قبيل الرحيل
حلم نصف الليل
قوس قزح
الصمت
بيت سيئ السمعة
القهوة الخالية
كلمة في السر
الخوف
الرماد
الختام
Shafi da ba'a sani ba
سوق الكانتو
وجها لوجه
الهارب من الإعدام
سائق القطار
لونا بارك
موجة حر
عابرو السبيل
يوم حافل
قبيل الرحيل
حلم نصف الليل
Shafi da ba'a sani ba
قوس قزح
الصمت
بيت سيئ السمعة
القهوة الخالية
كلمة في السر
الخوف
الرماد
الختام
سوق الكانتو
وجها لوجه
Shafi da ba'a sani ba
الهارب من الإعدام
سائق القطار
لونا بارك
موجة حر
عابرو السبيل
يوم حافل
بيت سيئ السمعة
بيت سيئ السمعة
تأليف
نجيب محفوظ
Shafi da ba'a sani ba
قبيل الرحيل
لم تبق إلا أيام معدودة قبيل الرحيل؛ لذلك بدت الإسكندرية لطيفة جذابة كما ينبغي لها قبيل الرحيل. وهو لا يدري متى يراها مرة أخرى؛ إذ إنه يمضي عطلته عادة عند الأهل في الريف، ولذلك فالذي كان موطنا للوحشة والملل انقلب مبعثا للحنان والأشواق في نظرة الوداع. حتى مجلسه المعتاد منذ أربع سنوات بقهوة سيدي جابر تجدد للتو شبابه. وقال لنفسه وهو يدخن النارجيلة: هيهات أن يجد جوا مناسبا لترطيب التبغ كجو الإسكندرية. أما النادل الذي جاء بالقهوة فقد قال بأسف: ستوحشنا كثيرا يا بيه.
فابتسم إليه شاكرا، وعند ذلك دخلت امرأة. هي .. هي. التي تتردد على القهوة من شهر لآخر، التي أطلق عليها امرأة سيدي جابر، التي تجاهلها طوال أربعة أعوام، وكانت اختفت منذ أواخر الصيف. ها هي في فستان شتوي، مطوقة الوجه بإشارب وردي، متلفعة بشال مرصع بالترتر، ملابس توافق الخريف الزاحف وتلك السحب البيضاء التي أخفت قرص الشمس، وطرحت لونها الهادئ الغامض على الشوارع شبه المقفرة. وجلست إلى جانب الرومي صاحب القهوة، وتبادلا كالعادة قليلا من الكلام وكثيرا من الصمت، يغشاهما جو حاد كأنهما رجلان، ومن رجال الأعمال على الأرجح. وذاك كان شأنهما من زمان. ومرة همس النادل في أذنه: أليست جميلة؟
رأى عينين واسعتين مقتحمتين، ووجنتين ريانتين، وإغراء في هالة من الثقة بالنفس والحنكة، فقال وقتذاك دون تردد: ليس الطراز الذي يوافقني!
اليوم تبدو مغرية فحسب، كالإسكندرية قبيل الرحيل. وقال للنادل: أربعة أعوام عشتها في الإسكندرية، ومع ذلك فلم أزر - ولو مرة واحدة - لا حديقة الحيوان، ولا أنطونيادس، ولا الآثار الإغريقية الرومانية، ولا هذه المرأة.
فابتسم النادل قائلا: وأسيوط لن تجد فيها شيئا.
وبعث إلى المرأة بنظرة بدائية، ولم يكن في القهوة إلا منهمكان في النرد، فأجابته بعمق. فقال للنادل: أرني شطارتك.
انتقلت إلى جانبه، ثم تبعها النادل بزجاجة بيرة. وراح يؤكد لها أن تعارفهما فرصة سعيدة حقا؛ فقالت بدلال بارد: أنت كشجرة المانجو؟
فرفع حاجبيه مستفهما؛ فقالت: تحتاج إلى خدمة طويلة وصبر.
فهرب من الاعتذار برفع قدحه هامسا «صحتك»، وقضما الزيتون الأخضر، وهما يترامقان في صمت حتى قال: البيت على بعد دقائق.
Shafi da ba'a sani ba
فقالت بلا تلعثم: جنيهان! .. والآن من فضلك.
ودستهما في حقيبتها، وهما يغادران القهوة. وأثنت على الشقة الصغيرة المهندمة؛ فأثنى بدوره على البواب صاحب الفضل. وجاء بطبق فاكهة، ووضعه على خوان على كثب من الفراش. وسرعان ما تعانقا دون ما كلمة واحدة. وامتلأ الصمت بتعابير غامضة، وهمسات من عالم آخر. واستحكم ظلام المغيب في جو الحجرة المغلق. وارتجت مصاريع النوافذ بريح مباغتة، كما يقع كثيرا في الخريف. وما لبث لحن المطر أن عزف فوق الجدران. ورفع إلى النافذة القريبة نظرة محمومة، ثم همس مستسلما: جو متقلب لا أمان له.
ولكنه استمتع بدفء وراحة عميقة. وانتبه إلى الظلمة الشديدة، فمد يده إلى الأباجورة فأضاء مصباحها. ولحن المطر ما زال يعزف، ولكنه خف جدا موحيا بالختام. ونظر إليها فرآها مغمضة العينين كالنائمة. وهاله منظر جفنها الكبير كورقة وردة. ولاحت منه نظرة إلى المرآة البيضاوية، فرأى صورة لشخصه تستحق الرثاء. وكف المطر عن العزف تماما. وسألها: نائمة؟
فأجابت دون أن تفتح عينيها: لا أنام قبل الفجر.
وقشر موزة ورشقها برفق بين شفتيها الغليظتين؛ فجلست نصف جلسة وتسليا معا بالفاكهة. وقالت: قال الخواجا إنك مسافر بعد غد .. ولكن ما اسمك؟
وتذكر وهو يداري ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف. قال إن اسمه بركات، موظف منقول إلى أسيوط، فقالت وهي تمسح ظاهر يدها بباطن قشرة الموز: اسمي دنيا.
فقال لنفسه: اسم غريب وجميل، ولكنه بلا شك زائف ككل شيء في الجلسة، وشعر بالملل يسترده من الحلم حتى حسد المنهمكين في القهوة. وقصت عن الماضي والمصير قصة فقال لنفسه: قصة واحدة .. لا جديد ألبتة! وسألته عن شقته وأثاثها فأجاب: بعتها بكل ما فيها .. وبعد غد سيحل بها آخر.
لم يعد بالحجرة إلا عبير الموز والفتور. ولولا الجنيهان لتقوض المجلس. وفي ذروة من ضيقه رآها وهي تمد ذراعها إلى حقيبتها فوق الكنبة، ثم رآها وهي تستخرج منها الجنيهين. لحظها بطرف متسائل، فإذا بها تميل نحو الناحية الأخرى من الفراش؛ لتودع الورقتين في درج التواليت. ونظرت إليه وهي تبتسم، فتلقى نظرتها بعين لم تفهم شيئا، وسألها: لمه؟
فقالت وهي تسبل جفنيها: نقودك ردت إليك.
استيقظ من الفتور، ولكنه لم يفهم شيئا، فقالت بدلال: أنت فاهم ولكنك تتغابى، هذا كل ما في الأمر.
Shafi da ba'a sani ba
وأقسم لها أنه لا يتغابى أبدا، فقالت: لا لزوم للنقود في هذه الحال. - أية حال؟
فطوقت عنقه بذراعها السمراء وهو يضطرب من الانفعال، وهمست في أذنه: الرضا! .. فهكذا أفعل إذا رضيت نفسي.
وغرق في نشوة فرح لم يجربها من قبل حتى رقصت الجدران، ولكنه هتف في شيء من الحياء: لا .. لا.
وكتمت احتجاجه بقبلة دسمة، فذاب اعتراضه في فرحة أشمل حتى ود أن ينعم كل شيء بالأفراح. واندفع يعد المكان لسهرة طويلة سعيدة؛ فمضى إلى الصالة ففتح الراديو، ونادى البواب فأمره بإحضار شراب وشواء، ثم رجع إلى الحجرة وهو يقول: كم من مرة رأيتك في القهوة طوال أربعة أعوام؟ .. ولكنني أحمق. - والرحيل؟
فهز رأسه بأسف، ثم تمتم: بعد غد؟ .. من يصدق هذا؟ .. ولكنني أحمق.
واستلقى عند قدميها وهو يفرقع بأصابعه مع نغمة راقصة رددها الراديو. واقتنع بأن الدنيا تتمتع بصحة تحسد عليها. وخطرت له فكرة جديدة فوثب إلى الأرض وهو يتساءل: ما رأيك في نزهة ليلية؟
ومضيا إلى ملهى صغير بشارع النبي دانيال. وتغلب بسهولة على حرص مأثور عنه فأنفق بسخاء، وشربا كثيرا، ورقصا مع كل نغمة. وفي فترة استراحة لاحظ أن شابا يرمق محبوبته باهتمام؛ فتكدر صفوه وتوثب لمواجهة أي احتمال لا يروقه. وتقدم الشاب من دنيا وانحنى تحية، ثم طلبها لرقصة مقبلة؛ فنفخ بركات غاضبا حتى همست في أذنه: هذا تقليد مألوف لا ضرر منه.
فقال بغلظة: لا أحبه.
ثم حدج الشاب بنظرة حمراء، وقال له بخشونة: اذهب.
ولم يدر بماذا أجاب الشاب، ولكنهما التحما في عراك بسرعة مذهلة. ولم يشعر بما تلقى من ضربات ولكنه أصاب خصمه في بطنه، فترنح وكاد يسقط على ظهره لولا أن تلقاه النادل بين يديه. وأحدقت بهما الأعين المخمورة في ذهول ووجوم. وتنقل مدير المحل بين الموائد مهدئا للخواطر، ثم أشار إلى الأوركسترا فانطلق يعزف داعيا إلى رقصة جديدة. وجعل بركات يلهث ودنيا تسوي له ربطة عنقه، وقد انخلع زرار الجاكتة وتهتك الجانب الأيسر من أعلى القميص. أما اللكمة التي أصابت صدره فلم تكن بذات بال، ورغم ذلك فلم يستأثر به الكدر أكثر من دقائق، وسرعان ما عاوده الانسجام، وراح يشرب كما يحلو له، ورمقه البعض بحنق فمالت دنيا على أذنه قائلة: نذهب يا عزيزي.
Shafi da ba'a sani ba
وغادرا الملهى وعشرات النظرات تصفعه بازدراء، ولكنه شد على ذراعها بمرح وسعادة، وداخله إحساس قوي بالزهو والفخار، فقال لها: لا تغتمي يا عزيزتي، هذه متاعب يسيرة، وكثيرا ما تحدث.
واستقلا ترام الرمل مع الجمهور المنصرف من السينما. ومد ذراعيه حولها كالسياج ليدفع عنها غائلة الزحام، ولكن رغم ذلك ضايقها رجل عن قصد أو عن غير قصد، ورماه بنظرة وعيد ولكن الآخر كان في واد آخر فواصل مضايقاته. وانفجر فيه غاضبا من رأس دارت به الخمر. وتبادلا كلمات غاية في القسوة، ثم تبادلا لطمات ولكمات بعنف قبل أن يفصل الناس بينهما. وتدخل أولاد الحلال لمنع المضاعفات. ووجد في وجنته اليسرى ألما، وسال الدم من زاوية شفته السفلى، وجعل يجفف الدم بمنديله طيلة الطريق، ولكن الدم الغزير الذي خضب شارب خصمه عند أسفل أنفه الملتهب خفف من شدة انفعاله. وعند مغادرة الترام لفحه هواء منعش ثمل بعبير المطر، فارتفعت روحه، وقال: جرحي بسيط لكنه خسر أنفه فيما أعتقد.
فتمتمت في ملق: كدت تقتله، الله يجازيك.
وندت عنه ضحكة، ثم قص عليها نوادر من معاركه في الزمان الأول قبل أن تشكمه الوظيفة. وكان يروي ذلك بفخار واضح، ثم عاوده مرحه كأن شيئا لم يكن، وهكذا رجعا إلى حجرتهما. ووجد الشراب والشواء على الخوان حيث تركهما البواب، فقال: جميل جدا. ولكن ينقصنا الزهور، كان يلزمنا باقة ورد ويا للأسف!
وغسلت له جرحه ودلكت وجنته وهو يغني: «ما تبطل الشقاوة وتيجي عندنا»، وقالت له ضاحكة إن صوته لم يخلق للغناء؛ فقال إن المهم هو السعادة فعند ذلك يغني أي شيء. ثم تحدث ببلاغة رقيقة عن الحب حتى قال لها: ليس كمثله شيء.
ثم قال أيضا بعد أن قبلها بامتنان: لا بد من الرجوع إلى الإسكندرية، سنلتقي كثيرا بالرغم من الرحيل.
وعندما ساد الصمت ارتفع زئير الهواء خارج النافذة، فقهقه بركات قائلا: جو بلادك قلب ولكنه جو سعيد.
وعندما اختفى كل شيء في الظلمة اشتد زئير الهواء، وأكثر من مرة نضح شيش النافذة بوميض البرق في موجات قصيرة متتابعة كالدغدغة، كشفت عن معالم الحجرة الكاسية والعارية، ثم استكن الظلام كأكثف مما كان؛ فتضاعف حنان الشاب واستمتاعه بالدفء والأمان. ووجد نفسه يتذكر جو الساحل عندما يكفهر وتنتشر في تضاعيفه تحركات غامضة متوترة تنذر بوشيك المطر. وما لبثت الأمطار أن انهلت فوق النافذة في عربدة صاخبة، فقال لنفسه وهو يستزيد من متعة الأمان والهناء إن قيام الساعة نفسها يطيب في أحضان الحب.
واستيقظ عند الضحى.
وفتح النافذة فدخل هواء بارد وتراءت السماء ملبدة بغيوم في لون المغيب جامدة غير موحية.
Shafi da ba'a sani ba
وجلست هي على الكنبة في تراخ مشعثة الشعر، منتفخة العينين، فاترة النظرة شبه عابسة كأنها لم تعرف اللعب. وخيل إليه أنها كبرت أعواما فسرعان ما شعر بالكبر، وبأن كل شيء زائل. وتثاءبت طويلا بصوت كالأنين، ثم قالت وكان أول ما نطقت به منذ استيقاظها: هذا أوان الذهاب.
فتساءل: لم العجلة؟
فتمتمت: انتهت الليلة ، ولدي عمل ومواعيد.
ثم رأى حركة لم يكن يتوقعها. رآها تميل نحو التواليت، ثم تفتح الدرج وتسترد الجنيهين من مكانهما، ثم تعيدهما إلى حقيبتها، وقد تثاءبت مرة أخرى. ما معنى هذا؟ .. وسألها في حيرة: أأنت في حاجة إلى نقود؟ - كلا، أخذت ما اتفقنا عليه فقط.
فتساءل في دهشة وكآبة: أي اتفاق يا عزيزتي؟ - الاتفاق، نسيت؟
فضحك ضحكة بلهاء، وقال: الظاهر أنك أنت التي تنسين!
ولم تعن بالرد، فقال بجزع: شيء عجيب، النقود لا تهمني، ولكنك قلت أمس .. أنسيت حقا؟!
وقال لنفسه إما أنني مجنون وإما أنها مجنونة. ثم قال عابسا: ما لك؟ ماذا جرى؟ خبريني من فضلك؟
فابتسمت ابتسامة باردة وهي تتساءل: أتريد أن تأخذ دون أن تعطي؟ - قلت إنك لا تأخذين عندما ترضين!
فرمقته بنظرة غريبة، ثم قالت: أردت أن أهبك ليلة سعيدة، هذا كل ما هنالك.
Shafi da ba'a sani ba
فسألها بصوت متهدج: مجرد حيلة من الحيل؟ - ولكنها أسعدتك سعادة حقيقية.
فقال وغضبه يتراكم كزوبعة في الأفق: كذبة حقيرة. - لا تزعل، كانت السعادة حقيقية، وأنا أستحق شكرك.
رماها بنظرة قاسية لم تر من وجهها إلا دمامة وحشية، وأصغى في رجفة إلى حديث نفسه الثائرة التي تدعوه إلى خنقها حتى يتفجر دمها الأسود، فنظرت إليه بقلق وحذر فصاح بها: شيطانة حقيرة.
فلم تنزع بصرها منه متوثبة للدفاع عند أول حركة فصاح: وحيلة فاشلة، ألا تدركين ذلك؟ .. أود أن تدفعي حياتك ثمنا لها.
فلم تنبس وازدادت حذرا، فعاد يقول: وما فائدة ذلك يا مغفلة؟ لن تستطيعي أن تكرريها مرتين.
اطمأنت الآن إلى أن موجة الجنون قد انحسرت عنه فيما بدا، وأنه أخذ يسترد شيئا من هدوئه الخائب وإن رانت عليه كآبة ثقيلة، فقالت: لكنها حيلة لا بأس بها قبيل الرحيل، أليس كذلك؟
فقال بازدراء: قلت يا مغفلة إنك لن تستطيعي أن تكرريها مرتين.
فتساءلت: ومن قال إننا سنلتقي مرة أخرى؟!
حلم نصف الليل
أم عباس امرأة جميلة، عرفت في الحي بجمالها، ويتطلع إليها أصحاب الأذواق كما يتطلع أهل الخلاء إلى عين ماء. وهي إلى ذلك تمتلك عمارة قديمة من أربعة أدوار غير ثلاثة دكاكين أسفلها؛ ولذلك اعتدها الأهالي، وكلهم فقراء، حلما موشى بالذهب. ويوم توفي زوجها بائع المسابح والمباسم والأوراد كانت في حوالي الأربعين، وهي سن يعتبرها الحي ذروة النضج، ومجلى البضاضة، وعطر الأنوثة. وكثيرون سعوا إلى التزوج منها، ولكن القسمة دفعت بها إلى أحضان رجل لم يجر عند الظن على بال. كان حسنين يملك عربة كارو ويؤجرها إلى الغير، في الثلاثين من عمره، قوي الجسم، مرهوب الجانب، ومعدودا من فتوات الدرجة الثالثة. ولم يكن أحد في الحي يحبه أو يعجب به، فازدادوا له مقتا، وعجبوا كيف تقع امرأة كأم عباس في أحابيله، وقالوا بأسف والغضب والحسد يأكلان قلوبهم: مسكينة أم عباس، ومسكين عباس!
Shafi da ba'a sani ba
وعباس ابنها من الزوج الراحل، في العشرين من عمره، طيب القلب جدا، تلوح في عينيه الواسعتين نظرة صامتة، ولعلها ناطقة بلغة مجهولة، يبتسم كالأطفال، ويطلق شاربه ولحيته ويحبهما. وهو أمي لم يحصل في الكتاب حرفا؛ ولذلك فتح له أبوه دكانا من دكاكين العمارة لبيع الحلوى والفول السوداني واللب، فكان يغدق على الأطفال بغير حساب. ولما تزوجت أمه من حسنين غاب عن الحي أياما، ثم عاد وهو يقول لكل من يلقاه: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
ورفع رأسه نحو مسكن أمه وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وعندما ينقضي النهار يخلع جلبابه ويلبس بدلة زرقاء فاتحة اللون، فهو يحب الألوان الفاتحة، ويمشط بعناية شاربه ولحيته، ويغطي رأسه بطربوش متداعي الأركان، ويتناول عصاه الخيزران البرتقالية، ثم يغلق الدكان وينطلق في سبيل طويل، ملقيا بتحياته يمنة ويسرة، يلوك في فيه قطعة من السكر النبات، ويبتسم في سعادة رائعة، وأكثر الليل يرى هائما على وجهه. ومذ تزوجت أمه من حسنين اتخذ من دكانه مسكنا، فلم تعارضه أمه طويلا لعلمها بعناده، وكانت لا تخشى شيئا عليه وتقول: إن ملائكة الله تحرسه. وسعى حسنين يوما إليه متوددا، ولكنه صاح في وجهه: اذهب، أنا لا أعرفك.
فغضب الرجل قائلا: أنا عمك.
وحال أناس بينهما وهم يلاطفون الرجل، دفاعا عن الشاب المحبوب. وحزنت أم عباس حتى دمعت عيناها الجميلتان. كانت تحب عباس؛ لأنه وحيدها ولأن وجهه صورة من وجهها. أجل كان عباس جميلا، ولا يخفى جماله رغم اللحية والشارب والطربوش المتداعي الذي يغطي ثلث وجهه.
ومن عجب أن حسنين ازداد بعد نعمة الزواج من أم عباس فظاظة وانحرافا. واستفحل جانب الفتوة من ذاته؛ فاشترى الأعوان وأكثر من العدوان، وكان يسكر حتى تلاطمه الجدران، وكان يغني إذا سكر بصوت تنفر منه الخنافس، وكلما رأى عباس الرجل في حال من أحوال عربدته خرج من دكانه إلى الطريق ورفع رأسه نحو مسكن أمه، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ويوما ترامت حشرجة نبراته الصارخة من وراء الشيش إلى الطريق في هياج وحشي: أنا سيد البيت .. أنا سيد الكل.
وتخيل الناس المرأة الجميلة تحت زوبعة الإهانات بأسف، المرأة التي لم تعرف في ماضيها سوى الحب والتكريم. وتساءلوا عن سر ذلك الغضب! وأجاب سكان العمارة بأن الإيراد هو سر الغضب، وأن الفتوة انتصر، وأصبح المحصل الوحيد للإيجار. ولم تعد أم عباس تخرج كعادتها لزيارة الجارات والتجول في التربيعة. لم يعد أحد يراها وهي تتبختر في الملاءة اللف كالمحمل، وعيناها المكحولتان ترنوان بنظرة دسمة حول عروس البرقع.
ولم يقنع حسنين باغتصاب دخل الأم، فمضى يوما إلى دكان عباس، وهتف وهو يترنح من السكر حتى طير الأطفال عن ملعبهم: دلني على مليم واحد ورثته عن أبيك؟
وتعلقت عينا عباس بالأطفال، وكأنه لا يرى الرجل الآخر، فأنذره هذا بسبابته صائحا: ادفع الإيجار أو فلتخل الدكان.
Shafi da ba'a sani ba
وسارع إليه بيومي اللبان ليهدئ من ثائرته، وتودد إليه بمعسول الألفاظ حتى مضى به بعيدا، وحسنين يقول بلسان ملتو، ونثار ريقه يرش وجه بيومي رشا: معتوه وبلطجي.
وعند المساء انطلق عباس إلى جولته الليلية، يجود حيثما ذهب ببسمات رائقة وتحيات حارة في سعادة ملائكية. ودبر حسنين حملة إرهابية جديدة ليحمل أم عباس على أن تبيع له العمارة بيعا صوريا. واشتد الخلاف بينهما فضجت الحارة بصراخه وتهديداته. وشكت المرأة إلى الجارات كربها. وتشاور بعض الطيبين في السعي لدى حسنين ليعدل عن مطالبه، ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على اتخاذ خطوة إيجابية خوفا من بطش الرجل، وبخاصة أنه اعتدى في ذلك الوقت اعتداء وحشيا على رجل يدعى «كرمللة» عندما ضبطه يوصل نقودا من أم عباس إلى ابنها. وارتفع نحيب المرأة ذات ليلة عقب تعنيف شديد من الرجل، ثم علم أهل الحي أنه ضربها ضربا شديدا، وأنها لن تطول مقاومتها.
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين، وفتحت النوافذ، وهرع كثيرون إلى مصدر الصراخ، إلى القبو. وعلى ضوء فانوس رأوا بيومي اللبان وهو واقف يرتجف. هو أول من يستيقظ في الحي ليسرح بصفيحة اللبن، ولكن ماذا دهاه؟ ووجدوه يشير إلى مكان في الأرض، فنظروا حيث يشير فرأوا حسنين سابحا في دمه، وقد تكومت جثته أسفل جدار القبو.
واضطرب الحي اضطرابة عنيفة، وسرعان ما احتلته الشرطة والنيابة، ثم اندفع التحقيق في جميع الجهات متعقبا كافة الشبهات. استدعي كرمللة وهو آخر ضحية للقتيل، وأم عباس، وبعض سكان العمارة، وبيومي اللبان نفسه. وعشرات وعشرات من خصوم الرجل الذين لا يحصيهم عد، ولكن ثبتت براءتهم جميعا بصورة قاطعة. حتى عباس استدعوه للتحقيق، ولما سئل عن المكان الذي كان فيه وقت ارتكاب الجريمة أجاب ببساطة: كنت مع الخضر.
ولما أراد المحقق أن يعرف من هو الخضر، أجاب عباس بدهشة: ألا تعرف سيدنا الخضر؟
ولكن كثيرين كانوا يعرفون تجوال عباس خطوة فخطوة، وقد شهدوا نيابة عنه. وهكذا بدت الجريمة لغزا لا يريد أن يحل. وعرف من التحقيق أن حسنين قتل بآلة حادة هشمت مؤخر رأسه. والحق أن أحدا لم يأسف عليه، ولكنهم تساءلوا كثيرا عن القاتل، وظلت الجريمة حكاية الحارة المثيرة زمنا طويلا.
وظن أول الأمر أن عباس سيرجع إلى مسكن أمه، ولكنه رفض ذلك بإباء. واعتصرت المحنة الأم فغرقت في الحزن، ولكن جمالها قاوم المأساة، وخرج منها في النهاية متألقا كماضيه. وعادت تتبختر بين السكة الجديدة والتربيعة، وعاد الإعجاب يحوطها كالهالة.
وإذا برجل يتقدم طالبا يدها. كان في الحقيقة شابا دون الثلاثين، قصابا، أقرب ما يكون إلى الفقر ومن أهل الحي المجاور، جميل الصورة، دمث الأخلاق، نظيف الذمة، وتساءل الناس هل تجازف المرأة بقبول التجربة مرة أخرى؟ وقبلته المرأة بأسرع مما تخيل أحد. ومع أن بعض الطيبين قالوا: إن الله قد عوضها خيرا إلا أن كثيرين تهامسوا متسائلين: ترى ألهذا الرجل علاقة بالجريمة الغامضة؟ أما عباس فقال كعادته: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
وخرج وسط الطريق، ثم رفع رأسه إلى عش العروسين صائحا: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وبلغ التهامس المريب مسامع الحكومة فأجرت تحرياتها عن العريس - وكان يدعى عبده - واستدعي لسؤاله هو وأم عباس، ولكن لم يثبت عليهما شيء، وظل اللغز أخرس كما كان. وتجلت بالمعاشرة مزايا عبده القيمة؛ فقد وهب المرأة حبا وعطفا ومعاملة كريمة. وعرض من بادئ الأمر صداقته على عباس، ومع أن الشاب نهره قائلا دعني وشأني، إلا أنه حباه بعطفه ورعايته، وحث أمه على مده بما هو في حاجة إليه من نقود. وأثبت في الوقت نفسه أنه ذو عقل راجح، فقد اقترح على أم عباس أن تبيع حوشا خلفيا للعمارة قائما على ناصيتين لتجدد العمارة بثمنه، وتبني دورا جديدا. وأولته المرأة الثقة التي يستحقها فتجددت العمارة وارتفعت، وازداد دخل أم عباس زيادة محسوسة، حتى أعجب به الناس، وقالوا رجل ولا كل الرجال. وقال بيومي اللبان لعباس، وهذا يتناول عشاءه في دكانه قبل الانطلاق إلى جولته الليلية: أنت لك قلب ملاك، فكيف تنفر من رجل طيب كعم عبده؟
Shafi da ba'a sani ba
فمضى عباس في تناول الزبادي، كأنه غير المقصود بالكلام، فتساءل بيومي: ألا تحب من يحب الناس ويعمر الخرابات؟
وأعاد عباس سلطانية الزبادي فارغة، ثم نظر في عيني بيومي قائلا: الوحش .. ألم تره وهو يقطع اللحم في دكانه؟
ووضح فيما تلا ذلك من زمن أن عبده بار كذلك بأهله؛ فكان كلما خلت شقة في العمارة أسكنها أحد أقاربه. وكان يخفض الإيجار للفقراء منهم بإذن من زوجته. وفي ذلك كله لم يجد أحد ما يؤاخذه عليه حتى جاء بأمه وأختين له؛ ليقمن معه في شقته، فعند ذلك ردد البعض المثل القائل: «إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله». والحق أن أم عباس لم ترتح لذلك، وهي قد فوجئت بالأمر الواقع مفاجأة لم تستطع معها منعه، ولكنها أدركت أن الزمام قد أفلت من يديها، وأنها لم تعد سيدة بيتها بحال بعد أن اضطلعت حماتها بالمسئولية فشعرت بالضياع.
وإذا به يوما يخلي دكانين من دكاكين العمارة الثلاثة، ويهدم الجدار القائم بينهما ليقيم دكانا كبيرا فخما، ثم انتقل إليه من محله الصغير بالحي المجاور، وعلقت الخراف والعجول، وصار أكبر قصاب في الحي كله. وافتتح المحل الجديد بتلاوة من مقرئ حسن الصوت، وحمد عبده الله بصوت سمعه الكثيرون على ما فتح به عليه من مال حلال!
ولأول مرة اختلف الناس فيه، فمن قائل إنه مثال للأمانة والبر، ومن قائل إنه حسنين آخر حريري الملمس. وشك أناس في ذمته وعض الحسد قلوب الكثيرين. وتغير عبده بعض الشيء؛ فاختفت نظرته الوديعة وحلت محلها نظرة جديدة مليئة بالثقة، وطعم دماثته المألوفة بقدر من الحزم والعزم اقتضاهما مركزه المالي ومسئوليته كرجل أعمال. ولم يكتف باستعمال حزمه وعزمه في التجارة فاستعملها في البيت أيضا كلما نشب نزاع بين أم عباس وأهله، واستعملهما خاصة مع أم عباس. ولما كانت المرأة لم تعهده إلا لطيفا مؤانسا، فقد كبر الأمر عليها وحزنت حزنا شديدا. وساءت الحال بينها وبين أهله، وأصرت على استرداد ما ضاع من حقوقها في بيتها، حتى قالت له يوما: أنا لا أريد أن يشاركني أحد في بيتي.
وإذا بالرجل يقول لها بصوت رهيب: لك ما تشائين فتفضلي بالذهاب!
ولم تصدق المرأة أذنيها. ثم صاحت: هذا بيتي .. وعلى الآخرين أن يتركوه.
ووقع اشتباك بالأيدي بين النساء، فهاله أن يعتدى على أمه، وانهال على أم عباس ضربا، ثم دفعها خارج البيت. وجدت نفسها وحيدة في الطريق، حتى آوتها أسرة فقيرة تمت بقربى بعيدة إلى زوجها الأول. وهز الحادث النفوس هزا، وهرع عباس إلى ما تحت مأواها الجديد، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ولم يدر الجيران ماذا يفعلون، فلم يكن من اليسير إغضاب الرجل بعد أن كبر نفوذه وتعلقت به مصالح الكثيرين. وفكر البعض في رفع الخلاف إلى ساحة القضاء، ولكنهم كانوا يتهامسون بذلك سرا خوفا على أنفسهم. ولم يجهر بالسخرية منه إلا عباس حتى غضب عليه الرجل؛ فمنع عنه مصروفه، وهو يقول بأعلى صوته: عبث السفهاء لا يجوز أن يمتد إلى المال.
والتفت إلى كثيرين من أهل الحي الذين وقفوا يشاهدون النزاع، وقال لهم: أي واحد منكم أحق بالنقود التي يعبث بها هذا الغلام المعتوه.
Shafi da ba'a sani ba
ولكنهم كانوا يرمقون الدكان والخراف والعجول، ويتساءلون: وهذه الأموال ما شأنها؟ أما عباس فلم يكترث لشيء وبدا كأنما يزداد سعادة وسيادة، وكان ينطلق في الليل كأنه وارث الملكوت. وقال الناس: إن أم عباس امرأة تعيسة الحظ، وإن قلبها الضعيف يدفعها دائما إلى المهالك. وبينما كانت تعيش بفضل إحسان أسرة فقيرة، كان عبده يتضخم ويشارك في كل نشاط مالي في الحي. وسعى بالصلح بينهما أناس طيبون حتى أعادوا المرأة إلى بيتها. ولكنها عادت منكسرة النفس لا أمل لها في حياة كريمة، ولم يسمح عبده بإعادة مصروف عباس إليه إلا بشرط أن يشاركه في دكانه أحد أقربائه هو ليصون المال ويدير العمل. وأحب عبده الحياة المريحة المترفة، فعقد اللاسة الشاهي الفاخرة فوق رأسه، وتلفح بالعباءة من وبر الجمل، ولبس المركوب الملون من خان الخليلي، وتحلى بالخواتم الذهبية، وسبقته رائحة المسك حيث ذهب فيقوم له الناس على الجانبين حتى يختفي عن الأعين، فيتهامسوا: الله يرحم أيام زمان!
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين وفتحت النوافذ، ثم هرع الجميع إلى القبو. رأوا بيومي اللبان وهو يرتجف، فنظروا إلى حيث يشير فرأوا المعلم عبده مكوما ورأسه غائص في بركة من الدم. وزلزل الحي زلزالا عنيفا. وأطبقت عليه الشرطة والنيابة والمخبرون. واستدعي إلى التحقيق عدد لا حصر له من أهل الحي ، ولكن لم يقع على أحدهم ظل شبهة من قريب أو بعيد، وقطعت الدلائل بأن جريمة عبده ستلحق بجريمة حسنين. وقال أناس وهم يضربون كفا بكف: ما أعجب هذا!
فقال آخرون: انتظروا حتى يظهر العريس الجديد.
ومضى عباس إلى دكان بيومي ليتناول عشاءه المعتاد قبل الانطلاق لجولته الليلية. وجعل بيومي يرمقه بغرابة وهو يأكل الزبادي بأناة وسعادة، وشاربه ولحيته يلتقيان حول فيه، ويبتعدان في حركات متتابعة. وتردد بيومي قليلا، ثم قال: عباس! أنت أعجب شيء في حارتنا.
فابتسم عباس إليه بمودة؛ إذ كان أحب الناس إلى قلبه، فقال الآخر فيما يشبه الهمس: كان عبده ما زال حيا عندما عثرت عليه في القبو.
فتحسس عباس شاربه عند امتداده فوق فيه ليتأكد من جفافه، فقال بيومي: وقد نطق باسم قاتله قبل أن تصعد روحه.
فملأ عباس الملعقة بالزبادي، ورفعها إلى فيه وهو يركز فيها عينيه، فقال بيومي: وهو بلا شك قاتل حسنين من قبل.
لاح في وجه عباس عناء من يستحضر خيالا لا يرام، فقال بيومي: وعند التحقيق نسيت كل شيء، وتلك إرادة الله.
أتى عباس على آخر ما في السلطانية، وتأهب لمغادرة الدكان، فتساءل بيومي: من أنت يا عباس؟ .. وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟
قوس قزح
Shafi da ba'a sani ba
اجتمعت الأسرة على هيئة مجلس للشورى. ذلك تقليد جميل متبع من زمن بعيد بفضل حكمة الوالدين: حسن دهمان وهو من رجال التربية وعلم النفس، والسيدة نظيرة وهي مفتشة كبيرة بوزارة الشئون، والغرض منه تربوي لإشراك الأبناء في تحمل المسئولية وتفهم الحياة، فضلا عن أنه يجعل من العقل المحرك الأول لسلوكهم. وقالت الأم: نحن نجتمع لمناقشة مسألة «طاهر».
وطاهر هو الابن الأصغر، في المرحلة الثانوية، يحب ابنة زميل لأبيه تقاربه في السن، ولما كانت أسرة الفتاة على وشك الانتقال إلى بلد عربي لعدة سنوات، فقد أراد طاهر أن يخطب البنت قبل السفر، وقال سمير وهو أكبر الأبناء وطالب بكلية الهندسة: أعتقد أن الخطبة بالنسبة لطاهر سابقة لأوانها.
وقالت هدى، وهي طالبة بكلية الحقوق: طاهر متقلب في عواطفه، رأيي التريث.
والتفت حسن دهمان بوجهه الجاد نحو طاهر، وقال: أود أن أسمع رأيك.
وبوجه متجهم، وهو يركز بصره في تهاويل السجادة تجنبا لالتقاء الأعين، قال طاهر: ما فائدة الكلام ما دام العقل سينتصر في النهاية؟
وطال الأخذ والرد، ثم أخذت الأصوات، وانتصر العقل كما تنبأ طاهر، وقال الأب معلقا على النتيجة الحكيمة: هذا هو عين العقل.
هذه الجملة «إكليشيه» يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفقة. ومنها يقف طاهر موقفا غير ودي؛ إذ إنه طالما عانى المتاعب باسم العقل. ولكن العقل يلعب دورا خطيرا في حياة الأسرة كأنه معبود. بفضل توجيهه ساد الأسرة نظام عجيب فهي ساعة دقيقة. البيت آية في الترتيب والأناقة كأنه وجه ذو ملامح أبدية. سقوط عود كبريت، أو تزحزح مقعد عن موضعه، أو ارتفاع في درجة صوت الراديو عن الحد المرسوم يعد من الحوادث المزعجة التي تتطلب علاجا سريعا. أوقات الطعام والاستيقاظ والنوم والعمل والراحة تخضع لدقة فلكية، ويقول حسن دهمان عن ذلك كله: هذا هو عين العقل.
ولكل فرد في الأسرة دفتر توفير، ونوع من الكتب يلائمه، وحتى الأغاني والبرامج الإذاعية والتليفزيونية تتقرر بعد تشاور ونقاش، ولدى مواجهة أي مسألة هامة ينعقد مجلس الأسرة ويدلي كل برأيه، ويفحص هذا الرأي بكل عناية ودقة سواء تعلق بنوع الدراسة، أم الحب، أم الصداقة، أم السياسة. أجل، لا يفلت من هذا النظام شيء، ثم يقول حسن دهمان بكل ارتياح: هذا هو عين العقل.
وعقارب الساعة آيات في الدقة إلا العقرب الصغير، فهو مصدر قلق لوالديه. - ألا تخجل من نفسك يا طاهر؟
لكنه ينظر بغرابة إلى ما حوله. لا يريد أن يتحمس لشيء، ويحضر مجلس الأسرة وهو كاره، ويتحفز للمعارضة بسبب وبلا سبب. نشاز في أوركسترا العائلة. ويغالب ضحكة مريرة في أحايين كثيرة. وبلغ به الاستهتار مرة أن اقتحم المطبخ، وتناول غداءه قبل موعده المحدد بنصف ساعة.
Shafi da ba'a sani ba
وقال له والده: ولكن هذا شذوذ لا مبرر له يا بني!
ولما لم يجد منه استجابة من أي نوع سأله : ألا زلت تفكر في الخطبة؟
فأجاب ببساطة: كلا، الجوع هذه المرة لا الحب.
ولما ذهب همست نظيرة هانم في أذن زوجها: آخر العنقود يا عزيزي.
فتساءل الرجل مغضبا: هل نرضى بالهزيمة؟ - كلا، ولكن الأمر يتطلب عناية مضاعفة.
وآمن طاهر بأن «هذا هو عين العقل» تطارده حيث ذهب. إنها تطوقه في الظاهر والباطن. إنه غريق في نسيجها المحكم، حتى الحب والطرب والحزن. وسمع لجريان الدم في أطرافه صوتا، فأيقن أن شيئا سيحدث. وشاركه إحساسه من يعيشون حوله، ولكن في صمت متبادل. ويوما وهو في الفرندا المطلة على الحديقة الصغيرة حدث شيء. كان موسم الامتحانات يقترب، وسمير وهدى مكبان على المذاكرة. وكان الأب يكتب بحثا، والأم تقرأ مجلة أمريكية. وبكى طاهر، كان في الفراندا يذاكر. وشعر بأن الحمل فاق احتماله وأن الدنيا لا شيء. وترك الكتاب فوق الترابيزة وراح ينظر في لا شيء، وحزن حزنا عميقا، ثم انصهرت الكآبة فذابت دموعا. وكتم البكاء أول الأمر أن يسمعه أحد. ثم تدافعت الدموع بغزارة مذهلة، فنشج ثم نحب. وغلبه ذلك فاستسلم للنحيب حتى هرع إليه الجميع. وقفوا مبهوتين، وجاءت أمه بماء فغسلت وجهه، وظل يبكي بحركات بلا صوت وبلا دموع. وأسند رأسه إلى صدر أمه؛ فتلقته بحنان، وهي تتساءل بقلق: ترى هل جاوزت الحد «المعقول» في إظهار الحنان الذي يعتمل في صدرها؟ ثم هدأ طاهر تماما، فجلس واجما ولم يبق من الانفعال الغريب إلا نظرة حزينة بكل معاني الكلمة. وساد الصمت وارتسمت الأسئلة في الأعين القلقة. وسألته أمه: ما لك يا طاهر؟
أجاب دون أن ينظر إلى أحد: لا شيء.
ارتسمت الدهشة والاحتجاج مكان الأسئلة، وقال له سمير: خبرنا بما يحزنك!
وقالت هدى بحرارة: يجب أن نعرف ذلك.
ولكن الأب أشار إليهما بالخروج فخرجا، ثم سأله برقة: ماذا بك يا بني؟ - قلت لا شيء! - أيام الامتحانات أيام مرهقة للأعصاب؟ - كلا .. كل شيء طيب.
Shafi da ba'a sani ba
وغادر الأب الحجرة ليمنح الأم فرصة أطيب، ولكن طاهر لم يقل شيئا. ولم يكن يعرف أكثر مما قال؛ ولذلك لم يستخلص أحد منه جديدا لا في تلك الليلة ولا في الأيام التالية. ونصحه والده بالتريض في الشوارع المحيطة بمسكنهم ساعة كل يوم قبل أن يجلس للمذاكرة. واعتبر الحادث عرضا من أعراض الإرهاق العصبي. ولم يعد أحد يذكره، ثم نسوه تماما.
ويوما قال حسن دهمان باهتمام: دعوت مديرنا الجديد إلى سهرة لطيفة في حديقتنا الصغيرة.
وخاطبت الأم الأبناء قائلة: يجب أن نظهر بالمظهر اللائق، وأن تمكثوا معنا قليلا ثم تنصرفوا للمذاكرة، وسيتوقف على لباقتكم نجاح الحفلة.
وتساءل طاهر: أهو صديقك يا بابا؟
فتفكر الرجل مليا، ثم قال: الصداقة نعمة كبيرة، وعلينا أن نستزيد منها كلما وسعنا ذلك، والمدير العام مجرد زميل أكبر، ولكنه سيكون غدا صديقا، والحياة الاجتماعية تطالبنا بواجبات نافعة لا بد منها.
وقال طاهر لنفسه: هذا هو عين العقل. وكان المدير الجديد قصيرا بدينا ضخم الوجه، والرأس أصلع، ويتكلم ببطء شديد. وأنعم طاهر فيه النظر وهو يقاوم رغبة شريرة في الضحك. وأعجبه منظر أمه وهدى وهما في كامل زينتهما، وتابع أحاديث أسرته الطلية بدهشة. وسمع والده يستشهد بالشعر أكثر من مرة، وسمع أمه وهي تعلق على شكوى المدير من كثرة نسيانه قائلة: تلك آية العبقرية يا سعادة البيه.
وانسحب سمير وهدى في الوقت المناسب، ولكن طاهر لم يبرح مجلسه، ورغم إشارات أمه الخفية لم يبرح مجلسه، ولما لاحظ أبوه تطلعه إلى المدير قال له: آن لك أن تذهب يا طاهر.
فتساءل طاهر: ألا أقول شعرا يا بابا؟
وقطب الأب على حين سأله المدير: أأنت شاعر؟ - كلا، ولكني أحفظ الشعر. - إذن أسمعني لأعرف ذوقك.
فقال طاهر بانتصار: علو في الحياة وفي الممات. - شعر مشهور. - قيل لمناسبة شنق رجل!
Shafi da ba'a sani ba
فضحك المدير قائلا: شعر جميل. أما المناسبة فسيئة جدا!
عند ذاك ضحك طاهر. شعر بأن الحمل فاق احتماله، وأن الدنيا لا شيء وراح ينظر في لا شيء. وحزن حزنا عميقا. ثم انفجر ضاحكا. وبادره أبوه فأخذه من يده ومضى به خارجا. وعند نهاية السهرة ناقش الوالدان مشكلة طاهر طويلا فاتفق رأياهما على أنها بحاجة إلى علاج حقيقي، ولكنهما رأيا أن الأوفق تأجيل ذلك إلى ما بعد الامتحان.
ويوما ارتفع صوت هدى في البيت وهي تنادي في شبه استغاثة صائحة: ماما .. تعالي انظري ماذا فعل طاهر! وهرع إلى حجرة الشاب كل من سمع النداء. رأوا الحجرة في أغرب منظر. منظر لا يخطر على بال إنسان. حشية السرير قد طرحت فوق المكتب، والكتب والأوراق قد صفت فوق خشب السرير. والصوان انعكس وضعه فالتصق بابه بالجدار. وقلبت المقاعد على ظهورها. وطويت السجادة الصغيرة ثم علقت بدوبارة بسلك المصباح الكهربائي. وندت عن الأم صرخة رثاء، وهتف الأب: كارثة .. كارثة وربي!
وسألوه جميعا عما فعل؟ وكان يقف وسط الحجرة هادئا وباسما، فلم يزد عن أن تساءل بدوره: ولم لا؟
وصاحت الأم: أنت تمزق قلبي.
فقال برقة: آسف على إزعاجكم.
فقال الأب بحسرة: غير معقول .. غير معقول. - لم لا يا بابا؟ كنت أقوم بتجربة، ولو أمهلتموني لكان ذلك عين العقل.
وغادر الحجرة إلى الفراندا، وتبعه والده، فوجده واقفا ينظر إلى السماء باهتمام بالغ. ونظر الرجل حيث ينظر، فلم ير شيئا فازداد انقباضا، ثم سأله برقة: أتعبت رقبتك، لم تنظر هكذا إلى السماء؟
وأهمله طاهر حتى كرر سؤاله مرتين، ثم قال بضجر: إني أحسدها على ما تنعم به من حرية!
فقال الأب محذرا: لكنها مستقر أدق نظام في الوجود، النظام الذي لا يخطئ.
Shafi da ba'a sani ba
فانزعج طاهر وخفض عينيه غاضبا. - ألا تحب النظام يا طاهر؟
فقال بحدة: لا أحب لشيء أن يتكرر مرتين. - لكنها الفوضى يا بني.
فهتف الشاب: ما أجمل هذا!
وتشاور الوالدان فأجمعا على وجوب البدء في العلاج دون إبطاء، ولو ضاع العام الدراسي. واتفقا على أن يستشيرا طبيبا باطنيا أول الأمر، على أن يذهبا بعد ذلك إلى طبيب أعصاب إن نصح الباطني بذلك، ثم إلى طبيب نفساني إن لزم الحال.
وكان الوالدان في الحديقة يستقبلان بعض الضيوف، وسمير وهدى يذاكران، عندما سمع الجميع ضجة في الطريق وتدافع أقدام في الداخل وصراخ الخادمين.
وتبين أن النار مشتعلة في الطابق العلوي . وانطلقوا جميعا إلى الطريق وأحد الخادمين يحمل طاهر بين يديه. وجاءت المطافئ فأخمدت النار قبل أن تستفحل. وقال طاهر في التحقيق ببساطة مذهلة: نعم، أنا الذي سكبت البترول وأشعلت النيران.
ولما سئل عن السبب أجاب بالبساطة نفسها: لا أتذكر.
ثم لاذ بالصمت.
وانطلقت سيارة المستشفى. جلس طاهر مقيد اليدين والقدمين بين والديه، على حين جلس أمامهم مندوب المستشفى: كم رأينا من حالات أشد من هذه، ثم عاد أصحابها كأعقل ما يكون.
وأراد الأب أن يقول: «إن ذهاب العقل كارثة لا تعادلها كارثة.» ولكنه لم ينبس، وساءل نفسه: «ما معنى هذا؟! وهل ثمة خطأ؟» كان بيته - وما زال - معبدا للعقل وللنظام، فكيف تسلل إليه الفساد؟ وحز الألم في نفسه، حتى تتابعت تأوهاته الباطنية، وحتى حسد زوجته على سخاء عينيه. ولحظ الابن العزيز بطرف عينه فرآه قد أغمض عينيه، فعض على شفته.
Shafi da ba'a sani ba
وتطوع المندوب للتخفيف من كآبة الجو؛ فقال: المستشفى خير مكان له، فلا تحزنا لذلك الإجراء الذي لا بد منه.
ولم تكن لدى حسن دهمان رغبة في الكلام، ولكنه أراد أن يجامل الرجل بقدر ما يستطيع، فتمتم وهو من الحزن في غاية: صدقت يا سيدي، هذا هو عين العقل.
الصمت
ما أفظع هذه الحجرة! كميدان قتال. لا ترى العين في أي موضع منها إلا سلاحا يقشعر منه البدن. وهو لا يعرف إلا المقص، ولكن المعرض حافل بما يشبه السكاكين والخناجر والدبابيس من كافة الأشكال والأحجام. وثمة أوعية ملوثة بالدم تحت الموائد المعدنية، وقطن وشاش، ورائحة أثيرية نافذة كنذير من عالم مجهول، وثلاثة أطباء. الطبيب المولد، وطبيب القلب، وطبيب التخدير، وممرضة بدينة لكنها في خفة النحلة ولا تمسك عن الحركة. لم ير الأشياء إلا خطفا على حين تركزت عيناه فوق السرير المرتفع، حيث ترقد زوجته مطحونة بالصراع، مرفوعة الساقين فوق حاجز قائم في نهاية السرير، وقف وراءه المولد في معطفه الأبيض، لا يبدو منه إلا نصفه، ويشي أعلى ذراعه بحركة يده المختفية. وراحت زوجته تقلب رأسها يمنة ويسرة كاشفة كل مرة عن عارض من وجهها المنقبض من الألم، الذي استقرت في صفحته زرقة مغبرة. آه .. حتام يطول الصراع؟ متى يجود بالراحة الرحمن؟ ويد الطبيب لا تكف عن الحركة، وهو ينظر نحوه أكثر الوقت، في بساطة واستهانة، ويبتسم ولا ينقطع عن الكلام: ما أعظم الفارق بين صورتك الحقيقية وصورتك على الشاشة!
هز رأسه وهو ينتزع من شفتيه الجافتين ابتسامة مجاملة، واضطر في ذات الوقت أن ينزع عينيه من الوجه المعذب؛ ليبادل الطبيب نظرة على سبيل المجاملة أيضا. - ما أبدع الفن! وفن التمثيل هو سيد الفنون في نظري، إنك تضحكني من أعماق قلبي، لا أحد يضحكني هكذا ولا الأمريكيون أنفسهم، ودور الباشكاتب في فيلمك الأخير دور عجيب حقا، تفوقت فيه على نفسك!
لاحت في عيني الطبيبين الآخرين ابتسامة، واسترقت الممرضة إليه نظرة باسمة كذلك، تحية لدور الباشكاتب. ونظر الأستاذ صقر نحو زوجته على أمل أن يكون الحديث قد لطف من كربها، ولكنه وجدها غارقة في دنياها الخفية، فساءل نفسه متى ينتهي عذابها؟ ومتى يرحمه الطبيب فيتركه لنفسه؟ وإذا بالطبيب يخاطبها قائلا: ساعديني، يجب أن تساعديني كما قلت لك مرارا، شدي حيلك، وأريني شطارتك.
وهمست بصوت هو الأنين: لا قوة لدي. - بل لديك قوة عظيمة، ولن تتم الولادة إلا بمساعدتك، افهمي ذلك جيدا، أنا في انتظار صوتك!
استجمعت قواها الخائرة، تتابع الصراخ في قوة لا بأس بها، ولكنه سرعان ما وهن فتقهقر إلى أنين مبحوح. وزادت يد الطبيب حركة، وعاد يقول: والفيلم في جملته ممتاز أيضا، قرأت مرة في مجلة أنك تشترط، قبل التعاقد على دور، أن تطلع على السيناريو؟
انتزع عينيه من زوجته مرة أخرى، وقال: نعم. - لكن ما معنى السيناريو؟
يا للعذاب! ••• - هو إعداد القصة للسينما. - أنا أقرك على موقفك، يجب أن تقرأ السيناريو أولا؛ حتى تضمن لموهبتك فيلما يناسبها. - شكرا .. شكرا.
Shafi da ba'a sani ba