وتذكر مطالبه الضرورية الأخرى، فاستأذن في ملء الكوب مرة أخرى، فأذن له الخادم بتسليم لا حيلة فيه. ورجع إلى الشقة، وهو يقول ساخطا: «بلد غير مستعد للحر مع أن ثلاثة أرباع عامه صيف!»
وتوارت الشمس في المغيب وراء ستار دموي، ولكن الجو لم يتحرر من قمقمه المنصهر. وأذاع الراديو أنباء الموجة وتفسيراتها الفلكية، والدرجة الثامنة والأربعين التي بلغتها في الظل. ورقدت المدينة في همود تحت العذاب الأغبر. وانتظر أحمد عند جسر الجلاء حتى وافته إليه نادرة في فستان رمادي عارية الذراعين والساقين. - ماذا فعلت اليوم؟
فأجابت وهي ترعش راحتها المبسوطة في استفظاع: أوه .. يوم لن ينسى.
ذهبا إلى مجلسهما المعهود بالكورنيش، ولكن الشاطئ كان مكتظا بالبشر لا موضع فيه لإنسان. اقترح أن يمضيا سهرة في سينما مكشوفة، ثم يعودا إلى النيل بعد منتصف الليل. ولما رجعا لم يكن الشاطئ قد خلا ولكن كان ثمة موضع. وافترشا الحشائش بعد أن أزالا عنها قشر الفول ومزقا من الورق، ولم يكن في الجو نسمة واحدة. - مات الهواء؟
فأجاب بضيق: شيء أثمن منه مات فينا. - لن نحتمل يوما آخر كاليوم.
ومضى المكان يخلو بسرعة نسبية حتى وجدا نفسيهما منفردين أخيرا. ولف ذراعه حولها فشعر في جنبه بسخونة، وفغمت أنفه رائحة عرق فاتر. وانعكست أضواء الفوانيس على ماء ساكن راكد لا يلعب ولا يبهج: إذن متى تنكسر حدة الحرارة؟ - آه .. متى؟
وخيل إليه أن حرارة الحب تزدرد حرارة الجو بسرعة لم يتوقعها، غير أن قدما ثقيلة دقت الأرض في الظلام الصامت. ومن الظلمة المضاعفة التي تلقيها شجرة وارفة مر شبح العسكري في ضوء المصباح. تعلق به رأساهما، ثم همست: لا يوجد أحد غيرنا.
فشبك راحتيه حول ركبته، وغمغم حانقا: يوجد الحر. - لا تعط له فرصة للتحرش.
مر العسكري أمامهما وهو يرميهما من عل بنظرة غامضة. ابتعد حتى أوشك أن يختفي ولكنه توقف، وتنحنح. ثم استدار راجعا حتى وقف على مبعدة مترين أو ثلاثة. لبث واقفا في عناد كأنه الحر دون أن ينبس. توقعا أن يقترب أكثر أو أن يتكلم ولكنه لم يفعل. ولكزته بكوعها هامسة: «هيا». قاما معا، وألقيا نظرة أخيرة على الماء الراكد، ثم ذهبا.
وشيء غريب كريه زحم الجو، ذو رائحة مريضة وشخصية مبهمة، وقد انعقد حول مصابيح الطريق كالضباب، وانتشر تحت النجوم فتراءت خابية. وتحرك العسكري ببطء شديد وبصق، ثم تمتم: قلنا: إنه يوم نكد، حتى قبل أن تشرق الشمس!
Shafi da ba'a sani ba