل عن الموعد وعن الطريق والتسابق إلى أقرب الأمكنة لرؤية السفير المنتظر، فلم يبق رجل ولا امرأة من المشتغلين بالسياسة والمطلعين على أخبار الثورة الأمريكية، إلا خف إلى طريق من الطرق التي قيل: إنه سيعبرها إلى مقره أو إلى البلاط، وأقبل «الدكتور» في قبعته الفرو المعهودة والكساء الساذج يحيي المستقبلين على جانبي الطريق بابتسامته الطيبة ونظرته الوديعة في غير إكثار من الإيماء والحركة، وغزا المجتمع الباريسي من اللحظة الأولى، ولا سيما مجتمع العلية وذوي الثقافة من أقطاب الآداب والفنون، وكان العصر عصر التنافس بالأندية، أو الصالونات، فكانت السعيدة من عقيلات النبلاء من تظفر بزيارة من «الدكتور» ومن تضمن دعوة الضيوف الكبار لمحادثته عندها حين تشاء ، وساعدته الشهرة السابقة والقدرة السهلة على كسب الأنصار والأصدقاء من ذوي الجاه والمنزلة العالية بين قادة الآراء، وعلم أن هذا النجاح الأدبي غنيمة لا يستهان بها كائنا ما كان موقف البلاد والدواوين الرسمية، ولكنه كان يعلم من باطن هذا الموقف أنه يناصره، ويتمنى له التوفيق، وأنه - مع التحفظ الشديد في الظاهر - يملي له ويعينه في الباطن ويستمهله فترة من الزمن ريثما تسنح الفرصة التي يرتقبها الساسة المسئولون، فيعلنون الاعتراف بالدولة الجديدة آمنين عاقبة العداء الصريح للدولة البريطانية، فإن هذه الدولة نفسها ستعترف لا محالة بالحكومة الثورية متى يئست من قهرها وإكراهها على الخضوع.

ولم يأت هذا الأمل المرتقب بغير عناء وبغير شك وبغير تردد مخيف بين الأمل الضعيف في النصر، والخوف القوي من الهزيمة. إلا أن السفير المتفائل لم ينقطع قط عن الرجاء وعن بث الرجاء في قلوب المتشائمين، ولم يتخذ له الجواب السريع في حالة من حالات الشك والحيرة، أو حالة من حالات الهزيمة الظاهرة التي تلجم الألسنة وتبلبل الأذهان. فلما قيل له يوما: ما الخبر يا دكتور، إن هاو

Howe

قد أخذ فلادلفيا، لم يلبث أن أجاب على الأثر: عفوا ياسيدي؛ إن فلادلفيا هي التي أخذت هاو.

ثم وصل الخبر المرتقب بعد عام، وانهزم الجنرال برجوين في ساراتوجا تلك الهزيمة المنكرة التي تقرر بعدها مكان الدولة الحديثة، وكان وصول الخبر إلى باريس في الرابع من شهر ديسمبر ودعوة الوزير فرجين

Vergenne

وزير الخارجية الفرنسية لسفير الثورة الناجحة بعد يوم واحد من وصول الخبر، وطلب الوزير في هذه المرة فتح باب الكلام في المعاهدة، فأرسل فرنكلين نصوصها إليه بعد يوم، ولم يأت شهر فبراير حتى كانت المفاوضة كلها مفروغا منها، وكانت المعاهدة معدة للتوقيع، فسميت معاهدة التجارة والتحالف، واشتملت على الاعتراف باستقلال الولايات، وعلى التعهد بالاتفاق على مقاتلة بريطانيا العظمى والاستمرار في القتال إلى أن يتفاهم الفريقان على قبول الصلح، ولا يعقد أحدهما صلحا مع بريطانيا على انفراد.

وأقام فرنكلين أيامه بفرنسا خلال الحرب محفوفا بالأصدقاء والمعجبين من صفوة السادة والسيدات ، وكان قصر «باسي» الذي أقام فيه قبلة القصاد من الأدباء والساسة المقيمين بالعاصمة الفرنسية والوافدين إليها من الأقاليم أو الأقطار الأوروبية، وأقل من هذه الحفاوة الشاملة يثير حسد الحساد، ويوغر صدور النظراء والأنداد، ولكنه نجح هنا نجاحه الذي لم يسعد به قط عظيم ناجح مشهور، فكان نصيبه من حسد الحساد أقل نصيب، وكانت سقطاته التي عدوها عليه أهون السقطات.

من هذه السقطات أنه لم يحترس كما ينبغي أن يحترس من الجواسيس والعيون، وأفرط هنا في سجية السماحة وكراهية التضييق، وأخذ الأمور كلها على هينة وميل إلى المغفرة والاعتذار، وتفلسف بهذا التهاون كأنه يقصده ولا يقع فيه على غير علم وانتباه. فكتب إلى صديقته جوليانا ريتشي يقول: أتراني لو تحققت من تجسس خادمي أستغني عنه لهذا السب إذا كنت راضيا عن خدماته الأخرى؟ ولا جرم تتسرب الجاسوسية إليه من هذه الثغرة، ويثبت بعد ذلك أن مساعده المقيم معه في الدار - إدوارد بنكروفت - كان في خدمة الحكومة البريطانية لنقل أخباره ومراسلاته ولو لم تكن على صلة بالسياسة والمفاوضات الحكومية، ويشاء الحظ الحسن لهذا الرجل المجدود أن تكون معاذيره على الدوام راجحة على سيئاته في أظهر السقطات. فكم له من معذرة ظاهرة في هذه السقطة التي لا مراء فيها؟ لقد كان من معاذيره أن الجاسوسية لم تضره، ولم تضر دولته في كثير ولا قليل، وكان من معاذيره أنه يريد أن يعرف العالم أجمع أن قضيته بينة جلية كالشمس في رائعة النهار، فلا حاجة بها إلى تقية أو مداراة، وكان من معاذيره أنه عامل نفسه كما عامل دولته في هذه السماحة التي جاوزت حدودها بغير مراء، لأنه لم يكن يأمن على حياته، ولم يكن ثمة خطر على مصالح دولته أعظم من الخطر الكبير الذي كان يتربص به حيث أقام وحيث سار أيام تلك السفارة، ومن الحظ الحسن ولا ريب أن تحسب للإنسان المعاذير كلما حسبت عليه أمثال تلك السقطات.

ويستوفي هذا السياسي الزعيم والسياسي المفاوض وظائف السياسة العامة بآرائه في شئون الحكم وقضايا الاجتماع ، وهي آراء لا تحيط بالمسائل والقضايا إحاطة المذهب الجامع للقواعد والفصول، ولكنها تعرض علينا حلا عمليا لكل مشكلة أو فكرة تجريبية عن كل واقعة، ويؤلف منها الباحث مذهبا مجملا إذا أراد أن يعرضها معرض الترتيب والتبويب.

ولا حاجة إلى القول بغلبة الفكرة الديمقراطية على كل رأي من آرائه في الحكم وفلسفة الاجتماع والسياسة، فربما كانت الديمقراطية شعورا عنده قبل أن تكون تفكيرا ودراسة، وقد كان أخوه - صاحب الصحيفة التي نشر فيها كتابته الأولى - ثائرا متطرفا، وأوشك أن يعاقب بالسجن الطويل على حملاته العنيفة، وكانت السخرية بالألقاب من أوائل الآراء التي نشرها الصبي فرنكلين باسمه المستعار بين الخامسة عشرة والعشرين، وكان من سخرياته في مسألة الألقاب أن يتخيل أسماء التوراة مصحوبة بألقاب النبلاء كاللورد آدم، واللادي حواء، والبارون أرميا، والكونت حزقيال، وكان يقول بعد نضجه وتقدمه في تجارب الحياة أن الحسب الموروث لا يورث الخير ولا الإنصاف، وقد كره ازدواج المجالس التشريعية؛ لأن المجلس الأعلى في رأيه إنما يختار لتغليب سلطان الأغنياء على المجتمع، وهو لا يكره الثورة ولا يعارض حقوق الملكية، ولكنه يكره سيادة الطبقة الغنية على سائر الطبقات، ويؤمن كل الإيمان بوجوب حرية التجارة وإطلاق القيود للمعاملات؛ لأنها لازمة للحضارة الإنسانية لزوم حرية الفكر أو هي ألزم لها في جملة أحوالها، ولكنه على هذا الإيمان القوي بحرية المعاملة، كان يرى من حق المجتمع أن يشرف على تنظيم الملكية واقتناء الثروة؛ لأنها كلها من صنع يديه، فليس في طاقة الفرد إذا انفرد بنفسه أن يحرز ملكا مصونا يزيد على ضروريات المعيشة الموقوتة، فإذا أحرز شيئا يزيد على ذلك فإنما يحرزه بفضل المجتمع وضماناته الطبيعية أو الموضوعة، فلا يحق له أن ينكر على المجتمع سلطان الإشراف على التنظيم والتشريع في هذه الأمور، وإنما يشترط لذلك أن يكون كل حامل عبء من الأعباء الاجتماعية شريكا مسموع الرأي في شرائع التنظيم.

وليس إنكاره لسيادة العلية الغنية إنكارا لرياسة العلية التي ترفعها إلى مكان الزعامة فضائل العقل والأخلاق، بل هو يذهب في الإصلاح الاجتماعي مذهب كنفشيوس الذي يقول بإصلاح الرؤساء وهم قدوة طبيعية للأتباع والمرءوسين، وقدوتهم هذه هي التي تخلق العرف وتروض السواد على اتباعه وتجعلهم على حسب المعهود من عاداتهم يحذرون الخروج على العرف أشد من حذرهم دخول الجحيم حيث يلقون العقاب على الخطايا والذنوب.

وتكاد عقيدة المساواة الديمقراطية تكون عنده إنسانية عامة لا يخصصها بوطن ولا قوم ولا قبيل، فلما لاحظ أن العبيد المحررين ظلوا في حياة الحرية فقراء يحترفون الحرف الوضيعة عقب على ذلك قائلا أنه لا يعتقد أن العيب أصيل في الطبيعة أو دائم لا يتغير بتغير الأحوال، وإنما يرجح أنه من نقص التعليم والمرانة، وأن الزنجي ذو ملكات حسنة واستعداد كامن للفنون، ولذلك يحذق الموسيقى ويبرع فيها، ولو تعلم فنا غيرها لما قصر فيه.

ومن رأيه - بل من آرائه الكثيرة - أن الرق مفسدة للمجتمع الذي يشيع فيه؛ لأنه يركن بالسادة إلى الكسل، ويغري الأطفال بالكبرياء والتجبر في الأسر التي تملك الرقيق، وقد أوصى بالاعتماد على العمل المأجور، وتنبأ بشيوع ارتفاع الأجور في العالم تبعا لارتفاعها في الولايات الأمريكية بعد إلغاء الرقيق.

وكان من رأيه أن العمل هو معيار الثروة، فليس الذهب والفضة معيارا ثابتا لها؛ لأنهما سلعة تتقلب بها الأسعار كما تتقلب بسائر السلع، وإنما تقاس ثروة الأمة بمقياس الأعمال التي تحصل عليها، وليست هذه الأعمال وقفا على الصناعات البدنية وما إليها، بل هي تشمل أعمال الحضارة بأجمعها، وكلما اقتدر المجتمع على توفير تلك الأعمال كانت قدرته هذه مقياسا لغناه.

ولهذا كان يشجع إصدار عملة الورق ويقول: إنها رمز للعمل وإن الأغنياء يعارضونها لأنهم يملكون الذهب والفضة، ويحبون أن يقيسوا الثروة بمقياس ما يملكون.

ولا يعادي فرنكلين صناعات الترف؛ لأنها على اعتقاده حافز للهمم، وسبيل إلى دوران الثروة بين العاملين والمترفين، ورب شلن يخرج من يد أحمق يذهب إلى يد عاقل أحق منه باقتنائه، فيستفاد منه في الحالتين، وأفضل من الصناعة في قياس الفائدة على العمل أن تقوم الثروة في أساسها على المحصولات الزراعية والعمال الزراعيين.

وكان إيمانه بحق الحكم يقوم على قاعدة واحدة وهي التي نسميها اليوم قاعدة تقرير المصير. فإذا نفرت الأمة من حكومة وطالبت بحكومة غيرها، فلا حاجة لها إلى سند غير هذا الطلب، ومن ثم سخريته بدعوى الدولة البريطانية أنها صاحبة الحق الذي لا ينازع في حكم الولايات المتحدة؛ لأن الأكثرين من أبنائها رعايا بريطانيون ينتقلون إلى تلك الولايات، ولأن الدولة البريطانية تولت حماية الولايات من عدوان فرنسا المجاورة لها، فكتب رسالته الساخرة بلسان ملك بروسيا وجعل ذلك الملك يدعي مثل ذلك الحق على الجزر البريطانية؛ لأن سكانها رعايا جرمانيون انتقلوا إليه وحكمهم فيها أمراء من الجرمان، وتولت بروسيا حمايتهم بقمع فرنسا ومحاربتها الحين بعد الحين!

وقد كانت مبادئه الدستورية والقانونية تتسم بسمة يستطيع القارئ أن يقدرها بغير اطلاع عليها؛ لأنها سمة الاعتدال والسماحة واجتناب الشطط في الأحكام وإلقاء الفروض والتكاليف على عواتق الناس، فكان ينكر العقوبة التي تجاوز قدر الجريمة في الضرر أو قدرها في الضلالة وسوء الخليقة، وكان يؤثر في الدستور قلة القيود والموازنات، ولكنه لم يعلن مخالفته للمبادئ التي عارضها؛ لأنه وازن بين دستور يصدر بالإجماع، ودستور يؤيده فريق ويخالفه فريق ولو في سبيل التصحيح والتنقيح، فرجع عنده أن الإجماع على الدستور أجدى وأثبت لدعائمه من إعلان المخالفة له في خطواته الأولى على الخصوص.

وإذا كان هذا رأيه في حسم الخلاف على الرأي، فحسم الخلاف الذي يريق الدماء أحق منه بالجهد والحيلة؛ لأنه كان يسمي الحرب لصوصية وغيلة، وهكذا كان برنامجه الداخلي في سياسة الولايات، وعلى هذا البرنامج استقامت أعماله في كل سياسة داخلية أو خارجية ترتبط بالأمم الأخرى، ومن عجائب دقته في تقدير الأمور بأحوالها وأزمانها أنه تنبأ عن عصبة الأمم، وأن العالم ربما شهد بعد مائة وخمسين أو مائتي سنة هيئة يجتمع فيها المندوبون عن دول أوروبا جميعا لفض المشكلات وتوطيد السلام، وكان باينز

Baynes ، وروملي

Romilly

في شبابهما قد زاراه سنة 1783 وتحدثوا في مساوئ الحروب العالمية فقال فرنكلين: إنه يظن أن إقناع الملوك بإرسال مندوبيهم إلى مكان واحد لا يزال عسيرا ، وإنهم مع الصبر قد يتفق بعضهم على منع العدوان، ويرى الآخرون نفع هذا الاتفاق فينضوون إلى الهيئة شيئا فشيئا، ولا يبعد أن تضمهم الهيئة الواحدة أجمعين بعد مائة وخمسين سنة أو مائتين.

1

وله غير هذه الآراء في مذاهب السياسة والاجتماع خطرات متفرقة بين الرسائل والأحاديث. أما أكثرها فقد ورد مشروحا أو مقتضبا في رسالته عن العملة الورقية ورسالته عن زيادة السكان وتعمير البلاد:

Observations Concerning the Increase of Mankind and the Peopling of Countries .

ومسحتها الغالبة عليها هذه النظرية العملية التي تتقبل التطبيق والتنفيذ في حينها أو بعد حين، اللهم إلا خاطرة واحدة أوشكت أن تسلكه في عداد الطوبيين الأفلاطونيين، وتلك هي استغناؤه عن الأحزاب السياسية بتأليف حزب واحد من الشبان العزاب يسميهم حزب الفضيلة ويدربهم على نظام خاص يشبه نظام الماسونيين واليسوعيين، ويرجو منهم لخير المجتمع ما لا يرجى من سائر الأحزاب.

والأداة التامة في الوظائف السياسية إنما هي أداته في أعمال التنفيذ والتطبيق، وهي التي تعرف الآن باسم الوظائف الديوانية ويفرق المعاصرون بينها وبين السياسة فيسمونها بالإدارة

Statesmanship

أو بولاية الحكم

Administration

ولا يعتبرونها من وظائف السياسة في الصميم فهي على الأقل شيء غير الدبلوماسية، وغير البوليطيقا، وغير عمل السفير وعمل الوزير وعمل الزعيم المطالب بقيادة الجماهير.

وحيثما كان هنالك تدبير للتنفيذ العملي، فصاحبنا في عنصره على تعبير الغربيين، أو في مجاله ومعدنه كما نقول نحن الشرقيين.

وليكن ذلك التدبير من صناعته أو غير صناعته، ومن مألوفاته قبل ذلك أو غير مألوفاته، فما دام في وسعه أن يعرف ما هو العمل المطلوب ففي وسعه أن يعرف ما هي وسائل التنفيذ، وأن يدبر هذه الوسائل أصح تدبير.

والإدارة خطة وتنفيذ، وليس أطبع من ذهنه على وضع الخطط وترتيب الأعمال، ثم على تنفيذها بالأدوات اللازمة لها بغير إسراف وبغير إهمال.

وأكثر ما يصاب المديرون بالفشل من عجزهم عن الانتفاع بأدوات التنفيذ حين تكون هذه الأدوات من الآدميين!

فليس أكثر من المديرين الذين يستخدمون الوسائل الآلية ويحاولون أن يعاملوا المشتغلين معهم من الآدميين معاملة الآلات.

ولكن فرنكلين كان يحفظ هذه الأدوات الحية جيدا، ويعرف كيف يسلك معها وكيف يسلك بها في طريقه، ولهذا كان يفلح في كل إدارة تحتاج إلى التنفيذ بالأدوات الآدمية، ولو لم تكن من صناعته ولا من سوابق عمله كإدارة معارك القتال.

أراد الجنرال برادوك

Braddock

قبل كارثته الحربية في موننجهيلا

Monogahela

أن ينقل معداته في مائة وخمسين مركبة، وظن أن المسألة كلها مسألة أمر للفلاحين وسوق للمركبات بالخيل، وعنده الأمر وعنده من يسوق، فلم يحصل بعد الجهد الجهيد على أكثر من خمس وعشرين مركبة، وفزع إلى فرنكلين فحصل له على المركبات المطلوبة كلها بخيولها قبل انقضاء أسبوعين.

وتحدث الجنرال وفرنكلين في «الخطة» الحربية، فحذره فرنكلين من مفاجآت الكمائن ونبهه إلى قلة جدوى الخطط النظامية في اتقاء هذه المفاجآت مع امتداد خط القتال، فسخر منه الجنرال وقال له: «إن هذا الحذر ضروري للكتائب التي تقودونها من الجنود المرابطة، ولكن هؤلاء الهمج لا ضير منهم على جنود الملك المنظمين.»

ووقعت الكارثة فبادت الفرق التي كان يقودها وقتل ثلاثة وستون ضابطا من تسعة وثمانين، وأدرك فرنكلين الخطر الداهم، فجند من السكان نحو ستمائة للدفاع عن الحدود وإقامة المتاريس، وأصاب في القيادة حيث أخطأ القائد المغرور، ولم يغفل عن عمل لازم في أشد أيام الشتاء وقد ناهز الخمسين، وكان الجنود والسكان يسمونه الجنرال فرنكلين، ثم أبى جنوده بعد عودته إلى فلادلفيا أن يفارقوه حتى يؤدوا له التحية عند منزله، وصحبوه - كما قال في ترجمته - إلى الباب، ثم أعلنوا تحيتهم بالطلقات النارية في الهواء، فهزت الدار، وحطمت أجهزة الكهربا وهي من زجاج!

وإذا كان مقام الكلام عن الخبرة باستخدام الأدوات حين تكون هذه الأدوات من الآدميين، فليس ما ينسى في هذه الحملة نفسها مشورته على الواعظ الذي شكا إليه إعراض الجنود عن حضور الصلاة والاجتماع للدعاء، وكان من جراية الجنود أقداح من شراب الروم للتدفئة في الشتاء القارس، فلما سمع شكوى الواعظ المكروب وأشفق عليه من خوفه للهزيمة بعد هذا الإعراض، تبسم مطمئنا للواعظ الخائف وقال له: لا عليك من إعراضهم، خذ على عاتقك توزيع جراية الشراب ولا توزعها إلا بعد أداء الصلاة، فلم يتخلف بعدها جندي واحد عن موعد الصلاة!

وهذه الخبرة بالإدارة في الشئون التي لم يتدرب عليه، تغني عن الإفاضة في دقائق التنظيمات التي كان يبتدعها باجتهاده كلما أدار عملا من الأعمال التي يتصدى لها أمثاله ولا تستغرب من مدير مطبعة أو مدير صحيفة؛ لأنها جميعا أعمال من نمط واحد، ومنها تنظيم البريد، وتنظيم الإضاءة في المدينة، وتنظيم فرق المطافئ، وتنظيم مكاتب الهيئات النيابية والهيئات العلمية التي أسهم في أعمالها، فكل أداة لازمة لهذه التنظيمات فهي على متناول اليد من تفكيره وسجاياه؛ فهم صحيح، وتقسيم متقن، وتنفيذ مرتب، وخبرة باستخدام الأدوات الحية والأدوات الصناعية على السواء. «سياسي بالطبع» إذا صح هذا التعبير. والسياسي بالطبع يصنع السياسة على يديه، ويصنع لكل ساعة سياستها التي تمليها الحوادث عليه.

ولا يختم الكلام عن فرنكلين السياسي قبل أن يقال: إن بلاده قد أصبحت أمة متحدة بفكرة جريئة واسعة هي فكرة الاتحاد، وقد كان فرنكلين صاحب الدعوة الأولى إلى هذا الاتحاد.

الفيلسوف

كان دافيد هيوم يسمي فرنكلين الفيلسوف الأول، ويشفع ذلك أحيانا بقوله عنه: إنه أول فيلسوف وجه أنظار القارة الأوروبية إلى عالم الفكر في الديار الأمريكية.

وكانت الأندية الأدبية في باريس تسميه الفيلسوف أو الدكتور ولا تردفه بالاسم فيفهم السامع أنهم يعنون فرنكلين.

وكانت كلمة «الفيلسوف» كالاسم الغالب عليه بعد عودته إلى بلاده في أخريات أيامه.

ولم يكن ملقبوه بهذا اللقب مخطئين من وجهة العرف، ولا من الوجهة العلمية في عصره؛ فقد كان فرنكلين فيلسوفا بكل معاني الكلمة، إلا هذا المعنى الحديث الذي غلب على الفلسفة بعد عصره، وبعد شيوع التفرقة بين المعارف الإنسانية، ثم شيوع التخصص في كل معرفة منها. ونريد به الفلسفة التي غلبت على بحوث «ما بعد الطبيعة» وقضايا المنطق النظري وكادت تنحصر فيها. فهذا هو مجال الفلسفة الذي لم يكن فيه فرنكلين من زمرة الفلاسفة، ولم يرد أن يكون منها، ولا نخاله كان مستطيعا أن يكونه لو أراد؛ لأنه مجال لا تألفه طبيعته، ولا يألفه تفكيره، ولا يرجى منه أن يأتي فيه بما يفيد.

كان فرنكلين فيلسوفا بمعنى الكلمة القديم، وهو محبة الحكمة ورياضة النفس على اتباعها في أحوال الحياة اليومية، ولعله عرف هذه الفلسفة عملا قبل أن يعرفها علما واطلاعا؛ لأنه نشأ في بيئة المتطهرين، وعرف بالقدوة والبداهة أن الأخلاق المثلى نظام من نظم الحياة الدنيوية.

وكان فرنكلين فيلسوفا بمعنى يوافق معنى الكلمة الحديث، وهو استخراج العلل، والنظريات الفكرية لكل مبحث من مباحث العلم والاختراع التي اشتغل بها منذ شبابه، فكان يقدر الرأي والعلة ثم يبني عليهما الاختراع، أو كان يخترع ما يخترع ثم يعمم الرأي والعلة على المتشابهات من الظواهر الطبيعية، ولولا هذه الفلسفة العلمية لما جمع بين البرق والشرارة الزجاجية في نظرية واحدة.

وكان فيلسوفا بمعنى الكلمة الذي شاع في كل زمن وجعل الفلسفة ضربا من التصوف العقلي يوحي إلى صاحبه التقشف والزهد في المظاهر الفارغة التي يفتن بها المتكالبون على الحياة، ولم يكن فرنكلين متقشفا أو زاهدا في دنياه، ولكنه كان يطلب الشيء لمعناه لا لمظهره، ولأنه هو يبتغيه لا لأن الناس يبتغونه بالمحاكاة والتقليد.

أما الفلسفة التي تستغرق صاحبها فيما وراء الطبيعة وفي الجدل حول مباحثها، فلم تكن من فلسفات فرنكلين؛ لأنه كان ينفر من النظريات التي لا يحسها ولا يدركها، وكان ينفر من الجدل كما قال في مفكراته، وإن كانت مطالعته لسقراط قد أكسبته قدرة عظيمة في فنون الحوار، وكادت تنحرف به إلى شقاشق الجدل في بواكير حياته الفكرية.

وقد اطلع فرنكلين على كتب الفلسفة التي وصلت إلى يديه في بوستون وفلادلفيا، وقرأ منها كتاب كولنز

Collins

محاضرة في التفكير الحر

Discourse of Free thinking

وكتاب شافتسبري

Shaftsbury

بحث في الفضيلة، أو الجدارة

Inquiry Concerning Virtue or Merit

وكتاب درهام

Derham

في اللاهوت الطبيعي

1

وغيرها من الكتب التي من قبيلها، واطلع على أطراف من مذاهب الفلسفة الإغريقية، ولا سيما مذهب أفلاطون، ومذهب فيثاغوراس، واطلع على كتب الجدل الديني التي وجدها عند أبيه، فخلص منها جميعا إلى عقيدة كعقيدة أبي العلاء في التفرقة بين الظن والعقل؛ إذ يقول:

كذب الظن لا إمام سوى العق

ل مقيما في صبحه والمساء

وارتأى أن قبول العقل للعقيدة هو السند الوحيد الذي يكسبها حق الإيمان بها، وأنه لا حق للاعتقاد حيث يكون العقل بلا عمل وبغير مشاركة فيه.

ودان زمنا بمذهب النباتيين، ثم مال من مذهب النباتيين إلى بقية مذهبهم في وصايا فيثاغوراس المعروفة، ومنها تناسخ الأرواح وتسلسل الأدوار، وراقه أن يشبه الأدوار المتلاحقة بعمل من أعمال الطباعة التي كان يزاولها، فقال: إن الإنسان طبعات متعددة تظهر تباعا في كل جيل من الأجيال الأبدية بعد التصحيح والتنقيح،

2

وإنه يرجو أن تظهر منه طبعة مصححة منقحة بعد موته، ويود أن يذكر ما كان حيث يكون في مستقبل الأجيال!

وابتدأ في الثانية والعشرين من عمره بعقيدة في الدين لم تزل تترقى معه إلى أن جاوز الثمانين، ولخص هذه العقيدة في رسالة من جزءين سماها أصول العقيدة وشعائر الديانة

Articles of Belief and Acts of Religion

لم يوجد منها غير جزء واحد هو الذي نترجم منه ما يلي نقلا عن كتاب أقطاب الأدب الأمريكي الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا بعض ما جاء فيها:

وإني لأرتفع بخيالي وراء نظم السيارات، ووراء الشموس الثوابت، وأسبح في هذا الفضاء الذي لا نهاية له، وهذه الشموس التي يدور حول كل منها أسراب من السيارات، كسيارتنا الأرضية إلى غير نهاية، فتلوح لي هذه الكرة الصغيرة التي نعيش عليها كأنها العدم حتى في خيالي الكليل، وأرى نفسي إلى جانبها أقل من العدم، فأحس أنني شيء ضئيل لا شأن له ولا خطر، وأحس كذلك أنه لمن الغرور البالغ أن أتوهم أن ذلك الخالق الكامل يحفل بهذا (اللاشيء) الذي يسمى الإنسان، وأنه تحق له من الإنسان العبادة، ولكنه هو جل وعلا فوق ذلك بما لا تحصره العقول.

غير أن الناس جميعا ينطوون على شعور طبيعي يميل بهم إلى القداسة أو إلى التعبد لقوة عظيمة وراء الأبصار، وقد وهب العقل للإنسان بين الأحياء فارتفع به فوق سائر الحيوان الذي نعرفه في دنيانا، ومن ثم يبدو لي أنني مطالب بالواجب علي - كإنسان - أن أتوجه بالصلاة والتعظيم إلى ذلك الكائن العظيم.

وأدرك على هذا أن الإله الصمد قد خلق أربابا لا عداد لها تعلو على الإنسان علوا كبيرا، وتفهم من أسباب كماله ما لا يفهم، وتعيد إليه الثناء والجزاء على النحو المعقول.

كما أنه بين الناس لا يبالي المصور القدير ما يلقاه من ثناء الجهال والأطفال مبالاته بثناء العارفين وذوي الدراية بالتصوير - كذلك الأرباب التي يخلقها الإله الأعظم قد تبقى ولا تفنى، وقد ترتفع من مقام إلى مقام، ويخطر لي أن كل رب منها له الحظ الأوفر من الحكمة والقدرة، وأن كلا منها جعل له منظومة شمسية تدور عليها أسراب من السيارات، وإلى هذا الرب الذي أبدع منظومتنا أتجه بالثناء والتقديس؛ لأنه خليق أن يشتمل على شيء من الطبائع التي أودعنا إياها، ولأنه منحنا العقل الذي ندرك به حكمته في خلقه، فهو لا يزهد في ثناء عباده، ولا يرضى عن الجهل بفضله والاستهانة بمجده.

وأفهم لأسباب كثيرة أنه صالح، ويسعدني أن أظفر بالود من كائن على هذه الصفة من الحكمة والخير والصلاح، فعلي إذن أن أنظر فيما يرضيه، وأبحث عما يوليني منه العون والرعاية.

وأفهم أنه يرضى عن إسعاد خالقه، كما يرضى عن الإقرار بفضله والتوجه بالدعاء إليه، ولا سعادة في الحياة بغير فضيلة، فمما يرضيه إذن أن أتحلى بالفضيلة، فيسعد بمخلوقه السعيد.

ولما كان قد خلق في هذه الدنيا كثيرا من الأشياء التي لا غرض لها فيما يبدو منها غير إسعاد الناس؛ فإني لأومن أنه لن يغضب على أبنائه الذين ينعمون بتلك الأشياء، ويمتعون أنفسهم بالرياضات الحسنة والمسرات البريئة، وأنه لن يكون من المسرات البريئة ما فيه ضرر لإنسان.

إنني أحبه إذن لصلاحه، وأعبده إذن لحكمته، وعلي ألا أغفل عن حمد هذا الرب؛ لأنه حقه الذي لا أملك جزاء له غيره، وعلي أن أصحح العزم على التحلي بالفضيلة واغتنام السعادة لأرضيه بما فيه رضاي.

هذه العقيدة الساذجة مستمدة على ما يظهر من فلسفة أفلاطون الذي كان يفترض وجود الأرباب الصغار للتوسط بين إله الكون والإنسان وتعليل ما يحدث في العالم من الشر والأذى، وقد أعجبت فرنكلين في سذاجة الشباب فدان بها واصطحبها في أطوار حياته يعدلها ويكملها، ويعرضها على مقاييسه العلمية كلما تقدم فيها خطوة من الزمن والخبرة، فآمن بخلود الروح وحسابها بعد الموت؛ لأنه قاسها على خلق المادة فرأى أن الأرواح أحق بالصيانة والبقاء من المصنوعات المادية، وأن الله علمنا من حكمته أنه قادر على خلق مادة جديدة لكل جسم وكل شيء، ولكنه يتجنب الشتات والبعثرة ولا يصنع شيئا ليزيله ويفنيه، فليس من حكمة القصد في الخلق أن توجد الأرواح لتئول إلى الزوال والفناء.

وقد بقي معه من هذه العقيدة إيمانه بالله، وبالروح وبالحساب، وكتب خلاصة عقيدته إلى عزرا ستايل في الرابع والعشرين من شهر مارس سنة 1790 أي قبل وفاته بأيام فقال:

هذه عقيدتي.

أومن بإله واحد خالق للكون كله، وأومن بأنه يديره بحكمته، وأنه حقيق بالعبادة ولا شيء أرضى له من صنع الخير لمخلوقاته الأخرى.

وأومن بخلود الروح، وأن الإنسان يحاسب بالعدل بعد موته على ما صنع في هذه الدنيا. وهذه عندي هي أصول الإيمان في الدين الصحيح، وهي في موضع الإجلال عندي حيث وجدتها في كل نحلة وملة.

أما عيسى الناصري الذي يهمك أمر الاعتقاد به خاصة، فاعتقادي فيه أن وصاياه الأخلاقية وديانته كما تركها لنا خير ما شهدته الدنيا أو عساها تشهده، ولكنني أرى أنها تعرضت لمختلف التغييرات والتحريفات، وأشك في إلاهيته كما يشك معظم المخالفين الآن في إنجلترا، وإن كنت لا أقرر في ذلك عقيدة محتومة؛ لأنني لم أدرس المسألة، ولم أر ضرورة لهذا الدرس وأنا مقبل على الحقيقة أعرفها بأهون من هذا العناء، ولست أرى ضررا في اعتقاد من يعتقدها إذا كان لها كما هو الراجح أثر في زيادة الاحترام لوصاياه وزيادة العمل بها، وبخاصة حين أنظر فلا أرى أن العلي الأعلى يغضب لها، ويميز بين من يعتقدونها ومن لا يعتقدونها في سياسته للكون أقل تمييز. وأضيف إلى هذا فيما يخصني أنني - بعد ما اختبرته من كرم الله خلال حياتي هذه - لا يخامرني الشك أنه سيتولاني بمثله في الحياة الآتية، وإن لم أكن أهلا له بعملي.

3

هذه الفلسفة الدينية، أو هذه الديانة الفلسفية، وافقت فرنكلين فثبت على أصولها من الثانية والعشرين إلى الرابعة والثمانين، وحري أن توافقه كل الموافقة، وأن يطمئن إليها غاية ما يتاح له الاطمئنان في هذه الغوامض والمتشابهات؛ لأنها فلسفة نبتت من عقله وسليقته وأوشكت أن تنبت من كيان أعمق فيه من العقل والسليقة. فإن هذا الكيان المتزن قد تمثل في بداهة حيوية عنده توحي إليه بخطة القصد في جميع الأمور، فهنا فرنكلين العالم الذي يعقل بداهة أن الطبيعة تأخذ بسنة «الجهد الأقل»

The Least Action

فلا تحيد المادة عن القريب وتتخطاه إلى البعيد، ولا تدع الطاقة موضعا لا مقاومة فيه لتمضي إلى موضع تجد فيه المقاومة وتتعثر فيه بالعوارض والموانع، وهنا فرنكلين الهادئ الرصين الذي لا يكلف نفسه ولا يكلف أحدا في عمل من الأعمال فوق حقه من العناء وشغلان البال، وهنا فرنكلين الفيلسوف المؤمن الذي يبني على هذه السنة - سنة القصد - حكمة القصد الإلهي التي لا تخلق الأرواح لتزيلها وتفنيها ولا تخلقها عبثا ليتساوى عندها بقاؤها وفناؤها بعد ظهورها في عالم الحياة. ومن عجائب النفس البشرية أن المطبوعين على التهكم الذين يتهكمون على كل غلو في التفكير والإحساس هم أقرب الناس إلى الوقوع في هذا الغلو الذي يعرضهم للتهكم من أناس دونهم في الذكاء وأصالة التفكير، ولولا ذلك لما غلا فرنكلين في عقيدة «الجهد الأقل» حتى طبقها على الموازنة بين الدراسة والمشاهدة بغير عناء، ففي خطابه المتقدم يقول أنه لم يجشم نفسه مشقة الدراسة في تحقيق طبيعة السيد المسيح؛ لأنه إذا كان سيرى الحقيقة عيانا في العالم الآخر فالرؤية أيسر عليه من الدراسة!

وكفى بهذا حجة لمن ينفي عن فرنكلين شبهة المغالطة في العقيدة التي استقر عليها، فإن المرء ليغالط في كل شيء إلا في الطبع الذي يتأصل منه وراء الوعي والمشيئة.

وبديهي أن عقيدة فرنكلين هذه لم تكن عقيدة الأكثرين من الخاصة والعامة بين قومه وغير قومه، وأنه ليعلم ذلك ولا يخطر له أن يزعج ضمائر الناس بالجدل والنقاش ليقنعهم بصواب رأيه، وليس سكوته هذا حبا للسلامة أو مراءاة لمخالفيه، بل هو الصواب في رأيه حين تعنيه السلامة وحين لا تعنيه، وقد كان ينصح به أناسا لم يكن لهم عنده حق الصداقة والنصيحة، ومنهم من تحول عن صداقته وجافاه بعض المجافاة كما حدث في العلاقة بينه وبين الكاتب المفكر الكبير توماس پين

فإنه قرأ كتابه المخطوط الذي سماه عصر العقل وأرسله إليه لاستطلاع رأيه، فكتب إليه في الثالث من شهر يوليو سنة 1786 يقول: «إن الحجج التي اعتمدت عليها في إنكار الحكمة الخاصة - وإن لم تنكر الحكمة الإلهية العامة - لتضرب المعول في أساس كل دين؛ إذ لا باعث للعبادة والخوف من الجزاء أو التوسل بطلب الوقاية إذا زال الإيمان بإله يحرس ويهدي ويخص بالرضوان بعض الناس، ولست أريد أن أناقشك في تلك الحجج، وإن كنت أحسب أنك تطلب هذه المناقشة، وحسبي في الوقت الحاضر أن أقول لك: إن حججك قد تبلغ من المهارة أن تقنع طائفة من القراء، ولكنك لن تفلح في تغيير الإجماع الإنساني على الشعور المتفق في هذه الأمور، وكل ما تجنيه من نشر هذه الرسالة أن تجلب على نفسك الكراهية، وأن يصيبك الضرر بفعلك ولا ينتفع به أحد. واعلم أن من يبصق في وجه الريح، فإنما يبصق على وجهه. وهب أنك نجحت فيما قصدت إليه، فهل تخال في ذلك نفعا كائنا ما كان؟ إنك قد يسهل عليك أن تعيش عيشة فاضلة بغير معونة الدين، وأن يكون فهمك الجلي لمحاسن الفضيلة ومساوئ الرذيلة مع قوة عزيمتك كفيلا بتمكينك من مقاومة الإغراء والغواية، ولكنك قمين أن تعلم كم من ذوي الجهالة والضعف بين الرجال والنساء، وكم من الأغرار والطائشين بين الناشئين تنفعهم بواعث الدين في اجتناب الرذيلة والثبات على الفضيلة والصبر على هذا الثبات حتي يصبح في حكم العادة التي تهم جدا في صيانتها ومناعتها، ولعلك أنت نفسك مدين بتربيتك الدينية لهذه العادات التي ترفعك بحق في نظر نفسك. وإنك لتستطيع أن تستخدم ملكاتك البارعة وقدرتك على الاستدلال في علاج موضوع دون هذا الموضوع في مزالق الخطر، فتحتل مكانك بين المؤلفين النابهين منا؛ إذ ليس من اللازم بيننا - كما هو لازم بين آكلي البشر من الهوتنتوت - أن يبرهن الشاب على بلوغه مبلغ الرجال واستحقاقه للحسبان منهم بإقدامه على ضرب أمه.»

4

ومن الواجب في مقام التعريف بحقائق النفس الإنسانية أن نفرق بين هذا الخلق، وبين خلق الرياء الضعيف أو الكذب المرذول، فليس أبعد من الفارق بين الرياء الذي يخدم به المرء نفسه ولا يبالي منفعة الناس، والإيمان بالصواب الذي ينفعهم ويحق له أن يحرص عليه. ولم يعرف عن فرنكلين قط أنه كان يرائي أحدا في عقيدة من عقائده التي يحفظها لنفسه ولا يرى من الواجب عليه أن يعلنها لغيره، فإذا سأله سائل ذو مكانة عنده ولم يكن من الأدب في رأيه أن يهمله ويسكت عن جوابه صارحه بما يعتقد وأبلغه عقيدته على حقيقتها، ولو أنه كان يستبيح الرياء مع أحد لاستباحه مع أبويه وهو الحريص على إرضاء الناس عامة فضلا عن حرصه على مرضاة الوالدين. فقد أبلغه أبوه أن أمه تشكو إليه أن ولدا لها يدين بمذهب الآريين، وأن أخاه يدين بمذهب الكنيسة الشرقية، وكان فرنكلين يومئذ في الثانية والثلاثين فأجاب أباه ولم يكتم معتقده، بل قال له ولأمه بأسلوب صراح: «ما هو الآري وما هو تابع الكنيسة الشرقية؟ لا أستطيع أن أقول: إنني أعرف الفرق بينهما حق المعرفة، والواقع أنني قليلا ما أشغل عقلي بالبحث في هذه الفروق والخلافات، وأرى أن الدين الصحيح يمنى بالخسار كلما غلبت المراسم على الفضيلة، وأن الكتب المقدسة تؤكد لي أننا نحاسب في اليوم الآخر على ما عملنا لا على تفكيرنا في المذاهب، ولن تكون شفاعتنا أننا طفقنا نصيح: يارب يارب! بل يشفع لنا ما صنعناه من الخير لخلائق الله.»

5

فمذهب فرنكلين في كتمان عقيدته أشبه شيء بمذهب الجلة من الحكماء الأقدمين الذين كانوا ينصحون بكتمان الحقائق الغامضة عمن لا يدركونها ، ولم تمنعه مخالفة السواد أن يحبب إليهم التدين والاجتماع لسماع العظات وأداء الفرائض التي يعتقدونها، وساءه زمنا أن يرى سواد الناس معرضين عن الصلاة؛ لأنه رأى منهم بوادر الإباحة والتهافت على المنكرات، فشرع في تنقيح كتب الصلوات ومذاكرة المصلحين من رجال الدين عسى أن يهتدوا إلى أسلوب من أساليب الإرشاد أجدى في إقناع شعبهم من أساليبهم العتيقة التي درجوا عليها، وسوى بين الملل والأديان في وجوب الاحترام، فساعد أناسا من غير المسيحيين على إحياء شعائرهم في جواره، وقال: إنه لو علم أن المفتي الأعظم بالقسطنطينية يوفد إلى الديار الأمريكية رسولا من دعاة الإسلام لتلقاه بالترحاب.

6

ومن تناسق هذه الشخصية البسيطة أنها تطرد في آرائها وخلائقها، فما بدا منها دليل على ما استتر، ومن عرف رأيا لها في مسألة خطيرة، أوشك أن يعرف سائر آرائها في المسائل الأخرى، وهذه الفلسفة الدينية التي آمن بها فرنكلين تغنينا عن الإسهاب في تفصيل فلسفته الأخلاقية، بل ربما كان الأصلح أن نقول: إن فلسفته الدينية قائمة على قواعده الأخلاقية؛ لأنه يقيم الفضيلة على قواعد المصلحة العليا: مصلحة الفرد ومصلحة النوع بأسره، فهي مطلوبة؛ لأنها صالحة باقية، والرذيلة مكروهة لأنها فاسدة زائلة، ومن وازن بين مسرات الفضيلة وآلامها خرج من الموازنة بإيثارها على الرذيلة؛ لأن آلام الرذيلة أكثر من مسراتها، وكثير من مسراتها زائف مدخول يجني الضرر على صاحبه أو على غيره، خلافا لمسرات الفضيلة التي تصح في جوهرها ولا يخشى منها الضرر على أحد.

ولم يكن فرنكلين مثاليا حالما في رأي من آرائه، ولكنه لم يكن كذلك من الإباحيين المستهترين بالمبادئ والقيم الأدبية، بل كانت له خطة يروض نفسه على اتباعها ويحاسب نفسه على التقصير فيها، وقد بلغ بهذه الخطة مرتبة الاعتدال، ولم يبلغ بها مرتبة العصمة بطبيعة الحال، فهي في شئون الآدميين ضرب من المحال.

كان خاطئا ولم يكن إباحيا، وكان من خطاياه ما عرفه الناس بغير اختياره، ومنها ما عرفوه من كلامه؛ إذ اعترف بانقياده للشهوات في شبابه، وعاب على نفسه أنه انقاد لهذه الشهوات حتى اندفع إلى عشرة بعض النساء ممن لا أخلاق لهن ولا كرامة، وجملة ما يفهم من وصاياه ومن معاذيره في شئون الأخلاق الاجتماعية أنه يحارب الفساد، ويحسب منه رياء المجتمع في التمييز بين المفسدين، فإنه يأخذ المرأة بالذنب ويعفي شريكها منه، وقد ينسى الحقائق في سبيل المراسم والتقاليد، وعليه اللوم إذا فسد من بنيه وبناته من هو مستعد للصلاح ومن هو صالح لأن يكون عضوا من أعضاء المجتمع كالعضو السليم في البنية الحية.

وقد نشر - وهو في الحادية والأربعين - نبذة في مجلة الجنتلمان عن امرأة سيقت إلى ساحة القضاء ليعاقبها على الولادة بغير زواج، ووزرها في سوء الحظ أكبر من وزرها في سوء النية كما يؤخذ من كلامها الذي ألقاه فرنكلين على لسانها، وهذه فقرات منه بعد مقدمته القصيرة:

كل ما أرجوه في ضعة وانكسار أن تتشفعوا لي لدى الحاكم أن يعفيني من الغرامة التي تحكمون بها علي. فهذه خامس مرة - أيها القضاة الأجلاء - أساق فيها أمامكم لتهمة واحدة. وقد عوقبت مرتين؛ لأنني عجزت في المرتين عن سداد الغرامة المقررة. وربما كان هذا موافقا لحكم القانون فلا أناقش فيه، ولكن القوانين أحيانا تخطئ فيتقرر إلغاؤها من أجل ذلك، وغيرها يجثم ثقيلا على كواهل الرعية في بعض الأمور، فيجعل من حق السلطان أن يرفع أحكامها أو يخففها.

فاسمحوا لي أن أقول: إن هذا القانون الذي أدان به مناقض للعقل في ذاته وقاس بالنسبة إلي خاصة من جهة أخرى - أنا التي قضيت ما قضيت من حياتي في جيرتي غير عادية ولا باغية على أحد، وأتحدى عداتي - إن كان لي عداة - أن يذكروا اسم رجل أو امرأة أو طفل أسأت إلى أحد منهم، فإذا تركنا قضاء هذا القانون جانبا فلست أفهم ما هي الجناية التي أعاقب عليها.

لقد ولدت خمسة أولاد أصحاء مخاطرة بحياتي، وقد ربيتهم بجهدي وكسبي دون أن أثقل على المدينة بمنحة أو معونة، وكنت خليقة أن أحسن تربيتهم فوق ما أحسنت لو لم تؤخذ مني تلك الغرامات الثقيلة التي فرضت علي. أفيحسب من الإجرام في طبائع الأشياء أن أزيد عدد السكان في وطن لا يزال في حاجة إليهم؟ أخال أنني أحمد على هذا ولا ألام، وما حدث مني أنني أغويت زوج امرأة أو أغريت أحدا من الفتيان، وما عوقبت قط على جريمة من هذا القبيل ولا اقترفت ما يشكوه أحد قط، اللهم إلا أن يكون مكتب العقود قد خسر الرسوم التي يتقاضاها على الزواج.

على أنني أسأل: هل يحسب هذا من خطئي وتقصيري؟ إنني ألجأ إلى عدالتكم وقد تفضلتم فقلتم: إنني مالكة لقواي العقلية، ولا تعوزني سلامة الفكر والإدراك، وإنني لأكونن على غاية من الغباء لو رفضت الزواج وآثرت الحالة التي أنا عليها الآن على الحياة الزوجية، وقد كنت ولا أزال راغبة في تلك الحياة ولا أشك في صلاحي لها وحسن قيامي بمطالبها؛ إذ كنت على نصيب من النشاط والقصد، ولست بالعقيمة ولا بالقاصرة في تدبير شئون الدار، وأعود فأتحدى كائنا من كان أن يزعم أنني رفضت طلبا للزواج، بل حدث على نقيض ذلك أنني تقبلت الطلب الوحيد الذي تقدم به أول خاطب لي وأنا بعد عذراء، ووثقت به وبإخلاصه فعبث بي وهجرني وفي جوفي جنين.

وأرجو أن تعلموا جميعا أن هذا الخاطب قد أصبح قاضيا في هذا الإقليم، ولكم وددت لو كان جالسا اليوم بينكم على منصة القضاء عسى أن يوصيكم بالرفق في توقيع الجزاء علي، وكنت إذن لا أبالي أن أذكر ما ذكرت من أمره. ولكنني أقول الآن مضطرة أنه ليس بالعدل ولا بالمساواة في الجزاء، وأنه ليس من الإنصاف أن يكون المسيء إلي والمتخلي عني والسبب الذي أوقعني في كل جريرة - آمنا مترقيا إلى مناصب الشرف في الدولة التي تدينني بوصمة العار والمسبة.

ولقد يقال لي: إن الخطيئة خطيئة الدين إن لم يكن لهيئة التشريع حكم فيها. فإن تكن خطيئة دين فدعوها إذن لرب الدين، وقد حظرتم علي أن أدخل كنيستكم. فما بالكم لا تقنعون بهذا الحرمان.

هذه فقرات من مقاله الذي نشره في صحيفة الجنتلمان (عدد أبريل سنة 1747) وسماه دفاع مسز بولي بيكر، وأراد أن يعرض فيه مظلمة من مظالم المجتمع تلام عليها المجتمعات قبل ملامة الأفراد، وأن يقدم الاهتمام بالحقائق ودواعي الفطرة على الاهتمام بالمراسم والتقاليد، ومن كان يحسب نفسه بسجل يومي مكتوب عما زاد أو نقص من الفضائل المطلوبة، لا يظن به أن يبيح الجماح والانطلاق من نظام الحياة الاجتماعية، وإنما هو عارف بالمعاذير حيث ينبغي أن تعرف، وعارف بمواطن اللوم على المجتمع حيث ينبغي أن يلام.

كان خاطئا يقع في الخطيئة، ولكنه لا يبيحها، ولا يعفي نفسه من الملامة عليها والعمل على استدراك جرائرها كما سيأتي في الكلام على فرنكلين الإنسان، وكان يحب السرور، ولا يرى فيه حرجا من الدين ولا من الأخلاق، بل يراه واجبا من الواجبات التي ترضي عنه خالق الكون وما فيه من مسرة وجمال، وشرطه في السرور ألا يضر أحدا ولا يسف بالكرامة إلى مباذل الشهوات، فإن لم يكن فيه ضرر ولا إسفاف ولا ابتذال فهو حق للإنسان، بل واجب عليه.

ومما عرف عنه أنه قضى زمانا لا يذوق الخمر خفيفها ولا ثقيلها، وكان رفاقه في مطبعة العاصمة الإنجليزية يدعونه إلى شرب الجعة معهم فيأبى معتذرا ويسمونه من أجل ذلك بالأمريكي شارب الماء، وقد نظم في شبابه نشيدا لمجلس الشراب يشترك مع المجلس في غنائه ولا يشترك معه في شرابه، وما حرمها على نفسه لأنها حرمت عليه بحكم الدين أو القانون، ولكنه حرمها لأن سرورها مشوب غير خالص من العقبات وغير مأمون فيه أن يسترسل مع الشارب إلى الإفراط والإدمان.

لقد كان فرنكلين فيلسوفا بكثير من معاني هذه الكلمة في وضعها الأول ووضعها الحديث: كانت له عقيدة مفكر في الدين، وكانت له نظريات باحث في العلم، وكانت له مبادئ مبتدعة في السياسة، وكانت له آداب مرعية في نظام المعيشة، وكانت حياته الخاصة والعامة مدروسة من الوجهة الفكرية مروضة من الوجهة النفسية، وبعض أولئك كفيل بحسبانه في زمرة الفلاسفة المعدودين. إلا أنه فيلسوف يصعب على مؤرخي الفلسفة أن يضعوه تحت عنوان واحد من عناوين المدارس الفلسفية غير مستثنى منها مدرسة البرجمية التي ظهرت في وطنه بعد وفاته بأكثر من مائة سنة وقيل عنها: إنها المدرسة النموذجية للأمريكيين، وقيل عنه: إنه رائدها الأول من العلماء المفكرين.

نعم لا استثناء للبرجمية من مدارس الفلسفة التي يحاول المؤرخ الفلسفي أن يضع فيها فرنكلين؛ لأن ميزان الحقيقة عنده غير ميزان الحقيقة في المدرسة البرجمية، ولأنه قد يحتوي البرجمية ولا تحتويه. وإنما تزول هذه الصعوبة إذا أردنا أن نضع الفاصل بين فرنكلين وبين كل مدرسة فلسفية أو دعوة فكرية، فحيث لا عمل لا فلسفة لفرنكلين، وحيث لا توجد الفكرة المفهومة، فلا عمل كذلك لفرنكلين. وبهذا ينفصل أحيانا عن الواقعيين كما ينفصل عن المثاليين، وأصدق ما يكون تعريف الفيلسوف هنا تعريف الإنسان في مذهب أرسطو، وهو الحيوان الناطق المدني بالطبع، فهو حي يفكر لا ينسى وشائج القربى بينه وبين أبناء نوعه، وذلك هو فرنكلين الفيلسوف.

وذلك أيضا هو فرنكلين الإنسان.

الإنسان

دنيوي، عصري، إنساني، نفعي، ساخر، طينته عادية، مستر أمريكان!

هذه كلمات وصف بها فرنكلين، وأراد واصفوه بها أن يحصروه في قشرة بندقة كما يقولون في اصطلاحات الغرب، فأصاب كل منهم إصابة لا خلاف عليها، وأخطأ كل منهم خطأ لا بد أن يستدرك عند الإحاطة بصفات فرنكلين.

كل صفة من هذه الصفات لا تنبذ مرة واحدة ولا تؤخذ مرة واحدة؛ فهو في الحق دنيوي، وعصري، وإنساني، ونفعي، وساخر، وطينته عادية، ومستر أمريكان، وهو غير ذلك استدراكا على جميع تلك الصفات.

إن الذين وصفوه أنه دنيوي أرادوا كلمة

Secular ، وهي تعني أنه رجل واقعي عملي يقيس الأمور بما يحسه ويختبره، وأنه في خلائقه غير الرجل الصوفي الذي يعيش بين الشهود والغيب ويخوض في أعماق الخفايا والأسرار، وغير الرجل الذي يطيل النظر فيما وراء الطبيعة وما وراء هذه الآفاق المدركة بالحواس والعقول.

وكذلك كان فرنكلين في رأي جميع عارفيه ومترجميه، ولكنهم عند إطلاق هذه الصفة على فرنكلين ينبغي أن يوسعوا آفاق الدنيا حتى تتسع لكل شواغله العقلية والعلمية وترجع بحدودها أفقا وراء أفق حتى تصبح أوسع وأكبر من آفاق كثير من الحالمين المحسوبين من الخياليين. فلم يكن هنالك شيء دنيوي لم يكن دنيويا فيه، ولم يكن حاضرا بين أعماقه وآفاقه، وليس كذلك كل الدنيويين.

وقد كان فرنكلين عصريا في نظرته إلى أحوال زمنه، وهذا وصف صحيح ينطبق عليه كل الانطباق، فلم يكن في عقله بقية من بقايا الزمن السالف تحول بينه وبين النظر المستقيم إلى أحوال عصره، ولم يكن في عقله هوى من الأهواء الغالبة يشط به إلى المستقبل البعيد، فيفهم الوقائع معلقة على شيء في الغيب المجهول، كان ينظر إلى عصره ويراه بغير حجاب من بقايا الماضي ولا أحلام المستقبل، وعلى هذه السنة بعينها يصبح عصريا بيننا لو عاد إلى القرن العشرين، وقد كان هو يتمنى لو يتاح للمرء أن يعاود الدنيا بعد الموت فيراها عصرا بعد عصرا، أو عصورا بعد عصور. ونخاله لو عاد إلى الدنيا كما تمنى لما أدهشه شيء مما وقع فيها خلال هذه الأجيال، إلا أن تكون دهشته للسرعة والكثرة، لا للجوهر واللباب. فما من شيء حدث لم يكن عنده محتمل الحدوث، وما من نقيضة إنسانية كان في ظنه أنها ستزول خلال هذه الأجيال، ولا استثناء في ذلك للحروب العالمية؛ لأنه قدر لاتفاق الدول على اتقائها مائة وخمسين سنة أو مائتين. ولا يخفى أن الاتفاق على الاتقاء غير الاتقاء الناجح، وغير المنع في الواقع. فليس في العصر الحاضر ما لا يكون فرنكلين «عصريا» فيه بعد بضعة أيام، لو عاد.

وكان إنسانيا، أو كان إنسانا من فرعه إلى قدمه، فلا همجية، ولا وحشية، ولا ادعاء للكمال والنزاهة «الملائكية».

إنسان معتدل، لا ملك ولا شيطان، ولا همجية تنبو عنها الإنسانية المهذبة المتحضرة، ولا وحشية تنم على النكسة في خلائق الإنسان.

إنسان بفضائله وإنسان بعيوبه، ولكن الصفة هنا لا تكفي وحدها، ولا تزال كغيرها من الصفات بحاجة إلى استدراك. فإذا كان الرجل إنسانا بفضائله وعيوبه، فليس معنى ذلك أنه إنسان كسائر الناس أصحاب الفضائل والعيوب ؛ لأنه كان يعمل مع الفطرة في تكوين فضائله وتثبيتها؛ وكان يتيقظ لعيوبه ويجاهد ما استطاع في إصلاحها، وكانت الأعذار إلى جانب عيوبه أرجح وأقوى من دواعي اللوم والزلل، ويصدق هذا على أكبر السقطات، كما يصدق على الهفوات الصغار.

فمن سقطاته المعيبة تلك العلاقات المريبة بينه وبين بعض النساء في شبابه، ومنهم «دبورا» التي تزوج بها بعد معاشرته لها بغير عقد ديني أو عرفي، وبغير تسجيل معترف به على نحو من الأنحاء.

وقد لقي جزاءه على هذه السقطات؛ لأن ابنه من إحداها - وليام - خذله وخذل قومه وانقلب على قضية الاستقلال ولاذ بالبلاد الإنجليزية بعيدا من أبويه وذويه، وعاشت «دبورا» مهملة من جانب المجتمع بعد نباهة فرنكلين وارتفاع شأنه، فكانت كل دعوة إلى محفل من محافل الدولة أو الأمة تذكره بتلك السقطة وتنغص عليه حياته وحياة زوجته.

ولا يهم المؤرخ هنا هذا التفكير الذي لا يد له فيه، ولكنه يهمه أن يثبت ما له وما عليه في هذه السقطات. فقد كانت هذه السقطات كأمثالها من سقطات الناس في الضعف والغواية، ولكنها لم تكن كسقطات الناس في المعاذير وجهود الإصلاح، ولم يكن كل ذي سقطة قادرا على أن يتشفع أمام عدالة الضمير بأعذار كأعذار فرنكلين، وجهود كجهوده في إصلاح الخطأ والصبر على تبعاته مختارا بغير إكراه.

لقد كان من معاذيره شدة النفور في عصره من سلطان الكهنوت على جميع المذاهب، وكان من أسباب ذلك النفور الشديد بين المتحررين خاصة إفراط المتعصبين في الخرافة، وتصدي الجهلاء من رجال الدين للحكم فيها يجهلونه والاستهانة بالأرواح البريئة في سبيل العصبية التي كانوا يسمونها غيرة دينية أو حماسة روحية، وقد كانوا يتوهمون السحر في كل مشتغل بالعلم ويحرقون الساحر والساحرة؛ لأنهما من حلفاء الشيطان «محتكر» العلوم السوداء، على ما توهموه وتوارثوه بالتقاليد.

ومن السهل أن تتخيل شعور الرجل المطبوع على البحث العلمي نحو هذه السلطة، فإن «رد الفعل» أمامها خليق أن يذهب من النقيض إلى النقيض، فيمرق من سلطانها مروق التحدي والإصرار.

ومما يشفع لفرنكلين في سقطته أن «دبورا» لم تكن من النساء المبتذلات، وأنها لما تركها فرنكلين ليسافر إلى لندن تزوجت من رجل آخر ولبثت على ذمته إلى أن عاد فرنكلين من رحلته، ولما أراد أن يصحح خطأه ليتزوج منها حال العقد القائم بينه وبين إتمام عقد الزواج حتى تثبت وفاة الزوج الأول، وكان في وسع فرنكلين - وقد اشتهر وارتفع في سلم المجتمع - أن يتخلى عن هذه المرأة الجاهلة الفقيرة المهملة في حساب الطبقة العالية وفي حساب المتدينين من جميع الطبقات، ولم يكن عسيرا عليه أن يختار له زوجا تساعده بجاه الأسرة الاجتماعي، ولا تقف في سبيله عقبة دون المناصب العليا بقية حياته، ولكنه صنع الواجب الذي أوحاه إليه ضميره وآثر وحي الضمير على المصلحة وحب الوصول.

وتستدرك صفة الإنسانية إذا نسبت إلى فرنكلين على غير الوجه المتقدم في معانيها الكثيرة: فقد كان من معاني الإنسانية إيمان المرء بخير الإنسانية، ورفضه كل عقيدة دينية غير العقيدة الموضوعة، وكان فرنكلين يؤمن بخير الإنسانية، ويعمل له، وسوى بين الناس جميعا في الأخوة البشرية، ولكنه لم ينكر وجود الإله، ولا وجوب الاقتداء بفضائل السيد المسيح.

وكان من معاني الإنسانية حب المسالمة، وطيبة القلب، ووداعة الأخلاق، وفرنكلين كان ولا ريب مسالما طيبا وديع الأخلاق، ولكننا نجهله إذا فهمنا من المسالمة أنه كان يفرق من العداوة ويتجنبها بكل ثمن وكل وسيلة. لقد كان حقا يكره المعاداة ولا يستثيرها، ولكنه كان إذا جاءته العداوة إلى باب داره بغير داع ولغير مساءة منه لم يجفل منها وأهملها ذلك الإهمال الذي يلهب الغضب ويؤجج سعير الحسد ويغنيه عن الانتقام، ولم يمزح حين قال: إن الانتقام الحسن من حساده وأعدائه إنما هو الاستزادة من أسباب حسدهم وعداوتهم، وإنه في غنى عن مقابلة الحسد بالانتقام؛ لأن حساده ينتقمون له من أنفسهم، فقد كان حقا يؤمن بهذه الفكرة، كأنها فكرة علمية مقدرة بنتائجها موزونة بميزانها، فهو الرابح إذا تقدم ونجح، وحساده هم الخاسرون إذا حسدوه على التقدم والنجاح.

والذين قالوا عنه: إنه «نفعي» لم يظلموه فتيلا بالمعنى العرفي أو بالمعنى الفلسفي الذي يطلق على مذهب النفعيين

Utilitarianism ، ولم يقولوا عنه ما ينكره لو سمعه، ولا ما يستنكره الناقد الأخلاقي على إطلاقه، إلا أن تكون النفعية على حالتين: إحداهما أن يستهين المرء من أجلها بكل قيمة أخلاقية، والأخرى أن يقدم منفعته الشخصية على المنفعة العامة أو على المنافع التي اصطلح عليها نوع الإنسان، كائنا ما كان موضوع النفع الإنساني من الماديات أو الروحيات.

وليس في مقدور عدو من أعداء فرنكلين أن ينسب إليه حب المنفعة على حالة من هاتين الحالتين. ولا نعيد هنا ما ذكرناه - في الكلام على فرنكلين العالم - عن زهده في جميع المنافع التي تعود عليه من تسجيل اختراع الموقد المعروف باسمه، ولا عن زهده في مكاسب المخترعات الأخرى، ومنها الشائع المتداول كالنظارات وأعمدة الصواعق، ولكننا نذكر موقفه في الأعمال الوطنية التي لا تخفى عليه عواقبها وهو من هو في كياسته، وبعد نظره، واختباره للطبائع البشرية، وتجاربه لحظوظ العاملين من العرفان بالجميل. فقد كان ينوب عن بعض الولايات في لندن ليعرض على حكومة الدولة وجهة نظر الولايات، ويقضي لها مصالحها في دواوين الرياسة، وكان يعلم أن إغضاب رؤساء تلك الدواوين يزعزع مركزه عند الولاية التي ينوب عنها؛ لأنها لا ترجو نفعا من وكيل ينفر منه الرؤساء، ويوصدون في وجهه أبواب الشفاعة والوساطة، فلم يمنعه علمه بذلك أن يغضب الرؤساء كلما وجب أن يخاطبهم بالحق الصراح الذي لا يقبلونه، وأغضبهم فعلا مع اشتهاره بالمسالمة والقدرة على القول اللين والعبارة السائغة، ولما حافظت الولايات على وكالته واستحيت من جزائه بالفصل على أمانته وحسن خدمته، أعفاها هو من ذلك الموقف الحرج واستعفاها باختياره؛ ليفتح أمامها باب الانتفاع بوساطة وكيل غيره، وقد ظهر في أخريات حياته وبعد مماته أنه كان يحتاج إلى إنفاق المال لخدمة المصلحة الوطنية، ويستبطئ الإجراءات التي لا بد منها لإقناع المراجع المعتمدة بضرورة إنفاقه وإرساله، فينفقه من ماله الخاص وتنقضي السنون ولا يتمكن من استرداده وهو خارج بلاده. ثم يعود إلى بلاده وقد تغير الحكام والنواب وتتابعت الشواغل المستحدثة كل يوم من أيام الاستقلال الأولى، فيلوذ بالصمت ويترك ما أنفقه غير مقتصر في المصالح الوطنية الجديدة التي توكل إليه.

والسخرية التي ألفها الأصدقاء والشعراء من كلام فرنكلين وكتابته سمة أدبية ونفسية في وقت واحد، وقد تلحق بطبيعته الواقعية النفعية التي تعرف الناس حقيقتهم، وتعرف الرياء والصدق من دعاويهم، ولا تنتظر منهم في الدين والدنيا فوق طاقتهم، وهي أشبه بابتسامة الأب لطفله الذي يريد أن يراوغه ويحتال على خداعه وهو لا يحتاج منه إلى الخديعة لاستجابة رجائه أو قبول معاذيره. وقد أثرت لفرنكلين سخريات تضارع سخريات فولتير الفرنسي، وسويفت الأيرلندي، وهما علمان من أكبر أعلام النقد الساخر في الآداب الغربية، ولكنها سخريات سليمة من طعنات فولتير المناضل، ووخزات سويفت السوداوي الناقم، وليست له سخرية يفارقها العطف على المعارضين والموافقين، كتلك السخريات المسمومة التي تتخلل كتابات سويفت كثيرا، وتتخلل كتابات فولتير من حين إلى حين.

والطينة العادية من الصفات التي تكررت في تراجم نقاده ومؤرخيه.

ولا كذب في وصف النقاد والمؤرخين، وإنما الكذب - أو الخطأ - في تقدير هذه الطينة العادية التي خلق منها هذا الرجل العظيم.

إن اللبنة طينة عادية، والقصر الذي يبنى باللبن طينة عادية، ولكن القصر واللبنة شيئان مختلفان.

إن الرجل الذي يكون «عاديا» في ملكة واحدة يقال بحق: إنه من طينة عادية.

ولكن الرجل الذي يكون عاديا في عشرين ملكة، وفي كل ما تصدى له من الأعمال والأفكار لا يحسب إنسانا عاديا نراه بيننا كل يوم.

إن الوسط في القوة البدنية وسط.

ولكن الوسط في القوة البدنية، وفي القوة الفكرية، وفي القوة الخلقية، وفي قوة التفكير حين تتجه إلى العلم، وحين تتجه إلى الأدب، وحين تتجه إلى السياسة، وحين تتجه إلى الحياة العامة، لا يقال عنه: إنه وسط، ولا إنه في مرتبة من العظمة الإنسانية دون مرتبة العظماء المرتفعين المحلقين في جو واحد من أجواء القدرة والكفاية.

وهذه عظمة أحب إلى الناس، وينبغي أن تكون أحب إليهم وأنفع لهم وأولى بالكتابة عنها لطلاب القدوة والحوافز النفسية ، فإن الاقتداء بالعظمة المحلقة في السماوات ييئس من يلمس جنبيه فلا يجد فيهما الجناحين القادرين على التحليق، ولكنه إذا رأى أمامه عظيما يمشي على القدمين في كل طريق يعبره أمثاله لم ييأس من الاقتداء والمشابهة، وإن لم يكن مثله وسطا في عشرات من الكفايات والملكات.

طينة عادية نعم، وهذه هي العظمة التي يفهمها العاديون في جميع نواحيها، وتنعت حولها الصلة المحكمة بين العظماء من بني الإنسان وغير العظماء. «والمستر أمريكان» أحدث ما وصف به فرنكلين الإنسان في كتابات المعاصرين.

والذين وصفوه بهذه الصفة يعنون أنه أول نموذج للأمريكي من الأمريكيين، وأنه لو عاد إلى الحياة اليوم مع رهط من زملائه آباء الاستقلال لم يستغربه أحد، ولم يستغرب هو أحدا ممن حوله، وقد تحيط الغرابة بين الأمريكيين المعاصرين بواشنطون وآدمز وهاملتون وجفرسون وسائر القادة المدنيين والعسكريين.

وهذه الصورة صحيحة في مجموعها في انتظار التكملة اللاحقة بها، كجميع تلك الصور التي أريد بها حصر الرجل في قشرة البندقة.

والتكملة التي تلحق بهذه الصورة أنه إذا عاد إلى الحياة عاد كما كان في أيام الحياة؛ مستر أمريكان في إنجلترا، ومستر أمريكان في فرنسا، ومستر أمريكان في أمريكا، ومستر آدم مع هذا حيث كان، لا يحس القلق والغرابة في بيئة ينتقل إليها ويقيم فيها، فهو أمريكي مستريح بين الأمريكيين، وأمريكي مستريح بين الفرنسيين، وبين الإنجليز، وبين من شاء من العالمين. فإذا أراد أحد بقوله عنه أنه «مستر أمريكان» أن يصبغه بصبغة خاصة تلائم هذه البيئة، ولا تلائم تلك، فهذا هو موضع النقص في التصوير.

كان دنيويا عصريا إنسانيا نفعيا ساخرا من طينة عادية، ولم تكن فيه صفة من هذه الصفات تناقض الأخرى، أو توضع لاستثنائها وإقصائها.

وكان إنسانا لا تنتظر منه الخوارق، ولكن الخوارق التي جاءت منه أنه كان وسطا في أشياء كثيرة، فكان عظيما لهذا التوسط القليل النظير.

وكانت ملكة العالم هي الملكة الغالبة عليه كما تقدم في الكلام على أعماله العلمية.

إلا أننا نستطيع أن نقول عنه: إنه «إنسان علمي» بمعنى غير ذلك المعنى، وهو تفسير كل خلق من أخلاقه تفسيرا علميا لا يحير الباحث ولا يدفع به في معترك النقائض والشكوك.

كل صفة فيه واقعة خاضعة للبحث العلمي والتفسير بالمبادئ العلمية، حتى الطيبة والسماحة والاعتدال.

فمن مبادئ العلم أن الطاقة تأخذ بمبدأ المجهود الأقل، وأن الأداة المحكمة هي الأداة التي تصرف كل طاقة إلى موضعها ولا تبددها.

فرنكلين كان «طيبا» علميا، وسمحا علميا، ومعتدلا في أخلاقه علميا على جميع الأحوال.

كان لا ينتقم من أعدائه، ولا يضيع جهوده في الانتقام منهم؛ لأنه عمل لا حاجة به إليه.

وكان يفضل الفضيلة ويقول بعد البحث: إن الخبثاء لو عرفوا فضلها لأصبحوا فضلاء بوحي من الخباثة؛ لأن الخلق الكريم بعد الموازنة بين الجهود الصالحة والجهود الضائعة أبقى الجهود وأنفعها وأحقها بالحرص عليه.

وليكن ذلك صحيحا في عرف الناس أو غير صحيح، فإنما المهم هنا أنه صحيح في التطبيق العلمي كما يطبقه فرنكلين، وفي الجهود النفسية كما يحسها فرنكلين، وفي هذا الإنسان العلمي الذي يطبق العلم ويطابقه باختياره وبغير اختياره.

إنسان لا يحير أحدا في أمره، ولا نخال أحدا حيره في شأن من شئون الطبيعة الإنسانية، فهو لا يفرض على الدنيا لونا لا يراه فيها، ولا يزال متفتح الذهن لكل غريبة من غرائبها، فلا يصل إليها أو تصل إليه حتى يراها في موضعها، صالحة لأن تقترن بالموجودات كلها في مواضعها، وإنما تأتي الحيرة من المفاجأة، وتأتي الغرابة من تضييق الحدود التي تتفتح لها الأذهان، فإن بقي الذهن متفتحا بغير حدود فكل وارد ضيف مقبول غير محتاج إلى جواز «أجنبي» أو إذن بالدخول.

الجزء الثاني

من فرانكلين

تمهيد

يشتمل هذا القسم على متفرقات من كلام فرنكلين في الموضوعات المختلفة التي تناولها بقلمه، وهو قسم لا غنى عنه لتمام التعريف برجل عالم كاتب مفكر، لم يعمل في ميدان من ميادينه الكثيرة إلا كان لقلمه نصيب واف من ذلك العمل، وقد كتب فرنكلين في المباحث العلمية، والمسائل السياسية والاجتماعية، كما كتب في شئونه الخاصة التي تعنيه وتعني ذوي قرباه، وكان له طابعه الذي ينم على مزاياه النفسية وملامحه الشخصية في كل باب من أبواب الكتابة، ونحن نود أن نلم بهذه الجوانب جميعا فيما نختاره من كل باب.

وسنقتبس فيما يلي نماذج من كتابته العلمية والاجتماعية، ولكن الاستقصاء في هذه الناحية غير مطلوب في ترجمة عامة، وإنما المطلوب هنا أن نلم بما يعرفنا بطريقته في البحث العلمي والتفكير الاجتماعي، وما عدا ذلك فمكانه المطولات المخصصة لتاريخ النظريات العلمية والمخترعات التي تولدت منها، أو الدراسات التي تشرح أطوار المجتمع ومشكلاته وآراء المفكرين فيها على التتابع أو للمقابلة بينها في أوانها، فإذا استطعنا فيما نختاره هنا من كتابته العلمية أن نعرف طريقة بحثه ونرقب تفكيره أثناء عمله، فذلك حسبنا من التعريف بهذه الشخصية في ميدان من ميادينها المتعددة، وإذا استطعنا فيما نختاره من كتابته الاجتماعية أن نعرف ما يهمه من المجتمع، وما يتوخاه من النظر في أحواله والحكم على مشكلاته، فقد نمت في الصورة العامة ملامحها التي تصور لنا هذه الناحية من ملامحها الكثيرة.

وقد تعمدنا هنا أن نترجم له دراسة علمية في مسألة لم يحسبها من مسائله الناجحة، أو من المسائل التي نصل فيها إلى مقطع الرأي بين الآراء المحتملة، وتلك هي المسألة التي ذكرها العالم اللاتيني القديم، وسجل فيها تجربة الملاحين في تهدئة هياج البحر بصب الماء عليه. فإن دراسته لهذه المسألة - كسائر دراساته العلمية - تستجمع أسلوبه في إحصاء العوامل والفروض والموازنة بينها، وتجربة كل فرض راجح منها، وتقرير النتائج بمقدارها الذي حققه كل التحقيق في غير تزيد ولا انتقاص، وتتمثل فيها طبيعة التردد في قبول النتائج ما لم تكن جامعة مانعة كما يقول المنطقيون، وتلازمها طبيعة الأمانة التي لا يستهويها حب النجاح والرضا عن النتيجة التي يرضى عنها الكثيرون.

وتعمدنا في اختيار النبذتين الاجتماعيتين أن تكونا نموذجا لما أثر عنه من طلاقة الفكر أمام العرف الذي تقرره العادات والخرافات والإيمان الأعمى بظواهر العقيدة الدينية، وطلاقة الفكر أمام العرف الذي تثبته في النفوس عصبية الأجناس مع الكراهية المتبادلة بين الأعداء المتقاتلين. أما كتابة فرنكلين التي توسعنا في الاختيار منها، فهي كتابته في التقويم، وكتابته التي يجمعها عنوان الرسائل، وكلتاهما وافية بالدلالة عليه في جميع أدوار حياته، وفي جميع شواغله الذهنية، وخلائقه النفسية.

فتقويم ريتشارد هو الأسلوب الذي شق به طريقه في الحياة الأدبية والفكرية، وقرر به مكانته بين أصحاب الأقلام، ومكانته بين قومه على التعميم، واستوى فيه على نهجه المختار في الكتابة بعد استقلاله بعمله واختباره لملكاته ومواهبه ومطالب قرائه، واعتماده على ذلك النهج العملي الذي يتخذ الفكاهة طريقا إلى الجد، والتسلية طريقا إلى الفائدة، ولم يتغير هذا الأسلوب بقية حياته في نسق التعبير ولا موضوعات التفكير، اللهم إلا ما كان من قبيل نضج السن واتساع أفق الاطلاع.

أما رسائله فهي عنوان واحد لكل ما يخطر على البال من الموضوعات التي شغل بها في حياته العامة وعلاقاته الشخصية، وقد شملت حياته العامة - كما تقدم - مباحث العلم، ومشاكل السياسة، والإدارة، وجهود الخدمة الوطنية في داخل بلاده وخارجها، وشملت علاقاته الشخصية أناسا من الوزراء، والشعراء، وأناسا من العلماء ورجال الدين، وأناسا من الجهلاء والأغمار، كما شملت الرجال والنساء، وذوي قرباه، ومن ليست له قرابة بهم غير قرابة المودة والعاطفة، أو قرابة الاشتراك في المصلحة العامة. ورب رسالة في مسألة علمية تتخللها نصيحة إنسانية أو استطراد إلى البراهين على وجود الله، ورب رسالة في الدعابة تكشف عن أعمق أعماق نفسه من حب الخير للناس والرحمة بالحيوان في زمن لم تعرف فيه كلمة الرفق بالحيوان، ورب رسالة تكتب إلى إحدى الصحف عن مسألة عارضة، وتعتبر اليوم مرجعا من المراجع الهامة في تحقيق التاريخ والعلاقات الدولية، وقلما تخلو رسالة من هذه الرسائل على أنواعها من أسلوب الفكاهة الساخرة التي تسلكه مع الطبقة الأولى بين الكتاب الساخرين في عصره، وتفرده بين الأكثرين منهم ببراءة الطوية من الضغن والإيذاء، وبراءة القلم واللسان من لواذع الهجاء.

وليس ما ترجمناه في الصفحات التالية كل ما يترجم لفرنكلين من الرسائل أو الفصول، ولكنه - فيما نرجو - نماذج كافية للدلالة عليه والإبانة عن مزاياه وملكاته، وقد يزاد عليها الكثير من قبيلها، ولكن الزيادة تأتي مكررة لصفات هذه «الشخصية» التي ألممنا بها في حدود الإيجاز والاكتفاء بالميسور.

تقويم ريتشارد المسكين

جرت عادة التقويميين في أيام فرنكلين على إصدار تقويماتهم خلال شهر أكتوبر من السنة السابقة لتاريخ التقويم، ولما صحت نية فرنكلين على إصدار تقويمه لم يتيسر له إصداره في ذلك الوعد، فتأخر إلى التاسع عشر من شهر ديسمبر، ولكنه سبق التقاويم التي ظهرت قبله إلى بيوت القراء، وجيوبهم، وعوض ما فاته من مسافة الزمن بالأسلوب المبتكر الذي قربه إلى قلوب قرائه، فأصبح في صحبة كل قارئ منهم، كأنه الصديق المؤتمن الذي يرجع إليه للاستشارة في مشكلات العيش، كما يرجع إليه للسؤال عن التواريخ والمواقيت.

وقد سماه تقويم «ريتشارد المسكين» وصرح فيه بفقره وحاجته إلى حظ من الرزق يرجوه من رواج ذلك التقويم، فنجح في كسب زمالة القراء، كما نجح قبل ذلك في كسب كل زمالة صالحة فيمن يلقاهم ويلقونه من الصحاب والأعوان، ونظر إليه كل قارئ من طلاب الرزق في القارة الجديدة نظرته إلى صاحب يعرف ما يعنيه ويحتاج إلى مثل حاجته من السعي والتدبير والعمل بالتجارب والوصايا من غير من ولا استعلاء، إذ كان القارئ يتخيل ناصحه في صورة الزميل الذي يبتلى بمثل بليته ويعرف الحكمة من ضنك الحياة، ولا يدعي عرفانها من تفوق في الرأي أو مزية في العلم والدراسة.

قال في فاتحة التقويم الأول: «لقد كان في وسعي هنا أن أحاول كسب الحظوة عندك بدعواي أنني لا أكتب هذه التقويمات إلا رغبة مني في خدمة المصلحة العامة، ولكنني إذا زعمت هذا لا أخلص القول، وهو من زخرف المقال الذي بلغ من يقظة الناس في هذا الزمن أنهم يقبلونه، أما حقيقة الأمر على جليتها، فهي أنني فقير جد فقير، وامرأتي الطيبة، كما أقول لها، جد متكبرة، وهي تهيب بي قائلة أنها لا تستطيع أن تعكف على مغزلها، ولا تراني أعمل شيئا غير النظر في النجوم، وتوعدتني غير مرة أن تحرق جميع كتبي وكل ما عندي من تلك الفخاخ، كما تسمي آلات الرصد والحساب، إن لم أستطع أن أصنع بها شيئا ينفع أهلي، وقد سمح لي الطابع بحصة قيمة من الربح، وبدأت من ثم في الاستجابة لما أمرت به سيدتي.»

ووضحت مزية هذا التقويم من سنته الأولى على سائر التقاويم بما احتواه من حشو الفراغ ونوافل الكلمات التي لا شأن لها بالتاريخ والتوقيت، ولكنها ذات شأن نافع في التوجيه والانتفاع بالأوقات، وعابها بعض النظراء والمنافسين على ما يظهر بما فيها من النكات والمضحكات، فأراد فرنكلين أن يقنع قراءه بفضل هذه الزيادة، وأنها لا تقتطع شيئا من حق القارئ في الزاد المفيد، بل تسوغ له مذاقه وتساعده على هضمه، فقال في مقدمة التقويم لسنة 1739: «لا تقلق أيها القارئ الرصين الوقور إذا رأيت بين عبارات الجد الكثيرة في تقويمي هذا نتفة هنا أو هناك من أحاديث الهزل والبطالة. ففي كل صحفة طهوتها لك كفاية من اللحم للوفاء بنقودك، وهنا وهناك قدد من مائدة الحكمة تعود مع حسن الهضم بالغذاء الجيد إلى لبك، ولكن المعدات المتعللة لا تطيق الأكل خلوا من التوابل والمشهيات، ولعلها في الحق لا تنفع بشيء في غير هذا الموضع، ولكنها تعين على تناول الطعام.»

ولم يكن تقويم ريتشارد المسكين باكورة فرنكلين في عالم الكتابة؛ لأنه بدأ الكتابة كما تقدم في صحيفة أخيه وهو في نحو السادسة عشرة، فأتى فيها بما يفوق محصول أمثاله من خبرة العمر ودرجة التعليم، وقد أخذ في كتابة التقويم وهو في نحو السابعة والعشرين بعد أن مضى عليه أكثر من عشر سنوات يمارس صناعة القلم ويكتب الرسائل والفصول، ولكنه اختار لعبارات التقويم - أو لمعظمها - أسلوب جوامع الكلم، وهو أدق الأساليب، وأحوجها إلى الفهم المستقيم والتعبير المحكم والإيجاز البليغ مع البساطة والوضوح، فكانت جوامع كلمه في تقويماته خير دلالة على الكاتب بلفظها ومعناها، ورسمته لمن يريد أن يفهمه رسما لا تزيد عليه كتاباته الأخرى شيئا غير التفصيل والتوكيد.

ففي أسلوبها اللفظي دلالة على ملكة التعبير وقدرة على النفاذ إلى الجوهر واجتناب الفضول، وفي أسلوبها المعنوي دلالة على الدراية العملية والسجية السمحة والعقل الحصيف الذي لم يقف بالمعرفة قط دون التطبيق المفيد، فإذا صح قول القائلين: إن الأسلوب هو الرجل فهو أصح ما يكون على فرنكلين، وأصح ما يكون على فرنكلين نفسه في «جوامع الكلم» وما شابهها من الحكمة الناجزة والخبرة المركزة، وليس من النافع أن نطيل التساؤل عن مصدر هذه القدرة على البيان الصحيح؛ هل كان الفضل فيها لملكة التعبير وذخيرة الكاتب من المفردات والأساليب؟ أو كان الفضل فيها لصواب الفهم وأصالته في استخلاص المعاني الجوهرية من الحواشي والفضول؟ فمهما يكن من فضل ملكة التعبير فهي لا تغني عن صواب الفهم، ومهما يكن من صواب الفهم فهو مفتقر إلى التعبير المبين، وجماع القول أن الكاتب أحسن تعبيرا؛ لأنه أصاب فهما، وأصاب قبل كل شيء في فهم رسالة التعبير وأداته وما يعينه عليه.

ونحن نتوسع في النقل من تقويمات ريتشارد المسكين؛ لأنه كتبها في عدة سنوات تمتد من شبيبته إلى كهولته، ولأنها أدل كتاباته عليه في جوانبه الخلقية والعقلية، وما من صفة اشتهر بها هذا النابغة المتعدد الجوانب إلا رأيتها بارزة ناطقة في بعض كلماته التي تناثرت بين هذه التقويمات، ويكفي أن يتصفح القارئ جملة منها لتثبت في روعه صورة رجل معتدل المزاج، سمح الطباع، متزن العقل، بعيد النظر، صادق الملاحظة، خبير بالموازنة بين الاحتمالات المتفرقة والأطراف المتعارضة، موفور الحظ من ملكة التعبير في أسلوب يجمع بين الصواب والفكاهة، وهكذا كان فرنكلين في جميع أطوار حياته، وفي جميع ما تولاه من المهام والأعمال.

وسنكتفي من أمثاله ومأثوراته في التقويمات بطائفة مما أورده الأستاذ كارل ڤان دورن

1

أكبر المترجمين له والمشغولين بجمع آثاره، ونزيد عليها قليلا مما لم يورده ورأينا فيه تتميما لمختاراته، ثم نختم منتخبات التقويم بفصل عن كسب الثروة يدل على أسلوبه في مطولاته وفي سائر المطولات.

وهذه هي مأثوراته التي تدخل في جوامع الكلم والأمثال:

ما تلاقى الطمع والسعادة قط، فكيف يتعارفان؟

الفقر يطلب بعض الأشياء ، والترف يطلب كثيرا من الأشياء، والطمع يطلب جميع الأشياء.

في الدنيا سكيرون مدمنون أكثر من الأطباء المزمنين.

ليست الثروة لمن حواها، وإنما الثروة لمن تملاها.

هل لك فضيلة؟ جملها إذن بزينة الفضيلة وشمائلها.

ليس أحلى من الشهاد إلا المال والعتاد.

الملوك والدببة كثيرا ما تتعب حراسها.

قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه.

ما من عدو بالعدو الصغير.

من يسرع في الشراب يبطئ في الحساب.

اصنع جميلا لصديقك كي تبقيه، واصنع جميلا لعدوك كي تقربه وتدنيه.

حيث يوجد الزواج بغير حب، يوجد الحب بغير زواج.

من كان غنيا فلا حاجة به إلى التقتير، ومن كان مقترا فلا حاجة به إلى الغنى.

لا تستحسن من يستحسن كل ما تقول.

أسرة الحمقى عريقة.

انظر أمام، وإلا وجدت نفسك وراء.

تقف الأكذوبة على قدم واحدة، وتقف الحقيقة على اثنتين.

البطء والصمت فضيلتان من فضائل الحمقى.

أنكر نفسك في سبيل نفسك.

الهرم في الشباب يكون شبابا في الهرم.

السمك والضيوف تفوح لهم رائحة بعد ثلاثة أيام.

الدهشة وليدة الغباء.

ليس للمساومة أقارب ولا أصدقاء.

من يملك الصبر يملك ما يريد.

ما من واعظ أوعظ من النملة، وهي لا تنبس بكلمة!

لا يخلو الغائب من خطيئة، ولا الحاضر من معذرة.

الفقر، والشعر، واللقب عرضة للساخرين.

ريفي بين محاميين سمكة بين قطتين.

الحب، والسلطان يكرهان الأقران.

شر دواليب المركبة أعظمها ضجيجا.

اكتب مع العلماء، وانطق مع الدهماء.

إذا شئت ألا تنسى في جدثك، فاكتب ما يستحق أن يقرأ، أو اعمل ما يستحق أن يكتب.

لا تؤجل مسعاك الحسن، ولا تكن كالقديس جورج يمتطي جواده أبدا ولا يسير.

كما نحاسب على كل كلمة سخيفة نحاسب على كل صمت سخيف.

دع المسرات تتبعك.

الزمن عقار يداوي كل داء.

إذا علمنا القدماء ما هو أفضل، فليعلمنا المحدثون ما هو أوفق.

بيت بغير امرأة، ولا وقاد، جسد بغير روح ولا فؤاد.

لا القلعة ولا الحسناء تثبت طويلا بعد المفاوضة.

زوج ابنك حين تريد، وزوج بنتك حين تستطيع.

افتح عينك كلها قبل الزواج، ولا تفتحها كلها بعده.

الحمقى يبسطون الموائد والحكماء يأكلونها.

تبكير في النوم، وتبكير في اليقظة صحة، وثروة، وحكمة.

احفظ دكانك، ودكانك يحفظك.

الكيس الفارغ لا يقف مستقيما.

التجربة مدرسة غالية، ولكن الحمقى لا يتعلمون في غيرها.

المفتاح المستعمل لماع.

لأجل مسمار ضاعت الحدوة، ولأجل حدوة ضاع الحصان، ولأجل حصان ضاع الفارس.

الانتقال ثلاثا نكبة كنكبة الحريق.

مطبخ سمين وصية هزيلة.

ثلاثة يحفظون السر إذا مات منهم اثنان.

وهذه نماذج من حكم التقويم قد اجتهد كارل ڤان دورن أن يوفي بها التمثيل لما جاء منها في التقويم على مختلف السنين، ولكن حكم التقويم على الخصوص كانت أكثر المأثور من كلام فرنكلين تفرقا بين تراجمه المطولة أو الموجزة، وإن كان بعضها مقصورا على دراساته العلمية أو مساعيه السياسية، وهذه طائفة أخرى منها نجمعها من هنا، وهناك لندل على ملازمتها لذكره في عصره وبعد عصره وعلى اتساع نطاقها في الإعراب عن مختلف الأمزجة والأهواء:

من لا يقدر على الطاعة لا يقدر على الأمر.

تدبر طويلا في اختيار الصديق، وتدبر أطول من ذلك في تبديله.

حسن يعمل خير من حسن يقال.

خير لك أن تضار مرات من أن تضير مرة.

الهمة أم الحظ السعيد.

الجهل لا يعيب الإنسان كما يعيبه ألا يقبل التعليم.

بم تعبد الخالق؟ بالإحسان إلى الخلق.

إذا كان رأسك من الشمع فلا تمش في الشمس.

فضيلة وحرفة خير ميراث للوليد.

القدوة الصالحة أبلغ العظات.

لا تحكم على ثروة الإنسان، ولا على تقواه بسيماه في يوم الأحد.

من نام مع الكلاب تيقظ مع البراغيث.

2

الأحمق من يجعل طبيبه وريثه.

الشجاع والحكيم يعذران حيث لا يتسع للرحمة قلب المغفل والجبان.

الفرصة أنجح غواية.

من يعشق نفسه فليس له مزاحم في الغرام.

عين المعلم أقدر من يمينه.

ساعديني يا ذراع فليس عندي ضياع.

حراث على قدميه أشرف من سيد على ركبتيه.

ليس الكرم أن تجزل العطاء، الكرم أن تعطي في موضع العطاء.

أخفى الحماقات حكمة أفرطت في الدقة.

الملح مع حكماء يونان أجمل طعاما من السكر مع ندماء الطليان.

وليست هذه الحكم جميعا من ابتكار فرنكلين، ولكنها خليقة كلها أن تنسب إليه؛ لأنه يصبغها بصبغته، ويلمسها بعصاه، ويقولها كما ينبغي أن تقال في نظره، وإن جاءت قبل ذلك في معناها على لسان غيره.

وقد أشار «ڤان دورن» إلى الحكم المستعارة من هذا القبيل، فذكر منها بعض الشواهد على منهج فرنكلين في تحويل الحكم المستعارة إلى أسلوبه وتصحيحها بذلك وفاقا لتفكيره وتعبيره، ومنها الحكمة الأيقوسية التي تقول: «الخزنة السمان عمال عجاف» فإنه يقتبس معناها فيقول «مطبخ سمين وصية هزيلة»، ومنها الحكمة الشائعة التي تقول: «ثلاثة يحسنون النصيحة إذا غاب منهم اثنان»، فإنه يتعهدها بما عنده من فرط الأناة والحذر فيقول: «ثلاثة يحفظون السر إذا غاب منهم اثنان».

وقس على ذلك سائر الحكم من هذا القبيل وهي ليست بالكثيرة، فقد حرص في كل ما أثبته من نصائح التقويم أن يتقبلها قراؤه ويشعروا بمنفعتها وموافقتها لأحوالهم التي هي في الوقت نفسه أحواله من أكثر الوجوه، وقد كان الأغلب الأعم من وصاياه يدور على فضيلة القصد والحزم، وهما ألزم الصفات لطلاب الرزق من العصاميين والغرباء الذين لم يتأصلوا بعد في البلاد، ولعله لم يكن في معيشته قدوة في القصد والحرص على المال، أو لعله أصاب حين قال: إن القصد الذي حرمه قد تعوضه من تدبير امرأته وربة بيته، ولكنه كتب ما يود أن يتبعه ويود كل قارئ مثله لو وفق لاتباعه، فكان لسانا ينطق بما يجيش في كل ضمير.

قال الحكيم اللاهوتي هوثورن

Hawthorne

الذي خطب في ذكراه (سنة 1842):

أشك في أن الكشوف الفلسفية التي كشفها فرنكلين على جلالتها، أو الخدمات السياسية التي قام بها على اتساعها، كانت تكسبه كل هذا الصيت البعيد الذي أحاط باسمه لولا تقويم ريتشارد المسكين، فهو أجدى من كل عمل سواه في إذاعة ذكره بين جمهرة الناس، فإنه بكتابته تلك الحكم التي كانت تحسب من كلام ريتشارد المسكين، قد أصبح المستشار الناصح الأمين لكل بيت في أمريكا على التقريب، ومن ثم كان أعظم أعماله وداعة وتواضعا أعظمها عائدة عليه بالصيت البعيد.

ويشتمل التقويم كما تقدم على نمط آخر من النصائح المعيشية التي تشتمل عليها التقاويم عادة، ولكنها مطولة بعض التطويل يشغل بها مكان المقدمة ويتخللها بالملح واللواذع المضحكة على أسلوبه في الحكم الصغار، ومن قبيل هذه النصائح المطولة مقاله عن «السبيل إلى الثروة» الذي أضافه إلى ترجمته في طبعاتها الأخيرة، وقد احتال فيه على إعادة بعض الحكم القصار بلسان الرواية من باب المراجعة والتذكير.

قال في مقدمة التقويم لسنة 1758 وقد سماه في هذه الفترة تقويم ريتشارد المسكين «في التحسين!»:

أيها القارئ المهذب

سمعت أنه ما من شيء يدخل السرور على قلب المؤلف كأن يرى المؤلفين العلماء يعنون باقتباس كلامه، ولكنه سرور قلما استمتعت به؛ لأنني وإن كنت - بغير ادعاء أو غرور - قد أصبحت من مؤلفي التقاويم المعدودين منذ ربع قرن، لا أجد إخواني في هذه الصناعة - ولا أدري لماذا - يجودون علي بالثناء والتنويه، وما من مؤلف آخر عني بذكري في بعض كلامه، فلولا ما أصيبه من الخير من كتابتي لكان نقص الثناء خليقا أن يثبطني ويفت في عضدي.

وآل بي الأمر إلى الاعتماد على قضاء الناس وتقديرهم لعملي دون غيره؛ لأنهم يشترون كتبي وأسمع منهم من يقول حيث لا يعرفني أحد خلال طوافي بالمدينة: «كذلك قال ريتشارد المسكين» فأشاع ذلك في نفسي مع توالي الأيام شيئا من الرضا؛ لأنه لا يدل على العناية بآرائي وحسب، بل يدل مع ذلك على أنني قد أصبحت مرجعا لهم يستشهدون به ويعتمدون عليه، وإنني لأقر هنا أنني في سبيل الحض على ذكر تلك الحكم وتكرارها، طالما استشهدت أنا نفسي بكلامي في جد وتوقير.

وعلى هذا تستطيعون أن تقدروا مبلغ اغتباطي بالقصة التي سأرويها لكم فيما يلي: وقفت حصاني أخيرا حيث كانت جمهرة من الناس تتجمع في بعض الأسواق، ولم تكن ساعة البيع قد حانت بعد، فأخذوا يتحدثون بينهم عن سوء الحال وأومأ أحدهم إلى شيخ من عامة الجمع نظيف البزة فسأله: بربك أيها الأب إبراهيم ، ما ظنك بهذه الأحوال؟ أليست هذه الضرائب الثقيلة وشيكة أن تفضي بالبلد إلى الخراب؟ فكيف ترانا قادرين على أدائها؟ وبماذا تنصح لنا في أمرها؟

فقام إبراهيم في مجلسه وأجابهم قائلا: «إن أردتم نصيحتي فهأنذا أمحضكم إياها في كلمات وجيزة؛ لأن الكلمة فيها الكفاية للعاقل، وكثير من المقال لا يملأ المكيال كما يقول ريتشارد المسكين، فأقبلوا عليه يستمعون إليه ورجوه أن يكاشفهم بجلية رأيه، فقال: أيها الصحاب، أيها الجيران، إن الضرائب لثقيلة حقا، ولو كانت ضرائب الحكومة وحدها هي التي نطالب بها لكان من الميسور لنا سدادها، ولكننا ننوء بضرائب شتى يتضاعف ثقلها على بعضنا.

فنحن مثقلون بضعفيها من جراء كسلنا، ومثقلون بثلاثة أضعافها من جراء كبريائنا، ومثقلون بأربعة أضعافها من جراء حماقتنا، وكلها من الضرائب التي لا يستطيع الجباة أن يخففوها عنا بالتقسيط أو النسيئة، فعلينا إذن أن نصغي للنصيحة الحسنة، ونترقب من ثم شيئا ينفعنا، فإن الله في عون من يعين نفسه كما قال ريتشارد المسكين في تقويم ثلاث وثلاثين.

إنها لحكومة قاسية تلك الحكومة التي تسوم رعاياها أن يفرغوا عشر أوقاتهم لخدمتها، ولكن الكسل يسوم الكثيرين منا فوق ذلك لو أننا أحصينا الساعات التي ذهبت منا هدرا في التواني والتهاون لا نعمل شيئا، أو نعمل ما ليس بشيء من ضروب اللهو والمجانة، وإن الكسل ليسقم أبداننا مذ كان الركود كالصدأ يبلي منها ما ليس يبليه الجهد والتعب، ولن يزال المفتاح العامل لامعا كما قال ريتشارد المسكين. وكذلك قال: إننا ما دمنا نحب الحياة، فلا ينبغي أن نفرط في الوقت؛ لأن الوقت هو قوام الحياة، وكم من الوقت نقضيه في غير ضرورة مستسلمين للرقاد ناسين أن الثعلب النائم لا يصطاد دجاجا، وأن تحت التراب نوما طويلا كما قال ريتشارد المسكين.

وإذا كان الوقت أنفس قنية، فتبديد الوقت على رأي ريتشارد المسكين أسوأ ضروب الإسراف، ولن يعود الوقت الضائع ثانية كما قال في عبارة أخرى، وما نسميه الكفاية من الوقت كثيرا ما ننظر فنراه دون الكفاية. فعلينا إذن أن نمضي قدما عاملين، وأن نعمل ما ينبغي أن يعمل فننجز الكثير، ولا نعاني من القلق والهم غير القليل، وكل شيء صعب مع التهاون والكسل، سهل مع السعي والاجتهاد كما جاء في كلام ريتشارد المسكين، ومن فاته التبكير حق عليه العناء سحابة النهار، وأتى عليه الليل ولما ينجز من عمله ما ينجزه المبكرون، وما أحرى الكسل في خطواته البطاء أن يدركه الفقر على عجل، كما قرأنا في تقويم ريتشارد المسكين الذي يقول هذا ويزيد عليه أن ادفع عملك، ولا تدع عملك يدفعك، وأن التبكير في النوم والتبكير في اليقظة صحة، وثروة، وحكمة.

وأحسبني أسمع بعضكم يقول: ألا يجوز للإنسان أن يسمح لنفسه ببعض الفراغ؟ فأنا قائل لك أيها الصديق ما قاله ريتشارد المسكين: أحسن استخدام وقتك إن أردت أن تنعم بقسط من الفراغ، وما دمت لا تضمن دقيقة فلا تقذف بساعة من يديك.

إن الفراغ وقت ينتفع به، وفي وسع الرجل العاقل أن يجد هذا الفراغ وليس ذلك في وسع المتبطل الكسلان، وصدق ريتشارد المسكين حيث يقول: إن حياة الفراغ وحياة الكسل شيئان مختلفان. أفتحسبون أن التهاون يعطيكم من الراحة فوق ما يعطيه العمل؟ كلا؛ فإن ريتشارد المسكين يقول: تأتي المشكلات من الكسل، وتنجم المشقة من الراحة في غير جدوى. وكثير من الناس يودون بغير عمل أن يعيشوا على حيل ذكائهم فحسب، ولكنهم لا يجدون الخزين الكافي من هذه البضاعة، في حين أن الاجتهاد يأتي بالراحة، والوفر والاحترام. ودعوا المسرات تتبعكم والغازل الدءوب عنده «شلة» وافية، وإذا كانت عندي بقرة وشاة فكل عابر يقرئني التحية، كذلك يقول ريتشارد المسكين.

وعلينا مع الاجتهاد أن نثابر وننتظم ونتنبه، وأن ننظر في عملنا بأعيننا ولا نتكل فيه على غيرنا، وصدق أيضا ريتشارد المسكين إذ يقول: ما رأيت شجرة كثيرة التنقل، ولا أسرة كثيرة الترحال، إلا كانت في ثمراتها دون زميلتها التي تنتظم على حال.

وكذلك يقول: الانتقال ثلاثا نكبة كنكبة الحريق، وكذلك يقول: احفظ دكانك ودكانك يحفظك، وكذلك يقول: إن أردت أن تنجز عملك فامض أنت وإن لم ترد فأرسل فيه من ينوب عنك، ومن أراد أن يسعد بالمحراث فلا بد له من مقاد أو سياق، وعين السيد أفعل من كلتا يديه، وقلة العناية أفدح ضررا من قلة المعرفة، وإذا قصرت في مراقبة صناعك، فأنت تفتح كيسك لهم وتتركه، والاعتماد الكثير على الغير يجر الخراب على الكثير، والناس في هذه الدنيا كما جاء في التقويم لا تتحقق لهم النجاة بالثقة والاتكال، بل بقلة الثقة والاتكال، وعناية الإنسان بنفسه هي المجدية عليه، ويقول ريتشارد المسكين أيضا: المعرفة للدارس والثروة للمعتني كالقوة للجسور المقدام ونعيم السماء للصالح الورع. أو كما قال كذلك: إن أردت لك خادما أمينا وخادما ترضاه فاخدم نفسك، وإنه لينصح بالمراقبة والإشراف حتى في صغار الأمور؛ إذ يحدث كثيرا أن قليلا من الإهمال يجلب البلاء الكبير، وقد ضاع مسمار فضاعت الحدوة، وضاعت الحدوة فضاع الحصان، وضاع الحصان فضاع الفارس حيث أدركه العدو وقضى عليه، من أجل مسمار في حدوة حصان.

هذا في أمر الاجتهاد - أيها الأصدقاء - وأمر عناية المرء بعمله وموالاته له بنفسه، ولكننا حريون أن نضيف القصد إلى الاجتهاد إذا أردنا أن نستوثق من ثمر اجتهادنا. فإن الذي لا يحسن الادخار كما يحسن الكسب يظل أنفه على المسن طول حياته ويموت وهو لا يساوي فلسا مما كسب ولم يدخر. وصدق ريتشارد المسكين إذ يقول: إن المطبخ السمين وصية هزيلة، وكم من ضيعة ضاعت لوقتها منذ ترك النساء الغزل في سبيل الشاي، وترك الرجال الحرث في سبيل الكأس.

وإنه ليقول في تقويم آخر: إن أردت الغنى ففكر في الجمع كما تفكر في الطلب، وما استطاعت فتوح الإسبان في أمريكا أن تغنيهم؛ لأنهم بددوا أكثر مما غنموه.

فبعدا إذن للسرف وعاداته، وأمانا إذن من الزمن وغدراته، إذ لا يبقى لديكم بعد الخلاص من ربقة السرف ما تجدونه اليوم من علل الشكوى والتبرم بسوء الحال وثقل الضرائب وتكاليف البيوت، وصدق ريتشارد المسكين مرة أخرى فيما قال حيث قال: إن النساء والخمور واللعب والغرور، تنقص من الثروات وتزيد من المطالب والحاجات، وإن تربية رذيلة واحدة تكفي لتربية طفلين، ولعلكم تظنون حينا أن قليلا من الشاي أو قليلا من الشراب أو قليلا من النفقة يزاد على تكاليف الطعام، أو قليلا من البذل يزاد على ثمن الكساء أو قليلا من الدعوات والولائم بين حين وحين لن ينجم عنه شيء كثير. فاذكروا إذن ما يقوله ريتشارد المسكين إذ يقول: حذار من تضييع القليل، فإن ثغرة صغيرة تغرق السفينة الكبيرة، ومن أحب اللطائف والقطائف أقام الحجة للسائل والأفاق، وإن الحمقى يبسطون الموائد والحكماء يأكلونها.

ولنختم الآن هذا الحديث فنقول: إن التجارب مدرسة غالية، ولكن الحمقى لا يتعلمون في غيرها، ولعلهم لا يحسنون التعلم فيها بعد ذلك، فإننا نستطيع أن نسدي النصح، ولا نستطيع أن نسدي الخلق والسجية، واذكروا على كل حال إن الذين يتلقون المشورة لا يتلقون المعونة، وإن الذي يصم أذنيه عن نصيحة الرشد تكسر ركبتاه.»

وهكذا ختم الشيخ حديثه: واستمع إليه القوم، وأقروا الرأي وذهبوا على الأثر يعملون بنقيضه، كأنما كان هذا الحديث موعظة من مواعظ المنابر في المعابد، فما هو إلا أن فتحت السوق وبدأ البيع والشراء حتى تهافتوا على السلع يبذلون فيها المال عن سعة، ولا يبالون تحذيره من السرف وخوفهم من الضرائب الثقال. وألفيت الرجل الطيب قد وعى ما كتبت في تقويماتي، وهضم كل ما دونته فيها خلال هذه السنين الخمس والعشرين، ولا بد أن الإشارة إلى كرة بعد أخرى قد أسأمت كل من سمعها سواي، وإن كانت قد طيبت خاطري وأرضت غروري، مع علمي أنني لم أكن صاحب تلك الحكمة، ولم يكن لي مقدار عشرها، وإنما هي حصاد الأجيال والأسلاف.

على أنني قد عولت أن أنتفع بصداها، وكنت أنوي أن أبتاع قماشا لسترة جديدة فعدت من السوق معتزما أن ألبس سترتي العتيقة فترة أخرى.

أيها القارئ.

إنك إن صنعت مثل صنيعي كان نفعك منه مثل نفعي، وإنني على الدوام رهين خدمتك.

7 من يوليو سنة 1757

رسائل

تعد رسائل فرنكلين بالمئات، نشرت في مجموعات متعددة حسب موضوعاتها أو حسب الجهات التي أرسلت إليها، ومنها العام الذي يرتبط بالسياسة والعلم والمصالح القومية، ومنها الخاص الذي يراسل به أهله وذويه وخاصة صحبه، ويقصر في الأعم الأغلب على التحية وإسداء الرأي في المسائل البيتية.

وكل هذه الرسائل مما يصح أن يوصف بالكتابة الفرنكلينية، ونريد بها الكتابة التي تتسم بطابع الرجل، وتنم على ملامح نفسه وعادات تفكيره، وليس المراد بهذا أننا نقرأ الرسالة بغير توقيعه فنعلم أنها من قلمه، فإن هذه الخصيصة ربما صدقت على الكثير من كتاباته، ولكنها لا تصدق عليها جميعها، ولكن المراد بالكتابة الفرنكلينية أننا إذا بحثنا فيها لم نخطئ فيها دلالة على خلقه أو رأيه أو شواغل عمله، وعلى سبيل التمثيل نشير إلى رسالة وجيزة مكتوبة في مسألة مألوفة من المراسلات بين الإخوة والأقارب كتبها إلى أخته جين

Jane

أحب أخواته إليه؛ لأنها استشارته في إرسال ابنها بيني

Benny

إلى نيويورك، فقال لها في أسطر معدودات: «إذا كنتم على رغبتكم في إرسال بيني فأرسلوه على أول مركب إلى نيويورك واكتبوا معه سطرا موجها إلى مستر جيمس باركر الطباع، وأنا على ثقة من حسن معاملته هناك، وسأتلقى خبرا عنه في الأسبوع نفسه، وأوصوه أن يكون على الدوام بشوشا مرحا مستعدا لعمل كل ما يؤمر به، وكسب الرضا من كل من يعمل معه، فهذه خير وسيلة لاقتناء الأصدقاء، ومحبتي لك يا أختي العزيزة لحسن رعايتك لأبينا في مرضه.»

فهذه الرسالة «فرنكلين» في أكثر من سمة واحدة؛ لأنه لا ينسى فيها الخصلة التي عرفت عنه في أدوار حياته من صباه إلى أواخر أيامه، وهي الحرص على كسب الأصدقاء واتقاء المغاضبة والعداء، وهي تطابق حكمته التي كررها كثيرا، وفحواها أن يحسن الإنسان إلى الصديق ليستبقيه، ويحسن إلى العدو ليستدنيه أو يعيده إلى مودته، وهذا مع البر بالأهل والعناية بأداء الواجب وإنجاز ما يفرضه على كل من يناط به عمل يؤديه.

ومثل هذه السمة لا نخطئها في رسالة من رسائله العامة أو الخاصة، فهي تمثله للقارئ حينا بما فيها من روح الفكاهة والسخرية الطيبة ، أو بما فيها من طبيعة المودة والمسالمة واستنفاد كل حيلة في سبيل التفاهم والإقناع، أو بما فيها من الدقة والتنظيم واجتناب الإسراف والفضول، وقد كان يكتب رسائله العامة إلى الصحف على أسلوبه في أول كتاباته منذ نشأته الصحفية الباكرة، فبعضها في قالب الأماثيل على ألسنة الآخرين، وبعضها في قالب العظات الفكاهية، وبعضها في قالب التلخيصات المرتبة كما ترتب الدروس الملخصة، وبعضها في قالب الحوار بين اثنين أو أكثر من اثنين، ويجري حواره على نسق الحوار المعهود في كتب أفلاطون، آراء متتابعة تملي ما بعدها ويأخذ بعضها برقاب بعض، ثم تستدعي ردودها وأجوبتها كأنها تأتي من قبيل الحقائق المفروغ منها، وهي كما لاحظ جامع رسائله إلى الصحافة ڤيرنر كرين

Verner W. Crane «مقنعة ولكنها ليست بالدرامية في وضعها»

1

أي إنها تقنع الفكر ولكنها لا تثير الشعور، ولا تستجيش الخيال كما يحدث عند قراءة الحوار الدرامي الذي ينوع الكاتب شخوصه، ويبرز فيه الأمزجة والدوافع النفسية، فتستجيب لها نفس القارئ بما تثيره من دوافعه وطواياه.

وهذه الرسائل التي نترجمها مقتبسة بغير عناء في الاختيار من أشتات رسائله الخاصة والعامة، لا نتوخى فيها إلا أن تكون معبرة عن فرنكلين في عادة فكر أو سجية شعور أو طريقة عمل، ولا حاجة إلى العناء الطويل في الاختيار لهذا الغرض؛ لأن كتاباته كما قدمنا فرنكلينية بطبيعتها في صفة واحدة على الأقل من هذه الصفات.

رد على خطباء القهوات

كتب هذه الرسالة، بتوقيع مستعار، إلى صحيفة لندن كرونيكل

London Chronicle

بتاريخ التاسع من أبريل سنة 1767 ردا على خطباء القهوات الذين كانوا يحرضون الشعب الإنجليزي على قمع الولايات الأمريكية وأخذها بالعنف والصرامة بدلا من الإصغاء إلى مطالبها الوطنية. قال:

لقد كان لأثينا خطباؤها، وقد صنعوا لها في بعض الأوقات خيرا كثيرا، كما صنعوا لها الشر الكثير في أوقات أخرى، وكان أسوأ ما صنعوه من شر على الخصوص يوم نجحوا في إغرائها بشن الغارة على صقلية، فناءت بأعبائها وخسائرها، وكان من جرائر تلك الحرب أن الدولة الزاهرة سقطت ولم ترجع إلى ازدهارها بعد ذلك أبدا .

وإن هؤلاء الصياحين بالدهماء بين الأقدمين يخلفهم في العصر الحديث كتاب نشراتكم السياسية، وكتاب الصحف، وخطباء القهوات.

ومما يلفت النظر أن رجال الجندية المنقطعين لهذه الصناعة، وهم أناس متصفون بالشجاعة التي لا جدال فيها، قلما يشيرون بالإقدام على الحرب إلا عند الضرورة القصوى، بينما يتعالى اللغط بالحرب لأتفه الأسباب من أناس كأولئك الصياحين والثراثرة والمحدثين الذين هم بطبيعتهم يهابون أو بحكم أعمالهم البدنية تعوزهم تلك النخوة التي تنبعث منها الشجاعة الصادقة، ويبدو عليهم كأنهم أشد بني آدم تعطشا إلى الدماء.

وإننا لفي هذا الزمن الذي لم نكد فيه نتنفس في أعقاب الحرب الشعواء المرهقة التي أهدرت الدماء والأموال على نحو لم يسبق له مثيل في القارة الأوروبية، نرانا أمام طوائف ثلاث من الخطباء يجتهدون اجتهادهم في إثارتنا على أصدقائنا والاندفاع بنا إلى حرب مع البرتغال، وحرب مع هولندا، وحرب مع مستعمراتنا.

فأما الحربان الأوليان، فليس في نيتي أن أبحث فيما تنطويان عليه من الحكمة والإنصاف؛ إذ لا أحسب أن إنجليزيا يخامره الشك - إذا كان الهولنديون قد أساءوا إلى أجدادنا قديما قبل مائة وخمسين سنة - أن الانتقام منهم واجب في أية لحظة كائنا ما كان مبلغ الصداقة بيننا بعد تلك الإساءة، وأن البرتغاليين - إذا كانوا يشترون ثيابهم من الفرنسيين بأثمان أقل من أثمان الثياب عندنا - حقيقون بأن نوسعهم ضربا حتى يثوبوا إلى الصواب، ويتخذوا لهم رأيا غير ذلك التفضيل والإيثار.

فإذا سلمنا أننا من القوة والبأس بحيث نقدر على ضرب هولندا والبرتغال معا، لسبب أو لغير سبب، ومعهم أصدقاؤهم الذين ينتصرون بهم أو بمعزل من أولئك الأصدقاء، وعلينا أعداؤنا الذين يستثيرهم ذلك الصنيع أو بمأمن من أولئك الأعداء، وسلمنا كذلك أن الهولنديين أيضا خليقون أن يبضوا لنا بالنفقات اللازمة للقتال، إذا سلمنا ذلك جميعا فلا غرض لي إلا أن أضع بين يدي ذوي النظر، بكل خشوع، فرضا يخطر على البال؛ وهو أن تكون لنا على تلك الفروض وسيلة أخرى لفض الخلاف بين وزرائنا الأسبقين ومستعمراتنا بوسيلة غير قطع الرقاب!

وكل خطوة تقودنا الآن إلى السخط على أمريكا، تتطاير النشرات والصحف ويضج خطباء القهوات بالأكاذيب التي تقول عنها أنها ثائرة عاصية، وتستدعي القوة والأساطيل والجحافل للذهاب إليها، وما يوجد منها هنالك ينبغي أن يستدعى من الأرجاء النائية لاحتلال العواصم الكبرى، وينبغي كذلك أن يساق رءوس القوم إلى البلاد الإنجليزية لتعليقهم على المشانق وما شابه ذلك، ولماذا كل هذا؟

لماذا؟ أتسأل لماذا؟

نعم، أرجو أن يؤذن لي أن أسأل: لماذا؟

وجواب لماذا هذه أن القوم يبغون إسقاط الحكومة في هذه البلاد وإقامة أنفسهم في مقامها.

فكيف بدأ ذلك كذلك يا ترى؟

تقول: كيف بدأ؟ أليسوا جميعا يحملون السلاح؟

نقول: كلا، بل هم جميعا في سلام. - أفلم يمتنعوا عن أداء التعويض للمصابين في حوادث الشغب الأخيرة كما طلبت الحكومة هنا؟ - كلا، بل هم قد بذلوا الترضية الوافية، وهي - على فكرة - ترضية لم تبذل هناك لضحايا الشغب الذي حدث منكم هنا. - أفلم يشعلوا النار في دار المكوس والجمرك؟ - كلا، إن القصة كلها أكذوبة ملفقة لا أصل لها على الإطلاق. - أفلم يتمردوا على القانون البرلماني الذي ينص على إيواء الجنود؟ فلم يرسلوا إلى الحكومة هنا طالبين إلغاء الحجر على تجارتهم، وإلغاء قانون الملاحة بهذه المثابة؟ - إن الجمعية في ولاية واحدة - ولاية نيويورك - هي التي أنكرت ذلك القانون، وإن بعض التجار في تلك الولاية هم الذين اجترءوا على ذلك الطلب. فإذا سلمنا أن الإنكار والطلب خيانة عظمى، فهل نسلم أن خمسا وعشرين ولاية تعاقب بجريرة ولاية واحدة؟

هلموا ننظر في سكون في معنى ذلك القانون، ومعنى إنكاره، ومعنى الطلب من أولئك التجار.

إن القانون قد صدر من نفس الإدارة التي أصدرت قانون الدمغة، ولعله قد أريد به تيسير إرهاب الولايات لإخضاعها لحكمه، ولهذا اشتملت نسخته عند تدوينها لأول مرة على فقرة تخول ضباط الجيش أن ينزلوا الجنود في المنازل الخاصة بأمريكا، ولما عورضت هذه الفقرة أشد المعارضة، انتهى الأمر بحذفها والاكتفاء باستئجار المساكن الخالية والأنبار (مخازن الغلال) لإيواء الجنود حيث يزودون بالوقود، والمصابيح، والفراش، وأدوات الطبخ وتهيئة الطعام، مع خمسة أكواب من الجعة أو السدر، أو نصف كوب من شراب الروم لكل جندي كل يوم، وبعض أشياء أخرى لا تؤدى أثمانها جميعا، بل تتكفل بها خزانة الإقليم. وما من وسيلة في الإقليم لجمع المال غير إصدار قانون من مجلس الولاية يوجب تحصيله، وعلى هذا وجب أن ينظر إلى الأمر على اعتباره قانونا صدر هنا ليعززه قانون يصدر من المجالس الأمريكية، وقد ارتاب بعضهم في صواب هذا الإجراء؛ لأنهم يرون أن المجالس في أمريكا إنما هي برلمانات صغيرة، وليست هيئات تنفيذية أو ديوانا من دواوين الحكومة يعمل عمله تنفيذا للأمر الذي يصدر إليه، فإنما هي هيئات مشورة وإبداء آراء ينظر أعضاؤها فيما يعرض عليهم؛ ليتدبروا منافعه وضروراته، ووجوه الصواب والإمكان فيه، ثم يقرروا ما يقررونه حسبما يرونه، فإذا أكرهت هذه المجالس على سن القوانين، على صواب أو على خطأ إطاعة لتشريع تمليه عليها هيئة تشريعية أخرى، فلا نفع لها باعتبارها هيئة نيابية، ولم تبق لها صفتها ولا حقيقة كيانها.

والحق أن القانون البرلماني نفسه يلوح عليه أنه أحس ذلك؛ لأن القوانين الأخرى التي تفرض الواجبات على الأشخاص تنص على عقوبة الرفض والإهمال، وعلى الطريقة التي تتبع في تنفيذ تلك العقوبة، ولم يرد نص كهذا - ولا يعقل أن يرد - في مثل هذا القانون البرلماني عما يطلب من مجالس الأقاليم، فوقع في حساب الأمريكيين أنه طلب تنظر فيه المجالس لتقره أو لا تقره، كله أو بعضه، حسب اختلاف الأحوال بين الأقاليم، ومن ثم قبلته ولاية بنسلفانيا حيث يقل عدد الجنود على العموم، ولم تقبله ولاية نيويورك حيث تعبر الجنود جيئة وذهابا عدة مرات بين بريطانيا والولايات الفرنسية، وحيث يشعرون بثقل العبء عليهم من جراء تنفيذه، ولهذا قبلت الولاية جزءا من الطلب ووجهوا خطابا إلى حاكمهم سردوا فيه أسبابهم بأسلوب ملؤه اللطف والاحترام.

وإن كثيرا من الناس ليبدو لهم أن هذا القانون خطأ على التحقيق؛ إذ ليس من اليسير توضيح سبب حسن لإنزال الجنود في مكان من الأمكنة بين مستعمرات الملك جميعا لتزويدها بشيء ما في مقابلة لا شيء، إنهم يصطحبون معهم صرافا على الدوام، فلماذا لا يؤدي الثمن لكل ما يحصلون عليه؟

إن هذه التكاليف عبء ينفرد بحمله الإقليم الذي يتفق أن يلقى عليه، وهو من ثم غير عادل وغير سواء، وفي بريطانيا يلقى هذا العبء على أصحاب الخانات ويعتبر كالضريبة التي تفرض على أرباب هذه الصناعة، وفي وسعهم تعويض الغرم بزيادة الأجر على النزلاء وتوزيع الضريبة بهذا الأسلوب على نحو أقرب إلى المساواة، ولكن الولاية التي يتفق أن تتعرض لهذا الغرم لا تستطيع أن تلقيه على ولاية أخرى معفاة منه بحكم موقعها.

إلا أن خطباءنا - خطباء القهوات - ينظرون إلى المسألة نظرتهم ويقررون أن هذا الإنكار الموافق لمجرى القانون عصيان يعاقب بما يلائمه. وإنه لخليق أن يكون إجراء نادرا ذلك الإجراء الذي يجعل القانون يفرض شيئا جديدا ولا يقرر وسيلة تطبيقية، ولا العقوبة التي تترتب على مخالفته، ثم يأتي بعد المخالفة فيقرر هذه وتلك. فتلك فيما أرى أول سابقة من نوعها في شئون التشريع، ولا تحسب في باب الشرائع كما تحسب في باب الفخاخ التي تنصب للرعايا ليقعوا فيها، وكذلك يكون عصيانه ضربا جديدا من العصيان؛ إذ كان المفهوم من العصيان دائما أن يفعل الإنسان شيئا، وهذا عصيان يقوم على أن المرء لا يفعل شيئا من الأشياء. فإن كان كل إنسان يهمل شيئا في قانون ما أو يدع تنفيذ ذلك القانون يحسب ثائرا عاصيا، فإنني لأخشى أن يكون عدد الثوار بيننا أكثر مما نحسب، ومنهم - ولا نحصيهم - أولئك الذين أهملوا تسجيل أوزان الأطباق وسداد الضريبة عنها، وهم فيما أظن غير قليلين، ويصح أن يضاف إليهم أولئك الذين يلبسون الحرائر الفرنسية وما شابهها من فاخر الثياب.

أما قصة الطلب أو العريضة التي سبقت الإشارة إليها، فقد سمعت من بعض التجار أبناء ولاية نيويورك رأيا يقولون فيه: إن القوانين التي تقيد التجارة في الولايات لا تضر الولايات فحسب، بل يتعداها الضرر إلى المملكة الأم (يعني إنجلترا)، وإنهم ليذكرون الأسباب التي يبنون عليها هذا الرأي وهي جديرة أن تدرس هاهنا. وقد يتبين أنهم على صواب فلا يستحقون الزجر، بل يستحقون الشكر والثناء، وإلا ففي الوسع إلقاء الطلب جانبا والإعراض عنه، فليس الطلب ثورة ولا عصيانا، ولكنه في صميمه اعتراف بالسلطان لمن يتقدم الطلب إليه، وأن مقدميه من رعاياه.

بيد أن الآراء المتحيرة تخلق من الحبة قبة في كثير من الأحيان، وحين يكون الذئب قد عقد العزيمة على مخاصمة الحمل، فلا فرق بين وقوفه على اتجاه الماء أو على غير ذلك الاتجاه، وما أيسر ما توجد التعلات أو تخلق إذا لم توجد، ولا مبالاة بالحكمة والإنصاف فإنهما لمن وراء الحسبان!

محادثة عن الرق

وهذه رسالة كتبها في الثلاثين من شهر يناير سنة 1770 إلى صحيفة الإعلان العام

للرد على الذين ذكروا مسألة الرق في أمريكا ليعترضوا بها على المطالبين بالحريات القانونية من الأمريكيين.

قال بعد مقدمة يذكر فيها مناسبة إرسال هذا الحديث «الخيالي» الحقيقي إلى الصحيفة:

إنجليزي :

إنكم معشر الأمريكيين تصخبون كلما توهمتم أن شيئا يمسكم فيما تسمونه بحرياتكم، على حين لا يوجد فوق ظهر الأرض من يعادون الحرية كعدائكم، وما أنتم إلا طغاة متعسفون حيث تسنح لكم الفرصة كما تسنح الآن.

أمريكي :

وكيف كان هذا لعمرك؟

إنجليزي :

اقرأ كتاب جرانفل شارب

Granville Sharpe

عن الرق.

فتعلم كيف كان هذا بشهادة العيان.

أمريكي :

لقد قرأته.

إنجليزي :

وبعيشك ماذا فهمت منه؟

أمريكي :

أصارحك الرأي، إنه في جوهره كتاب حسن، وإنني لأعجب بغيرة المؤلف على الحرية في الجملة، ويسرني ما أرى فيه من دلائل الإنسانية. غير أنه يتكلم عن الأمريكيين عامة، فيزعم أنهم لا يشعرون بالحب الصحيح للحرية، وأنهم قلما ينفرون من الاستبداد والطغيان، وأنهم قلما يتورعون عن تسليط الاستبداد والطغيان بأقصى ما في وسعهم من الشدة على عبيدهم المساكين، وهذا ما لست أقره كما أنني لا أقر النتائج التي انتهى إليها حيث يخلص من تلك المزاعم إلى إنكار حق الأمريكيين في الحرية، ففي ذلك مجافاة للعدل وغلو في الإنحاء على الأمريكيين، مع إغضائه عن أخطاء بلاده، وليس هذا فيما أرى بالإنصاف، فضلا عما فيه من الإضرار بنا هذه الآونة على الخصوص؛ إذ يحاول أن يصورنا في صورة بغيضة، ويغري بنا من يبيتون النية على ظلمنا واضطهادنا، منكرا حقنا في الحرية التي ننشدها الآن.

إنجليزي :

وأي وزر لبلاد المؤلف في تلك المظالم التي يشكوها؟ وأي كلام من كلامه لا يشمل حكمه معاشر الأمريكيين عامة؟

أمريكي :

ينبغي ألا يكون كلامه عاما على إطلاقه؛ لأن الأسس التي يقيمه عليها ليست بالأسس العامة. وهذه إنجلترا الجديدة - أكثر المستعمرات الإنجليزية سكانا في أمريكا - قليل فيها عدد العبيد، ومن وجد من هذا القليل فهو في العواصم حيث لا يعملون في عمل شاق، وأكثرهم ثمة سعاة أو خدم في المنازل، ويقال مثل هذا عن المستعمرات التي يقل سكانها عن سكان إنجلترا الجديدة، كنيويورك، ونيوجرسي، وبنسلفانيا، وحتى في فرجينيا، وماريلاند، وكارولينا حيث يعمل العبيد في الزراعة لا يوجدون إلا عند الأسر الغنية القديمة على مقربة من مياه الملاحة، وإنهم لقليلون بالقياس إلى الأسر التي تقيم وراءهم ويندر أن يوجد لديها العبيد، ولو أنك عبرت أمريكا الشمالية من أقصاها إلى أقصاها لم تجد أسرة من كل مائة أسرة لديها عبيد، وإن ألوفا من الناس هناك ليمقتون الرق كما يمقته مستر شارب ويتورعون عن كل ما يتصل به، ويبذلون جهدهم في إلغائه. فإذا كان من الإجرام في رأي ذلك السيد أن يقتني المرء عبدا، فهل من العدل أن نوصم جميعا بالجريمة؟ وإذا كان في إنجلترا واحد من كل مائة يخل بحقوق الأمانة، فهل من العدل أن يقال: إن الإنجليز كلهم لصوص وسراق؟ زد على ذلك أن الذين يقتنون العبيد ليسوا جميعا قساة أو طغاة، وكثيرون منهم يعاملون عبيدهم بالرفق والمروءة، ويتكفلون بهم في حالتي الصحة والمرض كما تتكفلون هنا بالعمال الفقراء، وما هؤلاء العمال الفقراء عبيدا بالاسم، ولكنهم ما أشبههم بالعبيد حين تضطرهم الشريعة إلى العمل كل تلك الساعات في خدمة ساداتهم بتلك الأجور، ولا تسمح لهم بطلب المزيد أو المساومة على الأجر، بل تسجنهم في بعض المشاغل إن رفضوا العمل بالأجر المقدور، وقد تسجن السيد إذا قبل أن يزيدهم في الأجور، ويحدث كذلك في الوقت نفسه أن يحال بين الصانع الذكي، وبين السفر من هذه الجزيرة إذا منح في خارجها أجرا أكبر من أجره فيها.

أما وزر إنجلترا في المظالم الأمريكية، فليذكر سيدي أنها هي التي بدأت بتجارة الرقيق، وأن تجارها من لندن، وبريستول، ولفربول، وجلاسكو يرسلون سفنهم إلى أفريقيا لشراء العبيد. فإذا أساء التجار استخدام الوسيلة في اقتناص العبيد، وإذا شنت الغارات لاحتجان الأسرى، وإذا استدرج الأحرار إلى متون السفن ثم سيقوا إلى الأسر غيلة وغدرا، وإذا بذلت الرشى للأمراء الصغار إغراء لهم ببيع رعاياهم وهم في الحق طائفة من العبيد - إذا حدث هذا كله فهل تقع جرائر هذه السيئات كلها على عاتق أمريكا؟

إنكم تجلبون العبيد إلينا، وتغروننا بشرائهم، ولست أريد أن أسوغ وقوعنا في الغواية، ولكنني أقول: إنكم إذا سرقتم الناس تبيعونهم لنا ونحن نشتريهم، فلتذكروا المثل القائل: إن المشتري من السارق والسارق سواء، وقد وضع هذا المثل للذين لا يعلمون أن آخذ الشيء المسروق في حكم سارقه، ولكن العكس لم يكن بحاجة قط إلى مثل لتوضيحه؛ إذ ما من أحد يجهل أن اللص كمن يشتري منه في المنكر والسوء.

وإنكم لم تفعلوا هذا وتقنعوا به وتثابروا على فعله وحسب، بل زدتم على ذلك أنكم أنكرتم القوانين التي وضعت في أمريكا لتصعيب تجارة الرق، وفرض الضرائب الثقيلة على الموردين للأرقاء، وأمرت حكومتكم بنقضها لأنها ضارة بمصالح الشركة الأفريقية.

إنجليزي :

ما سمعت من قبل بقوانين من هذا القبيل وضعت في أمريكا، غير أن القوانين التي وضعتموها وادعيتم أنها ضرورية لحسن سياسة العبيد بل الخدم البيض، مما استشهد به مستر شارب في كتابته، لا تدعونا إلى حسن الظن بمروءتكم العامة أو باحترامكم الحرية، وليست تلك قوانين آحاد معدودين؛ إذ هي مسنونة برأي نوابكم في الجماعات الممثلة لكم، وهي لهذا خليقة أن تنسب إلى الجميع.

أمريكي :

ليس الأمر كذلك. ويجوز أن بعض هذه القوانين وضع في المستعمرات التي يربى فيها عدد الأرقاء كثيرا على عدد البيض، كما هو الحال في بربادوس الآن، وفي فرجينيا من قبل، وقد تكون تلك القوانين أقسى مما ينبغي من أثر الخوف والظن الغالب بأن الصرامة هي الوسيلة الوحيدة التي تروض العبيد على الطاعة وتصون على سادتهم حياتهم. أما الولايات الأخرى التي يقل فيها عددهم ولا يخشى الخطر منهم، فالقوانين رفيقة والعبيد في كفالة القانون من جميع الوجوه إلا أن نحسب حساب الحرية، ويجازى الرجل الأبيض بالموت إذا قتل عبدا ملكه، كما يجازى على قتل إنسان كائنا من كان. ومن الواجب أن نذكر أن صرامة القوانين على قدر الغباء، أو على قدر السوء في خلائق المحكومين، وقد علمتنا التجربة هذه الحقيقة في كل مكان. وقد يخطر لك أن العبيد قوم لطاف ودعاء يسلس قيادهم لمن يقودهم، وإنهم لكذلك بعض الأحايين، ولكن الأكثرين منهم على خبث، وكيد، وضغينة، وسوء دخيلة، وقسوة بالغة على أشد ما تكون القسوة، وتجاركم وملاحوكم الذين يجلبونهم من غانا يعلمون ذلك، ويعانون من تمردهم على السفن السابحة أو المرسية على الشاطئ كل العناء، وما ظفر العبيد بمن عداهم مرة إلا أتوا عليهم أجمعين، وكلما حدث التمرد من هذا القبيل عالجه قومكم بما يحسبونه ضرورة لا محيص عنها من الصرامة والشدة، وأطلقوا النار على بعضهم أو شنقوهم على ظهر السفينة، وربما كان من هؤلاء العبيد أناس مجرمون في بلادهم يبيعهم أمراؤهم عقوبة لهم على جناياتهم ويجعلون النفي والعبودية جزاء لهم عليها، كما تجزون أنتم هنا من تدينونهم من الأشرار، وما دامت حكومتكم لا تقبل أن تسن القوانين لإخراج العبيد من البلد، فهل يحق لكم أن توجهوا اللوم إلى تلك القوانين التي تبدو ضرورية لحكمهم وهم في ذلك البلد؟

إنجليزي :

لكن القوانين التي تضعونها لمعاملة الخدم البيض لا تقل في قسوتها عن القوانين التي توضع للعبيد السود.

أمريكي :

هي كذلك في بعض الولايات، وبخاصة تلك الولايات التي ينفون إليها مجرميكم، وإن الخدم الودعاء ليعاملون في أمريكا معاملة الرفق التي يجدونها في إنجلترا . غير أن الأشرار الذين تدينونهم وترسلون بهم إلينا لا بد لهم من القمع الشديد بعصا من حديد. وقد وضعنا القوانين في ولايات عدة لمنع دخولهم، وكانت هذه القوانين تنقض هنا على اعتبارها مخالفة لقانون البرلمان، ولسنا نشكركم على إقحامهم علينا، ونحسبها بربرية من حكومتكم أن تخلي سجونها، وتملأ بهم محلات بلادنا، بل نحسبها إهانة من أسوأ الإهانات، فإن كانت الشرائع الرفيقة تصلح لسياسة هؤلاء القوم، فما بالكم لا تبقونهم عندكم وتسوسونهم بتلك الشرائع؟ على أنك خليق أن تذكر أن الشرائع التي ترمونها بالقسوة قد أرسلت إلى حكومتكم، كما ترسل جميع الشرائع إلى الملك في مجلسه فأبرمتها. فإن كانت مع هذا عرضة للملام فتفضلوا أنتم واحملوا على عاتقكم بعض هذا الملام.

أيقوسي :

لا يحق لكم أن تقولوا إننا نقحم المجرمين على بلادكم؛ إذ في وسعكم إذا شئتم أن تحجموا عن شرائهم، ولو لم يكن من طبعكم الطغيان ولم يكن من هواكم أن تتخذوا لكم أتباعا تسومونهم العذاب وتشبعون بتعذيبهم تلك الشهوة في نفوسكم، وكان لديكم حقا ذلك الشعور بالحرية الذي تثيرون به تلك الضجة - لما اشتريتم أحدا من العبيد ولا من المجرمين، ولما احتملتم شيئا كهذا الرق أن يبقى بين ظهرانيكم.

أمريكي :

الحق كما تقول: إننا نستطيع أن نكف عن شرائهم، وإن كثيرا من العقلاء ليحجمون عن شراء أحد منهم، إلا أن الدنيا فيها العقلاء وغير العقلاء، وغير العقلاء يطمعهم الثمن البخس في شرائهم، وعلينا نحن أن نكبح هذا الطمع، وأن نمنع تجاركم أن يصلوا إلينا بتجارتهم البغيضة، ولكنكم لا تأذنون لنا في ذلك، ومن أجل هذا قلت إنكم تقحمون علينا العبيد كما تقحمون علينا المجرمين. وإني ليدهشني يا سيدي أن أسمع ملاحظتكم التي تقول فيها: إننا لو كنا نحب الحرية حقا لما سمحنا لشيء كالرق أن يبقى بيننا. فهذه ملاحظة غريبة من بريطاني من أهل الشمال حيث الرق مشروع بحكم القانون لا يزال!

أيقوسي :

أحسبك تشير إلى قوانين المواريث وهي لا تشتمل على شيء من الرق، وقد نقضت مع ذلك بقانون صدر من البرلمان .

أمريكي :

كلا يا سيدي، إنني أعني الرق في مناجمكم؛ أعني المساكين الذين يحفرون الأرض ليستخرجوا منها الفحم لكم. ففي تلك الأنفاق المظلمة التي لا تطلع عليها الشمس عبيد بحكم القانون، يتلوهم في العبودية أبناؤهم من اللحظة التي يستطيعون فيها أن يحملوا السلة إلى اللحظة التي يختمون بها أعمارهم، وإنهم ليباعون ويشترون مع المناجم وليس لهم من حرية الفكاك من هذا الأسر نصيب أكبر من نصيب العبيد عندنا في الفكاك من مزارع سادتهم، وإذا كان سواد وجوههم مسوغا لاستعبادهم، فأنتم لا تجدون حتى هذا المسوغ لاستعباد عمال الفحم عندكم. ولتذكر أنهم تحت غبار الفحم الأسود لهم جلود بيض، وإنهم أناس أمناء طيبون، وهم فوق ذلك من أبناء وطنكم.

إنجليزي :

يسرني أنك لا تنحي على إنجلترا بمثل هذه الوصمة؛ فإن عمال الفحم عندنا أحرار كسائر العمال.

أمريكي :

وهل من أجل هذا تزعمون أنكم لا تعرفون شيئا من قبيل الرق في البلاد الإنجليزية؟

إنجليزي :

لا يوجد في إنجلترا شيء كهذا بكل تأكيد!

أمريكي :

أخالني قادرا على أن أعرض أمام نظرك ما يقنعك بوجوده إذا اتفقنا أولا على تعريف الرق ما هو؟ ولئن صح ما يقوله مؤلفكم من أن اقتناء العبيد يسلب حق المقتنى في الحرية لتكونن أنتم معشر الإنجليز محرومين من هذا الحق حرمان الأمريكيين.

إنجليزي :

وما تعريفك للرق إذن. أرجو أن نسمعه لنعلم هل نحن متفقون عليه أو غير متفقين.

أمريكي :

العبد - فيما أرى - هو كائن بشري يسرق أو يغتصب أو يشترى من غيره أو من نفسه بالمال، ويضطر لذلك إلى خدمة الآخذ أو الشاري حسب هواه مدى الحياة. وقد يباع مرة أخرى، أو يؤجر لغير سيده، ويضطر في هذه الحالة إلى خدمة مشتريه أو مستأجره، ولا يضطر إلى إطاعة سيده وحده، بل يضطر كذلك إلى إطاعة أوضع الخدام لديه، فيحضر متى استدعاه، وينصرف بأمره، ويقيم حيث يرتضي له الإقامة، ولو بعث به إلى أقصى أطراف الأرض وأوخم الأجواء، وعليه أن يلبس الملابس التي يختارها له سيده، ولا يلبس غيرها، ولو لم تكن من لباس العرف الشائع وكان الارتداء بها علامة من علامات العبودية، وعليه كذلك أن يتقبل الطعام الذي يفرضه له سيده، أو يتقبل القدر الذي يعطيه إياه من المال بديلا من الطعام والكساء. وينبغي ألا يفارق مكان الخدمة بغير إذن مولاه، وأن يخضع للجزاء الصارم عقابا له على أيسر الهفوات، وأن يساوم الضرب بالسياط، بل القتل، عقابا له على الإباق من الأسر أو على عصيان الأمر، أحسب أن كائنا بشريا كهذا إنما هو عبد في كل ما يراد من العبيد ويفرض عليهم.

إنجليزي :

أوافقك على تعريفك. إلا أنني على يقين، نعم على يقين، أنك لن تجد في إنجلترا أحدا بهذه الصفة.

أمريكي :

كلا، بل عدة ألوف إذا كنت قد أحسنت وصف الجندي الإنجليزي، أو الملاح الإنجليزي بذلك التعريف. فالملاح كثيرا ما يجبر على الخدمة وينتزع من جميع روابطه وعلاقاته، والجندي يشترى عادة بدينار وبعض دينار في سوق التجنيد، ولسيده أن يبيع عمله من يشاء من الأمراء الغرباء، أو يؤجره بما يبرمه من المعاهدات، ويقذف به إلى حيث يرمي، أو يرمى في ألمانيا أو البرتغال أو غانة أو الجزر الهندية الغربية، وهو مقيد بالعمل مدى الحياة يصدق عليه كل حرف مما ذكرته في ذلك التعريف، وقد يتخطى الرق الإنجليزي في حالة من الحالات كل ما انتهى إليه من الحدود في الديار الأمريكية.

إنجليزي :

وماذا تعني؟

أمريكي :

نحن لا نستطيع في أمريكا أن نأمر العبد بعمل لا يستقيم مع الخلق أو مع الشريعة، ولا نستطيع مثلا أن نأمره باقتراف جريمة القتل، ولو أمرناه بذلك لحق له أن يأبى وتقره القوانين على الإباء. غير أن الجندي مجبر على طاعة كل أمر، أو يعرض نفسه للموت، ولو كان الأمر كأمر هيرود بقتل كل طفل دون السنتين، أو بقطع رقاب الصغار في المستعمرات، أو بإطلاق النار على النساء والأطفال في بطاح سان جورج (إشارة إلى مذبحة سنة 1768).

2

ويسلك فرنكلين مثل هذا المسلك «المنطقي» لإقناع مخالفيه داخل بلاده في مسألة الرق، كما سلكه في مناقشة المخالفين خارج بلاده لإقناعهم في هذه المسألة، وقوام الإقناع عنده في الحالتين أن يأخذ المخالفين له بما يدينون به ويسلمونه، وأن ينبههم إلى أحوالهم التي يغفلون عنها ولا يلتفتون إلى مغزاها، وأن يريهم أنهم يصابون بالحجة التي يسوقونها قبل أن يصيبوا بها غيرهم، وهذا الأسلوب المنطقي أفعل الأساليب في إلزام حجتهم؛ لأنها في النضال المنطقي بمثابة نقل الهجوم إلى معسكر الخصم من داخله ليشتغل بنفسه عن مهاجمة غيره.

وقد تقدم أن فرنكلين كان يقول أنه يرحب برسول المفتي الأكبر من القسطنطينية إذا طاب للمفتي الأكبر أن يوفده إلى الديار الأمريكية، ولكنه في الرسالة التالية يذكر أنصار الرق في بلاده بحجة القراصنة الذين كانوا يستخدمون شواطئ المغرب بأفريقيا الشمالية لاقتناص ركاب السفن والاتجار ببيعهم والتعلل بالدين لاستباحة رقابهم، وكان بعض أنصار الرق - مستر جاكسون مندوب ولاية جورجيا - قد ألقى خطابا في مجلس النواب - يفند به أقوال المعترضين على النخاسة أو تجارة الرقيق ونشرته صحيفة الفدرال جازيت

Federal Gazette ، فكتب فرنكلين إلى الصحيفة يرد عليه بهذا الأسلوب التهكمي الذي يشبه «محاكاة الصوت» للسخرية والتنديد، وكان تاريخه يوم الثالث والعشرين من شهر مارس سنة 1790 قبل وفاة فرنكلين بنحو ثلاثة أسابيع.

خطاب سيدي محمد إبراهيم

سيدي محرر الفدرال جازيت

قرأت أمس في صحيفتكم الغراء خطاب مستر جاكسون في مجلس النواب يستنكر به تعرضهم لمسألة الرق ومحاولتهم تحسين أحوال الرقيق، فذكرني خطابه هذا بخطاب ألقي قبل مائة سنة بلسان سيدي محمد إبراهيم عضو الديوان بالجزائر كما أثبته مارتن في سجل قنصليته سنة 1687. وكان هذا الخطاب معارضا لجماعة الطريقة الصوفية التي توسلت إلى الديوان أن يأمر بإلغاء القرصنة والنخاسة؛ لأنهما تناقضان العدل والإنصاف.

إن مستر جاكسون لم يستشهد به ولعله لم يطلع عليه، ولهذا يبدو من براهينه وذرائعه أن عقول الناس ومنافعهم تدين وتدان على منهج واحد في جميع الأمم والأقاليم كلما اتفقت المطالب والأحوال، وهذه هي ترجمة الخطاب الأفريقي المشار إليه:

بسم الله. الله أكبر. ومحمد نبيه ورسوله

ترى هل فكر أصحاب هذه الطريقة في عواقب الاستجابة لرجائهم ؟ وكيف ترانا نصل إلى البضاعة التي تأتي من البلاد المسيحية، ولا غنى لنا عنها إذا نحن كففنا عن شن الغارة على المسيحيين؟ ومن الذي يزرع لنا الأرض في هذه البلاد الحارة إن لم نتخذ منهم عبيدا مسخرين؟ ومن الذي يؤدي لنا عمل الخدم في المدن والبيوت؟ ألا يئول بنا الأمر يومئذ أن نصبح نحن العبيد المسخرين لأنفسنا؟ ألسنا هنا أحق بالرحمة من أولئك الكلاب؟

لدينا الآن خمسون ألفا في الجزائر وحولها ينقصون يوما بعد يوم إن لم يأت المدد من جديد، فإن كففنا عن اغتنام سفن الكفرة، واسترقاق الملاحين والمسافرين على متونها فلسوف تصبح أرضنا هملا لا قيمة لنا لانقطاع العمل في زراعتها. وسوف تهبط أجور بيوتنا في المدينة إلى نصفها، وتنفد موارد الخزانة العامة تبعا لذلك. ومن أجل ماذا كل هذا يا ترى؟ كل ما هنالك أن نرضي أهواء طائفة من أصحاب الأحوال والبدوات يودون لو أننا أطلقنا الأرقاء الذين في حوزتنا فضلا عن تحريم المزيد من المدد الجديد.

وبعد، فمن الذي يعوض سادتهم عن ضياعهم؟ أتعوضهم الدولة؟ أفي خزانتها كفاية من المال؟ أترى يعوضهم أبناء تلك الطريقة أم في وسعهم هذا التعويض؟ أم هم في سبيل الإنصاف الذي يزعمونه لأولئك العبيد يتجافون عن إنصاف أولئك السادة المظلومين؟ وهبونا أطلقنا عبيدنا، فماذا يصير من أمرهم بعد إطلاقهم؟ إن قليلا منهم من يعودون إلى بلادهم لعلمهم بالمصاعب التي تنتظرهم هنالك، وهم لا يؤمنون بديننا ولا يسيرون على نهجنا في حياتنا ولا يتبعون عاداتنا، ولا يقبل أبناء قومنا أن يدنسوا أنفسهم بمخالطة أنسابهم. فهل ترانا نستبقيهم بيننا متسولين في طرقاتنا؟ أو ترانا نترك أمتعتنا لمن يريد منهم أن يسرقها ويسلبها؟ إن الذين طال بهم عهد العبودية لن يعملوا لكسب أقواتهم إن لم يجدوا من يكرههم على العمل لها، وماذا لعمري في معيشتهم اليوم من السوء أو مما يستدر الرحمة والإشفاق؟ ألم يكونوا عبيدا في بلادهم قبل هذه البلاد؟ أليست بلاد الإسبان، والبرتغال، والفرنسيين، والإيطاليين مسخرة في طاعة حكام مستبدين؟ أليست إنجلترا تسوم ملاحيها سوم العبيد وتقبض عليهم حكومتهم كما تشاء لتحبسهم في سفن الحرب وتكرههم لا على العمل وحسب، بل على القتال من أجل رزق قليل أو مئونة تسد الرمق ولا تفضل في شيء ما نسمح به نحن للعبيد. فهل تسوء أحوالهم إذن لأنهم يقعون في أيدينا؟ كلا. بل قصارى الأمر أنهم يستبدلون رقا برق، وأقول: إنه لرق خير من رقهم لأنهم يعيشون هنا حيث تشرق شمس الإسلام في روعتها وبهائها، وحيث تتاح لهم الفرصة للاهتداء إلى الدين الحق والنجاة بأرواحهم من الهلاك. أما الذين يمكثون منهم في أرضهم، فلا أمل لهم في هذه السعادة، ولن يكون إرسال العبيد من بلادهم إلا كإخراجهم من النور إلى الظلمات.

وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يصير من أمرهم؟ لقد سمعت من يقول أنهم يرسلون إلى القفار حيث تتسع الأرض لمعيشتهم ويقيمون أحرارا في أرضهم. على أنني أحسبهم لا ينشطون لعمل قط ما لم يدفعوا إليه على الرغم منهم، وإنهم لأغبى من أن ينهضوا بحكومة حرة لحكم أنفسهم، ولن يلبثوا أن يغير عليهم الأعراب من أهل البادية فيستعبدوهم، ولكنهم حين يقيمون في خدمتنا يلقون منا الرفق وحسن الرعاية على سنة الرحمة والمروءة، وليس للعمال في أوطانهم كما أعلم نصيب من ذلك، بل هم على نصيب قليل من الغذاء والمسكن والكساء، فهم على هذا تصلح أمور الأكثرين منهم بيننا، ولا حاجة بهم إلى ترفيه أو إصلاح حال؛ إذ هم هنا في أمان لا يجبرون على الجندية ولا على أن يعمل المسيحيون منهم في قطع رقاب إخوانهم المسيحيين كما يحدث فيما يشجر بينهم من الحروب. فإذا كان أناس من هؤلاء المجاذيب الذين يحتجون بالغيرة على الدين فيما بيننا قد حسن لديهم أن يرفعوا العرائض تترى للإفراج عن هؤلاء الأسارى فما كان ذلك من كرم فيهم ولا من مروءة ورحمة، وإنما هي أعباء ذنوبهم وخطاياهم يرزحون بها ويخيل إليهم أن هذا المطلب خليق - لما يتوهمونه من إحسانه وفضله - أن ينجيهم من الهلاك وسوء الجزاء .

وما أضل هؤلاء المتهوسين حين يحسبون أن الاسترقاق محرم في القرآن؟ أليس أمر السادة بالرفق وأمر العبيد بالطاعة والأمانة نصا على جواز الاسترقاق؟ كذلك لا يحرم في الكتاب سلب الكفار؛ لأن المعلوم منه أن الله قد وهب الدنيا وكل ما فيها لعباده المؤمنين يغتنمون ما افتتحوا منها.

فلا نستمعن بعد الآن لذلك الطلب البغيض، ولنعلمن أن إطلاق الأرقاء النصارى يسلط الكساد والخراب على أراضينا وبيوتنا، ويحرم الكثيرين من رعايانا الأمناء طيبات أرزاقهم، فيثير القلق في النفوس، ويغري المتذمرين بالفتنة، ويزعزع مكانة الحكومة، ويعم الديار بالفوضى والاضطراب، ولا يخامرني الشك - لهذا - في أن هذا المجلس الحكيم يؤثر سعادة الأمة المؤمنة كلها على إرضاء فئة من أبناء الطريق، ويعرض عما يطلبون.

ولقد كان من أثر هذا الكلام، كما أنبأنا مارتن في سجله، أن الديوان انتهى إلى هذا القرار:

إن القول بأن سلب النصارى واسترقاقهم ظلم ومجافاة للعدل، إنما هو على الأقل من الأقوال المختلف عليها، ولكنه من الواضح أن الإبقاء على هذه الحالة في مصلحة الدولة. فلا تقبل تلك العريضة بناء على هذا الاعتبار.

وعلى هذا رفضت العريضة.

ولما كانت البواعث المتشابهة تميل بعقول الناس إلى ما يشببها من الآراء والقرارات، أفلا يجوز لنا - يا مستر براون - أن نستخلص من ذلك أن العرائض التي أرسلت إلى برلمان إنجلترا لإلغاء النخاسة، ولا نذكر ما عدا ذلك من المطالب، وشيكة أن تصير كما تصير المناقشات فيها إلى مصير كهذا المصير.

إنني يا سيدي قارئك المثابر وخادمك المتواضع:

3

مؤرخ.

معاهدة مع سيدة

وهذه رسالة من نوع آخر غير الرسائل إلى الصحف، وغير الرسائل إلى سائر الأشخاص، كتبها إلى السيدة بريون

Brillon

إحدى سيدات المجتمع الرفيع في باريس، وكان يكتب إليها باللغة الفرنسية فتصحح له أخطاءه وتدربه على التعبير الفصيح في الكتابة والكلام بتلك اللغة، وقد كتبت إليه من نيس تعاتبه؛ لأنه انصرف عن الاهتمام بها في غيابها ووجه التفاته إلى سيدات غيرها، وكان الخطاب في صيغة المراسم الدولية، فكتب إليها الرد في صيغة معاهدة سياسية وقدم لها بفاتحة تمهيدية (بروتوكول ) فقال:

باسي، في 27 من يوليو سنة 1782

ما أبعد الفارق بينك وبيني! إنك تعدين عيوبي كثيرة حتى لقد تربى على الإحصاء، وأنا لا أرى لك إلا عيبا واحدا لعله من عيوب نظارتي، ذاك ضرب من الطمع يوحي إليك أن تعظمي عاطفتي وتستأثري بها وحدك، حتى لا بقية فيها لواحدة من سيدات وطنك المحبوبات، وكأنك تحسبين أنها من العواطف التي لا تقبل القسمة إلا نقصت وتفرقت، وهي غلطة في الحساب وفي النظر إلى طبيعة الموقف الذي وقفتني فيه وقضيت به علي. فإنك تجردين حبنا من كل صلة جسدية غير ما يكون من عناق كعناق أولاد العم عند مقدمهم من الريف. فماذا بقي من العاطفة مما يسوغ لي أن أتجه به إلى الأخريات دون أن يغض ذلك أو ينقص من محبتي إياك؟ إن خطرات الفكر، والتقدير، والإعجاب، والتوقير، بل العطف نفسه على موضوع من موضوعاته ليقبل المضاعفة والزيادة كلما تضاعفت تلك الموضوعات وازدادت دون أن يخل ذلك بحق صاحب العطف الأصيل، أو يسوغ له الشكاية من ضرر. وإنه لفي طبيعته من قبيل تلك الألحان العذبة التي توقعينها على المعزف ببراعتك الألمعية، ويستمع لها عشرون، فيغتبطون بسماعها، ولا يغض ذلك من نصيبي الذي تريدين أن يخصني منها، وقد يحق لي إذن أن أطالبك بمنعها أن تصل إلى أذن غير أذني. وسترين على هذا كيف جاوزت بمطالبك حد العدل والنصفة، وزدت عليها إعلان الحرب علي إن لم أذعن لجميع تلك المطالب، ولو أنصفتني لكان من حقي أنا أن أشكو إليك. وها هو ذا ولدي الصغير لم يسمن ولم يكتنز كعهدي بالأطفال في رسومك الرشيقة، بل هو يهزل ويتضوع إلى غذائك المريء الذي تنكرينه عليه أنت أمه الحنون، ثم هأنتذي تتوعدينه بقص جناحيه كي يقعد عن البحث عنه في مكان.

ويخيل إلي أن الحرب التي تشهرينها لا أغنم منها ولا تغنمين، ولما كنت أنا الأضعف وجب علي أن أصنع ما يصنعه الأحكم، وأن أبدأ بطلب الصلح، ولا ضمان لدوام الصلح إلا أن تصاغ شروطه في قالب الإنصاف وتبادل الرضا والموافقة، وهذه هي مواد المعاهدة التي أعرضها للقبول والإبرام:

المادة الأولى:

يتقرر السلام الدائم مع الحب والصداقة بين الطرفين مدام بريون، ومستر فرنكلين.

المادة الثانية:

لدوام هذه العلاقات تقبل المدام من جانبها أن يكون مستر فرنكلين على استعداد لتلبية الدعوة كلما خطر لها أن تدعوه إلى حضرتها.

المادة الثالثة:

على مستر فرنكلين أن يبقى بعد حضوره طالما سمحت له بالبقاء.

المادة الرابعة:

إذا وجد معها فعليه أن يتناول الشاي، وأن يلعب بالشطرنج، وأن يستمع إلى الموسيقى، وأن يستجيب لكل أمر يصدر إليه من جانبها.

المادة الخامسة:

عليه ألا يحب امرأة قط غيرها.

المادة السادسة:

والمذكور فرنكلين يتعهد من جانبه أن ينصرف من عندها حين يشاء.

المادة السابعة:

ويتعهد المذكور أيضا بالتغيب كما يشاء.

المادة الثامنة:

وأن يفعل ما يشاء حين يكون في حضرتها.

المادة التاسعة:

وألا يحب امرأة أخرى إلا بمقدار ما عندها من دواعي المحبة.

وأرجو أن أسمع رأيك في هذه القواعد المبدئية، وفي رأيي أنها أصدق تعبيرا عن المقاصد والنيات التي يرضاها الطرفان من أكثر المعاهدات، وبودي أن ألح وأصر على قبول المادة الثامنة، وإن لم يكن أملي عظيما في قبولها، وكذلك ألح وأصر على قبول المادة التاسعة، وإن كنت على يأس من لقاء المرأة التي تستولي مني على حب يضارع حبي إياك أيتها الصديقة الغريرة العزيزة.

4

للمخلص ب. ف.

بين العلة والمريض

وكان السيد بريون قرين السيدة بريون يشكو مرض النقرس الذي أصيب به فرنكلين وحاول كعادته أن يلطف ألمه باستخراج العبرة منه، فكتب الحوار الآتي مع رسالة إلى السيدة للتسرية عن قرينها في مرضه، وتكلم عن النقرس بضمير المؤنث وسماه السيدة على سبيل التهكم، فترجمناه بأم النقارس لتصوير العلة في هذه الصورة بقدر المستطاع:

فرنكلين :

آه. آخ. يارب. ماذا تراني صنعت كي أستحق هذه الآلام القاسية.

أم النقارس :

صنعت كثيرا. أكلت أكلا لما، وشربت شربا جما، واستسلمت لكسل قدميك فتركتهما في متعة الراحة الزمن الطويل.

فرنكلين :

من ذا يكلمني ؟

أم النقارس :

إنني أنا نفسي أم النقارس.

فرنكلين :

عدوي بعجره، وبجره.

أم النقارس :

لست بعدوك.

فرنكلين :

بل عدوي المبين؛ فإنك لا تقنعين بقتل جسدي بآلامك المبرحة وحسب، بل أراك تعملين على تشويه سمعتي الحسنة، وتتهمينني بالنهم والإدمان، وكل من عرفني فقد عرف أنه ما من أحد قط رماني بهذه التهمة وزعم أنني أفرط في الطعام أو الشراب.

أم النقارس :

ليحكم الناس كما يحبون، فما أكثر مجاملة الإنسان لنفسه في هذه الأيام! وما أكثر مجاملة الأصدقاء للأصدقاء! إلا أنني أنا أعلم أن الطعام الذي لا يحسب كثيرا، وأن الشراب الذي لا يحسب لذلك بالنظر إلى إنسان كثير الحركة، لهو الإفراط بعينه حين يتعاطاه رجل قليل الحراك.

فرنكلين :

إنني، آه، آخ، إنني أتريض جهد ما أستطيع يا سيدتي أم النقارس، وإنك لتعلمين طبيعة حياتي «القاعدة»، فكان في وسعك يا سيدتي أم النقارس أن تحسبي حسابها، وتعفيني من الألم بعض الإعفاء؛ إذ لم تكن غلطتي أنا أن أعمل في استقرار.

أم النقارس :

أبدا، إن منطقك ولباقتك عبث ضائع، ومعاذيرك لا تساوي قطميرا في هذا المقام، فإنك إذا كان عملك ساكنا مستقرا فقد وجب أن تكون رياضتك وتسلياتك متحركة ناشطة، عليك أن تخرج للرياضة على قدميك أو على ظهر جواد، وإذا عز عليك الوقت فتريض بلعب البليار، فتعال نحاسبك على منهج حياتك، وكيف تتصرف في قضاء أوقاتك، يكون لديك الكفاية من الوقت بعد منتصف النهار وعند الأصيل، فماذا تراك تصنع في هذه الساعات؟ إنك بدلا من شحذ الرغبة في الطعام بالرياضة الصالحة تدأب على تسلية نفسك بقراءة الكتب، والرسائل، والصحف التي لا تستحق في كثير من الأحيان أقل التفات. ثم تتناول الغداء الفخم، وتجرع أربعة أكواب من الشاي والقشطة مع قدتين من الخبز والزبدة عليها قطعة من لحم البقر مما لا يحسب فيما أرى من الطعام اليسير الخفيف على البطون. ثم تذهب إلى مكتبك على الأثر حيث تكتب أو تتحدث إلى الذين يزورونك في شئون العمل، وتمضي على ذلك إلى الساعة الواحدة دون أن تروض بدنك أقل رياضة على أنني قد أغفر لك هذا؛ لأنه كما تقول من طبيعة عملك القرير، ولكن تعال نسألك ماذا تصنع بعد الغداء؟ إنك بدلا من التمشي في حدائق أصحابك الذين تتغذى عندهم كما يصنع أولو الفهم والفطنة، ترسخ على المقعد أمام الشطرنج حيث يستطيع من شاء أن يراك مستطردا في اللعب ساعتين أو ثلاث ساعات. وتلك هي رياضتك الأبدية، وهي أقل الرياضات موافقة لأصحاب العمل القرير؛ لأنها لا تساعد حركة الأخلاط البدنية، بل تتطلب الثبات والانتباه الطويل الذي يعطل تلك الحركة، وكذلك تتلف بنيتك بالاستغراق في تلك اللعبة التعسة، فكيف يتوقع أحد أن يعيش تلك العيشة دون أن تركد أخلاط بدنه وتتعرض للفساد، ويصبح البدن من جراء ذلك عرضة لجميع الأدواء العضال إن لم أحضر إليك - أنا أم النقارس - بين حين وحين كي أهيج أخلاطك فأصفيها أو أنقيها. ولو أنك في زاوية من زوايا باريس بين الأزقة التي لا تتخللها طرق الرياضة تقضي في لعب الشطرنج، لجاز لك أن تتمحل تلك المعاذير، ولكنك تفعل هذا في باسي، وفي أوتيل، وفي مونمارتر، وفي إيباني، وفي سانوا حيث تكثر الحدائق والمنازه والنساء، وينطلق الهواء النقي والأحاديث الممتعة النافعة، وتستمتع بذلك كله وأنت سائر على قدميك. غير أنك تهملها جميعا حبا لتلك اللعبة التعسة لعبة الشطرنج. تعسا لك إذن يا سيد فرنكلين! إنني نسيت نفسي وأنا ماضية في نصحك. فخذ الساعة هذه القرصة، وخذ معها تلك، وخذ.

فرنكلين :

آه، آه، أوه، هات بربك ما شئت من نصائحك، بل من لواذعك، ولكن بربك لا تزيديني من هذه التقويمات والتصحيحات!

أم النقارس :

على النقيض يا صاح. لن أعفيك من هباءة منها؛ فإنها لمصلحتك. خذ!

فرنكلين :

أوه، إيه، من الظلم يا سيدتي أن تقولي أنني لا أتريض، فإنني لآخذ رياضتي في مركبتي حين أذهب إلى الغداء وحين أعود.

أم النقارس :

تلك بين جميع الرياضات أقلها نفعا وأهونها حركة؛ إذ تهتز المركبة على دواليبها ولا زيادة. ولك أن تحكم على مبلغ الرياضة في الحركة بمبلغ ما تحدثه تلك الحركة من الحرارة. فإنك إذا خرجت للرياضة في الشتاء وقدماك باردتان لم تلبث ساعة حتى تشعر بالحرارة في قدميك وجميع أجزاء بدنك، وإذا ركضت على ظهر الجواد، فأنت في حاجة إلى ساعات أربع للظفر بمثل تلك الحرارة، ولكنك إذا جلست في مركبتك فربما قضيت اليوم كله وانتهيت إلى قرارك وأنت بارد القدمين. فلا تخدعن نفسك إذن وتقضين نصف ساعة في مركبتك، ثم تسمينها رياضة، وما منح الله كل من هب ودب مركبة يمتطيها، ولكنه منح كل إنسان قدمين أكمل، وأجمل، وأنفع، فاجعل من شكرك لله على هذه المنحة أن تستخدمها وتنتفع بها. وفي وسعك أن تعرف كيف تتحرك أخلاط الجسم وأنت تتنقل من مكان إلى مكان. فلاحظ أنك حين تمشي على قدميك ينتقل ثقل جسمك كله دواليك تارة إلى الجانب الأيمن وتارة إلى الجانب الأيسر وتضغط هذه الحركة على عروق القدم وتدفع منها ما تحتويه، ويتسع الوقت لامتلاء العروق مرة أخرى ريثما يتم التحول من قدم إلى قدم، فيتم بذلك انتظام الدورة في الجسم، ومن هنا تأتي الحرارة التي تنشأ في لحظة من الزمن، وتنشط الأخلاط وتجري الأمزجة مجراها فيجري كل شيء على ما يرام؛ تحمر الوجنتان، وتتمكن العافية.

ولتنظر إلى صديقتك في أوتيل - تلك المرأة التي تلقت من الطبيعة نصيبا من العلم الحق أوفر من أنصباء ستة منكم أدعياء الحكمة الذين يقتبسونها من الكتب، فإنها حين تنوي أن تشرفكم بزيارتها تمشي على قدميها من الصباح إلى المساء، وتدع أمراض الكسل كلها تتوزع بين خيلها، فانظر كيف تحافظ على صحتها بل على محاسنها، وأنتم تنوون زيارة أوتيل ففي المركبة تذهبون، ولا فرق بين المسافتين: من أوتيل إلى باسي، أو من باسي إلى أوتيل.

فرنكلين :

إنك تضجرينني بهذا الجدل.

أم النقارس :

صدقت، سأمسك لساني وأمضي في أداء واجبي، خذ هذه الوخزة، وخذ هذه، وخذ.

فرنكلين :

أوه، أوه، لا بل تكلمي، تكلمي، أتوسل إليك تكلمي.

أم النقارس :

كلا، إن عندي حفنة من الوخزات حصتك في هذه الليلة، والبقية إلى الغد.

فرنكلين :

رباه، هذه هي الحمى، لقد هلكت، ألا يوجد أحد يحمل عني هذه الآلام.

أم النقارس :

اطلب هذا من خيلك. فإنها تتعب لتمشي في مكانك.

فرنكلين :

ما أشد قسوتك، تعذبينني كل هذا العذاب لغير سبب.

أم النقارس :

أما لغير سبب فلا، وإن لدي لثبتا وافيا أحصي فيه جميع خطاياك في حق صحتك، وكلها مسطرة في وضوح، وما من وخزة تتلقاها مني إلا وعندي عليها برهان.

فرنكلين :

اقرئيه إذن.

أم النقارس :

إنه شرح يطول، وسأريكها بعرضها عليك.

فرنكلين :

افعلي، فكلي أسماع.

أم النقارس :

أتذكر كم مرة عزمت على التمشي في غاب بولون، أو حديقة الصيد، أو حديقتك وانثنيت عن عزمك، تزعم تارة أنه برد، وتارة أنه حر، وفي ساعة أخرى أنها ريح، أو أنها رطوبة، أو أنها ما لست تدري ماذا من التعديلات؟ تزعم ذلك وما في كل أولئك من سبب إلا السبب الوحيد: وهو أنك كسلان!

فرنكلين :

أعترف بأن هذا يحدث، لعله عشر مرات في كل سنة.

أم النقارس :

اعتراف أبتر، والحق أنه يتضاعف مائة مرة وتسعا وتسعين.

فرنكلين :

أيمكن هذا؟

أم النقارس :

نعم ممكن؛ لأنه واقع، ولك أن تطمئن إلى صدق كل ما أقول، وأنت تعرف حدائق مدام بريون، وتعلم أنها ما أصلحها للسير فيها، إنك تعرف الدرج الذي تعد منه مائة وخمسين من الأرض إلى المرتقى الأعلى، وإنك لتزور هذه الأسرة المحبوبة مرتين كل أسبوع فيما بعد الظهيرة، وإنك لأنت القائل: إن «التمرين» على صعود الدرج ونزوله أكبر من التمرين على المشي في السهول. فما كان أجمل الفرص التي تتيح لك أن تجمع بين هذا التمرين وذاك التمرين. فهل انتفعت بهما؟ وكم مرة يا ترى؟

فرنكلين :

لا أقدر على الجواب الصحيح عن هذا السؤال.

أم النقارس :

إذن أتولى أنا الجواب عنك، ولا مرة!

فرنكلين :

ولا مرة؟

أم النقارس :

نعم ولا مرة؛ ففي أيام الصيف الماضي الجميل وصلت ثمة عند الساعة السادسة، ووجدت ثمة تلك السيدة المليحة وأطفالها الحسان وأصحابها جميعا على استعداد لمزاملتك في السير وإمتاعك بأحاديثهم الرائقة. فماذا صنعت؟ جلست على الشرفة وأثنيت على المنظر الجميل، وعاينت جمال الحدائق من تحتك ولم تخط خطوة واحدة لتهبط إليها وتسير فيها، وعلى نقيض ذلك طلبت الشاي ورقعة الشطرنج ورسخت في مجلسك حتى الساعة التاسعة، ولعبت نحو ساعتين بعد تناول الطعام، ولم تعد بعد ذلك إلى منزلك مشيا كي تتحرك بعض الحركة، بل عدت إليه جالسا في مركبتك. فأية حماقة تلك التي تسول لك أن تظن أنك مع هذا الشطط تملك صحتك بغير زاجر مني.

فرنكلين :

الآن أومن بصواب ما قال ريتشارد المسكين حيث يقول: إن ديوننا وخطايانا أكثر مما نحسب.

أم النقارس :

ذلك حق، وهكذا أنتم معشر الفلاسفة تملئون أفواهكم بالحكمة، وتعملون عمل الجهلاء.

فرنكلين :

ولكن أتراك تعدينها من جناياتي، أنني عدت بالمركبة من عند مدام بريون؟

أم النقارس :

بكل يقين، لأنك قضيت اليوم جالسا ولا يسعك أن تزعم أنك قد تعبت من الجهد والمشقة، أو أنك في حاجة إلى الترفيه عنك بالجلوس في المركبة.

فرنكلين :

فماذا تقترحين إذن، وماذا ترين أن أصنع بمركبتي؟

أم النقارس :

احرقها إن شئت، إنها تعطيك على الأقل شيئا من الحرارة وهي محترقة! وإن كانت هذه النصيحة لا تروقك فإني باذلة لك غيرها. انظر إلى الفلاحين المساكين الذين يحرثون الأرض في الكروم والحقول حول قرى باسي، وأوتيل، وشايوت. إنك سترى كل يوم بين هؤلاء الخلائق المساكين خمسة أو ستة من الشيوخ أو العجائز قد انحنت ظهورهم ورزحوا تحت وقر السنين في الكدح والمشقة، وهم بعد العمل المجهد طوال اليوم يمشون ميلا أو ميلين كي يصلوا إلى أكواخهم المصدعة، فمر سائقك أن يدعوهم إلى المركبة ويحملهم إلى بيوتهم، فإنه لعمل صالح تدخره لنجاة روحك، ولئن عدت في الوقت نفسه على قدميك من عند السيدة بريون ليكونن ذلك عملا صالحا تدخره لجسدك.

فرنكلين :

آه، ما أثقل حديثك!

أم النقارس :

نعود إذن إلى شغلنا. فلتذكر دائما أنني أنا طبيبتك خذ هذه!

فرنكلين :

آه، أوه، يا لك في طبك من شيطانة!

أم النقارس :

إنك لتنكر الجميل إذ تقول ذلك عني. ألست قد أنقذتك من الشلل بالقيام على تطبيبك؟ ألست قد أنقذتك من أدواء الاستسقاء أو الفالج التي كانت وشيكة أن تقضي عليك لو لم أمنعها.

فرنكلين :

أعترف بذلك، وأشكرك على ما أسلفت، ولكني أرجوك الآن بربك أن تفارقيني فراق الأبد؛ فقد يلوح لي أن الموت أهون من علاج فيه مثل هذا الوجع، واذكري كذلك أنني كنت صديقك، وأنني لم أدع أحدا لمصارعتك ومنازعتك لا من الأطباء ولا من الرقاة والممخرقين، فإن لم تفارقيني الآن فأنت خليقة كذلك أن تتهمي بالجحود.

أم النقارس :

لا أخالني شاكرة لك كثيرا على هذا؛ فإنني لأهزأ بالرقاة والممخرقين، وإنهم لقادرون وعاجزون عن المساس بي في كثير أو قليل. وكم من طبيب حق الطبيب يعرف أخيرا هذه الحقيقة التي تقول له: إن النقرس ليس بالداء، ولكنه ضرب من الشفاء، ولا لزوم لتعويق أسباب الشفاء، ولنرجع - بعد - إلى عملنا، خذ هذه.

فرنكلين :

أوه آه، سألتك بالله إلا ما تركتني وأنا واعدك منذ اليوم ألا ألعب بالشطرنج، وألا أدع الرياضة كل يوم، وأن ألزم الاعتدال مدى الأيام والليالي.

أم النقارس :

أعلم أنك ستفعل، وأنك تعد الوعود الجميلة وما تلبث بعد أشهر قلائل في الصحة والعافية أن تعود إلى عاداتك ومألوفاتك وتذوب وعودك الجميلة، كما ذابت ثلوج السنة الغابرة. فلنعد إلى حسابنا ولنوازن بين كسبنا وخسارتنا، ثم إني بعد ذلك تاركتك على يقين من الرجعة إليك في الوقت اللازم وفي المكان الملائم، فإنه لمن مصلحتك، وإنني لك كما تعلم لنعم الصديق!

5

الرفق بالحيوان

وكتب فرنكلين إلى السيدة هلڤيتس

Helvétius

قرينة الفيلسوف المعروف رسالة بلسان قططها حين علم أنها تنوي أن تتخلص منها بمشورة بعض أصدقائها من القسس؛ لأنها تغير على أقفاص الطير التي تربيها في قصرها، فأرسل إليها هذه العريضة بلسان القطط تتوسل إليها أن تبقي عليها. فقال:

حضرة السيدة النابهة العلية الشأن والمقام

بلغتنا الساعة نبذة من خبر مرعب نغص علينا سعادتنا التي ننعم بها في حظائر الطير والغاب لديك. بلغنا أنك لما سمعته من بعض الوشايات من أعدائنا (الأب موريليه ، والأب روس) قد حكمت علينا بالنفي، وأننا سنعتقل بوسيلة شيطانية، ونحبس في باطية، ويقذف بنا إلى أعماق النهر، حيث نترك فيه لرحمة الأمواج، وإننا لنسمع في هذه اللحظة التي نكتب فيها هذه العريضة المتواضعة ضربات المطارق في أيدي الحوذية الذين عهد إليهم بصنع الآلة الجهنمية التي فيها هلاكنا.

ولكن - سيدتنا علية الشأن - أتسمحين أن يقضى علينا هكذا دون أن يستمع للدفاع من جانبنا؟ وهل تريننا وحدنا من الذين تطعمينهم وتغذينهم نحرم ما في صدرك الحنون من العطف والشفقة؟ إننا نرى يدك الكريمة كل يوم تطعم مئات الفراخ، والكنار، والحمائم التي لا عداد لها، كما تطعم عصافير الجيرة أجمعين، وأسراب الشحارير في غاب بولون، بل تسخو بالطعام والشراب حتى للكلاب في هذه الرحاب، فهل نحن وحدنا نحرم هذه الخيرات من يدك ولا يكفينا هذا، بل نصبح دون غيرنا هدفا للقسوة التي لا مكان لها بين مآثرك وسجاياك؟ كلا، إن سجاياك التي انطوت عليها فطرتك البارة ستعيد إلى قلبك من عواطف الحنان ما هو أشبه بهذا الحنان.

وا أسفاه! ما هي جرائمنا التي اجترحناها؟ إننا نتهم - وما أكثر ما تفعله الوشايات والتهم - أننا نأكل الفراخ الصغار، ونغير من حين إلى حين على الحمائم، ونرقب طيور الكنار حتى تدنو منا فنقبضها وندع الفيران تعيث في دارك آمنة مطمئنة!

لكن هل يكفي مجرد الاتهام للإدانة بالإجرام؟ إننا لنستطيع أن ندحض هذه التهم جميعا في غير عناء، وينبغي أولا ألا ننسى أنها لا تقوم على بينة أو برهان.

فإذا سلمنا أن هناك بقية من أجل الحمائم وريشها تقدم في معرض البينة على إدانتنا، فهل تصلح هذه البينة للإدانة أمام محكمة من المحاكم على وجه الأرض كلها؟

إن الجرائم يخلقها العوز، والحاجة، ونحن بحمد الله في رحابك ثماني عشرة قطة ننعم بالخير الجزيل، ولا نشعر بالعوز ولا بالحاجة؛ فهل يعقل مع هذا أن نخدش اليد التي تطعمنا؟ ألم تبصري بعينيك فراخك تدنو منا، وتأكل معنا في صحافنا، ولا تعترضها حركة مسيئة من جانبنا؟ وإذا قيل لك أننا لا نلتهم الفراخ ونحن نحس رقابة الأعين علينا، وإننا تحت جنح الظلام نجترح ما نجترح من جرائمنا، فإنما هم أعداؤنا الذين يستترون بجنح الظلام لافتراء الأقاويل علينا، ويحق لنا أن نرميهم بذلك؛ لأنهم ينسبون إلينا الجرائم الليليلة التي يدحضها مسلكنا في وضح النهار.

وقد يقول أعداؤنا: إن حظائر سيدتنا العلية الشأن تكلفها خمسة وعشرين لويزا ذهبا (أي ستمائة ليرة في العام) وإنها لا تأكل منها أكثر من خمسين، يحسب ثمن الواحدة باثنتي عشرة ليرة لحسن تدبيرها وعنايتها بنفقتها، فأين تذهب البقية يا ترى؟

ولنا أن نسأل أولا، هل عدت الفراخ وسلمت إلينا فنحن مسئولون عنها؟ وهل نحن دون غيرنا موضع الشبهة بين أولئك الأعداء المحيطين بها وأولهم أبناء آدم وحواء الذين يخالون أن الفراخ لم تخلق في هذه الدنيا إلا ليأكلوها؟ في كل يوم من أيام الآحاد يقدم على باب غاب بولون وفي منتديات أوتيل مئات من صحاف اللحم المفروم. أفلا يجوز أن يكون بعض فراخك قد تسرب في لطف إلى تلك المنتديات؟ إن كان ذلك كذلك، فلم نكن نحن يقينا من يتولى تسليمها إلى أصحاب المطاعم والحانات.

وبعد، فنحن لا نريد أن نقف موقف الاعتذار لسارقي الدجاج، ولكنك - سيدتنا - تسمحين لنا أن نلاحظ أن فراخك على اختلاف الأسباب التي تنقصها وتقلل من عددها، إنما يجري هذا النقص فيها على سنن الطبيعة، ويعود عليك بالراحة والرضا؛ لأنه يحد من تكاثر نوعها وزيادتها على مقدارها، ولو أنها تركت تنمو وتتكاثر بغير حد مقدور لم يبق في رحابك متسع لها، ولم تترك لك فترة للراحة من رعايتها.

أما الحمائم، فليسمح لنا أن نقول: إن فراخا عدة من نسل «كوكو»

6

قد غابت حقا، ولكن هذا - مع عطفك عليه إلى الحد الذي يبيح له أن يحطم خزفك الغالي ما دام يلقط الحب من يدك - لن يرضيك عن ظلمنا واتهامنا في غير بينة. فأين هو الدليل الذي يثبت علينا أننا اعتدينا على ولد واحد من ذريته؟ وهل يحدث بين نوعنا ونوعه أن نتقارب ونتلاقى ؟ ألا يزال على نأيه عنا والتجائه إلى السقوف والقمم لاتقائنا مما يجيز لنا أن نغضب لكرامتنا؟ إننا لنرجو أن نفتش حظيرة الغاب في الربيع القادم، ونحن كفيلون في حالة الكشف عن جريمة من جرائم الغيلة أن نسلم الجناة إلى أيدي العدالة. لكن الحمائم ليست مثلنا - نحن معاشر القطط المساكين - مرتهنة بالأرض التي ولدنا عليها، وقد تلوذ بالهواء وتطير إلى مكان قصي غير هذا المكان، وربما غار بعضها من إيثار فريق منها لديك على فريق، فغادرت الديار طلبا للمساواة في وكن جمهوري من أوكان الطيور، مؤثرة هذا الفرار على البقاء في الديار، على مشهد من كبرياء (كوكو) الثرثار.

أما التهمة التي رمينا بها من أجل طيور الكنار، فإنك لترين عفوا بغير عنت أنها محض سخافة وتلفيق؛ فإن فتحات القفص الكبير الذي تقيم فيه أضيق من أن تتسع لمدخلنا، وربما خطر لنا من باب اللعب واللهو أن نزج بأيدينا خلالها، فلا نقدر على إخراجها بعد ذلك بغير جهد ومشقة، وقد يحدث أحيانا أن نسري عن أنفسنا بالنظر إلى تلك الخلائق الصغيرة البريئة، ولا نذكر أننا ندين أنفسنا بإهدار قطرة واحدة من دمها.

ولسنا نحاول أن ندافع بمثل هذا الدفاع عن أنفسنا فيما يخص العصافير، والشحارير، والزرازير التي نتمكن من اقتناصها، إلا أننا نسوق في مساق المعاذير أن عدوينا الأبوين طالما اشتكيا هذه الطيور، واستنكرا منها تلك المتالف التي تصيب بها أشجار الكراز والثمرات، وكثيرا ما سمعنا الأب موروليه يصب اللعنات على الشحارير، والزرازير التي تغير على كرومك بغير رحمة، وتصنع مثل صنيعه بتلك الكروم، ونحن نرى - سيدتنا علية الشأن - أن العنب أهل لأن تأكله الشحارير كما تأكله الآباء، وأن حملتنا على النابهين المجنحين تذهب سدى إن كنت مع هذا تشجعين النابهين بغير ريش على انتهاب أضعاف ما ينتهبه المجنحون.

وإننا لنعلم أننا متهمون كذلك باقتناص البلابل التي تغرد تغريدها الجميل كما يقولون، ولا تنتهب شيئا من البستان. ويجوز أننا من حين إلى حين نطرف حلوقنا بلقمة سائغة من هذا النصيب، ولكننا نؤكد لك أننا نفعل ذلك عن جهل منا بعطفك على هذه الفصيلة، وأنها لمشابهتها بعض العصافير، والزرازير الأخرى يلتبس علينا الأمر بينها، ولا ندعي لأنفسنا من الخبرة بفن الموسيقى ما نفرق به بين الزقاء والغناء، فنأكلها ونحن نحسبها من تلك الزمرة المستباحة لنا. وقد سمعنا من قطة عند الموسيقار بيشيني

أن الخلائق التي لا تحسن من الأصوات غير المواء، لن تكون حكما خبيرا بأصوات الغناء، وعلى هذا نعول في تسويغ ذلك «الاعتداء».

على أننا منذ اليوم سنبذل غاية الوسع في التمييز بين الجلكيين؛ وهم العصافير، وبين البشينيين؛ وهم البلابل فيما يروي العارفون،

7

ولا نلتمس إلا العفو عن خطئنا إذا اتفق في جولة من جولاتنا بين الأعشاش أن نعثر على طائفة من البشينيين لم ينبت لها الريش بعد ولم يسمع لها صوت في الغناء، فلا تميز بينها وبين طائفة الجلكيين.

وخاتمة التهم التي نرمى بها - سيدتنا علية الشأن - أننا نترك دارك عرضة لذلك الجيش من الفيران يغير عليها في أمان، ويقال: إنها تقرض المقادير الجمة من السكر، والحلوى، وتعدو على كتب علمائك وحكمائك وتجترئ حتى على قرض أخفاف وصيفتك القديمة الآنسة لويلييه وهي تلبسها وتمشي فيها.

ويقال في سياق الاتهام: إن العناية الإلهية التي ترعى جميع خلائقها في الحقيقة على السواء لم تخلق القطط إلا لاصطياد الفيران، فإن هي قصرت في هذه المهمة فلا جزاء لها على التقصير في رسالتها الإلهية غير الإغراق.

والحق - يا سيدتنا العلية الشأن - إنه لمن أيسر الأمور أن تنكشف هذه التهمة عن أهواء أعدائنا وأغراضهم الشخصية، فإن السيد كابانيس نزيل قصرك الذي لا يزال على استعداد لاختلاس قالب من السكر كلما سنحت له الفرصة، لذو مصلحة عظيمة في إقناعك بجسامة جشع الفيران كلما قرضت قطعة من السكر، أو شرعت في لحس قدر من المربى قبل أن يصل إليها، غير أنه يفتر عن القسوة - لا عن الغرض فحسب - إذ يقضي علينا بالموت؛ لأننا لا نحول بين تلك الخلائق الصغار التي تغتنم ما تقدر عليه من الفرصة لاستغلال خطة النهب التي يقترفها - على جلالة قدره - كل يوم بغير أسف وبغير ندم، أفي وسعه يا ترى أن يشتط في قسوته وراء هذا الشطط لو أننا نحن كنا مثله ومثل الفيران من آكلات السكر والمربى؟ ألا يظهر من هذا جليا أن النهم وحده هو الذي يوحي إليه بمثل تلك البواعث النفسية المنكرة، وهل تسمحين أنت أن تفسحي لها مكانا في صدرك الحنون؟

أما كتب الأب دي لاروش وزميله العالم الآخر الذي اطلعنا على خطابه في الأكاديمية في صحيفة لففت بها الرقائق التي أنعمت بها علينا من لحم العجل، فأي ضرر يا ترى في إقدام الفيران على قرضها من حين إلى حين؟ وما هي جدوى ذلك الاطلاع الواسع على أولئك العلماء؟ أفما يحق لهم أن يعلموا - وقد عاشوا معك - أنه لا جدوى من كل معرفة؟ إنهم يعلمون أنك طيبة خيرة بغير اطلاع على المقولة في أصول الأخلاق، ويعلمون أنك مليحة الشمائل بغير اطلاع على كتاب مسجلنا التاريخي منكريف الذي سماه صناعة الإرضاء والإعجاب، ويعلمون أنك سعيدة بغير اطلاع على مقولة السعادة التي ألفها التعس موبرتويس

Maupertius . وإنهم لشهود يوميون على مبلغ جهالتهم وهم العلماء بكل تلك المعارف عاجزون عن تحصيل تلك المعرفة التي تعرفينها جيدا، وهي القدرة على الاستغناء عن كل معرفة، إن علمك بالهجاء كعلمنا، وإن خطك يشبه كثيرا أنابيش أيدينا، وإنك تخطئين في هجاء كلمة السعادة، ولكنك تستمتعين بالشيء نفسه، دون أن تعلمي كيف تكتب حروفه، تلك المتعة التي لا يقدرون هم - مع كل ما عندهم من الكتب - أن يستخرجوها من صحائفها. وأنت بعد تفيضين عليهم من عظمة جهالتك ما يحيط بهم ويطويهم بين أكنافها. فليس في مستطاع الفيران كما أثبتنا بالبرهان أن يصيبوهم بضرر بليغ. وأما أخفاف الوصيفة، فإن الفيران لم تكن لتدركها لو لم تكن الوصيفة تمشي كأنها نائمة، والعجب منك - سيدتنا - أن تقضي علينا بالموت لأن وصيفتك تمشي بخطوات حلزون.

وهذه البراهين على قوتها ليست هي عذرنا الوحيد بين يديك من التلف الذي توقعه الفيران بما في دارك . آه أيتها السيدة العلية الشأن، بأي ضمير يجوز اتهامنا في حين نراك أنت تصحبين كلبيك المتعطشين إلى دمائنا، فلا نجترئ على الاقتراب منك لأداء واجب التحية التي تنبغي لسيدتنا؟ كلبان اثنان، يكفي هذا يا سيدتنا وأنت لا يخفى عليك أنهما من نوع تربى على بغضنا ويملؤنا الرعب كلما استمعنا إلى نباحهما على مقربة منا، كيف يجوز لأحد أن يظلمنا بالملام إذا ابتعدنا عن الأماكن التي تقيم فيها حيوانات بهذه الضراوة وهذه الكراهية المطبوعة لنا، وهذه القدرة على إهلاكنا، وهي طليقة لا يكبح لها عنان؟

ولو كان الخطب خطب الكلاب الفرنسية وحدها لأمكن أن تخف وطأتها ويهون الخوف من ضراوتها، ولكنك تدخلين في خدمتك - على خلاف الأوامر من الرقيب العام - كلبا من فصيلة البل دوج تأتين به من البلاد الإنجليزية التي تكرهنا ضعفين؛ لأننا قطط، ولأننا فرنسيات، وحسبنا ما نراه كل يوم من أثر بغضائه في ذنب أخينا المبتور لينوار

Le Noir ، ولا شك أن غيرتنا على خدمتك وأذواقنا التي ركبت على اشتهاء الفيران، كانت قمينة أن تؤلف منا طوائف للصيد في مسكنك لو لم نكن منفيين منها بالخوف من أولئك الأعداء الذين تبيحين لهم السيطرة عليها، فلا يلومننا أحد بعد الآن على التلف الذي يحيق بدارك من غارة الفيران، ونحن على ما نحن عليه مجردون من كل وسيلة لقمعها وإقصائها.

وا أسفاه! لقد ذهب ذلك الزمان، ذهب ذلك الزمان الذي كان ذلك القط الفاخر بومبون

يسيطر على هذه الأماكن جميعا، وينام في حجرك، ويضطجع على وسادتك، وكان ذلك الكلب زميرا الذي يسعى اليوم سعيه لإسقاطنا يتزلف إلى ذلك المجدود الذي يحتل الآن مكانه. لقد كنا يومئذ نجوس خلال الدار وأذنابنا مرفوعة في الهواء، وكان المرحوم بومبون ينزل أحيانا إلى مشاركتنا في قسمة الأرانب التي كان صاحب الجلالة يبعث بها إلينا عقب عودته من رحلات الصيد، وكنا في ظل تلك الحظوة الفاخرة نسعد بالأمن والسعادة.

ونعود فنكرر الأسف على تلك الأيام التي خلت، وعلى العهد القططي الذي خلفه هذا العهد الكلابي، وقد كانت الحظوظ حظوظنا في أيام دولته، فأما اليوم فكل ما نملكه من العزاء أن نذهب إلى ضريحه، ونروي بدموعنا غصون البان التي ترفرف على مثواه الأخير.

آه، أيتها السيدة العلية الشأن، لتكن ذكرى ذلك القط الحبيب باعثة في صدرك على الأقل شيئا من الرأفة بنا، ونحن لا ندعي أننا من زمرته؛ لأنه كان منذورا للعفة من صباه، ولكننا من نوعه على كل حال، ولا يزال طيفه يحوم حول هذه البقاع، ويدعوك أن تنقضي ذلك الحكم الدموي الذي يتوعدنا، وكل ما تسدينه إلينا من البقايا الصالحات موقوف منذ اليوم إلى أواخر أيامنا على المواء لك بوفائنا الدائم، حافظين ذكراه إلى أبنائنا وأبناء أبنائنا جيلا بعد جيل.

شواغل الشيخوخة

وكان الاقتصادي الإنجليزي جورج هويتلي صاحب كتاب أصول التجارة صديقا لفرنكلين يهتم مثله بالمسائل الاجتماعية الإنسانية، فكتب إليه في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة 1784 خطابا يعتب فيه على تأخير الرسائل، ويتناول فيه بعض المسائل التي تعرف من جواب فرنكلين مايو سنة 1785 بعد نبذة وجيزة أرسلها إليه قبل ذلك، واستهل الجواب المسهب بالاعتذار، وأتبعه بالرد على المسائل الأخرى، قال:

كتبت إليك بضعة أسطر منذ أيام ومعها الوسام، وكان ينبغي أن أكتب إليك أكثر من ذلك لولا أنني فوجئت بفضولي شغلني إلى مساء ذلك اليوم، فاحتملته جهدي، كما أرجو أن تحتملني جهدك الآن. فلعلي أفيض في ثرثرة الفضول بما أجيب به الآن.

لا أعرف كلمة الفونس

Alphonsus

التي أشرت إليها مستشهدا بها على صوابك في التشدد؛ إذ تأبى أن تتقبل علة الشيخوخة عذرا من تأخير المراسلة. فما هي تلك الكلمة يا ترى؟ إنك على ما أرى لا تشعر بالداعي إلى ذلك الاعتذار، وإن كنت كما قلت لي تصعد إلى الخامسة والسبعين، لكنني أنا أصعد إلى الثمانين، أو لعلي أنحدر إليها، وأدع الاعتذار إلى أن تبلغها أنت عسى أن تكون أدنى إلى قبوله والإيمان بصحته، وتراه أنت صالحا للانتفاع به يومذاك.

وأوافقك على أن النقرس سيئ، وأن الحصاة أسوأ، وأحسبني سعيدا؛ لأنني لم أجمع بينهما معا في وقت واحد، وأدعو معك أن تعيش وتودع الحياة بمنجاة من هذه وذاك. إلا أنني أزعم أن صاحب القبرية التي أرسلتها إلي على خطأ فيما أوصى بكتابته على قبره وهو: «لم يحفل مقدار ذرة أن يقول القائلون خيرا أو شرا في ساكن هذه الحفرة»، فإنه لمن طبيعة الإنسان حيا أو ميتا أن يحب ذكراه بالخير، ولا أخاله معفى من هذه الرغبة وإلا لما شغل نفسه بما يكتب على قبره، ولقد كان - كما يظهر من قبريته - يحب أن يقال: إنه رجل ساخر من أصحاب النكتة، أو ليس جديرا منه بمثل هذا الشغلان أن يقال: ما كان أصدقه أو أطيبه من إنسان! وتعجبني أكثر من هذا خاتمة الأنشودة التي عنوانها أمنية الشيخ التي يذكر فيها الناظم أنه يتمنى في الشيخوخة البيت الدافئ في بلدة من بلاد الريف، والجواد الطيع، والكتب الممتعة، والرفاق الموافقين من ذوي البشاشة والذكاء، وفطيرة في يوم الأحد، وقنينة من الجعة، وأخرى من خمر برجندي إلى أن يقول ويعيد هذه المقولة في ختام كل قطعة:

وليتني أملك شعوري كالملك المطلق، وأزداد في الحكمة والخير كلما نقصت قواي، ولا نقرس ولا حصاة، إلى أن تحين الوفاة.

ولقد أضاف إلى تلك الأماني أمنيته الأخرى قائلا:

وبالشجاعة التي لا تهن ولا تضعف ليتني أواجه اليوم الأخير، وليت خيار الناس يقولون بعد اليقظة في الصباح أو بعد الشراب في المساء: لقد ذهب بغير نظير؛ لأنه حكم شعوره حكم السادة المطلقين.

8

على أنها محض أمنية. وماذا تغني الأماني؟ إن الأمور لتجري كما يتفق لها. وقد أنشدت ذلك النشيد ألف مرة في شبابي، ثم بلغت الثمانين فإذا بالمحظورات الثلاثة قد اصطلحت علي، فتعرضت للنقرس، وللحصاة، ولم أملك شعوري كالملوك المطلقين! وكأنني تلك الفتاة المترفة التي نذرت ألا يكون زوجها من طائفة القسس، ولا من الكنيسة المشيخية، ولا من أبناء أيرلندا. فلما تزوجت إذا بالثلاثة يجتمعون في واحد: قسيس أيرلندي من الكنيسة المشيخية.

وإنك لترى إذن أنني أتمنى - لسبب معقول - ألا أكون في الحياة الأخرى، كما كنت في هذه الحياة وحسب، بل أفضل وأسعد ولو قليلا، ولي رجاء في ذلك لأنني كشاعركم أومن بالله، ويؤيد هذا الرجاء أنني أرى في آيات خلقه دلائل القصد والتدبير، وهي ظاهرة في إبداعه وسيلة التناسل والتجديد التي تعمر عالمه بالنبات والحيوان بدلا من خلقها كل مرة من جديد، وظاهرة كذلك في جعل الأشياء قابلة للرجوع إلى عناصرها الأولى؛ كي تصلح لاستخدامها في تركيب بعد تركيب بدلا من خلق مادة جديدة في كل حين، وهكذا قد يتركب الخشب من التراب والهواء والنار، ثم يعود بعد انحلاله ترابا، وماء، وهواء، ونارا، وكلما نظرت فلم أر شيئا يفنى ولا قطرة ماء تضيع في الغمار لم يسعني أن أتصور فناء الأرواح، ولا أن أعقل أنه يدع الملايين من العقول تزول، وينشئ في مكانها عقولا أخرى بادئ ذي بدء كأول مرة. ولهذا أرى نفسي في الدنيا وأعتقد أنني باق فيها على صورة من الصور، وإنني على كل ما في الحياة الإنسانية من النقائص والنقائض لا أمانع في إخراج طبعة جديدة مني، على أمل في تصحيح الأغلاط التي كانت تشوب الطبعة السابقة.

أعيد إليك مذكرتك عن الأطفال الذين تلقاهم ملجأ اللقطاء في باريس من سنة 1741 إلى سنة 1755، وقد أضفت إليها السنوات السابقة منذ سنة 1710 مع بيان تسجيلات التنصير وإحصاء السنوات اللاحقة إلى سنة 1770، ولم أستطع العثور على غير هذا الإحصاء، وفي الهامش ملاحظات على التدرج في الزيادة من اعتبار الطفل عاشرا إلى اعتباره ثالثا بين المواليد. وقد مضت خمس عشرة سنة منذ ذلك التاريخ، فلا يبعد أن النسبة قد وصلت اليوم إلى النصف! فهل من الصواب تشجيع هذا النقص في حاسة العطف الطبيعية؟ إنني لقيت طبيبا هنا يتهم نساء باريس بقلة الصبر أو قلة القدرة على الإرضاع، ويؤكد لي ذلك قائلا: إنك تستطيع أن تعرف ذلك من النظر إلى صدورهن السوية! فليس فيها نمو أكبر من النمو الذي تراه على ظهر كفي! ومنذ ذلك الحين يلوح لي أن كلامه لا يخلو من الصدق، وأن الطبيعة أحست أنهن لم ينتفعن بالأثداء فكفت يدها عن ملئها، هذا وإن تكن الحالة قد تغيرت بعض الشيء منذ تكلم روسو بفصاحته المعجبة عن حق الأطفال في ألبان أمهاتهم، فأصبح بعض النساء من العلية يرضعن أبناءهن ويجدن في أثدائهن اللبن اللازم للرضاع، وأسأل الله أن تهبط «البدعة» إلى الطبقات الدنيا، فتبطل تلك العادة التي مردن عليها؛ عادة إلقاء الأطفال إلى الملاجئ زاعمات في غير اكتراث أن الملك أقدر على تربيتهم وتموينهم منهن.

وقد اتصل بي من ذوي ثقة أن تسعة أعشارهم يموتون على الأثر مما يفرج عن الملاجئ التي لا تكفي مواردها لولا ذلك للإنفاق على البقية. أما فيما عدا النسوة القلائل من العلية اللائي أشرت إليهن، وفيما عدا غيرهن ممن يضعن أبناءهن في المستشفيات، فالعرف الشائع أن يدعى بالمرضعات من الريف ليعهد إليهن في تربية الأطفال هناك، وفي المدينة مصلحة تعنى بالكشف على المرضعات وإعطائهن الشهادة التي تثبت صلاحهن لهذا العمل، وكثيرا ما نراهن عائدات إلى قراهن يحملن طفلا على كل ذراع، ولكن الفئة التي تبلغ بها الطيبة أن تربي أطفالها على هذا النحو قد تعوزها النفقة التي تكفي للتربية، وتمتلئ السجون بالآباء والأمهات المقصرات في هذا الواجب، وإن يكن من العادات المستحبة هنا أن يؤدي المحسنون غرامة أولئك الآباء والأمهات لتسريحهم من السجون، وحبذا لو أفلح المشروع الجديد الذي يدبر الوسائل لتمكين الفقراء من تربية أطفالهم في البيوت، إذ لا مرضع كالأم، أو لا كثير من المرضعات يغنين غناءها، إن وجدن. ومتى بقي الطفل في حجر أمه أياما، ولم يعجلوا بإرساله إلى الملجأ، تمكن حبه من قلوب أبويه وبذلا من الجهد فوق ما يبذلانه لكسب الرزق والإنفاق عليه. وإنها لمسألة تعرفها أنت خيرا من معرفتي، فحسبي ما ذكرت عنها الآن ولا أزيد عليه إلا ملاحظة مقتبسة من تاريخ مجمع العلوم تثني على ملاجئ اللقطاء.

يسير مصرف فلادلفيا سيرا حسنا على ما سمعت، وما تدعوه معهد سنسناتي ليس بمعهد من معاهد حكومتنا، بل جماعة خاصة ألفها الضباط في الجيش السابق وتكرهها جمهرة الشعب من أجل ذلك حتى يغلب على الظن أنها ستنحل، وكان المظنون أنها محاولة لإنشاء طبقة وراثية كطبقة النبلاء، وأوافقك على أنها خطأ، ثم أزيد على ذلك أن كل «التشريفات» الموروثة خطأ وسخافة، فإنما الشرف شرف الأعمال الفاضلة لمن يقوم بتلك الأعمال، وليس من طبيعته أن ينقل من إنسان إلى إنسان، وإذا صح أن ينقل من وارث إلى وريث، وجب أن يقسم بين جميع الوارثين، وقل نصيب كل وارث تبعا لتقادم العهد وازدياد العدد، ودع عنك ما يحدث من الاقتضاب والانقطاع أثناء الطريق.

وظهر أن دستورنا - أو مواد اتحادنا - غير مفهومة لديك، فلو كان المؤتمر - الكنجرس - هيئة دائمة، لكان من الخطر ودواعي الحذر تخويلها السلطان، غير أن أعضاءها ينتخبون كل سنة، ولا ينتخبون ثلاث سنوات على التوالي ولا ثلاث سنوات في خلال سبع سنوات، ويجوز على كل منهم أن يستعاد إذا كانت دائرته الانتخابية غير راضية عن مسلكه، وكلهم من الشعب، ويعودون أخيرا إلى الشعب بغير صفة دائمة تميزهم، إلا كما تمتاز حبات الرمل في الساعة الرملية، ومثل هذه الجماعة لا يسهل أن تكون خطرا على الحرية العامة، وأعضاؤها خدام الشعب يجتمعون معا لخدمة الشعب ورعاية مصالحه، فلا يتيسر لهم أداء واجباتهم ما لم تكن لهم القوة الكافية لحسن أدائها، وليست لهم رواتب مجزية غير الأجور اليومية التي قلما تساوي نفقاتهم، وهم لقلة حظوظهم من المناصب، والرواتب، والمعاشات التي تعطى في بعض البلاد لا يدعو الأمر معهم إلى الدس أو الرشوة أثناء الانتخاب.

وإنني لأتمنى لإنجلترا - العجوز - توفيقا كهذا التوفيق في نظام الحكومة ولا أراه. فإن قومك يحسبون دستورهم أفضل الدساتير في العالم، ويظهرون الازدراء بدستورنا، ولعله من أسباب الرضا أن يحسن الإنسان ظنا بنفسه، وبكل ما ينتسب إليه، وأن نعتقد أن ديانتنا ومليكنا وربة بيتنا خير الديانات والملوك وربات البيوت، ومما أذكره أن ثلاثة من جرينلاند ساحوا نحو سنتين في أوروبا برعاية المرسلين المورافيين فزاروا ألمانيا، والدنمرك، وهولندا، وإنجلترا، وسألتهم في فلادلفيا وهم قافلون إلى بلادهم الأمريكية عما إذا كانوا بعد ما شاهدوه من معيشة الرجل الأبيض بصنع يديه يؤثرون البقاء بيننا؟ فكان جوابهم أنهم مسرورون بما شهدوه من المناظر الكثيرة، ولكنهم يؤثرون المعيشة بين قومهم، وفي ديارهم، وهي لعمرك أرض صخرية لم يجد المورافيون بدا عن زيارتها من نقل الطين في سفينتهم من نيويورك لزرع الكرنب فيها.

أشك فيما بلغ مستر دونالد عن تركيب النظارة التي اخترعتها لقوله أنها تصلح لأناس دون آخرين. ويخيل إلي أن القول بأن التحديب الذي يصلح للقراءة لا يصلح للنظر البعيد صواب، ولهذا كان لي من قبل نظارتان أبدل بينهما في السياحة؛ لأنني أقرأ حينا وأحب التطلع إلى المناظر حينا آخر، ووجدت هذا التبديل متعبا لا يسعفني في كل وقت، فقطعت الزجاج، ووضعت نصفا من كل نوع في الحلقة الواحدة، واستطعت بهذه الوسيلة أن أدير بصري علوا أو سفلا مذ كنت أستمر على وضع النظارة فوق عيني، ووافقني ذلك على الخصوص في مقامي بفرنسا حيث وجدت أن النظارة التي تريني صحاف الطعام أمامي لا تريني وجوه الجالسين على الجانب الآخر من المائدة وهم يتحدثون إلي. ولا يخفى أن الأذن إذا لم تكن قد تعودت على تمييز لهجة الكلام في لغة من اللغات، فنظرة العين إلى ملامح المتكلم تساعد على الإيضاح، وهكذا أصبحت أفهم الفرنسية بمساعدة النظارات.

إني أرشح لترجمة رسالتك الشخص الوحيد الذي أعرف أنه يفهم الموضوع كما يفهم كلتا اللغتين، وهذا عندي هو شرط المترجم، وإلا تعذر عليه إتقان الترجمة، وهو الآن مشغول بعمل لا يمكنه من الاشتغال بترجمة الرسالة، وسيفرغ منه قريبا.

أشكر لك تعليقاتك وأود لو أحصل على غيرها من الكراسات المطبوعة.

وإننا على الدوام مرحبون بالأطفال في أي وقت تشاء أن ترسلهم إلينا، وكل ما ألاحظه أن لندن تستوعب عددا كبيرا من أبناء الريف، فمن الحق أن يتسع الريف لمن يعرضهم من أولئك الأطفال، وهذا مع كثرة الذين ينزلون عن حريتهم الإنسانية ليعملوا حينا عمل الخدم أو يعملوا طوال العمر عمل الجند - برهان في نظري على ازدحام جزيرتكم، ومع هذا نراها تخاف من المهاجرة.

وداعا أيها الصديق العزيز، وإنني على الدوام صديقك المخلص.

الأعداء في الوطن

وكتب إليه صهره ريتشارد باخ يقول: إن آرثر لي ورالف ازداد من أهل بنسلفانيا المقيمين في باريس يسوءون سمعته ويشهرون به لأنه اتخذ «تمبل» حفيده سكرتيرا له مع أن أباه كان مواليا لبريطانيا العظمى، فأجابه فرنكلين بهذا الخطاب:

باسي في الثاني من شهر يونيو سنة 1779

إنني مستريح البال من ناحية تلك المساعي التي يقوم بها «ل» و«ر» للإضرار بي في العدوة الأخرى من المحيط، ومطمئن إلى عدالة المؤتمر - الكنجرس - وأنه لن يصغى إلى تهمة توجه إلي دون أن أعلم بها قبل ذلك ويتسع لي الوقت للإجابة عنها، وإنني لأعلم أن ذينك السيدين ينطويان لي على أسوأ النيات، وإن لم أسئ إلى أحد منهما أو أمسه بما يسوغ له أن يشعر بالمساءة، غير أن السمعة الكبيرة التي تحيط بي والمحبة التي ألقاها من القوم هنا، والتوقير الذي يقابلونني به، بل التحيات التي يخصونني بها تحزن ذينك السيدين التعسين؛ التعسين حقا بما اشتملت عليه طواياهما من الظلام، والحقد، والغيرة، والشبهة، والحسد، والضغينة. وإن النفس الطيبة ليكفيها ما تجده من الحزن لمصائب الآخرين. أما الذين يزعجهم كل حظ طيب يتملاه غيرهم، فلن يسعدوا قط، ولن يستريح لهم بال، وليس بي من حاجة إلى الانتقام من أمثال هؤلاء الأعداء غير أن أتركهم حيث أوقعتهم طبائعهم الناقمة مجتهدا أن أحافظ على الخصال التي تجعلني أهلا للرعاية والتقدير، وكلما دامت لي السمعة التي يحيطني بها الناس، أدمتهم في تلك اللعنة التي يتمرغون بها، ولا يخطر لي أن أغير من خصالي كي أخفف عنهم بعض ما يعانون.

ويدهشني أن أسمع أن وجود حفيدي تمبل فرنكلين معي يستوجب النقمة مني والسعي في إقصائه عني، وأحسب بحق أنني أحسنت بحمايتي هذا الفتى أن يصبح من زمرة المحافظين الإنجليز وإبقائه إلى جانبي في زمرة خدام الجمهورية الأحرار، وأرى من مبادئه الحرة واستقامة خلقه، ودأبه على العمل، وفطنته المبكرة، وكفايته النادرة أنه وشيك أن يكون عظيم النفع لوطنه، وكفى أنني فقدت ولدي، فهل يريدون فوق ذلك أن أفقد حفيدي؟ إنني شيخ في السبعين عمدت إلى رحلة شتوية بإذن الكنجرس، وليس معي من يتولى العناية بي سواه، ولا أزال هنا في بلد أجنبي يكلؤني برعايته البنوية إذا مرضت، ويغمض عيني ويحرس ما عندي من بقية تراث إذا حم الأجل.

إن أدبه في معاملتي ونشاطه ودأبه في عمله يرضيني ويفيدني، وسلوكه في عمل الأمانة على السر - السكرتيرية - لا غبار عليه، وإنني لواثق أن الكنجرس لا يفكر في الفصل بينه وبيني.

وإنني كذلك لعظيم الغبطة بولدنا «بن»

9

وأراه خليقا أن يصبح رجلا ذا شأن. وقد انتفع من المدرسة الداخلية التي هو فيها جهد ما ينتفع بالتعليم في تلك المدرسة، وقد فكرت في المدرسة التي تفضلها بعد هذه الخطوة، فاستقر عزمي على إدخاله مدرسة أعلى منها بمدينة جنيف، والفرصة حسنة؛ لأنني أعرف سيدا من أهل المدينة له ولد في مثل سنه يتعلم في تلك المدرسة بعينها، وقد وعدني أن يتكفل برعايته وتبادلت معه في هذا الصدد رسائل أبعث بها إليكم مع هذا الخطاب، وقد سافر «بن» فرحا، وفهمت أنه سعيد جدا بهذه النقلة إلى المدرسة الجديدة. ولقد أوحشني غيابه عني أيام الآحاد، وفي نيتي إذا عشت أن أذهب إلى سويسرا في الربيع القادم؛ لأراه وأرى في الوقت نفسه تلك الولايات الثلاث عشرة العجوز في البلاد السويسرية.

والحمد لله أنني ماض على صحة ورضا، وإنني أكبر وأشيخ، ولكنني فيما أظن لم يصبني تغيير كبير في السنوات العشر الأخيرة، ويعاودني النقرس من حين إلى حين، ولكنهم يقولون: إنه إلى العلاج أقرب منه إلى انحراف المزاج، والله يبارككم ويتولاكم.

جواب على تحذير

وحذره هارتلي من أعدائه وأوصاه باتقاء الخطر على حياته، فكتب إليه فرنكلين كما جاء في خطاب نشره حفيده يقول فيه:

شكرا لك على تحذيرك، غير أنني قاربت النهاية من عمر طويل، ولست أبالي كثيرا بما بقي منها، وإنما هي عندي كالفضلة من الثوب يقول البائع للشاري الذي يلح في المساومة عليها: خذها كما تريد أو بالثمن الذي تريده ولا خلاف بيني وبينك عليها، فما هي إلا بقية، وربما كان أنفع شيء يصنع بالشيخ الذي بلغ هذه المرحلة من العمر أن يحشر في زمرة الشهداء.

بيان عن خدمات وطنية

وكتب الرسالة التالية إلى شارل تومسون سكرتير الكنجرس على أثر إشاعة بلغته عن أناس يزعمون أن الحكومة وضعت بين يديه أموالا كثيرة قد تأخر حسابها، وكانت الحقيقة على عكس ذلك؛ إذ كان الكنجرس يرجئ حسابه ولا يعطيه ما استحقه بخدماته، ويسأل فرنكلين صديقه عن الوسيلة المثلى لإنجاز المحاسبة وتوفية تلك الحقوق:

فلادلفيا في التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1788

صديقي العزيز القديم

أرسل مع هذا خطابا إلى رئيس الكنجرس في الوقت الحاضر أرجو أن تراجعه وتبلغني ما تراه إذا عن لك فيه ما يدعو إلى الملاحظة أو التنقيح، وإنني أعتمد كثيرا على نصيحتك الأخوية؛ لأنك تعلم ما لست أعلمه عن الأشخاص والأحوال، وأظن أن في الوقت متسعا قبل تأليف الكنجرس الجديد للتنقيح الذي تشير به، على أن يكون تقديم الخطاب - إذا قدم - إلى الرئيس القديم.

وستجد في خطابي إلى مستر باركلي إشارة إلى «أعمال هامة لم أثبتها في حساب الكنجرس، وأرجو من إنصافه أن يكون لها اعتبار في التقدير». ولكي تكون على علم بهذه الأعمال أبعث إليك مع هذا الخطاب ببيان مجمل عن الخدمات التي قمت بها للولايات المتحدة، ومنها أعمال نافلة لا تتصل بوظيفة السفارة، كعمل القضاء في البحرية، وعمل القنصلية قبل وصول مستر باركلي، وعمل الصرف لمراجعة قوائم المصارفة وسفاتجها، وعمل السكرتيرية عدة سنوات، وسائر هذه الأعمال التي لم أتناول شيئا عنها، وكانت لها مكافآت ترسل إلى السفراء الآخرين.

وأصارحك أنني آمل - كما جرت العادة في القارة الأوروبية - أن يمنح السفير بعد اعتزاله منحة يستعين بها على إصلاح شئونه الخاصة التي لا شك أنها تصاب بالضرر أثناء غيابه وانقطاعه عن مباشرتها في وطنه، ورجائي أن يتفضل الكنجرس بمنحي قطعة من الأرض في أقاليم الغرب يستفاد بها وتبقى لذريتي شرفا وذكرى، ولا أخال إلا أن الكنجرس صانع شيئا من هذا القبيل عند النظر في خدماتي وأعمالي، كما أرى من تقديرهم السخي لخدمات مستر لي في إنجلترا قبل ذهابه إلى فرنسا، وهي خدمات وأعمال كان لي ولمستر بولان

Bollan

معاونة فيها، ولم نحصل على مثل هذه المكافأة عنها. وقد كوفئ مستر لي بعد عودته بمنصب حسن، كما كوفئ صديق مستر جاي

Jay ، وإن تكن هذه المكافأة زهيدة بالقياس إلى إنعام الملك على مسيو جيرار

Gerard

عند عودته من الديار الأمريكية.

أما في أمري أنا بعد عودتي فما أبعد الاختلاف!

رجعت من إنجلترا سنة 1775 فتفضل الكنجرس علي بوظيفة مدير مصلحة البريد مشكورا على فضله، وهي وظيفة أحسب أن لي بعض الحق فيها منذ توليتها تحت التاج، فأصلحت نظامها وضاعفت مواردها، وتركتها لصهري بعد سفري إلى فرنسا يقوم فيها بوظيفة الوكيل، ولم يمض غير قليل بعد سفري حتى حولت هذه الوظيفة إلى مستر هازارد. وقد عن للإدارة الإنجليزية قبل ذلك أن تحرمني هذه الوظيفة، فحفظت لي الحق في إعفاء رسائلي الصادرة والواردة من الأجر كما جرى العرف في معاملة المديرين الذين يعتزلون الوظيفة لسبب لا يمس كرامتهم. أما في أمريكا، فإن هذا الأجر قد طلب مني وبلغ نحو خمسين جنيها، لكثرة الرسائل التي ترد إلي على اعتباري مديرا سابقا لمصلحة البريد.

ولما أخذت معي حفيدي تمبل إلى فرنسا رأيت - بعد تعليمه الفرنسية - أن أخرجه في دراسة القانون والاشتغال بعمله، ثم استبقيته لعمل السكرتيرية بعد أن وعدت بهذه الوظيفة، وتكررت تجربتي للسكرتيرين، وتكررت خيبة الأمل فيهم، ولم تزل تتكرر بعد عودتي إلى أمريكا، حتى فات الوقت الذي يشتغل فيه بالدراسة المطلوبة، وانتظمت حياته على غير نظامها، فلما رأيت أنه - لطول مرانته في الأعمال الدبلوماسية - جدير بوظائفها، وهو رأي يشاركني فيه ثلاثة من الزملاء، ندبوه بغير طلب مني للعمل معهم خلال المفاوضات في شئون المعاهدات، رشحته في خطاب الكنجرس لوظيفة السكرتيرية، فكان الرد الوحيد الذي تلقيته على هذا الرجاء الوحيد الذي تقدمت به أمرا بوقف التعيين وانتداب الكولنل همفري سكرتيرا في مكانه، وهو سيد قد يكون له العلم بالشئون الحربية كما هو الواقع، ولكنه لم يختبر العمل في الشئون السياسية ولا يعرف الفرنسية، ولا عهد له بالمسلك اللازم في هذه المهمة.

وإنني أفضي بهذا كله إليك - شخصيا - إفضاء صديق إلى صديق؛ لأنني لم أتعود الشكاية العامة، ولا أريد أن ألجأ إليها بعد الآن.

وإنني لو استطعت أن أعلم - مقدما - أن الكنجرس سيعاملني هذه المعاملة التي لا مجاملة فيها ويستكثر علي توجيه الشكر إلي - لم يكن من شأن هذا أن يوهن من عزمي، أو من غيرتي في خدمته وتأييده، وقد أعرف بعض الشيء عن أطوار هذه الهيئات التي تتغير حينا بعد حين، ويأتي فيها خلف لا يعلم ما قد علمه السلف من خدمات أسديت إلى الهيئة، ولا يشعر بواجب الجزاء عليها، مع بعد القائمين بالخدمة في بلاد أجنبية، وإمعان واحد أو اثنين من الحاقدين وذوي النية السيئة في الدس والتأثير على عقول الأعضاء الآخرين، وإن كانوا من أهل الإخلاص، والإنصاف، والمروءة. ولهذا أوثر أن أطوي هذه الخواطر في أطواء النسيان والكتمان.

وإني لألتمس المعذرة منك - يا صديقي - لما جشمتك من متاعب هذا الخطاب، وإذا حاق بك يوما ما يقال عن نسيان بعض الجمهوريات للعاملين في خدمتها؛ فاذكر على الدوام أن لك صديقا قديما تكشف له عن ذات صدرك في شخص الخادم المطيع المتواضع.

فرنكلين

وبعد هذا التمهيد تلخيص لخدمات فرنكلين كما أجملها في ملحق خطابه لتذكير صديقه، وهي كما يلي:

في إنجلترا قاوم قانون الدمغة وكتابته في الصحف ومناقشاته في البرلمان من الأسباب التي يظن أنها انتهت بإلغاء ذلك القانون.

عارض قانون المكوس، ولم يتمكن من وقف تنفيذه، ولكنه أقنع مستر تونزند بحذف مواد كثيرة منه، ومنها الملح بصفة خاصة.

وكتب فيما بعد ذلك رسائل شتى يفند بها دعوى البرلمان أنه يملك حق تقرير الضرائب في المستعمرات.

عارض جميع القوانين الجائرة.

قام بمفاوضتين سريتين مع الوزراء لإلغاء تلك القوانين، وشرح ذلك في محضر مكتوب ، وقدم في سياق واقترح - على تبعته ومع المخاطرة بالنتيجة - عوضا عن الشاي الذي تلف في حالة نفاذ الإلغاء.

اشترك مع مستر بولان، ومستر لي في جميع الطلبات التي قدمت إلى الحكومة لهذا الغرض، وطبع عدة نشرات على نفقته ينتقد بها إجراءات الحكومة، واستهدف بذلك للسخط والنفور والاتهام أمام المجلس الخاص، وعزل من وظيفة يتقاضى منها ثلثمائة جنيه في السنة، وهي وظيفة مدير البريد، واضطر إلى الاستقالة من جميع أعمال التوكيلات ومكافآتها وهذا بيانها:

جنيه

البلد

500

من بنسلفانيا

400

من مساشوست

100

من نيوجرسي

200

من جورجيا

وصدرت الأوامر إلى الولاة الملكيين أن يكفوا عن توقيع كل ترخيص بالصرف لحساب مرتباته من خزانة الدولة، ولم تكن الولايات قد عزلته من توكيلها، ولكنه - مع العلم بضغينة الحكومة الإنجليزية عليه - تعذر عليه أن يخدم الولايات وييسر مصالحها لدى تلك الحكومة، وأحس أن الواجب يقضي عليه باعتزال التوكيلات، فاعتزلها ليفسح مجال العمل فيها لمن هم أقرب إلى القبول عند الحكومة الإنجليزية، ويحمي نفسه أن يلجئها إلى عزله.

ولما قفل إلى أمريكا حض على الثورة، وعين رئيسا لجماعة «سلامة الوطن» ونظم وسائل الاستيلاء على فيلادلفيا ومقر الكنجرس.

أرسله الكنجرس إلى مركز القيادة العام على مقربة من بوستون مع السيدين هاريسون، ولينش سنة 1775 لتسوية بعض المسائل مع الحكومات الشمالية والجنرال واشنطون.

في سنة 1776 أرسل إلى كندا مع السيدين شاس

Chase

وكارول عابرا البحيرات قبل ذوبان الثلج، فعمل مع زميليه في كندا على إزالة بعض الشكايات مما كان له أثر في ضم الشعب إلى قضيتنا، وقدم هناك إلى الجنرال أرنولد وبعض خدام الكنجرس مبلغ ثلثمائة وثلاثة وخمسين جنيها ذهبا من ماله على ذمة الكنجرس كانوا في أمس الحاجة إليها، وكان لها نفع كبير في تلك الآونة في الحصول على الأزواد لجيشنا.

وقد كان حين تكليفه بهذه المهمة يجاوز السبعين، فشقت عليه مصاعب الرحلة؛ إذ كان يتنقل بين الغابات في ذلك الفصل القاسي من فصول السنة، ولم يكد يبل من مرضه حتى أمره الكنجرس بالسفر إلى فرنسا، فسلمهم قبل سفره كل ما استطاع جمعه من المال بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف جنيه، وكان ذلك مشجعا لغيره على إعارة أموالهم لخدمة القضية العامة.

ولم يساوم على المكافآت، ولكنه وعد - باقتراع الأصوات - بمبلغ خمسمائة جنيه مسانهة مع نفقاته ومبلغ ألف جنيه لوظيفة السكرتيرية ومصروفاتها.

ولما أرسلته الهيئة النيابية في بنسلفانيا إلى إنجلترا سنة 1764 بمثل هذه المكافأة، سمحوا له بمكافأة سنة مقدما لتكاليف السفر وتعويض الخسائر التي لحقته من جراء الانقطاع فجأة عن مباشرة مرافقه الخاصة، ولم يمنحه الكنجرس مثل هذه المنحة بل أنزله في سفينة رثة لا تصلح للملاحة في البحار الشمالية، وحدث فعلا أنها جنحت عند عودتها، مع سوء تدبير الطعام له على متنها حتى بلغ الشاطئ وهو يكاد لا يقوى على الوقوف على قدميه.

وإن خدماته للدولة وكيلا ثم وزيرا مفوضا لمعروفة للكنجرس كما هي معروفة من رسائله، وربما كانت خدماته الإضافية مجهولة فلا داعية إلى ذكرها.

ثم مضى في عمله ولم يعين له السكرتير الموعود، وقام ببعض الأعمال قبل انفصال زملائه ثم قام بها جميعا بعد انفراده بمعونة حفيده الذي سمح له أولا بمقابل للكساء والسفر والسكن ثم بمرتب لم يزد قط على ثلثمائة جنيه في السنة (إلا حين عمل في السكرتيرية للجنة الصلح) وهو فرق في المرتب على مدى سنوات مقداره سبعمائة جنيه كل عام.

وعمل وحده بوظيفة القنصل عدة سنوات إلى حين وصول مستر باركلي وبعد وصوله فترات من الوقت لاضطرار ذلك السيد إلى التغيب في هولندا، وبلاد الفلاندر، وإنجلترا، وحدثت خلال ذلك محاولات متتابعة لاختلاس دفعة ثانية وثالثة بعد سداد الدفعة الأولى، وكانت قوائم الحساب عن هذه الدفعات ترد مع كل سفينة وكل بريد، وتستوجب الرقابة المتوالية. ولم يستطع مستر فرنكلين أن يسافر للرياضة والراحة كعادته قبل ذلك مما عرضه للإصابة بمرض قد لا زمه بقية حياته.

ونوجز البيان فنقول: إنه على دأبه وصبره طوال حياته لم ترهقه الأعمال، كما أرهقته خلال السنوات الثمان التي قضاها في فرنسا، ولم يعتزلها مع ذلك حتى شهد بشائر الصلح وتمت هذه البشائر بخير. ثم ألفى نفسه في الثمانين من عمره، وهي السن التي تخول من يبلغها بعض الحق في الراحة والاستقرار.

الطيران والحروب

وقد شهد فرنكلين تجارب الطيران الأولى حول باريس، وسمع المتفرجين وهم يرقبون المنطاد كأنه لعبة من لعب الفراغ ويتساءلون: وما فائدة هذا؟ وبأي شيء تنفعنا هذه النفاخات الكبيرة؟ فكان من جوابه لهم أن يسألهم: وما فائدة طفل وليد؟ وفي هذا السؤال كل الجواب على الذين لا يعرفون الصبر على المخترعات حتى تنمو وتؤتي ثمرتها، ولكنهم يعرفون أننا نربي الطفل الوليد الذي لا نفع له فينفع نفسه وينفع غيره إذا أحسنا القيام على تربيته، ومما كتبه فرنكلين على أثر مشاهداته الأولى لتجارب الطيران خطاب إلى صديقه العالم الهولندي جان أنجنهوز

Ingenhousz

الذي كان يصاحبه في رحلاته العلمية بشمال إنجلترا نظر فيه نظرة بعيدة إلى مستقبل الطيران في الحروب قبل أن تستخدم المناطيد والطائرات في ميادين القتال بأكثر من مائة وثلاثين سنة فقال في خطابه من باسي بتاريخ السادس عشر من يناير سنة 1784:

ليس في المسألة سر، ولست أشك أنك إذا أرسلت رسولا من قبلك أمكنه أن يشاهد مناطيد منتجلفير وشارل المختلفة، ويطلع على جميع التعليمات المطلوبة، وإذا أردت أنت أن تصنع منطادا فمن الضروري ومن الأوفق في رأيى أن تبعث من عندك برسول ذكي لهذا الغرض، إذ يخشى ألا يلتفت إلى بعض الملاحظات أو يسهو عن العلم بها، فتحبط التجربة ويؤدي حبوطها في هذه المسألة التي يكثر حولها الترقب والاستطلاع إلى تعريضك للملامة الشديدة والمساس بسمعتك. فإنه لمن الضرر الوخيم تجميع الناس في المدن الكبيرة وضواحيها ثم مصادمتهم بالخيبة والغضب. وقد حدث في بوردو أخيرا أن شخصا زعم أنه صنع منطادا يصعده في الهواء وأخذ نقودا من أناس كثيرين ولم يستطع أن يرفع المنطاد، فهاجت عليه هائجة الناس وعمدوا إلى بيته فهدموه وهموا به ليقتلوه.

وظاهر - كما رأيت - أنه اختراع هام يوشك أن يتجه بالشئون الإنسانية وجهة جديدة، وقد يكون من آثاره أن يقنع ذوي السلطان بخطر الإقدام على الحروب لما في حماية بلادهم من المصاعب - بعد هذا الاختراع - على أقدرهم وأقواهم، ولعل خمسة آلاف منطاد يحمل كل منها جنديين لا تبلغ تكاليفها ثمن سفن خمس من سفن القتال، وأين هو الأمير الذي يتسنى له أن يملأ أرضه بالجند في كل مكان حتى يعجز عشرة آلاف جندي هابطين من السحاب عن إصابته بأخطر النكبات قبل أن يتمكن من حشد القوة اللازمة لصدهم والتغلب عليهم؟

ومما يحزن أن تحول العصبية القومية - كما بدا لك - دون قيام الإنجليز بالتجربة، فإنهم على براعتهم في فنون الصناعة قمناء أن يسبقوا غيرهم إلى إتقان هذا المخترع والانتفاع بكل ما يعود به من الفائدة.

إن منطاد شارل وروبرت كان ممتلئا حقا بالهواء الساخن، ولوفرة المقدار اللازم كان العمل في ملئه متعبا عظيم النفقة يحتاج إلى يومين أو ثلاثة ليلا ونهارا لإنجازه. وللمنطاد صمام عند أعلاه يفك بشد الحبل الذي يربطه كلما أريد إطلاق جزء من الهواء استعدادا للنزول، والراكبان يقذفان بجزء من الرمل الذي يوازن الهواء إذا أرادا الصعود بعد ذلك، ولا بد أن يكون مقدار كبير من الهواء قد انطلق من المنطاد لموازنة أحد الراكبين ساعة نزوله، ولخفة المنطاد بعد نزوله، تكفي البقية فيه لحمل زميله، وهما لا يحملان في المنطاد نارا كما يفعل مسيو منتجلفير في منطاده الذي يفتح من أسفله ويوقد فيه التبن لاستبقاء ناره. وهذا الطراز من المناطيد أسرع امتلاء وأقل نفقة، ولكنه يستلزم مضاعفة الحجم لرفع الثقل نفسه؛ إذ كان الهواء المشعشع بالحرارة لا يقل ثقله عن نصف ثقل الهواء الجوي، على حين أن الهواء الساخن يقل عن ثقله عشر مرات، وقد كشف مسيو مورفو الكيمي الشهير بمدينة ديجون هواء ساخنا لا تزيد كلفته على جزء من خمسة وعشرين جزءا من كلفة الهواء الساخن الذي يحدث من صب الزيت أو الزاج على برادة الحديد، ويقال: إنه مستخرج من فحم البحر، ولم يذكر وزنه بالنسبة إلى غيره.

10

ثمن الصفارة

وهذه رسالة من رسائله إلى السيدة بريون ضمنها حكاية من الحكايات «المثلية» أو الحكايات التي تستوحى من مغزاها بعض المعاني الأخلاقية أو الاجتماعية، وكانت شائعة في ذلك العصر يؤلفها الكتاب وغير الكتاب لتزجية الفراغ بما يشبه امتحان الذهن بالأحاجي السهلة والألغاز الخفيفة، وتتلى هذه الرسائل عادة في السهرات والاجتماعات كأنها مادة من مواد السمر والفكاهة، وقد كتب فرنكلين هذه الرسالة إلى صديقته جوابا على رسالة منها تصف فيها نعيم الفردوس كما تتخيله، فقال بعد أسطر في التمهيد والاعتذار من تأخير الجواب:

أعجبني وصفك لجنة الفردوس وبرنامجك الذي درسته للمعيشة فيها. وأقرك كثيرا على ما ختمت به الوصف حيث تقولين: إننا - في الوقت نفسه - ينبغي أن نستخلص في هذه الدنيا كل ما نستطيع من خير ونعمة. وأرى أننا جميعا قادرون على أن نستخلص منها فوق ما ننال من خيرها ونعاني أقل مما نعانيه من شرها لو جعلنا بالنا إلى شيء واحد؛ وهو ألا نشتري الصفافير بأكثر من أثمانها.

وتسألينني ماذا أعني؟ وأنت تحبين الحكايات، فاسمحي لي أن أقص عليك إحدى حكاياتي حين كنت في السابعة من عمري، فقد حدث في بعض أيام الأعياد أن امتلأ جيبي بأنصاف البنسات من هبات أصدقائي، فذهبت توا إلى دكان اللعب واشتريت منه صفارة سمعت بعض الأطفال في الطريق يصفر بها، فأعجبتني وبذلت في ثمنها كل ما احتواه جيبي.

ورجعت إلى المنزل فطفقت بين جوانبه نافخا في صفارتي راضيا عن نفسي مزعجا كل من فيه من إخواني وأخواتي وأبناء عمي، فلما سألوني عن هذه الصفقة وأخبرتهم بها قيل لي أنني بذلت في الصفارة أربعة أضعاف ثمنها، وذكروني بالطيبات التي كنت قمينا أن أنعم بها لو لم أبذل فيها فوق ما تستحقه، وضحكوا من حماقتي وغفلتي وأكثروا من الضحك حتى بكيت غما وأسفا، وساءني من التفكير في الخسارة أضعاف ما سرني من الصفارة.

ونفعتني العبرة فلم تبرح ذاكرتي بعد ذلك، ولم أزل كلما أغريت بشراء شيء لا حاجة بي إليه أعود فأقول لنفسي: لا تبذل في الصفارة فوق ما تساويه، وادخرت نقودي.

ثم كبرت واختبرت الدنيا وراقبت أحوال الناس، فلقيت الكثيرين ممن يشترون الصفارة بأضعاف ثمنها، وأصبحت كلما رأيت إنسانا يطمع في الحظوة لدى البلاط، فيبدد وقته في التردد على الحشم والحاشية، ويفقد راحته وحريته وفضائل نفسه، وربما فقد أصدقاءه في هذا السبيل - أعود فأقول: هذا الإنسان يغالي بقيمة الصفارة، ويبذل فيها أضعاف ما تساويه.

وكلما رأيت إنسانا مشغوفا بالشهرة يزج بنفسه في مشاكل السياسة، ويغفل عن مصالحه، فيجر على نفسه الخراب بهذه الغفلة، أعود كذلك فأقول: وهذا إنسان آخر يشتري الصفارة بأضعاف ثمنها.

وكلما عرفت بخيلا يحرم نفسه أطايب العيش، وغبطة الإحسان إلى الناس، ومنزلة التقدير والرعاية بين قومه، ومتعة المودة والصداقة بينه وبين خاصته، أعود فأقول لنفسي: يا لك من مسكين! إنك أيضا تشتري الصفارة بأضعاف ما تساويه.

وكلما التقيت بإنسان من طلاب الشهوات والمسرات يذهل عن تهذيب نفسه وعقله، أو عن تدبير ماله من أجل متعة جسدية تستغويه وتجور على جسده، أناديه في ضميري: أيها المخدوع، إنك تجني الألم من حيث تنشد اللذة، وتعطي الصفارة ثمنا لا تستحقه.

وقد أرى إنسانا مفتونا بالمظهر والزينة، مأخوذا بغواية البيت الأنيق، والأثاث الأنيق، والعتاد الأنيق مما لا يطيقه ولا تحتمله ثروته، وقد يوقعه في الدين، ويسوقه إلى السجن، فاقول: وا أسفا؛ إنها الصفارة يشتريها أيضا بهذا الثمن الثقيل.

وقد أرى الفتاة الحلوة الجميلة تتزوج من الرجل السيئ القبيح فأقول: يا لها من شقوة وخيبة، إنها تعطي الصفارة أضعاف ما تأخذ منها.

وجملة القول أن معظم الشقاء الذي يبتلى به بنو الإنسان، إنما يجنيه عليهم ذلك التقدير الباطل لقيم الأشياء، وذلك البذل المضاعف في ثمن الصفارة.

على أنني أرفق بهؤلاء البائسين، فلا تنسيني هذه الحكمة التي أتشدق بها أن في هذه الدنيا كثيرا من المغريات، ومنها تفاحات الملك حنا التي لا تباع لحسن الحظ. ولو أنها كانت مما يباع بالمزايدة لخشيت أن أجر على نفسي الخراب لأشتريها، وأعود فأبذل في الصفارة قيمة لا تساويها.

11

رسائل شخصية

وهذه رسائل متفرقة في موضوعات عائلية أو عامة كتبها إلى أقربائه وصفوة أصدقائه، ومنها هذه الرسالة إلى أخته تعزية لها في موت أخيه:

فيلادلفيا في 12من فبراير سنة 1756

أختي العزيزة

أشاطرك الحزن في مصابنا بموت أخينا العزيز، وليكن بيننا مزيد من الحب كلما أصبنا بنقص في العدد.

وقد عدت الآن من بعثتي العسكرية ووقتي مشغول بأعمال الهيئة النيابية، وكأنما العناية الإلهية تطالبني بصنوف شتى من الواجبات، فلا أعلم الآن ما سيأتي بعد، ولكني أجد أن شواغلي تزداد كلما بحثت عن الفراغ، وتطلعت إلى الاعتزال.

وإني أفهم أن «بيني» يميل إلى ترك «انتيجوا». وربما كان على حق، ولا مانع عندي.

محبتي للأخ وللأطفال، وإنني يا أختاه العزيزة.

وكتب إليها هذه الرسالة؛ تعزية في موت ابنتها سارة:

فيلادلفيا في 10 من يوليو سنة 1764

أختي العزيزة

نحن جميعا نشاطرك الحزن في موت كريمتك. وقد كنت أراها دائما على خلق عذب محبوب وشمائل طيبة تضاعف الحزن عليها في نفس الأخ ونفسك فوق ما تحتملان، وكل ما نملكه من العزاء في مثل هذا المصاب أن نؤمن بأن الله يعلم ما هو أصلح وأجدر ويقدر على صنع الخير مما يبدو لنا أنه شر. وإنها لسعيدة تلك السعادة التي لا يشعر بها أحد منا وهو بقيد الحياة.

وكتب إليها في مسألة من مسائل العقيدة تعنيها بعد الاطلاع على بعض الكتب التي أرسلها إليها من البلاد الإنجليزية:

لندن في 27 من يوليو سنة 1771

وصل إلي خطابك الكريم المؤرخ في العاشر من شهر مايو، ويلوح لي أنك تحسين إحساسا شديدا بخطئك في التعجل باتهامي حتى ليحق لي أن أقول: إنه الآن دوري في الأسف لملاحظة ذلك الخطأ، فقد تعادلت الحسبة إذن، فلندعها ولا نعد إلى التفكير فيها.

ويخيل إلي أنني ذكرت ثمن الكتب في رسالة سابقة ونسيتها الآن، ولكنني أظن أن ثمنها ثلاثة شلنات لكل كتاب.

ولا ريب أن هناك اختلافا في أمر وجودنا قبل هذا الوجود، وأحسب أن هذه الفكرة قد صدرت عن حسن نية، لتبرئة حكمة الله من تعاسة الخلق في هذه الدنيا بغير جريرة لحقت بهم في دنيا قبلها، وربما كان هذا من الفضول بغير داع لتأييد قصة السفينة ، وإذا كان الإله قد شاء أن يلقي عليها سترا، فقد يكون الاجتراء على كشف ذلك الستر من قبيل التطفل واللجاجة، ولعل نجاحنا في هذه المحاولة لا يربى على نجاح أبوينا في محاولة المعرفة الممنوعة يوم أكلا من الشجرة.

ولست أعني بقولي: إن بني آدم بعضهم شياطين لبعض، إلا أنهم - لارتقائهم على غيرهم من الخلق - لا يعذبهم الخلق الآخرون كما يعذبون أنفسهم. ومن جانبي أنا أراني أتقبل الدنيا على علاتها، وأرى أن أشك في حكمتي كلما فكرت في وجوه صلاحها وإصلاحها، وإني لأبصر من الحكمة فيما أدرك من خلق الدنيا ونظام تدبيرها ما يلهمني أن هناك حكمة تعادلها فيما لست أدركه وأتقصاه. ومن ثم لا تكون الثقة التي عندي بالله دون الثقة التي عند سائر المسيحيين الأبرار.

ويسعدني أن التفاهم الحسن مستمر بينكم وبين آل فيلادلفيا، وقد كان أبونا حكيما جد حكيم، وكان من عادته أن يقول: إنه لا شيء أكثر من ظهور أسباب النفور بين المتحابين على البعد إذا اقتربت بهم الديار ... ولهذا لم يكن ليستحسن زيارات الآل في الأماكن البعيدة، لأنها تطول ولا يمكن أن تقصر إلى الحد الذي يتركهم على المودة والوئام حين يفترقون. وقد لمست برهانا على ذلك - العلاقة بين أبي وأخيه بنيامين، فقد كنت يومئذ طفلا، ولكني كنت أحس الفرق بين عبارات المودة في رسائلهما قبل اللقاء، وبين المناقشات والمجادلات التي تنشب بينهما إذ يقيمان في مسكن واحد. غير أنك أنت أدنى إلى الصواب فيما تختارينه من التوفيق آنة بعد أخرى؛ لإسداء النصيحة من بعيد في شئون الآخرين ومرافقهم، وكله خير ما دام يفضي إلى خير.

وأذكر أنك أشرت في إحدى رسائلك إلى النظارات ورغبتك في إرسال بعضها إليك، وليس لدي هذه الرسالة الآن؛ فلهذا أبعث إليك بزوج من كل مقاس من الواحد إلى الثلاثة عشر، وستعرفين المقاس الذي يوافقك بامتحان زوج بعد زوج على كلتا عينيك في النظر إلى مطبوعة دقيقة، واعزلي ما لا يوافقك لكيلا تعودي إلى تجربته مرة أخرى، وإنك لتجدين النظارة التي توافقك بالتجربة والمقارنة على مهل، وهو الأمر الذي لا يتيسر في الدكاكين حيث يعجل الناس باختيار النظارات، فترهق أبصارهم وتضرهم، وأشير عليك بتجربة كل عين على حدة؛ إذ قلما يوجد بين الناس من تتساوى لديهم العينان، ويكاد كل ناظر يعتمد على إحدى عينيه في القراءة والعمل لضعف في عينه الأخرى، أو لأنها أصلح للنظر البعيد. ولهذا تفيد النظارة المتساوية تلك العين المهملة، ولا توافق العين المعول عليها، ومتى عرفت ما يوافقك من النظارات، فاحتفظي بالأقوى منها للمستقبل حين تحتاجين إليها مع الزمن، وقدمي ما تستغنين عنه هدية للأصدقاء.

أما الخطأ الذي أومأ إليه فرنكلين في مقدمة الخطاب السابق، فقد يظهر من خطابيه التاليين، وأولهما بتاريخ الثلاثين من شهر ديسمبر سنة 1770 قال:

سنحت لي الفرصة، أثناء انتظار السفينة أكثر من وقتها المعهود - أن أكتب إليك بعدما فاتني، على ما أظن، أن أفعل حين رجوت ابن عمنا وليامز أن ينوب عني في الاعتذار إليك.

وصل إلي خطابك الكريم المؤرخ في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر على يد السادة الفتيان الذين حببوا أنفسهم إلي وإلى كثير من معارفنا بمسلكهم الحميد. وقد حقق جوشيا أمنية قلبه بالتتلمذ على مستر ستانلي الذي استجاب رجائي بعد طول انقطاعه عن التدريس، فقبل أن يعلمه بعض الدروس، وسر من سرعة فهمه وتقدمه، ويبدو لي أن جوناثان فتى ذو قيمة، رصين، منتظم، يميل إلى العمل والتدبير، وهي مخايل النجاح في الأشغال، وإني في صحبتهم لجد سعيد.

أما الإشاعة التي ذكرتها - وأخبرني جوشيا فحواها وهو أنني عزلت من وظيفة مدير البريد من أجل كتاب أرسلته إلى فيلادلفيا - فربما كان أساسها أن بعض الرؤساء قد ساءهم كتابتي أمثال تلك الكتب، ولاح عليهم أنهم يريدون أن يعبروا عن استيائهم على ذلك المنوال، ولكن أناسا من أصدقائي أشاروا برأي غير هذا الرأي على غير علم مني، فاضطر خصومي إلى القناعة بشتمي - عن سعة - في الصحف واستثارتي بذلك إلى الاستقالة. ولا أخالهم يفلحون في هذه الاستثارة؛ لأنني لا أملك تلك الفضيلة المسيحية فضيلة التسليم ،

12

فمن أراد أن يحتل مكاني فليأخذه عنوة.

ولقد سمعت عن عظيم من العظماء كان ديدنه في أمر الوظائف ألا يطلبها وألا يرفضها، وأضيف إليه كذلك ألا يستقيل منها، وقد قلت لأصدقائي: إنني ترقيت إلى تلك الوظيفة على درجات من الوظائف التي هي دونها، وكانت مواردها قبل ولايتي لا تأتي بمرتبها، فأصبح المرتب بعد ولايتي لا يعطى إلا إذا أتت به مواردها، وكانت في السنوات الأربع الأولى لا تقوم بتكاليفها حتى بلغ ديني ودين زملائي عليها تسعمائة وخمسين جنيها، فاجتهدت اجتهادي حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من الوفرة والفائدة، واعتقدت من ثم أنني صاحب نوع من الحق فيها، وقد قمت حتى الآن بالأمانة والصدق على أعمالها مما أرضى عني الرؤساء كل الرضا، وهو غاية ما كان يطلب مني في هذه الوظيفة. أما الكتب التي أنفذتها إلى فلادلفيا فقد كتبتها فعلا قياما بواجب آخر، وهو واجبي نحو وطني، ولا شأن له بعملي في إدارة البريد، وإن مسلكي في هذه المسألة لشبيه بمسلكي في مسألة سابقة لها حين كان الرؤساء يهمون باحتضاني، واعتناقي لمساعدتي إياهم في إلغاء قانون خاص بالإيراد، ولا يزال شعوري اليوم كشعوري بالأمس في أمر هذه القوانين التي لا يجوز أن تصدر هنا لتطبيقها في أمريكا، وأنها إذا صدرت وجب السعي إلى إلغائها على الأثر، ولست أعتقد أنني مطالب بتبديل شعوري كلما خطر لصاحب الجلالة هنا أن يغير وزراءه ووكلاءه، وقد كانت هذه عبارتي التي فهت بها لهذه المناسبة، ثم سمعت أنهم - وإن حسبوني حقيقا باللوم، وفهموا أن الموظف مطالب بمجاراة الوزير على رضا منه أو على غير رضا - وقد عادوا فنظروا إلى مسلكي الطيب وخلقي الشخصي كما تفضلوا فوصفوه، وقرروا من ثم ألا تنتزع الوظيفة مني.

وجائز أنهم ينكصون عن رأيهم هذا ويعزلونني، ولكنني على ثقة أن شيئا من هذا لن يبدل من خطتي السياسية، وخطتي التي اطمأننت إليها دائما هي ألا أحيد عن خطة في الشئون العامة رعاية لشأن من الشئون الخاصة، بل أمضي قدما في عمل الصواب الذي أعتقده، وأدع المصير بين يدي العناية الإلهية. وقد كان مما يسر لي أن أستقيم على النهج في صباي أنني كنت صاحب صناعة، وكنت أعلم أنني أقنع بالقليل في معيشتي، ولم يكن من همي يومئذ أن أجمع ثروة كبيرة، وأن أذهب مع الأطماع، قانعا بما أكسبه من الكفاية من موارد عملي. والآن أخال أن الاحتفاظ بحريتي ونزاهتي أيسر علي بعد أن بلغت النهاية من مراحل عمري، وقلت النفقة التي بقيت للبقية منها، وأن ما أملكه الآن ببركة الله وحسن القصد فيه ليكفيني، إلا إذا وقع من الكوارث العظمى ما ليس في حسابي، فلا حاجة بي إلى الزيادة عليه من موارد وظيفة أو إدارة.

أبعث إليك في هذه الفرصة الكتابين اللذين كتبت عنهما، وثمن كل منهما ثلاثة شلنات، وقد كنت في زيارتي السابقة للندن قبل خمس وأربعين سنة أعرف إنسانة تفكر تفكير مؤلفك اسمها «اليف» أرملة أحد الطباعين، وماتت على أثر سفري من إنجلترا، فكان من وصيتها لولدها أن يلقي علانية في قاعة صولتر خطابا يؤكد فيه أن هذه الدنيا هي الجحيم الحق مقر العذاب والعقاب للأرواح التي أذنبت في حياة أفضل من الحياة، فنفيت إلى الأرض لتجزى على ذنوبها في أسلاخ الحيوان على اختلاف أنواعه، وانقضى زمن طويل منذ اطلعت على الخطاب المطبوع الذي كان يستشهد بالكثير من آيات الكتاب المقدس، ومرماه أننا سنتذكر بعد الموت ما كنا عليه قبل الولادة، وإن كنا ننساه أيام المقام في هذه الدنيا، وأننا نذكر كذلك ما لقيناه من العقاب لنعتبر به ويعتبر به سوانا ممن لم يذنبوا مثلنا، فلا يقعوا في الخطيئة اعتبارا بما أصابنا.

والواقع أننا نرى هنا أن كل حيوان من الحيوانات الدنيا له عدوه الذي ركبت فيه الرغبات والغرائز والأسلحة التي تمكنه من تخويفه وجرحه والقضاء عليه. أما الإنسان - وهو أرفعها جميعا - فبعضه لبعض شيطان، وتلك حال تستدعي فرضا كفرض السيد اليف مع الإيمان بكرم الله وعدله في قضائه للتوفيق بين هذا الإيمان وكرامة العزة الإلهية. إلا أن عقولنا لا تذهب بنا بعيدا حين نسومها أن تبحث عما كان قبل وجودنا، أو ما سيكون بعد هذا الوجود لقلة التواريخ والوقائع التي بين أيدينا، وإنما يعطينا الوحي معرفتنا الضرورية بهذا، ويقصد غاية القصد على الخصوص فيما أعطانا من المعرفة عما كان قبل وجودنا.

أرجو أن تتابعي الكتابة إلى أصدقائك بفلادلفيا، ومحبتي لأنجالك، وعلى العهد، أخوك المحب الودود.

وكتب إليها ينفي إشاعة عن تعيينه في وظيفة إنجليزية أثناء قيامه بالوكالة عن بعض الولايات الأمريكية:

لندن في 28 من يولية سنة 1774

إن الإشاعة التي أشرت إليها، وقيل فيها أنني اقترحت أن أتخلى عن توكيلاتي وأنقطع عن وطني إنما هي أكذوبة خبيثة كما قلت في خطابك، وليست بالإشاعة الكاذبة وحسب، بل هي سخيفة مضحكة؛ إذ هي تفترض على الأقل أنني لا أعرف من الحساب ما أفرق به بين ثلثمائة وألف، وإنهم ليعاودون الإشاعة هنا حينا بعد حين زاعمين أنني ألتمس الوسائل للعودة إلى وظائف الحكومة، ولعلهم يتمنون ذلك وينتظرونه. فلينتظروا إذن إلى يوم الدين.

إن الله لأعلم بسريرتي، وإنني لآسف أن أتقبل أحسن الوظائف التي ينعم بها الملك هنا ما دامت تلك الأفاعيل الجائرة تسلط على وطني. وثقي أنني لن أصنع شيئا يمسني في نظرك، أو ينقض المسلك الأمين الذي سلكته حتى الآن في الأعمال العامة، وقد احتفظت بوظيفتي السابقة حتى عزلت منها ولم أعتزلها؛ لأنني لم أكن قد تلقيتها مكافأة من الحكومة، بل ارتقيت إليها بحق الخدمة فيما دونها والأمانة في تلك الخدمة، فجاز لي أن أعتبر لي حقا فيها أو حقا عليها، ولم أشأ أن أيسر لهم الأمر بالاستقالة لكي يبوء منهم من أراد أن يبوء بمسبة حرماني منها، وقد شرفوني بإخراجي من تلك الوظيفة، فليكن حذري الآن ألا يحملوني المسبة بإعادتي إليها.

وكل هذا أكتبه إليك أنت. أما الدنيا، فربما خطر لها أن هذه التصريحات والتوكيدات أمر لا يقبل التصديق ومحض ادعاء يدعيه المرء لتفخيم شأن نفسه. فلا تطلعي أيتها الأخت العزيزة أحدا على هذا، فإنما أكتبه إليك لمرضاتك وإراحة ضميرك مما عسى أن يساوره من القلق لسماع تلك الإشاعات.

وكتب إليها بعد انتخابه رئيسا للجمعية في فلادلفيا يعرب لها عن شعوره بالإجماع على انتخابه:

فلادلفيا في 4 من نوفمبر سنة 1787

وصل إلي منك أخيرا كتاب كريم سرني بما علمته من تمتعك بالصحة، وأنك اتخذت العدة للشتاء كما أنبأتك. ومطالبك مستجابة محترمة، وقد يتعذر علي أحيانا أن أعرف ما تحتاجين إليه، فأرجو ألا تحجمي أبدا عن إخباري بكل ما في وسعي أن أعمله لإسعادك في حياتك.

لقد عزمت من قبل أن أعتزل العمل في الهيئة النيابية سنة أخرى؛ كي يتسع أمامي الوقت للسفر إلى بوستون في الربيع، إلا أنني أذعن للإجماع الذي انعقدت عليه آراء بني وطني، فأقروني مرة أخرى على كرسي الرياسة وتم لي الآن أكثر من خمسين سنة في الخدمة العامة.

لما أخبرت صديقك الطيب دكتور كوبر أنني أمرت بالسفر إلى فرنسا بعد أن بلغت السبعين، وقلت له: إن «الجمهور» قد أكل لحمي ويريد اليوم على ما يظهر أن يأكل عظمي، أجابني قائلا: إنه يحبذ منهم حسن الذوق؛ لأن أطيب اللحم ما جاور العظم كما جاء في الأمثال، ولا بد لي أن أعترف لك بأنني مغتبط بذلك، وأحسب أن أختي العزيزة حقيقة أن تسر باختياري للمرة الثالثة بعد طول التجربة، وأن بني قومي يتفقون بإجماع الأصوات - ما عدا صوتي - على توجيه هذا التشريف إلي، وهو أكبر ما يملكونه من تشريف. وإن هذه الثقة العامة بغير قيد ولا حد من شعب كامل، لأعز عندي وأرضى لكبريائي من أرفع ألقاب النبلاء؛ فإن الأشرطة والحمائل التي يعلقونها حولهم، قد تضفي على أصحابها شرف الألفاظ والأسماء، ولكنها لن تمنحهم لباب الشرف الصميم.

13

خرافات وحكايات ذات مغزى

نشأت الخرافات، أو الحكايات الموضوعية ذات المغزى في أوقات متقادمة قبل الميلاد بعد قرون، وعرفتها الأمم الشرقية والغربية بأنواعها المتعددة، ومنها الحكايات التي توضع على ألسنة الحيوانات، والحكايات التي توضع على ألسنة مخلوقات عاقلة كالمخلوقات الآدمية مع اختلاف الشكل والفطرة كالجن ، والملائكة، والمردة، والأقزام، ومنها الحكايات المنتحلة التي تنسب إلى بعض الأشخاص التاريخيين، أو الذين تدعى لهم صفة تاريخية لإجراء الحكمة القديمة على ألسنتهم، وكل هذه الأنواع كانت معروفة قبل القرن السابع عشر في البلاد الغربية، ولكن هذا القرن - ولا سيما النصف الأخير منه - قد خص بظاهرة منفردة بين القرون الأخيرة، وهي شيوع هذه الحكايات فيه بجميع أنواعها، وانتقال الكثير منها إلى مجال النقد الاجتماعي والآراء التعليمية التي تنزع منزع الحرية وإعادة النظر في حقائق الحياة.

وقد نبغ بين منتصف هذا القرن ومنتصف القرن الذي يليه أعلام بارزون في هذا الفن من الأدب والحكمة من أمثال لافونتين الذي كان يلقب بايسوب الفرنسيين، وأمثال جون جراي الذي كان يلقب بايسوب الإنجليزي، ونبغ في هذه الفترة أمثال فولتير، وسويفت الذين اتخذوا من القصص المخترع وسيلة لنقد المجتمع، وكشف عيوبه منقولة إلى أناس بعيدين، أو أزمنة بعيدة لا تخفى على القارئ وجوه الانتحال والاختراع فيها، وتعليل هذه الظاهرة في أواخر القرن السابع عشر ليس بالأمر العسير؛ لأنه الزمن الذي تفتحت فيه العقول لحرية التفكير، ولم تبلغ مداها من الحرية دفعة واحدة، بل بدأت بالتلميح والكناية، وتدرجت منهما إلى التصريح الذي بلغ حد التهجم في كثير من الأحيان، وهذه الحكايات بأنواعها أداة صالحة للنقد المستور والحرية الفكرية المقنعة، يقبلها المنقودون ولا يتذمرون منها؛ لأنها تسليهم بالفكاهة ولا تخص أحدا منهم بالهجوم الصريح عليه، ولا تهدد مصلحة معلومة تهديدا يخشى منه أو تعرف عقباه.

وفرنكلين كعادته سريع إلى اقتباس كل وسيلة من وسائل المعرفة والتعليم «الأبوي» الذي يهدي الجميع، ولا يجرح أحدا مقصودا لذاته، وقد اقتبس هذه الوسيلة وتوسع فيها كما نرى من بعض رسائله السابقة، واقتبس الخرافة والحكاية ذات المغزى بأسلوبها القديم مع تجديدها بالاتجاه بها إلى الحكمة الواقعية في زمنه، وقد اخترنا منها هذه الحكايات الأربع؛ لأنها من حكاياته المعبرة عنه وعن شواغل ذهنه وحياته على التخصيص، فمنها حكاية عن الثورة الأمريكية، وحكاية عن حدود العقل الإنساني في طموحه إلى أسرار الكون، وأصول الحياة ، وصفات الخالق ومقاصده في خلقه، وحكاية عن عمر الحي كيف يتساوى فيه الدهر الطويل واليوم الواحد عند نهاية الأجل، وحكاية عن السماحة الدينية لها تاريخ خاص بين هذه الحكايات، وهي حكاية إبراهيم الخليل وحواره مع ربه في أمر الكفرة الجاحدين، فهذه الحكاية قد وقع عليها فرنكلين في بعض مطالعاته، ويعزوها بعضهم إلى السعدي الشيرازي شاعر الفرس المعروف، ويقال: إن السعدي نفسه سمعها من أصحاب الإسرائيليات، ولم يزعم فرنكلين قط أنها من تأليفه، ولكنه كان يداعب ضيوفه ويسألهم أن يفرقوا بين الأسلوب الذي وضعها فيه، وبين أسلوب الكتب الدينية التي احتواها العهد القديم، وكان يقول لطائفة منهم أمام بعض القسس أنه سيقرأ لهم الإصحاح الحادي والخمسين من سفر التكوين، ولا وجود لهذا الإصحاح في الكتاب؛ لأنه ينتهي بالإصحاح الخمسين! ولكنها دعابة من دعاباته وعادة من عاداته في محاكاة الأساليب، وكان يعالج هذه المحاكاة في إبان تعلم اللغة الفرنسية ليمتحن نفسه قبل أن يمتحن غيره. وقديما صنع ذلك، كما مر بنا، بأساليب أديسون وغيره من الكتاب المحدثين، ولعله لم ينس هنا نزعته القديمة إلى مذهب الربوبية

Deism

وآراء الربوبيين في طبيعة الوحي الإلهي الذي يتنزل على طبيعة البشر، فإنهم يعتقدون أن مضامين العهد القديم تسجيل توفر عليه الكتاب، والحفاظ لإثبات ما وعوه من الأقوال الملهمة على ألسنة الرسل والأنبياء.

وقد أثارت حكاية إبراهيم هذه ضجة لطيفة في إبان تأليفها وإلقائها، ثم أثارت بعد ذلك ضجة أخرى بعد طبعها وجمعها، وسول الحسد لأناس من شانئيه أن يتهموه بالسرقة الأدبية عمدا لظهور هذه الحكاية بين أوراقه المجموعة، وعملت الخصومة السياسية عملها في تكبير هذه التهمة، فنشرت في مجلة الخزانة البريطانية

British Repository

في عدد شهر مايو سنة 1788 حملة صحفية ترميه فيها بالسرقة والادعاء، ونفى صديقه فوجان

Vaughan

هذه التهمة بخطاب أرسله إلى المجلة ونشرته في عدد تال، وكتب فرنكلين نفسه إلى فوجان يعزز مقاله ويعيد قوله في المجلة أنه ينسبها إلى نفسه، وليس له فيها من عمل غير الصياغة، وما أضافه إلى ختامها من الوعد والوعيد،

1

فالحكاية - لما أحاط بها من هذه الحواشي جميعا - أحق الحكايات ذات المغزى بالنقل في هذا السياق.

وهذه هي الحكايات الثلاث ...

ملك الغاب

كان للأسد ملك إحدى الغابات جند من الكلاب الأمناء مخلصون له ولدولته، وعلى أيديهم اتسعت تلك الدولة وهابها من حولها جميع الأعداء.

إلا أن الأسد - ذهابا مع نصيحة السوء من مشيريه - نفر من أولئك الجند، ودانهم بالتهم دون أن يستمع إليهم وأمر بباره، وفهوده، ونموره أن تغير عليها وتفتك بها فتكا ذريعا، وشكا الكلاب فلم يؤبه لهم، ورفضت شكاياتهم بغير اكتراث. فلم يكن لهم بد من الذود عن أنفسهم وحماية حوزتهم، وفعلوا مستبسلين.

وكانت منهم فصيلة مدخولة النسب من سلالة الذئاب والثعالب، أفسدتهم وعود الملك بالمكافآت الجزيلة، فخذلوا سلالتهم وذهبوا إلى معسكر الأعداء.

وانتصر الكلاب أخيرا، فانعقد الصلح بينهم وبين الأسد أن يصبحوا أحرارا، وألا يكون له عليهم بعد ذلك من سلطان.

وتعذر على الأوشاب المدخولين أن يرجعوا إلى السكن بين الكلاب، فراحوا يلحون في طلب المكافأة الموعودة، واجتمع من السباع مؤتمر كبير للنظر في هذا الطلب، فاتفق الذئاب والثعالب على عدالة الطلب، وأن الوعود الملكية لا بد من نفاذها، وعلى كل مخلص من رعاياه أن يسهم في تمكين صاحب الجلالة من الوفاء بتلك الوعود.

وخالفهم الحصان وحده، فجهر برأي جريء يجمل بما في طبعه النبيل من الشجاعة والطلاقة، وتصدى لهم قائلا: «إن الملك قد أساء نصحاء السوء مشورته، وأوغروا صدره على رعاياه الأمناء، وإن وعود الملوك ينبغي أن تنفذ حقا إذا وعد بها من يصدقون الخدمة، وكان في إنجازها منفعة للجميع، ولكنها إذا استنفرت رعاياه بعضهم على بعض فهي باطلة من مبدئها، ومن جزاء المحرضين عليها والذين اقترفوا جرائم العدوان والغيلة من جراء ذلك التحريض أن يلقوا أشد العقاب بدلا من المكافأة وحسن الثواب، ولننظر كيف نقصت قوتنا، وهيض من بأسنا بما أصابنا من فقدان كلابنا، فإذا زينتم للملك أن يحسن إلى الذين قتلوا إخوتهم أقمتم بذلك سابقة تغري من طغى بأمثال تلك الوعود، وأصبحت كل مكافأة ينعم بها أولئك الناشزون المنحرفون توكيدا لها وتشجيعا عليها، وتعرض الخيل والبقر كما تعرض الكلاب لشر الوقيعة فيما بينهم والانقسام بين صفوفهم، وتتابعت الحروب الأهلية في ديارنا حتى لا أمان ولا حرية في هذه الغاب، ويحيق بنا الضعف فلا حيلة لنا غير الخضوع والانقياد لكل طاغية يحلو له أن ينكل بنا، وينعم بافتراسنا حين يشاء.»

ولم يخل المؤتمر من عقل وحكمة فأصاخ إلى الرأي الصراح، وقضى برفض ذلك الاقتراح.

أبو معشر الساحر

كبر الفلكي الطيب أبو معشر فكف عن العمل، ولاذ بقمة الجبل، وتجنب عشرة الناس، وأنس إلى أصحابه من المردة والجان الذين يحبونه ويرفهون عنه الوحدة بالأحاديث والأسمار، وما فيها من معارف وأخبار.

وزاره بلوبيل المريد ذات مساء، وهو مارد عظيم تعلو هامته سبعة فراسخ، وينبسط جناحاه على رحاب دولة شاسعة، فاستراح في لطف وهينة على ذؤابات الشجر في الوادي وأسند رأسه إلى جبل قلبون، واستقبل خيمة الساحر الكبير بوجهه المنير.

وتحدث إليه الساحر حديث الخشوع والتقوى عن حكمة العلي الأعلى، وعما في مقاديره من الخير والبركة، وقال للمارد: إن نعمته سبحانه وتعالى أجل من أن يحصيها، وإنه يركض عقله إلى أقصاه، ولا يدرك به الشأو فيما ينقب عنه ويتقصاه.

قال بلوبيل: على رسلك أيها الصديق، ولا تسرف في أمر تلك المزية التي تسميها بالعقل والحكمة، فإنك لو علمت أصلها ولمست مواطن ضعفها، كنت إلى الخجل منها أدنى منك إلى الزهو بها والاتكال عليها.

قال أبو معشر: أنبئني إذن بما لا أعلم، واكشف عني غشاء الجهالة، وسدد فهمي بنور الهداية.

قال بلوبيل: تأمل يا أبا معشر في سلم الخلق من الفيل إلى الصدفة، وانظر إلى درجة منها بعد درجة تجدها قريبا من قريب حتى لا فجوة بينها ولا تكاد تلمح الفارق بين منازلها ودرجاتها. وإن الناس عامة ليجهلون ما يجهلون، ولكنك أنت - أبا معشر - أهل لأن تعلم ما فوق الفيل من منازل ودرجات إلى غاية الغايات من العظائم والطيبات. فلا فجوة هناك بين خلق وخلق، بل هي درجة فوق درجة وأفق يعلوه أفق، لا يدركها البصر ولا يستوعبها الضمير، ولا يرتفع إليها الطرف إلا ارتد وهو حسير.

2

ذبابة الربيع

وألف فرنكلين هذه الخرافة، أو هذه الحكاية الرمزية ذات المعنى، بعد رحلة خلوية إلى جزيرة مولان جولي

Moulin Joli

بنهر السين، مع السيدة بريون التي كانت مشغولة - كسيدات المجتمع الباريسي كله - بالحرب الموسيقية بين المدرسة الألمانية والمدرسة الإيطالية، وكان في الرحلة معها طائفة من العلية المهذبين تحدثوا في مسائل شتى من مسائل الأدب، والفن، والفلسفة، وكتب فرنكلين هذه الحكاية ليضمنها عبرة الحياة بعد اليوم الذي قضوه في النزهة، أو بعد الأجل المعدود لأجيال الذباب التي تظهر في موسم الربيع، وتكثر في جزر الأنهار الفرنسية، ولا يطول بها العمر وراء اليوم الذي تولد فيه.

قال وهو يهدي الحكاية، أو العبرة، إلى تلك السيدة:

تذكرين يا صديقتي العزيزة أنني في ذلك اليوم السعيد الذي قضيناه في الحديقة البهجة والصحبة الحلوة عند مولان جولي، قد تنحيت هنيهة عن الزمرة وتخلفت وراءها قليلا منفردا بنفسي، وقد رأينا أثناء ذلك عددا كبيرا من «الهياكل العظمية» لذلك الذباب الذي يسمونه تارة «بالمنا» وتارة بذباب الربيع، وقيل لنا: إن أجيالا منه تحيا وتموت وتتعاقب في مدى النهار الواحد، وصادفني جمع من هذا الذباب منعقدا على ورقة من أوراق الشجر مستغرقا في الحوار والجدل، وأنت تعلمين أنني بألسنة هذه الخلائق الدنيا خبير.

إن اشتغالي بألسنة هذه الأحياء لهو العذر الذي أعتذر به من التقدم البطيء في تعلم لسانكم الجميل، فأصغيت - بداعي الفضول - إلى حديث المؤتمر، ولم يتيسر لي أن أستوضح جلية القول من كل حديث؛ لأنهم كانوا في اندفاعهم وحمية شبابهم يتكلمون كل أربعة أو خمسة في وقت واحد. إلا أنني أدركت من كلمة هنا وكلمة هناك أنهم يتناقشون في المفاضلة بين الطنين الذي يسمع من إحدى مدارس الذباب الغنائية والطنين الذي يسمع من المدرسة الأخرى، وكانوا مستغرقين في هذه المناقشة كأنهم على ثقة من امتداد العمر بهم شهرا أو يزيد.

قلت في نفسي: ما أسعد هؤلاء القوم! وقلت كأنني أخاطبهم: لا شك أنكم تعيشون في ظل حكومة رفيقة عادلة، لا تشغلكم بالشكايات والمظالم عن الاسترسال في أمثال هذه الأحاديث عن الموسيقى الأجنبية التي تبحثون في محاسنها أو عيوبها، وأدرت بصري عنهم، فلمحت واحدا منهم أشيب الرأس منفردا على ورقة أخرى يناجي نفسه نجاء أعجبني وراقني، فدونته على الورق لساعته.

كان هذا الحكيم الذبابي يقول: إن حكماء أمتنا الذين عاشوا قبلنا منذ عصر بعيد يقولون: إن هذا العالم الفسيح المسمى بالمولان جولي لن يعمر أكثر من ثماني عشرة ساعة، وأخالهم على حق فيما يقولونه؛ لأن هذا النهر العظيم الذي تتولد منه الحياة كلها قد مال في حياتي إلى جانب البحر المحيط حيث يغرق لا محالة، وينطفئ وتخمد معه شعلة الحياة في كل مكان، ويدع هذا العالم الكبير مطويا في غمرة البرد والظلام.

ولقد عشت سبعا من هذه الساعات - عمرا طويلا ولا ريب؛ لأنه لا يقل عن أربعمائة وعشرين دقيقة، وما أقل الذين يعمرون منا مثل هذا العمر الطويل! لقد أبصرت بعيني أجيالا تولد، وتحيا، وتموت، وصحابتي اليوم إنما هم الأبناء والحفدة لمن كانوا صحابة لي في ريعان الشباب، ولم يبق منهم أحد أراه وا أسفاه.

وإني لا محالة لاحق بهم عما قريب؛ فإنني - وإن كنت في صحة وعافية - لن أخرق قانون الطبيعة، ولا مطمع لي في البقاء بعد سبع دقائق أو ثمان. فما غناء هذا العناء الذي عانيته وهذا الشهد الذي جمعته على هذه الورقة حيث أتركه ولا أنعم بمذاقه؟ ما غناء الغزوات السياسية التي غزوتها في سبيل هذه الجماعة على تلك الأجمة؟ ما غناء الفلسفة ومعضلاتها التي تعمقت فيها عسى أن أفيد بها أبناء النوع كله؟ وما غناء القانون في السياسة بغير أخلاق؟

إن جيلنا الحاضر من ذباب الربيع لوشيك أن يخالطه الفساد والمنكر خلال لحظات، ويصبح كغيره وغيره من سكان تلك الأجمات في ضروب الفساد والشقاء، أما الفلسفة، فما أقصر الخطى التي خطوناها في مضمارها! وما أصدق قول القائلين: إن الفن لطويل، وإن العمر لقصير.

ويواسيني أصدقائي، فيذكرون لي السمعة التي سأتركها من بعدي ويقولون لي : أنني استوفيت حكم الطبيعة، وحكم المجد أجمعين. فماذا تجدي السمعة ذبابة قد فنيت وليس لها من وجود؟ وماذا يبقى من التاريخ كله بعد الساعات العشر والثمان، وبعد فناء الدنيا وفناء المولان جولي نفسها في غيابة الظلام والخراب؟

إنني - بعد السعي الحثيث والدأب الطويل - لم يبق لي من متعة في العمر غير التدبر في تلك الأيام الطوال التي أحسنت فيها المقصد والنية، وغير الأحاديث التي أبادلها نخبة من الذبابات الطيبات، وغير ابتسامة من حين إلى حين، أو أغنية في يوم بعد يوم، تجود بهما الحبيبة الحسناء.

إبراهيم والضيف الكبير

وحدث بعد هذه الأشياء أن إبراهيم جلس على باب خيمته قريبا من وقت غروب الشمس.

ونظر فرأى رجلا حنته السنون مقبلا من ناحية البرية، متوكئا على عكاز.

ونهض إبراهيم واستقبله وسأله قائلا: بحقك أن تأوي إلى خيمتي أغسل قدميك، وتستريح طول الليل، وتمضي إلى سبيلك عند الصباح.

ولكن الرجل قال: لا، وقال أنه سينام تحت تلك الشجرة.

وكرر إبراهيم الدعوة وألح عليه كثيرا ليقبل دعوته، فقبل ودخل معه الخيمة وصنع له إبراهيم خبزا فطيرا وأكلا معا.

ولما رأى إبراهيم أن الرجل لم يحمد الرب ولم يتوجه إليه بالصلاة سأله: ما لك لا تعبد الرب العلي الأعلى خالق الأرض والسماء؟

وأجاب الرجل فقال: إنني لا أعبد الإله الذي تتحدث عنه ولا أسبح باسمه؛ لأنني اتخذت لنفسي ربا يقيم معي في بيتي ويزودني بجميع الأشياء.

وثارت ثائرة إبراهيم على الرجل فقام ودفع به إلى البرية مشيعا باللطمات والضربات.

وفي منتصف الليل نادى الرب إبراهيم قائلا: أين الرجل الغريب؟

وأجاب إبراهيم فقال: إنه لا يعبدك ولا يسبح باسمك، فأخرجته لأجل هذا من خيمتي ودفعت به إلى البرية.

وقال الرب: هل أصبر عليه أنا هذه السنين المائة والثماني والتسعين أطعمه وأكسوه ولا أبالي عصيانه لي، وتأتي أنت صاحب الخطيئة فلا تصبر عليه ليلة واحدة؟

وقال إبراهيم: لا يحم غضب الرب على عبده. لقد أخطأت وأتوسل إليك يارب أن تغفر لي خطيئتي.

ونهض إبراهيم وخرج إلى البرية وبحث عن الرجل بحثا شديدا، فوجده وعاد به إلى الخيمة فأكرمه وتلطف له وشيعه في اليوم التالي بالهدايا.

وتكلم الرب مرة أخرى مع إبراهيم قائلا: من أجل خطيئتك هذه يتعذب أبناؤك أربعمائة سنة في أرض غريبة.

ولكن من أجل توبتك أنقذهم وأخرجهم أقوياء بقلوب فرحة وخير كثير.

3

علميات

الزيت على الماء

والرسالة الآتية كتبها فرنكلين إلى صديقه وليام بروننج من علماء إنجلترا الطبيعيين في عصره، يطلعه فيها على تجاربه في تهدئة البحر الهائج بصب الزيت على الماء، وقد تليت هذه الرسالة على مجمع العلوم البريطاني في الثاني من شهر يونيو سنة 1774 ثم نشرت في مجموعتها الفلسفية، وقد ترجمناها من «الكتابات الترجمية» التي سبقت الإشارة إليها:

لندن في السابع من نوفمبر سنة 1773

سيدي العزيز

أشكر لك ما أبلغتني من ملاحظات صديقك العلامة في كارليسل، وقد كنت في صباي أبتسم حين أقرأ كلام بليني

عن عادة الملاحين في زمنه أن يعالجوا تهدئة الأمواج في العاصفة بإراقة الزيت على البحر، وهي عادة أشار إليها مع إشارته إلى استخدام الغطاسين للزيت، ولكنني لم أتلفت إلى تهدئة الهواء العاصف برش الخل فيه، وأرى كما يرى صديقك أن المتأخرين أفرطوا في السخرية من معارف الأولين، وأرى كذلك أن العلماء أيضا يفرطون في السخرية من معارف العامة، ومن الأمثلة على ذلك أن التبريد بالتبخير تجربة عرفها العامة منذ زمن طويل، وأما تهدئة الأمواج بالزيت فهي من الأمثلة على كلا الأمرين.

ولعلك لا تأبى أن أبسط لك كل ما سمعت وعلمت وعملت في هذا الصدد، وهأنذا أستأذنك في أن أبسطه بين يديك: في سنة 1757 كنت في أسطول مؤلف من ستة وتسعين شراعا يتجه إلى لويربورج، ولاحظت أن مؤخرة سفينتين في الأسطول هادئة على نحو يلفت النظر، على حين لاحظت الاضطراب في السفن الأخرى بمهب الريح التي أخذت في الهبوب. وحرت في الاختلاف بين المنظرين، وأفضيت بحيرتي إلى الربان سائلا عن سر هذا الاختلاف، فقال لي: إن الطباخين على ما يظهر قد أفرغوا في البحر بقايا الماء الوضر، فأسلست قليلا جوانب السفينتين، وكان في إجابته مسحة من الاستخفاف بهذا الجهل لأمر من الأمور االتي لا يجهلها أحد، ولكنني استخففت أيضا بالتفسير الذي أبداه، وإن لم يكن في وسعي أن أعثر على تفسير خير منه، ثم تذكرت ما قرأت في بليني، فعولت على تجربة أثر الزيت على الماء عند سنوح الفرصة الملائمة.

وعدت إلى البحر منفردا سنة 1762، فلاحظت أولا ذلك الهدوء العجيب في الزيت الذي كان على ماء المصباح المترجح الذي علقته في الكبينة كما وصفته في أوراقي، وطفقت أنظر إليه وأظنه ظاهرة ليس لها تفسير. وكان معي من الركاب ربان قديم لم يهتم بالملاحظة؛ لاعتقاده أن الظاهرة من قبيل ظاهرة الزيت الذي يراق على الأمواج لتهدئتها، وهي كما قال عادة البرموديين كلما أرادوا إصابة سمكة يحول اضطراب الموج دون رؤيتها، ولم أكن قد سمعت بهذه العادة قبل ذلك، فكنت مدينا له بما أخبرني عنها، وإن كنت لا أوافقه على التشابه بين ظاهرة المصباح وظاهرة الموج؛ لما بينهما من الاختلاف في العمل والنتيجة؛ إذ كان الماء في إحدى الحالتين هادئا حتى يوضع الزيت عليه فيضطرب، وكان الماء في الحالة الثانية مضطربا حتى يوضع الزيت عليه فيهدأ.

وأخبرني السيد نفسه أن العادة متبعة بين الصيادين من أهل لشبونة، كلما عادوا إلى النهر وأبصروا على حوافي القوارب طفاوات يخشون أن تغمرها، فإنهم في هذه الحالة يفرغون زجاجة أو زجاجتين على ماء البحر فلا يطغى على القوارب ويمرون بسلام.

ولم تسنح لي فرصة لتعزيز هذا الخبر حتى تحدثت مع شخص آخر طويل الخبرة بالملاحة في البحر الأبيض المتوسط، فأخبرني أن الغطاسين هناك إذا احتاجوا إلى النور في القاع وحال بينهم وبينه اضطراب سطح الماء، نفثوا من أفواههم قليلا من الزيت بين حين وحين، فصعد إلى السطح وهدأ الماء فنفذ منه النور، وجعلت أقلب هذه المعلومات في ذهني وأعجب لخلو كتبنا في التجارب الفلسفية من الإشارة إليها.

وألفيتني أخيرا في كلافام، وفيها بركة لاحظت يوما من الأيام أنها مضطربة الماء فأرقت عليها قليلا من الزيت ورأيته ينتشر على سطحها بسرعة مدهشة، ولكنه لم يؤثر في تهدئة الماء؛ لأنني أرقته في اتجاه الريح حيث كان معظم الموج فعادت به الريح إلى الشاطئ، فقصدت بعد ذلك إلى الجهة التي تهب منها الريح ويتموج عندها الماء، وألقيت ثمة قليلا من الزيت لا يزيد على ملء ملعقة من ملاعق الشاي، فما هو إلا أن وصل إلى الماء حتى سكن على الأثر إلى مدى عدة ياردات، وراح ينتشر وينتشر حتى بلغ الجانب الآخر مهدئا تلك الرقعة كلها - قرابة نصف فدان - كأنها صفحة مرآة.

بعد ذلك تعودت أن آخذ معي - كلما ذهبت إلى الخلاء - قليلا من الزيت في تجويف القصبة العليا من عصاي لأكرر التجربة حيث تتهيأ لي الفرصة، فوجدتها ناجحة على الدوام.

وقد لفتني في جميع هذه التجارب شيء واحد بصفة خاصة، وهو هذا الانتشار الواسع السريع القوي الذي تنتشره قطرة واحدة من الزيت على صفحة الماء، ولا أعلم أن أحدا اهتم بهذه المشاهدة قبل الآن. فإن قطرة الزيت إذا وضعت على مائدة من المرمر المصقول أو على مرآة في وضع أفقي تلبث في موضعها ولا تنتشر إلا قليلا.

إلا أنها إذا ألقيت في الماء لا تلبث أن تنتشر على صفحته عدة أقدام، وترق جدا حتى تنعكس عليها ألوان الطيف إلى مدى غير قصير، ثم لا تزال ترق وراء هذا المدى حتى لا تبدو للنظر، إلا ما يكون من أثرها في تهدئة الموج، وكأنما يحدث بين أجزائها تدافع مشترك في اللحظة التي تقع فيها على الماء، ويكون ذلك التدافع من القوة بحيث يعمل عملا في الأجسام العائمة على صفحة الماء من قبيل القش أو ورق الشجر أو الحتاتة، مضطرا إياها أن ترجع عن القطرة كأنها ترجع عن مركز حركة إلى مدى غير قريب، ولم أتبين بعد مقدار هذه القوة، ولا قياس المدى الذي يمتد إليه أثرها، ولكني أحسبها مسألة من مسائل البحث وأود أن أستطلع سرها.

وقد سافرت إلى الشمال تلك السفرة التي سعدت فيها بلقائك في أورماثويت

Ormathwaite

فزرنا النابه الشهير مستر سميتون على مقربة من ليدز، وهممت أن أريه التجربة على بركة صغيرة بجوار بيته فقال لنا تلميذ ذكي من تلاميذه - وهو مستر جيسوب - أنه شهد هنالك ظاهرة غريبة منذ وقت قريب، وكان يهم بأن يغسل في الماء قدحا من أقداح الشاي يضع فيه الزيت، فألقى منه على الماء بضع ذبابات غرقت في الزيت، فما كادت تصل إلى الماء حتى أخذت تتحرك وتدور دورة سريعة كأنها حية ناشطة، وإن كان قد لمسها فعلم أنها ليست كذلك، فاستخلصت من ذلك على الأثر أن الحركة آتية من التدافع الذي أشرت إليه، وأن الزيت الذي يرسله جسم الذبابة الإسفنجي تدريجا يدفع تلك الحركة إلى الاستمرار، وعاد التلميذ فوجد في الزيت بعض الذبابات الغرقى، كررنا التجربة عليها وأردت أن أستوثق من أن الحركة لم تحدث من رجعة الذباب إلى الحياة، فأجريت التجربة على الفتات وقطع الورق مقصوصة على شكل الواو في حجم الذبابة المألوف، فوجدنا التيار يدفعها ويدير الواو إلى الجهة المضادة. وليست هذه تجربة بيتية بين جدران حجرة؛ لأنها لا يمكن أن تعاد في ماء جردل أو إناء على المائدة، ولا بد من صفحة كبيرة على وجه الماء تتسع لامتداد قطرات الزيت القليل. أما الطبق أو الإناء فإن قطرة الزيت الصغيرة فيه إذا ألقيت في الوسط شاعت على وجه الماء كله طبقة وضرة صادرة من القطرة وتوقف صدورها لمجرد وصول الطبقة إلى جوانب الإناء، ومنعتها تلك الجوانب أن تتخذ شكلا غير شكل الزيت بمنع الامتداد من مصدرها.

وقد ذهب صديقنا سير جون برنجل بعد ذلك إلى سكوتلاند، فعلم أن الصيادين الذين يعملون في صيد سمك الرنجة يستطيعون رؤيتها على بعد، وأنهم ربما ساعدهم على الرؤية مادة زيتية تنبعث من أجسامها.

وأخبرني سيد من جزيرة رود أنهم لاحظوا هناك في ميناء نيوبورت أن الماء يظل ساكنا ما بقيت فيه سفينة من السفن التي تستخدم في صيد الحيتان، وربما كان ذلك لأن الآنية التي يودعونها دهن الحوت يرشح منها الدهن إلى الماء الذي يفرغونه من سفنهم وينتشر على صفحة الماء في الميناء، فيحول دون إثارة الأمواج عليه.

وسأحاول تفسير ذلك المانع؛ فالظاهر أنه لا توجد بين الماء والهواء طبيعة التدافع التي تمنع اتصال أحدهما بالآخر. ومن ثم نجد في الماء بعض الهواء ويعود الهواء بمثل ذلك المقدار إلى الماء إذا استخرجناه بالمضخات، وعلى هذا يمكن أن يمر الهواء على صفحة الماء الساكنة ويحدث فيها الثنايا التي تتكون منها الأمواج، ومتى برزت موجة - بالغة ما بلغت من الصغر - على وجه الماء لم تهبط على الأثر فتترك الماء إلى جانبها على سكونه، بل يكون هبوطها سببا لبروز موجة أخرى بغير اختلاف في احتكاك الأجزاء، وإذا ألقي في الماء حجر نشأت منه موجة واحدة حوله في أول الأمر ويتركها فيرسب في القاع، ولكن هذه الموجة تهبط فتبرز إلى جانبها موجة أخرى فموجة غيرها إلى أمد بعيد.

والقوة الصغيرة إذا تكررت كان لها أثر كبير. فالإصبع إذا لمست جرسا كبيرا لمسة واحدة لم تحركه إلى حركة يسيرة، ولكنها إذا لمسته مرة بعد مرة بالقوة نفسها زادت الحركة حتى يصل الجرس إلى أعلى ذروته بقوة لا تستطيع الذراع كلها أن تقاومها، وكذلك الموجة الصغيرة الأولى التي تظل الريح مؤثرة فيها تزداد في الامتداد، وإن كانت الريح لا تزداد في القوة، وترتفع ثم ترتفع فتمتد قواعدها حتى تشمل مقدارا كبيرا من الماء في كل موجة، وتندفع في حركتها بقوة شديدة.

أما إذا وجد التدافع المتبادل بين أجزاء الزيت، ولم يوجد التجاذب بين الزيت والماء، فالزيت الذي يراق في الماء لا يتماسك في الموضع الذي ألقي فيه ولا يمتصه الماء، وينطلق ممتدا بغير عائق فينبسط على صفحة واسعة تحول - فضلا عن ملاستها - دون احتكاك الهواء مباشرة بالماء، ويستمر هذا المانع مع امتداد الزيت حتى يبلغ من الامتداد غايته القصوى فيضعف أثره ويزول.

وإنني أتخيل الآن أن الريح متى هبت على ماء مغطى على ذلك النحو بطبقة من الزيت، لم يسهل احتكاكها به ذلك الاحتكاك الذي يبرز الموجة الأولى، بل تنساب فوقه وتدعه ساكنا كما كان، وهي تحرك الزيت قليلا ولا شك، ولكنها حركة بين الزيت والماء تساعده على الانسياب وتمنع الاحتكاك، كما يمنع احتكاك أجزاء الآلات، ولهذا يذهب الزيت الذي يراق في اتجاه الريح إلى الوجهة المقابلة؛ إذ كانت الريح في هذه الحالة لا تتمكن من إثارة الخلجات الأولى التي تتكون منها الأمواج، فتبقى البركة كلها على حالها من الهدوء.

وفي وسعنا إذن أن نقمع الموج حيث نريد إذا وصلنا إلى المهب الذي تنشأ منه أوائلها، ويتعذر ذلك في البحر المحيط أو يحدث في الندرة القليلة إن حدث، إلا أنه قد يتيسر بعض العمل لتخفيف دفعة الأمواج حين نكون في وسطها، فنمنع انكسارها كلما وافقنا ذلك؛ إذ لا يخفى أن الريح كلما هبت من جديد نجم وراء كل موجة خلجات صغار تزعج صفحتها وتهيئ للريح أن تأخذ بمقبضها لتدفعها دفعة أقوى، وهذا المقبض لا يتهيأ للريح بمنع الخلجات الصغار، وربما لم يتهيأ كذلك عند تزييت صفحة الموجة، فتدفعها الريح إلى أسفل بدلا من تحريكها إلى جانبها، وتعمل بذلك على تهدئة الموج بدلا من استمراره.

وهذا - على اعتباره من قبيل التخمين - لا قيمة له إن لم يكن صب الزيت في وسط الأمواج ذا بال، ولم يفسر بعد بتفسير غير هذا التفسير.

إن الريح عندما تهب متوالية بحيث لا تسرع الموجات إلى تلبية فعلها تكون رءوسها خفيفة، فتندفع وتتكسر كالرغو الأبيض، وإن الأمواج عادة ترفع السفينة ولا تدخلها، ولكن هذه الأمواج المرغية المزبدة إذا تعاظمت وارتفعت قد تغمرها وتعرضها للخطر العظيم.

وليس لدينا تجربة تثبت لنا أن هذا الخطر يمكن منعه، وأن ارتفاع الأمواج في البحر الزاخر مما يمكن تخفيفه؛ لأن ملاحظة بليني عن تجارب الملاحين في عصره لم يلتفت إليها، إلا أنني حادثت أخيرا صاحب السعادة الكونت بنتنك الهولندي، وابنه الربان بنتنك، والأستاذ العلامة اليماند، وأريتهم تجاربي في تهدئة الأمواج العالية على رأس البستان الأخضر، فذكر لي الكونت خطابا تلقاه من بتافيا عن إنقاذ سفينة في زوبعة بصب الزيت على الماء ، ووددت لو حصلت على نسخة من هذا الخطاب، فسمح لي الكونت بها بعد ذلك، وهذه هي نبذة من الخطاب المؤرخ في الخامس من شهر يناير سنة 1730 يقول فيها مستر تنجناجل للكونت بنتنك:

إنه على مقربة من جزائر بول وأمستردام لم يوجد ما يستحق التبليغ، إلا ما حدث من اضطرار الربان طلبا للسلامة أن يصب الزيت على الماء لمنع تدفق الأمواج فيها، فكان لذلك أثر بين ونجونا بفضله، ولما كان الربان قد حرص على صب الزيت قليلا بعد قليل، فشركة الهند الشرقية مدينة بنجاة سفينتها لست قنينات من زيت الزيتون، وقد كنت على ظهر المركب عند إجراء هذه التجربة، ولم يحملني على الكتابة بها إليك إلا ما وجدته من شك القوم في نفعها وضرورة العلم بهذا النفع وإقرار هذه التجربة بشهادتنا وشهادة الضباط في السفينة، مما تيسر لنا بغير مشقة.

لهذه المناسبة رويت للربان بنتنك فكرة خطرت لي أثناء الاطلاع على رحلات ملاحينا المتأخرين، وبخاصة حين يذكرون الجزر الجميلة الخصبة التي يتوقون إلى الإرساء بها إذ يلجئهم إلى ذلك الدوار والمرض، ثم يحول البحر المضطرب دون بلوغهم شواطئها، والفكرة التي خطرت لي أنهم يستطيعون الإرساء بها إذا ترددوا جيئة وذهوبا على مسافة قريبة من الشاطئ، وصبوا الماء أثناء ذلك مع اتجاه الريح الساحلية، فربما هبطت الأمواج قبل وصولهم إلى الشاطئ، وهدأت حركتها العنيفة هدوءا يمكنهم من الوصول إليه، إذ يكون في الأمر من الفائدة ما يساوي قيمة الزيت المصبوب.

وتفضل السيد، الذي أثرت عنه الغيرة على تحقيق كل ما فيه المصلحة، وإن لم يلتفت إلى مخترعاته الذكية الالتفات الواجب لها، فدعاني إلى بورتسموث حيث يرجى أن تسنح الفرصة للتجربة على شواطئ سبتهيد، وتلطف فزاملني في الرحلة، ووعد بإعطائي الزوارق اللازمة لتلك التجربة.

وعلى ذلك ذهبت إلى بورتسموث حوالي منتصف أكتوبر الماضي مع بعض الصحاب، وهبت ريح ساحلية بين مستشفى هسلار والموقع القريب من جليكر، فخرجنا من السفينة سنتاءور في زورق طويل وصندل متجهين إلى الساحل ، وكان ترتيبنا هكذا؛ الزورق الطويل على مسافة ربع ميل من الساحل، وفئة من الصحبة نزلت على الساحل وراء الموقع القريب من جليكر؛ وهو مكان محمي من ناحية البحر، ثم جاءت واستقرت على مكان مواجه للزورق الطويل حيث يتسنى لهم أن يراقبوا صفحة الماء، ويلاحظوا ما يطرأ عليها من التغيير بعد صب الزيت، وكانت فئة أخرى على الصندل على اتجاه الريح من ناحية الزورق الطويل في موضع وسط بينه وبين الساحل تذهب وتجيء وهي تصب الزيت على الماء من قدرة فيها سدادة مفتوحة أوسع قليلا من ريشة الأوزة، فلم تسفر التجربة عن النجاح الذي رجوناه ولم يلاحظ فرق محسوس على الموج بجوار الساحل، غير أن ركاب الزورق الطويل شاهدوا ممرا هادئا على طول المسافة التي كان الصندل يصب الزيت عليها يتسع كلما اقترب من الزورق الطويل، وأقول: إنه ممر هادئ، ولا أعني أن صفحة الماء كانت مستوية، بل أعني أنها مع ارتفاع الموج فيها لم يكن ثمة أثر للخلجات الصغيرة التي أشرت إليها آنفا، ولا للزبد الذي يعلو فوق رءوس الأمواج، وإن يكن في متجه الريح والجانب المقابل له كثير من تلك الخلجات، واتفق مرور زورق منشور الشراع هناك، فاختار الممر طريقا للعبور.

وقد يفيد وصف التجربة التي لم تنجح عسى أن تصحح التجربة في مرة أخرى، ولهذا وصفتها بالتفصيل، وأرجو أن أضيف إلى وصفها تعليلا لحبوطها وخيبة الأمل فيها.

يلوح لي أن عمل الزيت على الماء «أولا» أن يمنع ارتفاع موجات جديدة بهبوب الريح، وثانيا أن يمنع اندفاع الموجات التي ارتفعت فعلا بقوتها الأولى، فلا تحدث موجات أخرى ترتفع مثل ارتفاعها كما يحدث لو لم يكن على صفحة الماء زيت مصبوب. إلا أن الزيت لا يمنع التموج الذي يحدث لسبب آخر أو قوة أخرى، كقوة الحجر الذي يسقط في بركة ساكنة؛ لأن الموج يرتفع إذن بقوة الحجر الدافعة «الميكانيكية» التي لا تستطيع الصفحة المزيتة أن تمنعها كما يمتنع اتصال الهواء بالماء وإثارة الأمواج فيه.

والموجات التي ترتفع بقوة الريح أو بغيرها تعمل عملا واحدا في الارتفاع والهبوط، كما يعمل الرقاص بعد انقطاع عمل القوة التي دفعته إلى الحركة الأولى، وهي حركة تسكن مع الزمن، ولكن لا بد لها من زمن على أية حال.

وعلى ذلك يمكن أن يضعف الزيت على البحر الهائج دفعة الموج الذي على صفحته، فيهبط لامتناع التأثير الجديد الذي يطرأ عليه، ولكنه لا بد من مرور زمن قبل ظهور الأثر على مثال ما يحدث عند هدوء الريح فجأة؛ فإن الأمواج لا تهدأ فجأة بهذه السرعة، بل تأخذ في الهدوء شيئا فشيئا حتى تنقطع الريح.

ونحن كذلك وصلنا بصب الزيت على الماء إلى تهدئة الأمواج التي ارتفعت قبل ذلك، ولم يكن منتظرا أن تتم هذه التهدئة على الأثر حتى تستوي الصفحة كل الاستواء، ولا بد للحركة التي بعثتها أن تستمر بعض الوقت، وأن تصل إلى الساحل بقوة وسرعة إن لم يكن على مسافة بعيدة، فلا يلاحظ عليها ضعف محسوس، ويجوز أننا - على مسافة أبعد من تلك - كنا نحس للتجربة أثرا أكبر من ذلك لو أننا بدأنا عملنا على مسافة أبعد من الساحل، أو يجوز أن الزيت الذي صببناه لم تكن فيه الكفاية، وتظهر النتيجة في التجارب التالية.

ولقد شكرت الربان بنتنك لمساعدته الطيبة الرضية، ولا أنسى فضل مستر بانكس، والدكتور سولاندر، والجنرال كارنوك، والدكتور بلاجدن الذين اشتركوا في التجربة في ذلك اليوم المضطرب المزعج، وصبروا على الدأب فيها صبرا لا باعث له غير زيادة المعرفة، وبخاصة تلك المعرفة التي تنفع الناس في مواقف الشدة والحرج.

وبودي لو أطلعت صديقك الألمعي مستر فاريس على هذه الرسالة مع تبليغه تحيتي واحترامي، وإنني يا سيدي العزيز مع تقديري الخالص ... إلخ إلخ.

اجتماعيات

والاجتماعات التي كتبها فرنكلين تتسم - كسائر كتابته - بسمة السماحة الفطرية التي تنظر إلى الحقائق من وراء حدود الأجناس والألوان، وتعرف في الوقت نفسه حدود الطاقة الإنسانية، فلا تنسى الأعذار وهي تحكم على الذنوب، ولا تجهل الضرورات وهي تتكلم على الواجبات، ونجتزئ من هذه الاجتماعيات بفصلين؛ أحدهما عن الهنود الحمر ، والآخر عن المرأة الخاطئة.

قال بعنوان : «في شئون المتوحشين المقيمين بأمريكا الشمالية» نسميهم متوحشين؛ لأن عاداتهم تخالف عاداتنا التي نحسبها غاية الدماثة والأدب، وإنهم ليحسبون عاداتهم كذلك.

وأخالنا لو درسنا عادات الأمم المختلفة بغير تحيز لم نجد شعبا قط يبلغ من خشونته أن يتجرد من قواعد الأدب والمجاملة، ولم نجد شعبا قط يبلغ من أوبه ومجاملته أن يخلو من بعض الخشونة.

إن الرجال الهنود في صغرهم صيادون ومقاتلون، وهم في كبرهم نصحاء مستشارون؛ لأن أمور الحكم كلها تجري بينهم وفاقا لمشورة الحكماء؛ فلا سلطة ولا سجون ولا شرطة تكرههم على الطاعة، ولهذا تراهم يمارسون صناعة الكلام، فأبلغهم أكبرهم نفوذا بين قومه.

والنساء الهنديات يحرثن الأرض، ويطهون الطعام، ويرضعن الأطفال ويربينهم، ويحفظن للخلف مأثورات السلف.

وهذه الشواغل التي يشتغل بها الرجال والنساء معدودة بينهم من الأمور الفطرية الموقرة. وهم - لقلة مطالبهم الصناعية - يجدون متسعا من الوقت لتهذيب المحادثة والسمر، وينظرون إلى أسلوبنا المجهد في المعيشة نظرتهم إلى ضعة الرق والخسة، كما ينظرون إلى التعليم الذي نفخر به كأنه تفاهة وعبث بغير جدوى، وقد شهدنا مثلا على ذلك في معاهدة لانكستر ببنسلفانيا سنة 1744 بين حكومة فرجينيا، والأمم الست الهندية. فبعد التفاهم على المسائل الهامة أبلغ المندوبون عن حكومة فرجينيا جماعة الهنود مشافهة أن في وليامبرج كلية ذات رصيد مخصص لتعليم أبناء الهنود، وأن رؤساء الأمم الست إذ راقهم أن يرسلوا إلى الكلية فئة من أبنائهم - ستة مثلا - فالحكومة هناك على استعداد للعناية بهم وتوفير لوازمهم وتعليمهم كل ما يتعلمه أبناء البيض.

ومن آداب الهنود المرعية أنهم لا يجيبون مقترحا عاما لساعته؛ إذ يرون في ذلك شيئا من الاستخفاف به، وأنه غير جدير منهم بالبحث والمراجعة، ويستمهلون المقترح ريثما ينظرون فيه ليدلوا بذلك على اهتمامهم بأمره، ووفاقا لهذا العرف طلبوا المهلة لليوم التالي كي يجيبوا عن ذلك الاقتراح، فلما كان الموعد أعرب مدرة القوم عن شعورهم العميق بلطف الحكومة الفرجينية في عرض تلك المنحة الكريمة؛ لأنه يعلم أن البيض يكبرون شأن التعليم في الكلية، وأن توفير المطالب لأبناء الهنود في تلك الكلية يكلفها كثيرا من النفقة، وأن الاقتراح - ولا شك - ينم على حب الخير، ويستوجب منهم الشكر الجزيل.

قال: إلا أنكم - بما لكم من الحكمة والخبرة - تعلمون أن الأمم المختلفة تختلف في النظر إلى الأشياء وتقديرها، وإنكم لا تلوموننا إذا كانت آراؤنا في ذلك النمط من التعليم لا يتفق لها أن تطابق آراءكم. وقد بلونا ذلك بعض الشيء منذ سنوات حيث تخرج نفر من شبابنا من كليات الشمال وحذقوا فيها جميع علومكم، ثم عادوا إلينا لا يحسنون العدو، ولا يعرفون شيئا عن الحياة في الغابات، ولا طاقة لهم بالصبر على البرد والجوع، ولا دراية لهم ببناء كوخ أو اقتناص غزال أو الغلبة على عدو، وقد ساء نطقهم بلغاتنا فلا هم قادة مقاتلون، ولا هم نصحاء مستشارون، ولا هم على الجملة صالحون لأمر من الأمور.

على أننا لا نبخسكم حقكم من الشكر على منحتكم الكريمة لأننا لم نتقبلها، ولكي نعرب عن شعورنا بها، نقترح على السادة الفرجينيين أن يرسلوا إلينا نحو اثني عشر من أبنائهم نعنى بهم، ونعلمهم على نهجنا وندربهم على كل ما تدربنا عليه، ونخرج منهم رجالا أشداء.

والهنود - لتعودهم عقد المجالس والمجتمعات للمشاورة - قد كسبوا القدرة على حظ عظيم من النظام واللباقة في إدارتها. فيجلس الشيوخ في الصف الأول، ويجلس المقاتلون في الصف الثاني، ويجلس خلفهم النساء والأطفال، وعمل النساء في هذه المؤتمرات أن يعلقن في ذاكرتهن كل ما يجري وكل ما يقال فيها ويحفظنه تراثا للأبناء؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة.

فالنساء سجلات المؤتمرات، يحفظن من شروط المعاهدات ما قد مضى عليه مائة سنة، ونقارن بينه وبين المكتوب عندنا، فنرى أنه مطابق له كل المطابقة.

وصاحب الدور في الكلام عندهم ينهض قائما، فيصغي إليه المستمعون في صمت وسكون، ومتى فرغ من كلامه وجلس مكانه تركوه بضع دقائق يتذكر ويتأنى لعله أن يكون قد نسي شيئا أو خطر له بعد الجلوس ما يستدركه من مقاله فينهض ثانية ويقول ما أراد، وإنهم ليحسبون المقاطعة - حتى في المحادثة الدارجة - غاية من سوء الأدب والنبو عن المجاملة. فما أبعد هذا مما نشاهده من نظام المناقشة في المجلس المهذب مجلس النواب البريطاني؛ إذ يندر أن يمضي يوم دون أن يعرض فيه ضرب من الاختلاط يبح صوت الرئيس وهو ينبه المتناقشين فيه إلى النظام. وما أبعد هذا مما يحدث في كثير من الجماعات المهذبة على القارة الأوروبية! إذ تحس أنك مضطر إلى إتمام عبارتك على عجل، وإلا قاطعك في وسطها أولئك الذين يحادثونك ولا صبر لهم على كبح لجاجتهم في الحديث، ثم لا يتاح لك أن تعود ثانية إلى إتمامها.

والحق أن مجاملات الحديث عند هؤلاء القوم قد بلغت حد الإفراط؛ لأنها لا تسمح لهم بمناقضة كلام يسمعونه أو تفنيده، وهم بذلك يتجنبون المنازعات، ولكنهم لا يظهرون لك حقيقة ما يريدون، ولا يعربون عن أثر لكلامك في نفوسهم، وقد طالما شكا المرسلون المبشرون من هذه العادة، وعدوها إحدى العقبات الكبار في طريق رسالتهم. فإن الهنود ليستمعون في صبر وأناة إلى حقائق الكتاب التي تشرح لهم ويردون عليها ردودهم المعهودة من علامات الموافقة والاستحسان، ويخطر لك أنهم قد آمنوا وصدقوا ولا شيء من ذلك هناك، وإنما هي مجاملات وتقاليد. •••

ومن أخبارهم في ذلك أن قسا سويديا جمع زعماء القبيلة المعروفة بسكويهانا، وخطب فيهم شارحا لهم أسس الوقائع التاريخية التي تقوم عليها ديانتنا، كسقوط أبوينا لأكلهما من تفاح الجنة، وظهور السيد المسيح للتكفير عن هذه الخطيئة، وما عمله من العجائب واحتمله من الآلام. فلما فرغ من كلامه نهض خطيب هندي ليشكره، فقال: «إن ما أخبرتنا به شيء حسن ولا ريب، وإنه لمن القبيح حقا أن يؤكل التفاح بدلا من تخميره واستخراج الشراب منه، وإننا لشاكرون لك ما تجشمت من مشقة لتبلغنا هذه القصص التي سمعتموها من أمهاتكم، ونود في مقابلة ذلك أن نروي لك طرفا مما سمعناه نحن من أمهاتنا.

كان آباؤنا الأولون ولا غذاء لهم إلا من لحوم الحيوان، وكانت حبالاتهم في الصيد لا تنفع، فجاعوا وأوشكوا أن يهلكوا جوعا، وإنهم لكذلك إذ أفلح اثنان من شباننا في اقتناص غزال، فأوقدوا نارا في الغاب ليشويا بعض لحمه، ثم جلسا يأكلان منه، فلاحت لهما على تلك القمة التي تلمحها بين جبالنا الزرقاء فتاة حسناء هبطت من السماء واستوت على ذلك المكان، فقال أحدهما لصاحبه: لعلها قد شمت رائحة الطعام، فجاءت تلتمس نصيبا منه تأكله، فلنعطها إذن ذلك النصيب. وقدما لها اللسان فالتذت مذاقه وقالت لهما: إن الهدية التي تفضلتما بها لمجزية أحسن الجزاء. فتعاليا إلى هذا المكان بعد ثلاثة عشر شهرا تجدا فيه شيئا ينفعكما في الطعام وينفع أبناءكما إلى الجيل الأخير، فعادا كما قالت وأدهشهما أن يجدا في المكان نباتا لم تقع عليه أعينهما من قبل، ولم يزل ذلك النبات ينمو بيننا وننتفع به أحسن انتفاع. وقد نبتت الذرة حيث مست يمينها الأرض، ونبت اللوبياء حيث مست الأرض بشمالها، ونما التبغ حيث جلست عليها.»

وامتعض القس الطيب من سماع هذه القصة الفارغة وقال لهم: إن ما حدثتكم به هو الحق المقدس، وأنتم تحدثونني بعد ذلك بالترهات والأباطيل. وساء الهندي أن يسمع منه هذه الكلمة الجافية فقال له: إن أصحابك يا أخانا لم ينصفوك بحقك من التعليم، ولم ينشئوك النشأة الحسنة في آداب العرف والمجاملة. ولقد رأيت أننا سمعنا أقاصيصك فصدقناها، فما بالك أنت لا تقابل منا ما سمعت بالتصديق؟

ويفد الواحد منهم إلى مدننا، فيتكوف الناس حوله ويحملقون في وجهه، ويتطفلون عليه حيث يحب أن ينفرد بنفسه، وهم يعيبون ذلك ويعدونه من الخشونة وسوء الأدب والنقص في عرف التحية والمجاملة، ويقولون: إننا نتطلع كما تتطلعون ونحب الفضول كما تحبون، بيد أننا نختبئ لنراكم وراء الآجام، ولا نعترضكم في الطريق، أو نتطفل باصطحابكم حيث تسيرون.

وإن لهم لآدابا متبعة في دخول القرى التي يفدون عليها، فلا يستحسنون من القادم أن يدخل إلى القرية فجأة بغير استئذان، وهم لهذا يقفون على مرأى من أهل القرية ويصيحون ولا يتقدمون خطوة حتى يأتيهم من يدعوهم للدخول، وقد جرت عاداتهم أن يستقبل القادمين اثنان من شيوخ القرية يهديانهم الطريق إلى بيت خال يسمونه بيت الغرباء. ثم يذهبان من خص إلى خص يبلغان القوم بمقدم الضيوف، وأنهم ربما كانوا في حاجة إلى طعام وراحة، فيرسل كل منهم ما في وسعه من زاد ومن جلود يستريحون عليها، فإذا استوفوا راحتهم جاءوهم بالتبغ يدخنونه، وبدءوا بالحديث سائلين عنهم وعن وجهتهم وما هم قادمون من أجله، وينتهي الأمر أحيانا بعرض الخدمة عليهم لاصطحابهم وتموينهم مسافة الطريق بغير أجر ولا ثمن.

وهذه الضيافة التي يعدونها بينهم من الفضائل العالية مطلوبة من آحادهم، كما تطلب من جماعاتهم، وقد أخبرني مترجمنا «كونراد ويزر» بالقصة التالية فقال أنه نشأ بين الأمم الست وحذق لغة الموهوك، وأنه في رحلة من رحلاته بين بلاد الهنود يحمل رسالة من حاكمنا إلى مجلس «أوننداجا» زار مسكن «كناستيجو» أحد أصدقائه الأقدمين، فعانقه الرجل وفرش له الفراء ليجلس عليه، ووضع أمامه فولا مسلوقا ولحما وقدحا من شراب الروم مشعشعا بالماء، فلما استراح وأخذ في التدخين بدأه «كناستيجو» بالحديث وسأله عن أحواله في السنوات التي افترقا فيها، وعن وجهته والمكان الذي أقبل منه، والغرض الذي خرج من أجله، فأجابه مونراد عن هذه الأسئلة حتى أوشك الحديث بينهما أن يفتر ويتعثر، فقال له الرجل: إيه كونراد. إنك عشت طويلا بين البيض وعرفت شيئا من عاداتهم، وقد زرت أنا إقليم «ألباني» ولحظت أنهم يغلقون دكانينهم يوما في كل سبعة أيام، ويتجمعون في منزل عظيم. فهلا حدثتني عن ذلك الاجتماع ما مقصدهم منه، وماذا يصنعون فيه؟

قال كونراد: إنهم يجتمعون هناك ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورة!

قال الهندي: لست أشك في أنهم أخبروك بما تقول؛ لأنهم أخبروني بمثله. غير أنني أشك في مقالهم وأصارحك بأسباب شكي، ثم استطرد قائلا: ذهبت إلي «ألباني» كي أبيع جلودي وأشتري ما أحتاج إليه من الأغطية، والسكاكين، والبارود، وشراب الروم، وأنت تعلم أنني تعودت أن تكون معاملتي مع هانس هانسون، ولكنني في هذه المرة أردت أن أجرب غيره من التجار. على أنني زرت هانسون بادئ الرأي، وسألته بكم يشتري جلد السمور؟ فقال أنه لا يزيد في تقديره عن أربعة شلنات للرطل الواحد، غير أنه لا يستطيع أن يتحدث إلي في أمور المعاملة؛ لأنه اليوم الذي خصصوه لتعلم الآداب والطيبات المأثورة، وأنه سيذهب إلى الاجتماع إذ كان لا يقدر على مباشرة عمل من الأعمال.

قال الهندي: فذهبت معه، وألفيت ثمة رجلا يلبس السواد، أخذ يخاطب الناس في غضب شديد، فلم أفهم ما قال، ولكنني رأيته ينظر إلي وإلى هانسون، فظننت أنه غاضب لرؤيتي هناك، فخرجت وجلست إلى جانب الدار، وأشعلت قصبتي لأدخن منتظرا حتى ينفض الجمع، وظننت كذلك أن الرجل قد ذكر شيئا عن السمور، وخطر لي أن الاجتماع كله يدور على هذه الحكاية، فلما انصرف المجتمعون لقيت تاجري وقلت له: إيه يا هانس! أظنك قد فكرت في الأمر وزدت في تقديرك على الشلنات الأربعة. فأجابني قائلا: كلا! أنا لا أستطيع أن أعطيك هذا الثمن ولا أزيدك على ثلاثة شلنات وستة بنسات. وانطلقت أتحدث إلى غيره من التجار، فألفيتهم جميعا يعيدون هذه النغمة بعينها؛ ثلاثة وستة بنسات، ثلاثة وستة بنسات، ووقر في خلدي من ثم أنني على حق في شبهتي، وأنهم مهما يزعموا من سبب لتلك الاجتماعات، وأنهم يلتقون فيها ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورات، فإنما السبب الصحيح أنهم يجتمعون ليخدعوا الهنود عن ثمن السمور، وإذا تأملت قليلا - يا كونراد - فلا شك أنك تثوب إلى رأيي وتعلم أنهم لو كانوا يجتمعون ليتعلموا الآداب والطيبات المأثورات، لكانوا قد تعلموا طرفا منها قبل ذلك، إلا أنهم على جهلهم القديم، وأنت تعلم عاداتنا معهم إذا قدم منهم أحد إلى أكواخنا كيف نعامله كما نعاملك ونجفف ثيابه إن كان بها بلل، وندفئه إن كان به برد، ونبسط له الطعام من اللحم والشراب ليفثأ ظمأه، ويشبع جوفه، ونفرش له الفراء لينام ويستريح ولا نتقاضى أجرا على شيء من هذه الأشياء. ولكننا إذا ذهبنا إلى بيت من بيوت البيض في «ألباني» والتمسنا لحما أو شرابا سألونا: أين نقودك؟ فإن لم تكن معي نقود طردوني وصاحوا بي: اغرب من هنا أيها الكلب الهندي!

فأنت تبصر إذن أنهم لم يتعلموا تلك الطيبات الصغار التي نتعلمها نحن بغير حاجة إلى اجتماعات وخطابات؛ لأن أمهاتنا يعلمننا إياها ونحن أطفال، ومحال أن تكون اجتماعاتهم هذه لغرض من تلك الأغراض التي يدعونها، أو أن يكون لها أثر فيما يزعمونه، وكل ما فيها أنها حيلة يحتالونها لخداع الهنود عن ثمن السمور.

1

محاكمة السحرة في جبل هولي

وهذه نبذة مترجمة من كتاب أئمة الأدب الأمريكي

Masters of Amercian Literature

ونشرت أولا في صحيفة بنسلفانيا

بتاريخ 22 من أكتوبر سنة 1730:

في يوم السبت الماضي، عند جبل هولي، على مسافة ثمانية أميال من برلنجتون، اجتمع نحو ثلثمائة إنسان للتفرج على تجربة أو تجربتين في أشخاص متهمين بالسحر الأسود، ويظهر أن المتهمين قد اتهموا بأنهم جعلوا خراف جيرانهم ترقص على أسلوب غير مألوف، وجعلوا خنازيرهم تتكلم وتنشد المزامير مما أفزع رعايا جلالة الملك الأمناء الوادعين في الإقليم. وقد أصر المدعون على ادعائهم أن المتهمين لو وضعوا في كفة ووضع الكتاب المقدس في كفة لخف ميزانهم وثقلت كفة الكتاب، وأنهم لو أغرقوا مقيدين طفوا على وجه الماء عائمين.

وأراد المتهمون أن يظهروا براءتهم فقبلوا التجربة، واقترحوا أن يوضع معهم اثنان من أشد المدعين إصرارا على الادعاء، وعلى هذا تم الاتفاق على المكان والزمان وأعلن عن الموعد في صحف الإقليم.

وكان المدعيان رجلا وامرأة، والمدعى عليهما كذلك رجل وامرأة، وانعقد الجمع وتلاقى الفريقان، فدارت المشاورة بينهم قبل البدء بالتجربة، وتفاهموا على الابتداء بالوزن، واختاروا جماعة من الرجال لتفتيش الرجال وجماعة من النساء لتفتيش النساء، تحققا من تجردهم جميعا من الأوزان الزائدة، ولا سيما الدبابيس.

وبعد البحث والتفتيش جيء بنسخة ضخمة من الكتاب المقدس يملكها قاضي البلد، وفتحت طريق في وسط الزحام من دار القاضي إلى مكان الميزان الذي علق بمشنقة أقيمت في مواجهة الدار؛ ليراها ربات الدار دون أن يخرجن لمخالطة الدهماء، وتوسطت المكان حلقة على حسب المألوف. ثم خرج من الدار رجل طويل وقور يحمل الكتاب بوقار كوقار السياف الذي يمشي في لندن أمام عمدتها الكبير.

ووضع الساحر أولا في كفة الميزان؛ حيث تلي عليه إصحاح من أسفار موسى، ثم وضع الكتاب في الكفة الأخرى التي كانت مهبطة على الأرض وأرسلت على الأثر. فما كان أعظم دهشة الناظرين حين أبصروا اللحم والعظام تهبط والكتاب العظيم يعلو ويرتفع ويرجحها اللحم والعظام بكثير، وتكررت التجربة مع الآخرين فكانت أثقالهم كذلك أعظم من أثقال كتب موسى والأنبياء.

وانتهت هذه التجربة ولم يكتف بها الجمع، بل أرادوا أن يتمموها بتجربة الإغراق في الماء. فتقدم الجمع في موكب وقور إلى البركة حيث جرد المدعون والمتهمون من ثيابهم إلا ما يسترهم، وقذف بهم في النهر مقيدين بالحبال وفي وسط كل منهم حبل يمسك به بعض الواقفين على الحافة، وكان المتهم نحيفا هزيلا فلم يرسب لأول وهلة وبعد لأي ما غاص في جوف الماء، وجعل الآخرون يسبحون خفافا على وجه الماء. وقفز ملاح على الحافة فوق ظهر الرجل المتهم يظن أنه يهبط به إلى قعر البركة، ولكن الرجل المقيد عاد إلى الظهور قبل الآخر بهنيهة وجيزة.

ولما أخبرت المرأة المدعية أنها لم تغطس في الماء، وأنها ستعاد إليه، عادت وطفت مرة أخرى خفيفة كما كانت في المرة الأولى! فراحت تقول: إن المتهم قد سحرها وطفف وزنها، وإنها تريد أن تعيد التجربة كرة أخرى، بل مائة مرة حتى ترغم الشيطان على الخروج منها.

أما المتهم فقد رأى أنه يطفو على الماء فتزعزعت ثقته ببراءته وصاح: لئن كنت ساحرا ليكونن ذلك على غير علم مني.

وكان ذوو المسكة من العقل بين المتفرجين قد آمنوا أنه ما من أحد يلقى في الماء مكتوفا إلا طفا على وجهه ما لم يكن عظاما في جلد ولا شيء! وأنه يظل كذلك حتى يذهب نفسه وتمتلئ رئتاه بالماء. إلا أن الرأي السائد بينهم كان يميل إلى الظن بأن فضول الكساء على أجساد النساء تساعدهن على العوم، فلا بد من تجربة أخرى وهن عاريات في الموعد المقبل من مواعيد الصيف.

خاتمة

قليل من القراء من يعلم أنني دخلت مدرسة «الصنائع» ببولاق لدراسة الكهربا والتلغراف، وأقل منهم من يعلم الصلة بين اتجاهي إلى هذه الوجهة، وبين اسمين من كبار المخترعين الذين بدءوا حياتهم بالعمل في الصحافة والكهربا؛ هما فرنكلين وأديسون.

ولست أذكر على التحقيق متى سمعت لأول مرة باسم فرنكلين واسم أديسون، ولكنني أذكر جيدا أنني لم أعرفها من كتاب أو من دراسة علمية، وإنما سمعت بهما من موظف في التلغراف شديد الإعجاب بهما، على أثر حادث من حوادث المصادفات، تناولته الصحف بالتعليق السياسي في ذلك الحين، ولم تعره شيئا من الاهتمام من الناحية العلمية.

كان ذلك الحادث، على ما أذكر الآن، سقوط صاعقة على بناء مجلس الوزراء، وكنت لا أزال يومئذ في بلدتي أسوان لم أبرح مدرستها الابتدائية، ودار الحديث عن الصاعقة وعن التعليقات السياسية عليها، وتحدث الموظف بالتلغراف من جيراننا عن رجل يسمى فرنكلين، ورجل يسمى أديسون؛ كلاهما عامل صغير بدأ حياته بالعمل اليدوي في الصحافة، ثم اخترع باجتهاده أكبر المخترعات في الكهربا، ثم جرى - في شيء من اللغط المبهم - ذكر عمود الصواعق وذكر الفنغراف، وفضل العاملين الصغيرين في كل من هذين الاختراعين.

وقام بذهني أن أصنع مثل هذا الصنيع يوما من الأيام، فلم أزل حتى دخلت مدرسة «الصنائع» في نحو الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، وشعرت يومئذ كأنني أفسر حلما قديما كاد يذهب بين الوعي والنسيان، وكاد فرنكلين إذن يتوجه بحياتي وجهة غير وجهتها، يوم كان اسم فرنكلين يحضرني مقرونا بالكهربا ولا يحضرني منه شيء من سيرته الطويلة في الكتابة والتفكير والسياسة.

ووقع في يدي بعد ذلك كتيب من سلسلة كبيرة تلخص التراجم والمؤلفات لأعلام النوابغ في الثقافة الغربية، فبدأت به قراءة تلك السلسلة؛ لأنه مكتوب عن صاحبنا القديم فرنكلين.

ومن تحكم الذاكرة أنني أذكر حتى اليوم منظرين من مناظر السيرة التي لخصها ذلك الكتيب الصغير.

أحدهما منظر الطفل الجائع فرنكلين يقضم رغيف الخبز وتترصد له طفلة في طريقه لا تزال تداعبه وتلح في مداعبته وتوقع في روعه أنها تريد أن تخطف الرغيف من يديه، حتى يوشك أن يبكي من الغيظ الذي لم يكن يكرهه كل الكراهية على ما يظهر!

والمنظر الآخر منظر الحوار بين فرنكلين ورجل من رجال الدين تلقى من يديه عارفة مشكورة، فإذا هو يشكره بالنيابة عن الله، كأنما هو غريب عن الموضوع لا شأن له بين المحسن والمحسن إليه، ويأبى فرنكلين أن يفوت على الرجل روغانه هذا من واجب الشكر، فيقول له: إنما أعطيتك أنت يا أبتاه!

وأقول: إن بقاء هذين المنظرين دون غيرهما من مناظر تلك السيرة في ذلك الكتيب الصغير، إنما كان من تحكم الذاكرة فيما تأخذ وفيما تدع؛ لأنني حين توسعت في قراءة فرنكلين، وفي القراءة عنه بعد ذلك، وجدت في السيرة الحافلة مناظر لا تحصى مما يصح أن يعلق بالذاكرة ويغطي على منظر الرغيف المهدد ومنظر القس الرائغ من الشكران، ولا أحسب - على هذا - أن أظلم الذاكرة كل الظلم، فلعل هذين المنظرين يجمعان من فرنكلين في نفس القارئ الشاب، ما لم يجتمع من منظرين غيرهما في الكتيب الصغير.

وقرأت بعد ذلك كثيرا من فرنكلين وعن فرنكلين، ولم أنس قط أنه كاد يوجه حياته وجهة أخرى في يوم من الأيام.

ثم دخلت السجن ودعوت بكتاب أتعلم منه اللغة الفرنسية بغير معلم، واخترت القراءة في الجزء المخصص للمطالعة قبل الجزء المخصص للأجرومية، فلم أقلب من الكتاب صفحة بعد صفحة حتى التقيت بصاحبنا القديم فرنكلين في الصفحة الرابعة والسبعين من الكتاب.

1

والقصة قصة اللقاء الأول بين فرنكلين والعالم الفلكي الفرنسي الكبير دي بايلي

De Bailly ، وهي أعجب ما قرأت من نوادر هذا الرجل العجيب. «فرنكلين مندوب المستعمرات الأمريكية الثائرة على الوطن الأم، وفد إلى باريس سنة 1777، ورأى الفلكي دي بايلي من واجبه أن يزور الأمريكي النابه، فاستقبله فرنكلين بترحاب غاية في المودة، وبادله بضع كلمات من التحيات التي تتبادل في مثل هذا المقام، وجلس بايلي على مقربة من الفيلسوف الأمريكي، وترقب بكل عناية ما يفوه به من الأسئلة، وانقضى نصف ساعة وفرانكلين لا يفتح فمه، وأخرج بايلي علبة السعوط وقدمها إلى جاره دون أن ينبس بكلمة ، فأشار فرنكلين بيده إشارة معناها أنه لا يتعاطاه، واستمرت هذه المساجلة الصامتة ساعة كاملة، فنهض دي بايلي واستعد للانصراف، وبدا على فرنكلين كأنه فرح بلقاء فرنسي يستطيع أن يلوذ بالصمت ويمسك لسانه، فأخذ بيده وشدها شدة حميمة وهو يقول في حماسة بينة: حسن جدا يا سيد بايلي حسن جدا. وتوثقت بينهما المودة بعد ذلك، فأصبحا من خيرة الأصدقاء.»

ولم أكد أصدق ما قرأت، واتهمت جهلي بالفرنسية، فاختلست فرصة من فرص السجن أعرضها فيها على زميلنا الأستاذ حسن النحاس، فقال لي: إنني فهمت منها الصواب.

إن موضع العجب في القصة أن فرنكلين لم يشتهر في مجالسه بشيء، كما اشتهر بلباقة الحديث والسمر وأفانين الكلام المستحب بين الجد والفكاهة، فما الذي ألجأه إلى ذلك الصمت مع العالم الفرنسي الكبير؟

لا أعلم، ولم أجد من سيرته مع هذا العالم أو مع غيره ما يجلو لي سر هذه «الصمتة» الغريبة، ولكنني عرفت منها حقيقة لا ريب فيها؛ عرفت منها أن هذا الرجل يستطيع أن يشع من حوله جو المحبة والمودة، وأن يمحو من ظن جليسه كل احتمال للجفاء والفتور، ولولا ذلك لانصرف العالم الفرنسي من حضرته وهو عدو مبين، ولم ينصرف - كما قالت القصة وقال التاريخ - صديقا من أخلص الأصدقاء المقربين.

ثم حان الأوان وشرعت في كتابة هذه السيرة وأنا أحس كأنني جددت الصلة الفكرية بصاحب قديم، وتبينت من مراجع السيرة كلما أمعنت في تصفحها أنها بنت أوانها، إذا كان لكتابة السير أوان مفضل عدا ما تستحقه كل سيرة من التسجيل والتحليل.

فنحن في عصر التجزئة والتفتيت، أحوج ما نكون إلى مثال كامل لإنسان لم يمزقه التخصص شلوا شلوا بين شواغل العقل، وشواغل الحياة.

ونحن في عصر الطغيان على «الشخصية» الفردية، أحوج ما نكون إلى مثال من غمار الناس لم يستغرقه الغمار، ولم يمسح ملامحه المتميزة بين أمواج التيار.

ونحن في عصر النبوغ العصامي نحتاج إلى عظمة تقرب العصامية لمن يهابها، وتيسر القدوة لمن تروعه هالات العظمة في أعلام التاريخ، فيحجم عن الاقتداء بها ، ويحسب نفسه من غير معدنها.

فالعظمة في هذا العصامي من «طينة عامة» حيثما واجهتها كما قال فيه أصدق مترجميه. إلا أنك تواجهه من جهات شتى، فتلمح في كل منها تلك العظمة التي تحسبها من الطينة العامة، وتعرف كيف تكون العظمة الإنسانية أحيانا «كالسهل الممتنع» في بلاغة البلغاء، يغريك بالمحاكاة والاقتداء، ولا تعرف كيف يمتنع عليك إلا وقد تمكن منك الإغراء.

وفيما لقي هذا الرجل العظيم من العرفان تشجيع أي تشجيع.

وفيما لقي هذا الرجل من الإنكار عزاء أي عزاء، وربما كان العزاء من سير العظماء أجدى وألزم من التشجيع.

لقد كرمته معاهد العلم في أمم الحضارة بأشرف ألقابها، وعرفت له أمته مآثره في جهاده فاستقبلته كما يستقبل الفاتحون، ومحضته من الإكبار والإعجاب ما يبسط العذر للحاسدين؛ فلا عذر لمن يحسد هذا الرجل، إلا أنه استحق الحسد بفرط ما استحق من إكبار وإعجاب.

ولو أن عظيما بين أبناء آدم وحواء ينجو من الحسد، لنجا منه هذا العظيم الذي غض من كبريائه باختياره، فلم يدع فيه بقية لمن ينكر عليه الكبرياء، ولو أنكر عليه عرفان العارفين بالقدر الكبير.

مات ولم يشكره مجلس الأمة الذي كان له فيه أنداد وزملاء، ولبس عليه الحداد مجلس الأمة الذي لم يعرفه إلا بالسماع. مجلس الشيوخ يضن عليه بالشكر، ومجلس النواب يلبس السواد ثلاثين يوما؛ حزنا عليه.

لعله لو لم يحسد هذا الحسد لقيل: إنه لم يبلغ من عرفان قومه غاية ما يستطاع.

واليوم وقد أخذ الفناء ما أخذ، وأبقى الخلود ما أبقى، لا يضار المحسود بما أصابه، كما يضار الحاسد بما أصاب، ولو كتب لفرنكلين أن يعود إلى الدنيا كما تمنى أن يعود كل مائة عام، لما تمنى - بخبرة الحياة والموت - أن يتبوأ من دنياه مكانا أرفع مما تبوأه بعمله وذكراه.

Shafi da ba'a sani ba