قبيل الرحيل
حلم نصف الليل
قوس قزح
الصمت
بيت سيئ السمعة
القهوة الخالية
كلمة في السر
الخوف
الرماد
الختام
سوق الكانتو
وجها لوجه
الهارب من الإعدام
سائق القطار
لونا بارك
موجة حر
عابرو السبيل
يوم حافل
قبيل الرحيل
حلم نصف الليل
قوس قزح
الصمت
بيت سيئ السمعة
القهوة الخالية
كلمة في السر
الخوف
الرماد
الختام
سوق الكانتو
وجها لوجه
الهارب من الإعدام
سائق القطار
لونا بارك
موجة حر
عابرو السبيل
يوم حافل
بيت سيئ السمعة
بيت سيئ السمعة
تأليف
نجيب محفوظ
قبيل الرحيل
لم تبق إلا أيام معدودة قبيل الرحيل؛ لذلك بدت الإسكندرية لطيفة جذابة كما ينبغي لها قبيل الرحيل. وهو لا يدري متى يراها مرة أخرى؛ إذ إنه يمضي عطلته عادة عند الأهل في الريف، ولذلك فالذي كان موطنا للوحشة والملل انقلب مبعثا للحنان والأشواق في نظرة الوداع. حتى مجلسه المعتاد منذ أربع سنوات بقهوة سيدي جابر تجدد للتو شبابه. وقال لنفسه وهو يدخن النارجيلة: هيهات أن يجد جوا مناسبا لترطيب التبغ كجو الإسكندرية. أما النادل الذي جاء بالقهوة فقد قال بأسف: ستوحشنا كثيرا يا بيه.
فابتسم إليه شاكرا، وعند ذلك دخلت امرأة. هي .. هي. التي تتردد على القهوة من شهر لآخر، التي أطلق عليها امرأة سيدي جابر، التي تجاهلها طوال أربعة أعوام، وكانت اختفت منذ أواخر الصيف. ها هي في فستان شتوي، مطوقة الوجه بإشارب وردي، متلفعة بشال مرصع بالترتر، ملابس توافق الخريف الزاحف وتلك السحب البيضاء التي أخفت قرص الشمس، وطرحت لونها الهادئ الغامض على الشوارع شبه المقفرة. وجلست إلى جانب الرومي صاحب القهوة، وتبادلا كالعادة قليلا من الكلام وكثيرا من الصمت، يغشاهما جو حاد كأنهما رجلان، ومن رجال الأعمال على الأرجح. وذاك كان شأنهما من زمان. ومرة همس النادل في أذنه: أليست جميلة؟
رأى عينين واسعتين مقتحمتين، ووجنتين ريانتين، وإغراء في هالة من الثقة بالنفس والحنكة، فقال وقتذاك دون تردد: ليس الطراز الذي يوافقني!
اليوم تبدو مغرية فحسب، كالإسكندرية قبيل الرحيل. وقال للنادل: أربعة أعوام عشتها في الإسكندرية، ومع ذلك فلم أزر - ولو مرة واحدة - لا حديقة الحيوان، ولا أنطونيادس، ولا الآثار الإغريقية الرومانية، ولا هذه المرأة.
فابتسم النادل قائلا: وأسيوط لن تجد فيها شيئا.
وبعث إلى المرأة بنظرة بدائية، ولم يكن في القهوة إلا منهمكان في النرد، فأجابته بعمق. فقال للنادل: أرني شطارتك.
انتقلت إلى جانبه، ثم تبعها النادل بزجاجة بيرة. وراح يؤكد لها أن تعارفهما فرصة سعيدة حقا؛ فقالت بدلال بارد: أنت كشجرة المانجو؟
فرفع حاجبيه مستفهما؛ فقالت: تحتاج إلى خدمة طويلة وصبر.
فهرب من الاعتذار برفع قدحه هامسا «صحتك»، وقضما الزيتون الأخضر، وهما يترامقان في صمت حتى قال: البيت على بعد دقائق.
فقالت بلا تلعثم: جنيهان! .. والآن من فضلك.
ودستهما في حقيبتها، وهما يغادران القهوة. وأثنت على الشقة الصغيرة المهندمة؛ فأثنى بدوره على البواب صاحب الفضل. وجاء بطبق فاكهة، ووضعه على خوان على كثب من الفراش. وسرعان ما تعانقا دون ما كلمة واحدة. وامتلأ الصمت بتعابير غامضة، وهمسات من عالم آخر. واستحكم ظلام المغيب في جو الحجرة المغلق. وارتجت مصاريع النوافذ بريح مباغتة، كما يقع كثيرا في الخريف. وما لبث لحن المطر أن عزف فوق الجدران. ورفع إلى النافذة القريبة نظرة محمومة، ثم همس مستسلما: جو متقلب لا أمان له.
ولكنه استمتع بدفء وراحة عميقة. وانتبه إلى الظلمة الشديدة، فمد يده إلى الأباجورة فأضاء مصباحها. ولحن المطر ما زال يعزف، ولكنه خف جدا موحيا بالختام. ونظر إليها فرآها مغمضة العينين كالنائمة. وهاله منظر جفنها الكبير كورقة وردة. ولاحت منه نظرة إلى المرآة البيضاوية، فرأى صورة لشخصه تستحق الرثاء. وكف المطر عن العزف تماما. وسألها: نائمة؟
فأجابت دون أن تفتح عينيها: لا أنام قبل الفجر.
وقشر موزة ورشقها برفق بين شفتيها الغليظتين؛ فجلست نصف جلسة وتسليا معا بالفاكهة. وقالت: قال الخواجا إنك مسافر بعد غد .. ولكن ما اسمك؟
وتذكر وهو يداري ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف. قال إن اسمه بركات، موظف منقول إلى أسيوط، فقالت وهي تمسح ظاهر يدها بباطن قشرة الموز: اسمي دنيا.
فقال لنفسه: اسم غريب وجميل، ولكنه بلا شك زائف ككل شيء في الجلسة، وشعر بالملل يسترده من الحلم حتى حسد المنهمكين في القهوة. وقصت عن الماضي والمصير قصة فقال لنفسه: قصة واحدة .. لا جديد ألبتة! وسألته عن شقته وأثاثها فأجاب: بعتها بكل ما فيها .. وبعد غد سيحل بها آخر.
لم يعد بالحجرة إلا عبير الموز والفتور. ولولا الجنيهان لتقوض المجلس. وفي ذروة من ضيقه رآها وهي تمد ذراعها إلى حقيبتها فوق الكنبة، ثم رآها وهي تستخرج منها الجنيهين. لحظها بطرف متسائل، فإذا بها تميل نحو الناحية الأخرى من الفراش؛ لتودع الورقتين في درج التواليت. ونظرت إليه وهي تبتسم، فتلقى نظرتها بعين لم تفهم شيئا، وسألها: لمه؟
فقالت وهي تسبل جفنيها: نقودك ردت إليك.
استيقظ من الفتور، ولكنه لم يفهم شيئا، فقالت بدلال: أنت فاهم ولكنك تتغابى، هذا كل ما في الأمر.
وأقسم لها أنه لا يتغابى أبدا، فقالت: لا لزوم للنقود في هذه الحال. - أية حال؟
فطوقت عنقه بذراعها السمراء وهو يضطرب من الانفعال، وهمست في أذنه: الرضا! .. فهكذا أفعل إذا رضيت نفسي.
وغرق في نشوة فرح لم يجربها من قبل حتى رقصت الجدران، ولكنه هتف في شيء من الحياء: لا .. لا.
وكتمت احتجاجه بقبلة دسمة، فذاب اعتراضه في فرحة أشمل حتى ود أن ينعم كل شيء بالأفراح. واندفع يعد المكان لسهرة طويلة سعيدة؛ فمضى إلى الصالة ففتح الراديو، ونادى البواب فأمره بإحضار شراب وشواء، ثم رجع إلى الحجرة وهو يقول: كم من مرة رأيتك في القهوة طوال أربعة أعوام؟ .. ولكنني أحمق. - والرحيل؟
فهز رأسه بأسف، ثم تمتم: بعد غد؟ .. من يصدق هذا؟ .. ولكنني أحمق.
واستلقى عند قدميها وهو يفرقع بأصابعه مع نغمة راقصة رددها الراديو. واقتنع بأن الدنيا تتمتع بصحة تحسد عليها. وخطرت له فكرة جديدة فوثب إلى الأرض وهو يتساءل: ما رأيك في نزهة ليلية؟
ومضيا إلى ملهى صغير بشارع النبي دانيال. وتغلب بسهولة على حرص مأثور عنه فأنفق بسخاء، وشربا كثيرا، ورقصا مع كل نغمة. وفي فترة استراحة لاحظ أن شابا يرمق محبوبته باهتمام؛ فتكدر صفوه وتوثب لمواجهة أي احتمال لا يروقه. وتقدم الشاب من دنيا وانحنى تحية، ثم طلبها لرقصة مقبلة؛ فنفخ بركات غاضبا حتى همست في أذنه: هذا تقليد مألوف لا ضرر منه.
فقال بغلظة: لا أحبه.
ثم حدج الشاب بنظرة حمراء، وقال له بخشونة: اذهب.
ولم يدر بماذا أجاب الشاب، ولكنهما التحما في عراك بسرعة مذهلة. ولم يشعر بما تلقى من ضربات ولكنه أصاب خصمه في بطنه، فترنح وكاد يسقط على ظهره لولا أن تلقاه النادل بين يديه. وأحدقت بهما الأعين المخمورة في ذهول ووجوم. وتنقل مدير المحل بين الموائد مهدئا للخواطر، ثم أشار إلى الأوركسترا فانطلق يعزف داعيا إلى رقصة جديدة. وجعل بركات يلهث ودنيا تسوي له ربطة عنقه، وقد انخلع زرار الجاكتة وتهتك الجانب الأيسر من أعلى القميص. أما اللكمة التي أصابت صدره فلم تكن بذات بال، ورغم ذلك فلم يستأثر به الكدر أكثر من دقائق، وسرعان ما عاوده الانسجام، وراح يشرب كما يحلو له، ورمقه البعض بحنق فمالت دنيا على أذنه قائلة: نذهب يا عزيزي.
وغادرا الملهى وعشرات النظرات تصفعه بازدراء، ولكنه شد على ذراعها بمرح وسعادة، وداخله إحساس قوي بالزهو والفخار، فقال لها: لا تغتمي يا عزيزتي، هذه متاعب يسيرة، وكثيرا ما تحدث.
واستقلا ترام الرمل مع الجمهور المنصرف من السينما. ومد ذراعيه حولها كالسياج ليدفع عنها غائلة الزحام، ولكن رغم ذلك ضايقها رجل عن قصد أو عن غير قصد، ورماه بنظرة وعيد ولكن الآخر كان في واد آخر فواصل مضايقاته. وانفجر فيه غاضبا من رأس دارت به الخمر. وتبادلا كلمات غاية في القسوة، ثم تبادلا لطمات ولكمات بعنف قبل أن يفصل الناس بينهما. وتدخل أولاد الحلال لمنع المضاعفات. ووجد في وجنته اليسرى ألما، وسال الدم من زاوية شفته السفلى، وجعل يجفف الدم بمنديله طيلة الطريق، ولكن الدم الغزير الذي خضب شارب خصمه عند أسفل أنفه الملتهب خفف من شدة انفعاله. وعند مغادرة الترام لفحه هواء منعش ثمل بعبير المطر، فارتفعت روحه، وقال: جرحي بسيط لكنه خسر أنفه فيما أعتقد.
فتمتمت في ملق: كدت تقتله، الله يجازيك.
وندت عنه ضحكة، ثم قص عليها نوادر من معاركه في الزمان الأول قبل أن تشكمه الوظيفة. وكان يروي ذلك بفخار واضح، ثم عاوده مرحه كأن شيئا لم يكن، وهكذا رجعا إلى حجرتهما. ووجد الشراب والشواء على الخوان حيث تركهما البواب، فقال: جميل جدا. ولكن ينقصنا الزهور، كان يلزمنا باقة ورد ويا للأسف!
وغسلت له جرحه ودلكت وجنته وهو يغني: «ما تبطل الشقاوة وتيجي عندنا»، وقالت له ضاحكة إن صوته لم يخلق للغناء؛ فقال إن المهم هو السعادة فعند ذلك يغني أي شيء. ثم تحدث ببلاغة رقيقة عن الحب حتى قال لها: ليس كمثله شيء.
ثم قال أيضا بعد أن قبلها بامتنان: لا بد من الرجوع إلى الإسكندرية، سنلتقي كثيرا بالرغم من الرحيل.
وعندما ساد الصمت ارتفع زئير الهواء خارج النافذة، فقهقه بركات قائلا: جو بلادك قلب ولكنه جو سعيد.
وعندما اختفى كل شيء في الظلمة اشتد زئير الهواء، وأكثر من مرة نضح شيش النافذة بوميض البرق في موجات قصيرة متتابعة كالدغدغة، كشفت عن معالم الحجرة الكاسية والعارية، ثم استكن الظلام كأكثف مما كان؛ فتضاعف حنان الشاب واستمتاعه بالدفء والأمان. ووجد نفسه يتذكر جو الساحل عندما يكفهر وتنتشر في تضاعيفه تحركات غامضة متوترة تنذر بوشيك المطر. وما لبثت الأمطار أن انهلت فوق النافذة في عربدة صاخبة، فقال لنفسه وهو يستزيد من متعة الأمان والهناء إن قيام الساعة نفسها يطيب في أحضان الحب.
واستيقظ عند الضحى.
وفتح النافذة فدخل هواء بارد وتراءت السماء ملبدة بغيوم في لون المغيب جامدة غير موحية.
وجلست هي على الكنبة في تراخ مشعثة الشعر، منتفخة العينين، فاترة النظرة شبه عابسة كأنها لم تعرف اللعب. وخيل إليه أنها كبرت أعواما فسرعان ما شعر بالكبر، وبأن كل شيء زائل. وتثاءبت طويلا بصوت كالأنين، ثم قالت وكان أول ما نطقت به منذ استيقاظها: هذا أوان الذهاب.
فتساءل: لم العجلة؟
فتمتمت: انتهت الليلة ، ولدي عمل ومواعيد.
ثم رأى حركة لم يكن يتوقعها. رآها تميل نحو التواليت، ثم تفتح الدرج وتسترد الجنيهين من مكانهما، ثم تعيدهما إلى حقيبتها، وقد تثاءبت مرة أخرى. ما معنى هذا؟ .. وسألها في حيرة: أأنت في حاجة إلى نقود؟ - كلا، أخذت ما اتفقنا عليه فقط.
فتساءل في دهشة وكآبة: أي اتفاق يا عزيزتي؟ - الاتفاق، نسيت؟
فضحك ضحكة بلهاء، وقال: الظاهر أنك أنت التي تنسين!
ولم تعن بالرد، فقال بجزع: شيء عجيب، النقود لا تهمني، ولكنك قلت أمس .. أنسيت حقا؟!
وقال لنفسه إما أنني مجنون وإما أنها مجنونة. ثم قال عابسا: ما لك؟ ماذا جرى؟ خبريني من فضلك؟
فابتسمت ابتسامة باردة وهي تتساءل: أتريد أن تأخذ دون أن تعطي؟ - قلت إنك لا تأخذين عندما ترضين!
فرمقته بنظرة غريبة، ثم قالت: أردت أن أهبك ليلة سعيدة، هذا كل ما هنالك.
فسألها بصوت متهدج: مجرد حيلة من الحيل؟ - ولكنها أسعدتك سعادة حقيقية.
فقال وغضبه يتراكم كزوبعة في الأفق: كذبة حقيرة. - لا تزعل، كانت السعادة حقيقية، وأنا أستحق شكرك.
رماها بنظرة قاسية لم تر من وجهها إلا دمامة وحشية، وأصغى في رجفة إلى حديث نفسه الثائرة التي تدعوه إلى خنقها حتى يتفجر دمها الأسود، فنظرت إليه بقلق وحذر فصاح بها: شيطانة حقيرة.
فلم تنزع بصرها منه متوثبة للدفاع عند أول حركة فصاح: وحيلة فاشلة، ألا تدركين ذلك؟ .. أود أن تدفعي حياتك ثمنا لها.
فلم تنبس وازدادت حذرا، فعاد يقول: وما فائدة ذلك يا مغفلة؟ لن تستطيعي أن تكرريها مرتين.
اطمأنت الآن إلى أن موجة الجنون قد انحسرت عنه فيما بدا، وأنه أخذ يسترد شيئا من هدوئه الخائب وإن رانت عليه كآبة ثقيلة، فقالت: لكنها حيلة لا بأس بها قبيل الرحيل، أليس كذلك؟
فقال بازدراء: قلت يا مغفلة إنك لن تستطيعي أن تكرريها مرتين.
فتساءلت: ومن قال إننا سنلتقي مرة أخرى؟!
حلم نصف الليل
أم عباس امرأة جميلة، عرفت في الحي بجمالها، ويتطلع إليها أصحاب الأذواق كما يتطلع أهل الخلاء إلى عين ماء. وهي إلى ذلك تمتلك عمارة قديمة من أربعة أدوار غير ثلاثة دكاكين أسفلها؛ ولذلك اعتدها الأهالي، وكلهم فقراء، حلما موشى بالذهب. ويوم توفي زوجها بائع المسابح والمباسم والأوراد كانت في حوالي الأربعين، وهي سن يعتبرها الحي ذروة النضج، ومجلى البضاضة، وعطر الأنوثة. وكثيرون سعوا إلى التزوج منها، ولكن القسمة دفعت بها إلى أحضان رجل لم يجر عند الظن على بال. كان حسنين يملك عربة كارو ويؤجرها إلى الغير، في الثلاثين من عمره، قوي الجسم، مرهوب الجانب، ومعدودا من فتوات الدرجة الثالثة. ولم يكن أحد في الحي يحبه أو يعجب به، فازدادوا له مقتا، وعجبوا كيف تقع امرأة كأم عباس في أحابيله، وقالوا بأسف والغضب والحسد يأكلان قلوبهم: مسكينة أم عباس، ومسكين عباس!
وعباس ابنها من الزوج الراحل، في العشرين من عمره، طيب القلب جدا، تلوح في عينيه الواسعتين نظرة صامتة، ولعلها ناطقة بلغة مجهولة، يبتسم كالأطفال، ويطلق شاربه ولحيته ويحبهما. وهو أمي لم يحصل في الكتاب حرفا؛ ولذلك فتح له أبوه دكانا من دكاكين العمارة لبيع الحلوى والفول السوداني واللب، فكان يغدق على الأطفال بغير حساب. ولما تزوجت أمه من حسنين غاب عن الحي أياما، ثم عاد وهو يقول لكل من يلقاه: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
ورفع رأسه نحو مسكن أمه وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وعندما ينقضي النهار يخلع جلبابه ويلبس بدلة زرقاء فاتحة اللون، فهو يحب الألوان الفاتحة، ويمشط بعناية شاربه ولحيته، ويغطي رأسه بطربوش متداعي الأركان، ويتناول عصاه الخيزران البرتقالية، ثم يغلق الدكان وينطلق في سبيل طويل، ملقيا بتحياته يمنة ويسرة، يلوك في فيه قطعة من السكر النبات، ويبتسم في سعادة رائعة، وأكثر الليل يرى هائما على وجهه. ومذ تزوجت أمه من حسنين اتخذ من دكانه مسكنا، فلم تعارضه أمه طويلا لعلمها بعناده، وكانت لا تخشى شيئا عليه وتقول: إن ملائكة الله تحرسه. وسعى حسنين يوما إليه متوددا، ولكنه صاح في وجهه: اذهب، أنا لا أعرفك.
فغضب الرجل قائلا: أنا عمك.
وحال أناس بينهما وهم يلاطفون الرجل، دفاعا عن الشاب المحبوب. وحزنت أم عباس حتى دمعت عيناها الجميلتان. كانت تحب عباس؛ لأنه وحيدها ولأن وجهه صورة من وجهها. أجل كان عباس جميلا، ولا يخفى جماله رغم اللحية والشارب والطربوش المتداعي الذي يغطي ثلث وجهه.
ومن عجب أن حسنين ازداد بعد نعمة الزواج من أم عباس فظاظة وانحرافا. واستفحل جانب الفتوة من ذاته؛ فاشترى الأعوان وأكثر من العدوان، وكان يسكر حتى تلاطمه الجدران، وكان يغني إذا سكر بصوت تنفر منه الخنافس، وكلما رأى عباس الرجل في حال من أحوال عربدته خرج من دكانه إلى الطريق ورفع رأسه نحو مسكن أمه، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ويوما ترامت حشرجة نبراته الصارخة من وراء الشيش إلى الطريق في هياج وحشي: أنا سيد البيت .. أنا سيد الكل.
وتخيل الناس المرأة الجميلة تحت زوبعة الإهانات بأسف، المرأة التي لم تعرف في ماضيها سوى الحب والتكريم. وتساءلوا عن سر ذلك الغضب! وأجاب سكان العمارة بأن الإيراد هو سر الغضب، وأن الفتوة انتصر، وأصبح المحصل الوحيد للإيجار. ولم تعد أم عباس تخرج كعادتها لزيارة الجارات والتجول في التربيعة. لم يعد أحد يراها وهي تتبختر في الملاءة اللف كالمحمل، وعيناها المكحولتان ترنوان بنظرة دسمة حول عروس البرقع.
ولم يقنع حسنين باغتصاب دخل الأم، فمضى يوما إلى دكان عباس، وهتف وهو يترنح من السكر حتى طير الأطفال عن ملعبهم: دلني على مليم واحد ورثته عن أبيك؟
وتعلقت عينا عباس بالأطفال، وكأنه لا يرى الرجل الآخر، فأنذره هذا بسبابته صائحا: ادفع الإيجار أو فلتخل الدكان.
وسارع إليه بيومي اللبان ليهدئ من ثائرته، وتودد إليه بمعسول الألفاظ حتى مضى به بعيدا، وحسنين يقول بلسان ملتو، ونثار ريقه يرش وجه بيومي رشا: معتوه وبلطجي.
وعند المساء انطلق عباس إلى جولته الليلية، يجود حيثما ذهب ببسمات رائقة وتحيات حارة في سعادة ملائكية. ودبر حسنين حملة إرهابية جديدة ليحمل أم عباس على أن تبيع له العمارة بيعا صوريا. واشتد الخلاف بينهما فضجت الحارة بصراخه وتهديداته. وشكت المرأة إلى الجارات كربها. وتشاور بعض الطيبين في السعي لدى حسنين ليعدل عن مطالبه، ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على اتخاذ خطوة إيجابية خوفا من بطش الرجل، وبخاصة أنه اعتدى في ذلك الوقت اعتداء وحشيا على رجل يدعى «كرمللة» عندما ضبطه يوصل نقودا من أم عباس إلى ابنها. وارتفع نحيب المرأة ذات ليلة عقب تعنيف شديد من الرجل، ثم علم أهل الحي أنه ضربها ضربا شديدا، وأنها لن تطول مقاومتها.
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين، وفتحت النوافذ، وهرع كثيرون إلى مصدر الصراخ، إلى القبو. وعلى ضوء فانوس رأوا بيومي اللبان وهو واقف يرتجف. هو أول من يستيقظ في الحي ليسرح بصفيحة اللبن، ولكن ماذا دهاه؟ ووجدوه يشير إلى مكان في الأرض، فنظروا حيث يشير فرأوا حسنين سابحا في دمه، وقد تكومت جثته أسفل جدار القبو.
واضطرب الحي اضطرابة عنيفة، وسرعان ما احتلته الشرطة والنيابة، ثم اندفع التحقيق في جميع الجهات متعقبا كافة الشبهات. استدعي كرمللة وهو آخر ضحية للقتيل، وأم عباس، وبعض سكان العمارة، وبيومي اللبان نفسه. وعشرات وعشرات من خصوم الرجل الذين لا يحصيهم عد، ولكن ثبتت براءتهم جميعا بصورة قاطعة. حتى عباس استدعوه للتحقيق، ولما سئل عن المكان الذي كان فيه وقت ارتكاب الجريمة أجاب ببساطة: كنت مع الخضر.
ولما أراد المحقق أن يعرف من هو الخضر، أجاب عباس بدهشة: ألا تعرف سيدنا الخضر؟
ولكن كثيرين كانوا يعرفون تجوال عباس خطوة فخطوة، وقد شهدوا نيابة عنه. وهكذا بدت الجريمة لغزا لا يريد أن يحل. وعرف من التحقيق أن حسنين قتل بآلة حادة هشمت مؤخر رأسه. والحق أن أحدا لم يأسف عليه، ولكنهم تساءلوا كثيرا عن القاتل، وظلت الجريمة حكاية الحارة المثيرة زمنا طويلا.
وظن أول الأمر أن عباس سيرجع إلى مسكن أمه، ولكنه رفض ذلك بإباء. واعتصرت المحنة الأم فغرقت في الحزن، ولكن جمالها قاوم المأساة، وخرج منها في النهاية متألقا كماضيه. وعادت تتبختر بين السكة الجديدة والتربيعة، وعاد الإعجاب يحوطها كالهالة.
وإذا برجل يتقدم طالبا يدها. كان في الحقيقة شابا دون الثلاثين، قصابا، أقرب ما يكون إلى الفقر ومن أهل الحي المجاور، جميل الصورة، دمث الأخلاق، نظيف الذمة، وتساءل الناس هل تجازف المرأة بقبول التجربة مرة أخرى؟ وقبلته المرأة بأسرع مما تخيل أحد. ومع أن بعض الطيبين قالوا: إن الله قد عوضها خيرا إلا أن كثيرين تهامسوا متسائلين: ترى ألهذا الرجل علاقة بالجريمة الغامضة؟ أما عباس فقال كعادته: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
وخرج وسط الطريق، ثم رفع رأسه إلى عش العروسين صائحا: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وبلغ التهامس المريب مسامع الحكومة فأجرت تحرياتها عن العريس - وكان يدعى عبده - واستدعي لسؤاله هو وأم عباس، ولكن لم يثبت عليهما شيء، وظل اللغز أخرس كما كان. وتجلت بالمعاشرة مزايا عبده القيمة؛ فقد وهب المرأة حبا وعطفا ومعاملة كريمة. وعرض من بادئ الأمر صداقته على عباس، ومع أن الشاب نهره قائلا دعني وشأني، إلا أنه حباه بعطفه ورعايته، وحث أمه على مده بما هو في حاجة إليه من نقود. وأثبت في الوقت نفسه أنه ذو عقل راجح، فقد اقترح على أم عباس أن تبيع حوشا خلفيا للعمارة قائما على ناصيتين لتجدد العمارة بثمنه، وتبني دورا جديدا. وأولته المرأة الثقة التي يستحقها فتجددت العمارة وارتفعت، وازداد دخل أم عباس زيادة محسوسة، حتى أعجب به الناس، وقالوا رجل ولا كل الرجال. وقال بيومي اللبان لعباس، وهذا يتناول عشاءه في دكانه قبل الانطلاق إلى جولته الليلية: أنت لك قلب ملاك، فكيف تنفر من رجل طيب كعم عبده؟
فمضى عباس في تناول الزبادي، كأنه غير المقصود بالكلام، فتساءل بيومي: ألا تحب من يحب الناس ويعمر الخرابات؟
وأعاد عباس سلطانية الزبادي فارغة، ثم نظر في عيني بيومي قائلا: الوحش .. ألم تره وهو يقطع اللحم في دكانه؟
ووضح فيما تلا ذلك من زمن أن عبده بار كذلك بأهله؛ فكان كلما خلت شقة في العمارة أسكنها أحد أقاربه. وكان يخفض الإيجار للفقراء منهم بإذن من زوجته. وفي ذلك كله لم يجد أحد ما يؤاخذه عليه حتى جاء بأمه وأختين له؛ ليقمن معه في شقته، فعند ذلك ردد البعض المثل القائل: «إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله». والحق أن أم عباس لم ترتح لذلك، وهي قد فوجئت بالأمر الواقع مفاجأة لم تستطع معها منعه، ولكنها أدركت أن الزمام قد أفلت من يديها، وأنها لم تعد سيدة بيتها بحال بعد أن اضطلعت حماتها بالمسئولية فشعرت بالضياع.
وإذا به يوما يخلي دكانين من دكاكين العمارة الثلاثة، ويهدم الجدار القائم بينهما ليقيم دكانا كبيرا فخما، ثم انتقل إليه من محله الصغير بالحي المجاور، وعلقت الخراف والعجول، وصار أكبر قصاب في الحي كله. وافتتح المحل الجديد بتلاوة من مقرئ حسن الصوت، وحمد عبده الله بصوت سمعه الكثيرون على ما فتح به عليه من مال حلال!
ولأول مرة اختلف الناس فيه، فمن قائل إنه مثال للأمانة والبر، ومن قائل إنه حسنين آخر حريري الملمس. وشك أناس في ذمته وعض الحسد قلوب الكثيرين. وتغير عبده بعض الشيء؛ فاختفت نظرته الوديعة وحلت محلها نظرة جديدة مليئة بالثقة، وطعم دماثته المألوفة بقدر من الحزم والعزم اقتضاهما مركزه المالي ومسئوليته كرجل أعمال. ولم يكتف باستعمال حزمه وعزمه في التجارة فاستعملها في البيت أيضا كلما نشب نزاع بين أم عباس وأهله، واستعملهما خاصة مع أم عباس. ولما كانت المرأة لم تعهده إلا لطيفا مؤانسا، فقد كبر الأمر عليها وحزنت حزنا شديدا. وساءت الحال بينها وبين أهله، وأصرت على استرداد ما ضاع من حقوقها في بيتها، حتى قالت له يوما: أنا لا أريد أن يشاركني أحد في بيتي.
وإذا بالرجل يقول لها بصوت رهيب: لك ما تشائين فتفضلي بالذهاب!
ولم تصدق المرأة أذنيها. ثم صاحت: هذا بيتي .. وعلى الآخرين أن يتركوه.
ووقع اشتباك بالأيدي بين النساء، فهاله أن يعتدى على أمه، وانهال على أم عباس ضربا، ثم دفعها خارج البيت. وجدت نفسها وحيدة في الطريق، حتى آوتها أسرة فقيرة تمت بقربى بعيدة إلى زوجها الأول. وهز الحادث النفوس هزا، وهرع عباس إلى ما تحت مأواها الجديد، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ولم يدر الجيران ماذا يفعلون، فلم يكن من اليسير إغضاب الرجل بعد أن كبر نفوذه وتعلقت به مصالح الكثيرين. وفكر البعض في رفع الخلاف إلى ساحة القضاء، ولكنهم كانوا يتهامسون بذلك سرا خوفا على أنفسهم. ولم يجهر بالسخرية منه إلا عباس حتى غضب عليه الرجل؛ فمنع عنه مصروفه، وهو يقول بأعلى صوته: عبث السفهاء لا يجوز أن يمتد إلى المال.
والتفت إلى كثيرين من أهل الحي الذين وقفوا يشاهدون النزاع، وقال لهم: أي واحد منكم أحق بالنقود التي يعبث بها هذا الغلام المعتوه.
ولكنهم كانوا يرمقون الدكان والخراف والعجول، ويتساءلون: وهذه الأموال ما شأنها؟ أما عباس فلم يكترث لشيء وبدا كأنما يزداد سعادة وسيادة، وكان ينطلق في الليل كأنه وارث الملكوت. وقال الناس: إن أم عباس امرأة تعيسة الحظ، وإن قلبها الضعيف يدفعها دائما إلى المهالك. وبينما كانت تعيش بفضل إحسان أسرة فقيرة، كان عبده يتضخم ويشارك في كل نشاط مالي في الحي. وسعى بالصلح بينهما أناس طيبون حتى أعادوا المرأة إلى بيتها. ولكنها عادت منكسرة النفس لا أمل لها في حياة كريمة، ولم يسمح عبده بإعادة مصروف عباس إليه إلا بشرط أن يشاركه في دكانه أحد أقربائه هو ليصون المال ويدير العمل. وأحب عبده الحياة المريحة المترفة، فعقد اللاسة الشاهي الفاخرة فوق رأسه، وتلفح بالعباءة من وبر الجمل، ولبس المركوب الملون من خان الخليلي، وتحلى بالخواتم الذهبية، وسبقته رائحة المسك حيث ذهب فيقوم له الناس على الجانبين حتى يختفي عن الأعين، فيتهامسوا: الله يرحم أيام زمان!
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين وفتحت النوافذ، ثم هرع الجميع إلى القبو. رأوا بيومي اللبان وهو يرتجف، فنظروا إلى حيث يشير فرأوا المعلم عبده مكوما ورأسه غائص في بركة من الدم. وزلزل الحي زلزالا عنيفا. وأطبقت عليه الشرطة والنيابة والمخبرون. واستدعي إلى التحقيق عدد لا حصر له من أهل الحي ، ولكن لم يقع على أحدهم ظل شبهة من قريب أو بعيد، وقطعت الدلائل بأن جريمة عبده ستلحق بجريمة حسنين. وقال أناس وهم يضربون كفا بكف: ما أعجب هذا!
فقال آخرون: انتظروا حتى يظهر العريس الجديد.
ومضى عباس إلى دكان بيومي ليتناول عشاءه المعتاد قبل الانطلاق لجولته الليلية. وجعل بيومي يرمقه بغرابة وهو يأكل الزبادي بأناة وسعادة، وشاربه ولحيته يلتقيان حول فيه، ويبتعدان في حركات متتابعة. وتردد بيومي قليلا، ثم قال: عباس! أنت أعجب شيء في حارتنا.
فابتسم عباس إليه بمودة؛ إذ كان أحب الناس إلى قلبه، فقال الآخر فيما يشبه الهمس: كان عبده ما زال حيا عندما عثرت عليه في القبو.
فتحسس عباس شاربه عند امتداده فوق فيه ليتأكد من جفافه، فقال بيومي: وقد نطق باسم قاتله قبل أن تصعد روحه.
فملأ عباس الملعقة بالزبادي، ورفعها إلى فيه وهو يركز فيها عينيه، فقال بيومي: وهو بلا شك قاتل حسنين من قبل.
لاح في وجه عباس عناء من يستحضر خيالا لا يرام، فقال بيومي: وعند التحقيق نسيت كل شيء، وتلك إرادة الله.
أتى عباس على آخر ما في السلطانية، وتأهب لمغادرة الدكان، فتساءل بيومي: من أنت يا عباس؟ .. وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟
قوس قزح
اجتمعت الأسرة على هيئة مجلس للشورى. ذلك تقليد جميل متبع من زمن بعيد بفضل حكمة الوالدين: حسن دهمان وهو من رجال التربية وعلم النفس، والسيدة نظيرة وهي مفتشة كبيرة بوزارة الشئون، والغرض منه تربوي لإشراك الأبناء في تحمل المسئولية وتفهم الحياة، فضلا عن أنه يجعل من العقل المحرك الأول لسلوكهم. وقالت الأم: نحن نجتمع لمناقشة مسألة «طاهر».
وطاهر هو الابن الأصغر، في المرحلة الثانوية، يحب ابنة زميل لأبيه تقاربه في السن، ولما كانت أسرة الفتاة على وشك الانتقال إلى بلد عربي لعدة سنوات، فقد أراد طاهر أن يخطب البنت قبل السفر، وقال سمير وهو أكبر الأبناء وطالب بكلية الهندسة: أعتقد أن الخطبة بالنسبة لطاهر سابقة لأوانها.
وقالت هدى، وهي طالبة بكلية الحقوق: طاهر متقلب في عواطفه، رأيي التريث.
والتفت حسن دهمان بوجهه الجاد نحو طاهر، وقال: أود أن أسمع رأيك.
وبوجه متجهم، وهو يركز بصره في تهاويل السجادة تجنبا لالتقاء الأعين، قال طاهر: ما فائدة الكلام ما دام العقل سينتصر في النهاية؟
وطال الأخذ والرد، ثم أخذت الأصوات، وانتصر العقل كما تنبأ طاهر، وقال الأب معلقا على النتيجة الحكيمة: هذا هو عين العقل.
هذه الجملة «إكليشيه» يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفقة. ومنها يقف طاهر موقفا غير ودي؛ إذ إنه طالما عانى المتاعب باسم العقل. ولكن العقل يلعب دورا خطيرا في حياة الأسرة كأنه معبود. بفضل توجيهه ساد الأسرة نظام عجيب فهي ساعة دقيقة. البيت آية في الترتيب والأناقة كأنه وجه ذو ملامح أبدية. سقوط عود كبريت، أو تزحزح مقعد عن موضعه، أو ارتفاع في درجة صوت الراديو عن الحد المرسوم يعد من الحوادث المزعجة التي تتطلب علاجا سريعا. أوقات الطعام والاستيقاظ والنوم والعمل والراحة تخضع لدقة فلكية، ويقول حسن دهمان عن ذلك كله: هذا هو عين العقل.
ولكل فرد في الأسرة دفتر توفير، ونوع من الكتب يلائمه، وحتى الأغاني والبرامج الإذاعية والتليفزيونية تتقرر بعد تشاور ونقاش، ولدى مواجهة أي مسألة هامة ينعقد مجلس الأسرة ويدلي كل برأيه، ويفحص هذا الرأي بكل عناية ودقة سواء تعلق بنوع الدراسة، أم الحب، أم الصداقة، أم السياسة. أجل، لا يفلت من هذا النظام شيء، ثم يقول حسن دهمان بكل ارتياح: هذا هو عين العقل.
وعقارب الساعة آيات في الدقة إلا العقرب الصغير، فهو مصدر قلق لوالديه. - ألا تخجل من نفسك يا طاهر؟
لكنه ينظر بغرابة إلى ما حوله. لا يريد أن يتحمس لشيء، ويحضر مجلس الأسرة وهو كاره، ويتحفز للمعارضة بسبب وبلا سبب. نشاز في أوركسترا العائلة. ويغالب ضحكة مريرة في أحايين كثيرة. وبلغ به الاستهتار مرة أن اقتحم المطبخ، وتناول غداءه قبل موعده المحدد بنصف ساعة.
وقال له والده: ولكن هذا شذوذ لا مبرر له يا بني!
ولما لم يجد منه استجابة من أي نوع سأله : ألا زلت تفكر في الخطبة؟
فأجاب ببساطة: كلا، الجوع هذه المرة لا الحب.
ولما ذهب همست نظيرة هانم في أذن زوجها: آخر العنقود يا عزيزي.
فتساءل الرجل مغضبا: هل نرضى بالهزيمة؟ - كلا، ولكن الأمر يتطلب عناية مضاعفة.
وآمن طاهر بأن «هذا هو عين العقل» تطارده حيث ذهب. إنها تطوقه في الظاهر والباطن. إنه غريق في نسيجها المحكم، حتى الحب والطرب والحزن. وسمع لجريان الدم في أطرافه صوتا، فأيقن أن شيئا سيحدث. وشاركه إحساسه من يعيشون حوله، ولكن في صمت متبادل. ويوما وهو في الفرندا المطلة على الحديقة الصغيرة حدث شيء. كان موسم الامتحانات يقترب، وسمير وهدى مكبان على المذاكرة. وكان الأب يكتب بحثا، والأم تقرأ مجلة أمريكية. وبكى طاهر، كان في الفراندا يذاكر. وشعر بأن الحمل فاق احتماله وأن الدنيا لا شيء. وترك الكتاب فوق الترابيزة وراح ينظر في لا شيء، وحزن حزنا عميقا، ثم انصهرت الكآبة فذابت دموعا. وكتم البكاء أول الأمر أن يسمعه أحد. ثم تدافعت الدموع بغزارة مذهلة، فنشج ثم نحب. وغلبه ذلك فاستسلم للنحيب حتى هرع إليه الجميع. وقفوا مبهوتين، وجاءت أمه بماء فغسلت وجهه، وظل يبكي بحركات بلا صوت وبلا دموع. وأسند رأسه إلى صدر أمه؛ فتلقته بحنان، وهي تتساءل بقلق: ترى هل جاوزت الحد «المعقول» في إظهار الحنان الذي يعتمل في صدرها؟ ثم هدأ طاهر تماما، فجلس واجما ولم يبق من الانفعال الغريب إلا نظرة حزينة بكل معاني الكلمة. وساد الصمت وارتسمت الأسئلة في الأعين القلقة. وسألته أمه: ما لك يا طاهر؟
أجاب دون أن ينظر إلى أحد: لا شيء.
ارتسمت الدهشة والاحتجاج مكان الأسئلة، وقال له سمير: خبرنا بما يحزنك!
وقالت هدى بحرارة: يجب أن نعرف ذلك.
ولكن الأب أشار إليهما بالخروج فخرجا، ثم سأله برقة: ماذا بك يا بني؟ - قلت لا شيء! - أيام الامتحانات أيام مرهقة للأعصاب؟ - كلا .. كل شيء طيب.
وغادر الأب الحجرة ليمنح الأم فرصة أطيب، ولكن طاهر لم يقل شيئا. ولم يكن يعرف أكثر مما قال؛ ولذلك لم يستخلص أحد منه جديدا لا في تلك الليلة ولا في الأيام التالية. ونصحه والده بالتريض في الشوارع المحيطة بمسكنهم ساعة كل يوم قبل أن يجلس للمذاكرة. واعتبر الحادث عرضا من أعراض الإرهاق العصبي. ولم يعد أحد يذكره، ثم نسوه تماما.
ويوما قال حسن دهمان باهتمام: دعوت مديرنا الجديد إلى سهرة لطيفة في حديقتنا الصغيرة.
وخاطبت الأم الأبناء قائلة: يجب أن نظهر بالمظهر اللائق، وأن تمكثوا معنا قليلا ثم تنصرفوا للمذاكرة، وسيتوقف على لباقتكم نجاح الحفلة.
وتساءل طاهر: أهو صديقك يا بابا؟
فتفكر الرجل مليا، ثم قال: الصداقة نعمة كبيرة، وعلينا أن نستزيد منها كلما وسعنا ذلك، والمدير العام مجرد زميل أكبر، ولكنه سيكون غدا صديقا، والحياة الاجتماعية تطالبنا بواجبات نافعة لا بد منها.
وقال طاهر لنفسه: هذا هو عين العقل. وكان المدير الجديد قصيرا بدينا ضخم الوجه، والرأس أصلع، ويتكلم ببطء شديد. وأنعم طاهر فيه النظر وهو يقاوم رغبة شريرة في الضحك. وأعجبه منظر أمه وهدى وهما في كامل زينتهما، وتابع أحاديث أسرته الطلية بدهشة. وسمع والده يستشهد بالشعر أكثر من مرة، وسمع أمه وهي تعلق على شكوى المدير من كثرة نسيانه قائلة: تلك آية العبقرية يا سعادة البيه.
وانسحب سمير وهدى في الوقت المناسب، ولكن طاهر لم يبرح مجلسه، ورغم إشارات أمه الخفية لم يبرح مجلسه، ولما لاحظ أبوه تطلعه إلى المدير قال له: آن لك أن تذهب يا طاهر.
فتساءل طاهر: ألا أقول شعرا يا بابا؟
وقطب الأب على حين سأله المدير: أأنت شاعر؟ - كلا، ولكني أحفظ الشعر. - إذن أسمعني لأعرف ذوقك.
فقال طاهر بانتصار: علو في الحياة وفي الممات. - شعر مشهور. - قيل لمناسبة شنق رجل!
فضحك المدير قائلا: شعر جميل. أما المناسبة فسيئة جدا!
عند ذاك ضحك طاهر. شعر بأن الحمل فاق احتماله، وأن الدنيا لا شيء وراح ينظر في لا شيء. وحزن حزنا عميقا. ثم انفجر ضاحكا. وبادره أبوه فأخذه من يده ومضى به خارجا. وعند نهاية السهرة ناقش الوالدان مشكلة طاهر طويلا فاتفق رأياهما على أنها بحاجة إلى علاج حقيقي، ولكنهما رأيا أن الأوفق تأجيل ذلك إلى ما بعد الامتحان.
ويوما ارتفع صوت هدى في البيت وهي تنادي في شبه استغاثة صائحة: ماما .. تعالي انظري ماذا فعل طاهر! وهرع إلى حجرة الشاب كل من سمع النداء. رأوا الحجرة في أغرب منظر. منظر لا يخطر على بال إنسان. حشية السرير قد طرحت فوق المكتب، والكتب والأوراق قد صفت فوق خشب السرير. والصوان انعكس وضعه فالتصق بابه بالجدار. وقلبت المقاعد على ظهورها. وطويت السجادة الصغيرة ثم علقت بدوبارة بسلك المصباح الكهربائي. وندت عن الأم صرخة رثاء، وهتف الأب: كارثة .. كارثة وربي!
وسألوه جميعا عما فعل؟ وكان يقف وسط الحجرة هادئا وباسما، فلم يزد عن أن تساءل بدوره: ولم لا؟
وصاحت الأم: أنت تمزق قلبي.
فقال برقة: آسف على إزعاجكم.
فقال الأب بحسرة: غير معقول .. غير معقول. - لم لا يا بابا؟ كنت أقوم بتجربة، ولو أمهلتموني لكان ذلك عين العقل.
وغادر الحجرة إلى الفراندا، وتبعه والده، فوجده واقفا ينظر إلى السماء باهتمام بالغ. ونظر الرجل حيث ينظر، فلم ير شيئا فازداد انقباضا، ثم سأله برقة: أتعبت رقبتك، لم تنظر هكذا إلى السماء؟
وأهمله طاهر حتى كرر سؤاله مرتين، ثم قال بضجر: إني أحسدها على ما تنعم به من حرية!
فقال الأب محذرا: لكنها مستقر أدق نظام في الوجود، النظام الذي لا يخطئ.
فانزعج طاهر وخفض عينيه غاضبا. - ألا تحب النظام يا طاهر؟
فقال بحدة: لا أحب لشيء أن يتكرر مرتين. - لكنها الفوضى يا بني.
فهتف الشاب: ما أجمل هذا!
وتشاور الوالدان فأجمعا على وجوب البدء في العلاج دون إبطاء، ولو ضاع العام الدراسي. واتفقا على أن يستشيرا طبيبا باطنيا أول الأمر، على أن يذهبا بعد ذلك إلى طبيب أعصاب إن نصح الباطني بذلك، ثم إلى طبيب نفساني إن لزم الحال.
وكان الوالدان في الحديقة يستقبلان بعض الضيوف، وسمير وهدى يذاكران، عندما سمع الجميع ضجة في الطريق وتدافع أقدام في الداخل وصراخ الخادمين.
وتبين أن النار مشتعلة في الطابق العلوي . وانطلقوا جميعا إلى الطريق وأحد الخادمين يحمل طاهر بين يديه. وجاءت المطافئ فأخمدت النار قبل أن تستفحل. وقال طاهر في التحقيق ببساطة مذهلة: نعم، أنا الذي سكبت البترول وأشعلت النيران.
ولما سئل عن السبب أجاب بالبساطة نفسها: لا أتذكر.
ثم لاذ بالصمت.
وانطلقت سيارة المستشفى. جلس طاهر مقيد اليدين والقدمين بين والديه، على حين جلس أمامهم مندوب المستشفى: كم رأينا من حالات أشد من هذه، ثم عاد أصحابها كأعقل ما يكون.
وأراد الأب أن يقول: «إن ذهاب العقل كارثة لا تعادلها كارثة.» ولكنه لم ينبس، وساءل نفسه: «ما معنى هذا؟! وهل ثمة خطأ؟» كان بيته - وما زال - معبدا للعقل وللنظام، فكيف تسلل إليه الفساد؟ وحز الألم في نفسه، حتى تتابعت تأوهاته الباطنية، وحتى حسد زوجته على سخاء عينيه. ولحظ الابن العزيز بطرف عينه فرآه قد أغمض عينيه، فعض على شفته.
وتطوع المندوب للتخفيف من كآبة الجو؛ فقال: المستشفى خير مكان له، فلا تحزنا لذلك الإجراء الذي لا بد منه.
ولم تكن لدى حسن دهمان رغبة في الكلام، ولكنه أراد أن يجامل الرجل بقدر ما يستطيع، فتمتم وهو من الحزن في غاية: صدقت يا سيدي، هذا هو عين العقل.
الصمت
ما أفظع هذه الحجرة! كميدان قتال. لا ترى العين في أي موضع منها إلا سلاحا يقشعر منه البدن. وهو لا يعرف إلا المقص، ولكن المعرض حافل بما يشبه السكاكين والخناجر والدبابيس من كافة الأشكال والأحجام. وثمة أوعية ملوثة بالدم تحت الموائد المعدنية، وقطن وشاش، ورائحة أثيرية نافذة كنذير من عالم مجهول، وثلاثة أطباء. الطبيب المولد، وطبيب القلب، وطبيب التخدير، وممرضة بدينة لكنها في خفة النحلة ولا تمسك عن الحركة. لم ير الأشياء إلا خطفا على حين تركزت عيناه فوق السرير المرتفع، حيث ترقد زوجته مطحونة بالصراع، مرفوعة الساقين فوق حاجز قائم في نهاية السرير، وقف وراءه المولد في معطفه الأبيض، لا يبدو منه إلا نصفه، ويشي أعلى ذراعه بحركة يده المختفية. وراحت زوجته تقلب رأسها يمنة ويسرة كاشفة كل مرة عن عارض من وجهها المنقبض من الألم، الذي استقرت في صفحته زرقة مغبرة. آه .. حتام يطول الصراع؟ متى يجود بالراحة الرحمن؟ ويد الطبيب لا تكف عن الحركة، وهو ينظر نحوه أكثر الوقت، في بساطة واستهانة، ويبتسم ولا ينقطع عن الكلام: ما أعظم الفارق بين صورتك الحقيقية وصورتك على الشاشة!
هز رأسه وهو ينتزع من شفتيه الجافتين ابتسامة مجاملة، واضطر في ذات الوقت أن ينزع عينيه من الوجه المعذب؛ ليبادل الطبيب نظرة على سبيل المجاملة أيضا. - ما أبدع الفن! وفن التمثيل هو سيد الفنون في نظري، إنك تضحكني من أعماق قلبي، لا أحد يضحكني هكذا ولا الأمريكيون أنفسهم، ودور الباشكاتب في فيلمك الأخير دور عجيب حقا، تفوقت فيه على نفسك!
لاحت في عيني الطبيبين الآخرين ابتسامة، واسترقت الممرضة إليه نظرة باسمة كذلك، تحية لدور الباشكاتب. ونظر الأستاذ صقر نحو زوجته على أمل أن يكون الحديث قد لطف من كربها، ولكنه وجدها غارقة في دنياها الخفية، فساءل نفسه متى ينتهي عذابها؟ ومتى يرحمه الطبيب فيتركه لنفسه؟ وإذا بالطبيب يخاطبها قائلا: ساعديني، يجب أن تساعديني كما قلت لك مرارا، شدي حيلك، وأريني شطارتك.
وهمست بصوت هو الأنين: لا قوة لدي. - بل لديك قوة عظيمة، ولن تتم الولادة إلا بمساعدتك، افهمي ذلك جيدا، أنا في انتظار صوتك!
استجمعت قواها الخائرة، تتابع الصراخ في قوة لا بأس بها، ولكنه سرعان ما وهن فتقهقر إلى أنين مبحوح. وزادت يد الطبيب حركة، وعاد يقول: والفيلم في جملته ممتاز أيضا، قرأت مرة في مجلة أنك تشترط، قبل التعاقد على دور، أن تطلع على السيناريو؟
انتزع عينيه من زوجته مرة أخرى، وقال: نعم. - لكن ما معنى السيناريو؟
يا للعذاب! ••• - هو إعداد القصة للسينما. - أنا أقرك على موقفك، يجب أن تقرأ السيناريو أولا؛ حتى تضمن لموهبتك فيلما يناسبها. - شكرا .. شكرا.
وتأوهت المرأة تأوهات متقطعة، فقال الطبيب معاتبا: لا .. لا، ليس هذا ما أريد، الست هي التي تولد نفسها.
ومال الأستاذ صقر فوق أذنها هامسا: شيئا من التعب يا عزيزتي؛ كي يجيء ربنا بالفرج.
فقال الدكتور ضاحكا: أطيعي كلام هذا الرجل المسئول، (ثم ملتفتا نحوه) لم أعرف أنها كانت زميلة لك في المسرح إلا عن طريق إحدى المجلات، أما أنا فلم أرك في المسرح، ولم أرها كذلك لأنني لست من رواد المسرح.
ثم بعد هنيهة صمت: أنت لست معي!
فانتبه صقر قائلا وقد تكاثف عذابه: معك يا دكتور. - خبرني ما أحب أدوارك إليك؟
رباه إنها لا تجد قوة للطلق، ولكن ينبغي أن يكون الخطر بعيدا، وإلا ما استرسل الدكتور الذي لا يرحم في استجوابه: ماذا قلت! أحب الأدوار إليك؟! - لعله دور العسكري! - تعني فيلم حريقة بلا نار؟ .. لا .. لا.
وانفجر صراخ من الأعماق، تصاعد حارا مليئا، كأنما يقذف بفتات الصدر والحلق. واستحثها الطبيب على المزيد، وهو يتركز في حركة يده الآخذة في السرعة. وأعقب ذلك تأوه عريض مرتفع ما لبث أن هبط إلى درجة الأنين ثم انداح في الصمت، ونقل صقر بصره من الوجه الأزرق المغبر إلى الساقين إلى وجه الطبيب، وتساءل ترى أهو الختام المريح؟ واقترب طبيب القلب فجس النبض، أما المولد فتراجع خطوة ثم خلع معطفه والقفاز، ودار حول السرير، حتى وقف أمامه باسما. همس صقر: الحمد لله. - الحمد لله دائما .. تعال.
ومضى إلى حجرة داخلية فتبعه، وهناك قال الطبيب: ضاعت الجولة هباء، ولن يعاودها الطلق قبل أربع ساعات على الأقل.
ثم وهو يهز رأسه: وإذا لم تتيسر الولادة بحال طبيعية؛ فلا بد من جراحة. - جراحة؟! - لم لا؟ القلب سليم، وليس بها أمراض، ألم أنصحك آخر مرة بتجنب الحمل؟
بهت صقر. ومضى إلى الصالون، فجلس بين أعضاء الأسرة التي تلقت الخبر بانزعاج حقيقي. وذهبوا إلى حجرة الزوجة، فوجدوها تغط في نوم عميق، فعادوا إلى مجلسهم. وضاق صقر بالجلسة وشعر بحاجة ملحة إلى الحركة. استقل سيارته الدودج إلى قهوة الشمس، قهوة الزملاء، وإن لم يأمل في العثور على أحدهم في تلك الساعة من الصباح. وعند مدخل القهوة ناداه صوت قوي فمضى إلى صاحبه، وجلس إلى جانبه في الممر المكشوف تحت سماء مجللة بسحب الخريف. تربع جميل الزيادي في مجلسه تحوطه هالة من الفخامة مصدرها بدانته المتناسقة، وهو زميل قديم لصقر من عهد المدرسة الابتدائية، أما اليوم فهو من الأعيان وعشاق المسرح. وكان صقر في حاجة حقيقية إلى المشاركة الوجدانية فقال: اطلب لي فنجال قهوة؛ فإني في حالة إغماء.
فطلب له القهوة وهو يتساءل: ما لك، كفى الله الشر؟
وأعاد على سمعه ما قال الطبيب فلم يبد عليه أنه اهتز أقل اهتزاز لكلمة «الجراحة»، وقال ببساطة: سليمة بإذن الله، والنساء يلدن من عهد حواء، فلا تخف. - المسكينة تتألم بدرجة فظيعة، ويقولون إن الجراحة خطيرة.
فتناول الرجل شوية فول سوداني من طبق فنجال ممتلئ، وهو يدعوه إلى مشاركته، ثم قال: إشاعات يروجها الأطباء ليبرروا مطالبهم، المطالب هي الخطيرة حقا.
وضحك لذكرى وردت للمناسبة، وقال قبل أن يفتح صقر فاه: عند مولد ابني إسماعيل أتعلم ماذا حدث؟
حنق صقر على مولد إسماعيل الذي اقتحم عليه عذابه، وأجل عزاءه المأمول لوقت لا يعرف مداه! - ولدته أمه في ثماني عشرة ساعة! جاءها الطلق الساعة السادسة صباحا وأدركها الفرج عند منتصف الليل! أي عذاب تتخيله؟ ومع ذلك كله فقد ولدت في البيت وبوساطة حكيمة لا دكتور ولا دياولو.
فهز صقر رأسه كأنما يتذوق عبرة حقيقية، ثم تساءل: لكن ماذا تعرف عن جراحة الولادة؟ - تهويش أطباء، هذا مدى علمي، هل عندها ضغط أو زلال أو سكر؟ - كلا. - إذن فهي لا شيء، وقد قالوا لنا عند مولد ابنتي عزيزة إنه لا بد من جراحة! لماذا؟ الحكاية أن الولادة طالت أكثر من المتوقع فاستعانت الحكيمة بدكتور؛ فنصح بنقلها إلى المستشفى لإجراء جراحة عاجلة، وقبل أن يبتعد مترا عن بيتنا جاء الفرج.
تابعه بنظرة مغيظة وهو يطحن الفول السوداني بتلذذ عجيب، وإذا به يقول مسترسلا في ذكرياته: الولادة العسيرة حقا كانت ولادة سوسن ابنة أختي.
نظر صقر إلى الأرض؛ ليخفي كربه فواصل الآخر حديثه: كانت ضعيفة القلب، وأجمعوا على إجراء جراحة، واستكتبوا زوجها إقرارا بالموافقة، وشقوا بطن البنت. - شقوا البطن؟
فضحك جميل قائلا: هي الآن بفضل الله كمفتشات الرياضة البدنية.
وخيل إليه أنه سيدخل في حديث ولادة أخرى؛ فقام إلى التليفون، وسأل عن الحال فجاءه الجواب بأنها نائمة في هدوء تام. وعاد إلى مجلسه كارها، فقال له جميل: يجب أن تعود إلى المسرح، أنا لا أحب السينما، وإن شئت فاعمل في الاثنين، ولكن لا تنقطع للسينما.
فتمتم بفتور: أنا هجرت المسرح منذ أكثر من عشرين سنة! - ولو! هذا رأي الأستاذ سمير عبد العليم أيضا، وعلى فكرة قابلته قبل مجيئي إلى القهوة مباشرة وكان يسأل عنك، والظاهر أنه اتصل بك في المنزل، حينما كنت في المستشفى. - ماذا يريد؟ .. ألم يقل لك؟ - أبدا، مطالبه لا تنتهي كما تعلم، ولكنه ظريف وابن حلال.
استقل سيارته إلى مجلة «كلام الناس»؛ حيث وجد صديقه الناقد سمير عبد العليم يكاد أن يختفي وراء الأوراق المكدسة فوق مكتبه. تعانقا وسمير يقول: بحثت عنك في كل مكان، أين كنت؟
فجلس وهو يقول مرحبا بالفرصة التي واتته لإعلان أحزانه: كنت في المستشفى، راضية في حالة ولادة.
هنأه بصوت خطابي، وهو ينكب على الأوراق باحثا عن شيء هام فيما بدا، فقال صقر: ولادة خطيرة يخشى ألا تتم إلا بجراحة.
والظاهر أن سمير لم يسمعه لشدة انهماكه في البحث، غير أنه قال بمرح: نحن نطالب بولي عهد للمسرح الكوميدي!
فرفع صقر صوته قائلا: ولادة خطيرة يخشى ألا تتم بلا بجراحة.
انتبه سمير إليه وقد كف عن البحث لحظة، فأعاد صقر على مسمعه أقوال الطبيب، فقال الناقد: ربنا يكتب لها السلامة، الطب تقدم، وانقضى عهد الجراحات الخطيرة.
ثم انهمك في البحث مرة أخرى، وهو يقول: أنا نفسي جئت إلى هذه الدنيا بجراحة، وفي زمان كان الطب فيه كالطب عند قدماء المصريين، يا سلام على الفنانين وأعصابهم المرهفة.
وندت عنه آهة ارتياح لعثوره على الأوراق التي كان يجد في البحث عنها، وأخذ يرتبها بعناية، وهو يقول بنبرة جديدة دلت على أنه نسي الحديث الأول تماما: اتفقت مع صوت العرب على برنامج جديد أسبوعي باسم «أهل الفن» واخترت أن أبدأ بك. - لكن يقولون إن جراحة الولادة خطيرة يا سمير؟ - لا شيء خطير ألبتة، وستضحك غدا من قلقك هذا بملء فيك، المهم أن هذا البرنامج يقتضي تسجيل مناظر من مسرحياتك القديمة، الأفلام أمرها سهل ويمكن تسجيلها في أي وقت أو طبع نسخ جديدة من الفصول التي يتفق عليها، ولكن المسرحيات كيف نسجلها، كيف نجمع الممثلين القدامى؟ ومن يحل محل الذي مات منهم؟ .. هذه المشكلات ومثيلاتها تشغلني طيلة الوقت.
أوشك أن يغضب، ولكنه استسخف نفسه، فانزوى في وحدة حالكة.
ما رأيك في هذا النظام؟ سأبدأ بمقدمة عنك ألقيها بنفسي، يعقب ذلك حوار بيني وبينك، أنا أسأل وأنت تجيب، يتخلل ذلك مناظر من المسرحيات ومواقف من الأفلام، ثم جلسة عائلية في بيتك، ولكن آه .. راضية ستكون متوعكة ربنا يشفيها. - آمين، ماذا تعرف عن جراحة الولادة؟ - كل خير، لا تصدق الأطباء، الصعوبة الحقيقية في تسجيل المسرحيات القديمة، اتصلت بكثيرين من الممثلين، ولكن هل لديك أصول المسرحيات؟
ولما لم ينبس قال سمير: أنت لست معي! - معك، عندي الأصول، عن إذنك التليفون.
وكرر السؤال عنها فتلقى نفس الجواب، وأعاد السماعة مغمغما: يا رب. وقال سمير: تعال لمقابلتي في الإذاعة مساء الأحد. - ربنا يطمئني أولا. - إن شاء الله، لا تكن خوافا هكذا، ألا ترى أنك تذكرني بدور الباشكاتب الذي تفوقت فيه على نفسك!
عاد إلى قهوة الشمس فوجد أن مجلس الزملاء قد انعقد كشأنه ظهر كل يوم. وصمم على ألا يعلن شكواه لأحد، فجاراهم في أحاديثهم بقلب غائب، واشترك أحيانا في قهقهاتهم التي ترج القهوة في تلك الساعة من النهار. وعند الواحدة قاموا ليتناولوا الغداء في المقطم، دعوه للذهاب معهم فاعتذر فمضوا إلا واحدا هو حيدر الدرمللي، وهو زميل قديم عمل في مسرحه ملقنا، ويشتغل اليوم مدير إنتاج في شركة سينمائية. ولم يدر بالسبب الذي جعل حيدر يتخلف عنهم حتى قال هذا بقلق: ظهرت نتيجة تحليل الدم، وهي ليست على ما يرام.
تذكر أنه شكا إليه مرضا ألم به منذ عشرين يوما في أحد الاستديوهات، فقال له معتذرا: آه نسيت أن أسأل عن صحتك بسبب زياط إخواننا وتهريجهم، آسف يا حيدر، أنا شخصيا في كرب عظيم.
واضطر حيدر إلى تأجيل الكلام عن تحليل الدم إلى حين، وسأله: لم والعياذ بالله؟
فحدثه عن حال زوجته حتى قال حيدر: أسأل الله لها السلامة، ولعل الولادة تتم دون جراحة، ولكن خبرني ماذا تعلم عن زيادة كريات الدم البيضاء؟ - لا أدري، وعلى أي حال فالطب تقدم جدا، فوق ما تتصور، ولكن .. ولكن أنا المسئول! - أنت؟ - نعم، كان يجب أن أحتاط، فلا أسمح بالحمل مهما تكن الظروف.
هز حيدر رأسه في امتعاض، وهو يتكلف الاهتمام بكلام الآخر تكلفا، ولكنه لم ينبس بكلمة، فقال صقر: ولما وقع المحذور كان علي أن أجهضها بأي ثمن، وهاك نتيجة الإهمال.
فتبسم حيدر وهو يجول في المكان بنظرة ذاهلة: دنيا! يعني أنا كان مالي ومال الكريات البيضاء! - على رأيك، وهل تدري ماذا تعني جراحة الولادة؟ شق البطن! - ربنا لطيف بالعباد، وهل تدري أنت أن مرضي يجهله أطباؤنا ويقفون حياله حيارى؟ - لا تتشاءم، ربنا لطيف بالعباد كما تقول، وإلا فمن لأم تتعذب هذا العذاب، وهي تهب الدنيا مولودا جديدا؟
وأجهدهما الكلام فيما بدا فلاذا بالصمت، واندفن كل في ذاته، فاجتر أحزانه وحده. ونظر صقر في الساعة ثم طلب القهوة الرابعة مذ غادر المستشفى، وأشعل السيجارة العاشرة. وتساءل عما يخبئه له اليوم! وتجنب صاحبه كما تجنبه صاحبه فقام بينهما سد. وقال صقر وكأنما يخاطب نفسه: إني أعجب كيف أني أكرس حياتي لإضحاك الآخرين!
فتساءل حيدر بنبرة باردة: ألا يدفعون ثمن ذلك بسخاء؟
ولم يناقشه رغم ما بدا له من إمكان ذلك. وعاد ينظر في الساعة، ويتساءل عما يخبئه له اليوم.
وأغمض عينيه فشعر بشيء من الراحة، ولكن ضوضاء الطريق ضايقته كما لم تضايقه من قبل، فود لو يغرق كل شيء في الصمت.
بيت سيئ السمعة
كان منهمكا في عمله عندما استأذنت سيدة في مقابلته، وجلست وهي تقول: صباح الخير يا أستاذ أحمد.
سيدة واضحة الكهولة، مقعرة الخدين من ذبول، بارزة الفم، تعكس عيناها نظرة متعبة، وتضفي عليها ملابس الحداد تجهما وكآبة. وسرعان ما أدرك من مطلع حديثها أنها قصدته بأمل أن يسهل لها الإجراءات الخاصة بمعاشها. وهم بتحويلها إلى مدير المعاشات مشفوعة بتوصية غير أن لمحة في نظرة عينيها المتعبتين استرعت انتباهه. خيل إليه أنها ترمقه بنظرة خاصة تراوح بين الارتباك والخجل. ما سر ذلك يا ترى؟ هل تعرفه؟ وفي الحال ومضت في ذاكرته ومضة أضاءت غياهب الماضي، فهتف في ذهول: حضرتك؟
قالت وهي تغض بصرها في حياء وتأثر: نعم، ومن حسن الحظ أني عرفت أن حضرتك مراقب عام المستخدمين.
ولم يكن تذكر اسمها، ولكن وثب إلى ذهنه اسم التدليل الذي عرفت به «ميمي». إن منظرها أكبر من عمرها. وعمرها لا يمكن أن يجاوز الخمسين. ولعله من الذوق أن يختلق سببا لعدم معرفتها بالسرعة التي - لا شك - توقعتها. قال: كنت مشغولا جدا، فنظرت إليك بعينين غائبتين فلم أعرفك.
فابتسمت عن طاقم نضيد، وقالت: أنا تغيرت أيضا، الضغط ربنا يكفيك شره، والحياة أنهكت أعصابي، لي بنتان متزوجتان، وثالثة في بعثة، وعندما وصلنا إلى بر الأمان توفي المرحوم زوجي.
وتبادلا السؤال عن الأسرتين، فتردد ذكر من تزوج، ومن مات، ومن يقيم في القاهرة، ومن انتقل إلى الأقاليم، وكان في أثناء ذلك يحاول أن يستحضر صورة ميمي القديمة بصعوبة لا تكاد تقهر، فاحتج مرات على قسوة العبث. وأخيرا كتب لها توصية إلى مدير المعاشات وانتهت المقابلة.
عاد إلى مجلسه - بعد أن أوصلها إلى الباب - وهو يعيش في حلم، وبحث في ضباب الحلم عن عام. أي عام يا ترى؟ 1925. عام مليء بالأحداث التاريخية، ولكن ميمي كانت أهم من تلك الأحداث جميعا، ميمي وبيتها العجيب، ومنشية البكري القديمة الراقدة في صحراء البنديرة، شارع الملواني، والبيوت الصغيرة ذات الدور أو الاثنين تصطف على جانبيه. ومن أعالي الأبواب الخارجية تتدلى مصابيح للإضاءة ليلا. كل بيت ينطوي على نفسه كالسر. النساء عورة، والحب حرام، والزواج إجراء من اختصاص الرجال، والعروس آخر من يعلم. غير أن بيت آل حلاوة خرق العقل والمعقول، وقام وحده ككلمة متحدية. عرف بالبيت السيئ السمعة، وأحيط بسياج من الرهبة. ومجرد جريانه على لسان صبي أو بنت كان جريرة يستحق من أجلها الزجر. وضربت حوله المقاطعة كأنه وباء. وحتى اليوم لا يذكر إلا مصحوبا بسوء الظن، وبذلك تحدد في التاريخ. آه .. كيف كان ذلك؟
كانت ربة البيت - وهي زوج لموظف كبير - امرأة متبرجة. تتبدى في الطريق في كامل زينتها، عارضة حسنا رائقا رغم بلوغها الخمسين، وهي السن التي انتهت عندها ميمي. وكانت أول امرأة في الحي ترى سافرة، فلا برقع أبيض ولا أسود. وقد تصطحب معها بناتها الأربع فتمضي بهن سافرات كذلك، آخذات زينتهن، وهو ما لم يسمح به لبنت قبل خطبتها. وكن يذهبن مرة في الأسبوع - مع الزوج أو دونه - إلى سينما كوزموجراف، وقد يسهرن في مسرح من المسارح، فلا يرجعن قبل الواحدة صباحا. أي امرأة وأي رجل وأي بنات! والأدهى من ذلك كله أنه كان للأسرة يوم زيارة تستقبل فيه بعض الأسر بكامل هيئتها، فيختلط الجنسان بلا حرج. وكان شبان الحي يسيرون جماعات تحت حجرة الاستقبال المتلألئة بالأنوار، يصغون إلى الضحكات المتصاعدة، وعزف البيان والغناء، وكلما ظهر في النافذة طربوش تبادلوا الغمزات والنكات، وذهبوا في التأويل كل مذهب، وتخيلوا أعجب المواقف. لذلك كله لم يكن غريبا أن يذكر بيت حلاوة مقرونا بلفظة «دعارة» دون مناقشة. وكانت الأسرة على علم بآراء الجيران ومشاعرهم، ولكنها لم تكترث لذلك أدنى اكتراث، وترفعت الهانم عن الجميع، وسارت في طريقها شامخة الأنف، كأنها من سلالة غير سلالة الحي جميعه.
وكانت ميمي ترى كثيرا في الطريق أو في دكان الحلوى. ترى وحيدة وكانت صغرى البنات وفي الخامسة عشرة، وكانت جميلة كأخواتها وأمها، وإن لم يعد يذكر من آي ملاحتها إلا شعرها الأسود المتجمع في ضفيرتين ريانتين، وعينين خضراوين، وغمازة في الذقن. وكان يسترق إليها نظرات دهشة متسائلة مليئة بحب الاستطلاع، ولم تخل أول الأمر من ازدراء وسخرية، ثم حل محلها إعجاب وافتتان، فكان يقول لنفسه محزونا: يا للخسارة! وشغف بها وكان يكبرها بعام أو اثنين، واحتفظ بسره لنفسه قطعا للألسنة، وكان البعض يغازلها طمعا فيها باعتبارها صيدا سهلا، ولكنه لم يكن عرف الاستغلال قلبه. وذات مساء وهبته نظرة على غير انتظار. كانا واقفين بدكان الحلوى فوهبته نظرة غير قصيرة أثملته؛ فترنح بعيدا عن تيار الزمان وأفعمت قلبه بهجة ظافرة. فاض قلبه بسعادة مشرقة اقتلعت منه الوساوس، فلم يعد يشترك في الأحاديث البهيمية عن البيت السيئ السمعة. وآمن بأن شعور قلبه الأصيل أخطر من جميع ما يقال. وفي ليالي رمضان راح يلاعبها من بعيد بكبريت الهوا، فيشعله في الطريق فتشعله بدورها في النافذة. وتواعدا على اللقاء عند صحراء البنديرة. ووجد نفسه عند اللقاء مرتبكا حقا، ولكنها بادلته التحية دون تلعثم وبشجاعة ردت إليه روحه الضائعة. وقالت: أنت في البدلة أرشق مما تظهر في الجلباب، وأنا أحب الرشاقة.
وكل كلمة جادت بها كانت كشفا جديدا وجرأة مذهلة. وكانا صغيرين جدا بالقياس إلى خلفية الصحراء المترامية وراءهما، ورغم ذلك قال في حذر: قد يرانا أحد!
فتساءلت: مثل من؟ - من الأهل أو الجيران.
فهزت منكبيها استهانة، وهواء الصيف المنعش يهفو بضفيرتيها، ثم سألته: ما رأيك في حديقة الحيوان؟
وامتنع عن تقبيلها تأدبا رغم سنوح الفرص. وأعطته رقم التليفون ليتفقا في الوقت المناسب، ولعله ما يزال مسجلا في دفتر المذكرات القديم. وسألته: هل نذهب إلى الحديقة معا؟
فقال برجاء: نلتقي هناك ونفترق هناك!
وتلاقيا عند باب الحديقة، وكان يوم سعيدا. سارا من ممشى إلى ممشى بيدين مشتبكتين. واستمد من مسها تيارا من الحرارة والبهجة والرضا، وسألها كأنما ليطمئن عليها: ماذا قلت لماما؟
فأجابت ببساطة: قلت إني ذاهبة إلى حديقة الحيوان.
فتساءل أحمد ذاهلا: وحدك؟
فهزت رأسها نفيا، وقالت بالبساطة نفسها: معك.
فضحك معلنا عدم تصديقه، ولما وجدها جادة جدا سألها: وهل وافقت؟ - نعم، ولكن دون حماس.
لم يدر كيف يصدق هذا كله. أما هي فاستطردت: قالت لي: ابتعدي عن هذا الولد؛ إنه كالآخرين، وأهله كبقية الجيران.
وشعر بأنه مطارد. ووقف طرفه الحائر عند رأس نعامة سارحة في الفضاء من فوق الحاجز الحديدي.
ثم قال بقلق: إذن هي تعلم أننا هنا معا! - وراهنتني على أنك ستخيب رجائي. - كيف؟ - من أدراني؟
بل هي تدري، ولكنها تظاهرت بالاهتمام بالقرود، ثم وقفت فوق قنطرة تتأمل الماء المسقوف بأوراق الشجر، واقترحت أن يعدوا حتى الجبلاية، ولكنه شد على يدها قائلا: خبريني!
فنظرت في عينيه بجرأة، وقالت: أنت لا تصدق أنها تعرف أننا هنا، ولكنك تعلم بزواج أخيك الأكبر من ثلاث في وقت واحد!
فاحمر وجهه وقال: هو حر. - لا تغضب من فضلك، فغضبك يؤكد ظنها، هل عرفت الآن ما سألت عنه؟
وداخله حزن. الواقع فاق ما تخيله، إنهما من عالمين بعيدين. ورغم ذلك ازداد بها هياما.
ثم تساءل بصوت منخفض: وكيف وافقت على هذا اللقاء؟ - لم لا؟ هو عيب؟!
ولم ينبس، فسألته بسخرية خفيفة: ولم وافقت عليه أنت؟
فلم ينبس أيضا فسألته: أيجب أن نفترق؟
فاستعطفها بحرارة لتعود إلى الرضا، وقال معتذرا: لا تغضبي، أنا أخطئ كثيرا، وعذري أني أقابل بنتا لأول مرة!
فرمقته بتوجس وتساءلت: وماذا تظن بي أنا؟
فبادرها تجنبا للمضاعفات: كل خير، أنا .. أنا أحبك يا ميمي.
وابتسمت ومضت به إلى أريكة تمتد أمامها هضبة معشوشبة، تناثرت في جنباتها مجموعات من البشر، فجلسا جانبا إلى جنب صامتين، حتى قطعت الصمت قائلة: حدثني عن مستقبلك.
وتحدث عن مستقبل مشرق من خلال كلية الحقوق، وإن يكن أوشك أن يختم حياته مراقبا للمستخدمين، لا مستشارا في النقض كما حلم. فقالت: هذا جميل حقا، ولكن ماذا عني أنا؟
ووجد نفسه في القفص كالحيوانات التي تحيط به من كل جانب، فقال في اقتضاب شديد حددته الرهبة: الزواج.
فابتسمت وهي تحول وجهها عنه مادة بصرها إلى قمة الهضبة الخضراء، وقد غابت عن مسمعه ضجة الأصوات الآدمية والحيوانية. ثم قالت، وهي ما تزال تنظر إلى بعيد: ولكن أمامنا أعواما طويلة! .. كيف؟
فقال وهو يتلمس متنفسا: لا بد من الانتظار حتى أنتهي من الدراسة. - سأنتظر بكل سرور، ولكني في حاجة إلى شيء يبرر انتظاري أمام الآخرين، أي شيء، ارتباط من أي نوع!
تخيل طلبه الارتباط ببنت من البيت السيئ السمعة بتعاسة ورعب، وانعقد لسانه فلم ينطق. - ماذا قلت؟ - من العسير حقا أن أطلب ذلك الآن. - ألا تقدم على هذه الخطوة من أجلي؟
فتنهد بصوت مسموع، وهو يشعر بأنه جرى مرحلة طويلة من التاريخ دون توقف، فقالت بحدة: أنت لا تريد، ليس عندك الشجاعة الكافية، أبيتنا مخيف إلى هذه الدرجة؟ - لا .. الأمر وما فيه ... - لا تكذب، أنا أعرف كل شيء، وماما لم تخطئ، وشارعنا كله سخافة في سخافة، ونحن أشرف من الجميع، يجب أن تعرف ذلك.
فهتف متألما: إنك تسيئين بي الظن، أنا في حاجة .. أرجو أن تقدري موقفي، أعطيني ... - لا داعي لهذا الارتباك كله، لتنس كل ما قيل، كله سخيف من أوله إلى آخره. - لكنني أحبك، ليكن الأمر سرا بيننا حتى ... - نحن لا نحب السر! - حتى أقف على قدمي. - لن تقف على قدميك أبدا.
ثم وهي تكاد تمزق منديلها الصغير من الانفعال: أعوذ بالله! أنا لا أحترم أحدا في شارعنا! .. بلا استثناء .. بلا استثناء.
هكذا انفصلا إلى الأبد.
وكان يستقبل سيل الذكريات وهو ينظر إلى الكرسي الذي طالعته منه بوجه لم يحفظ من ماضيه إلا أضعف الأثر. أرملة أضناها التعب والحداد، ولكنها معتزة بانتصارات حقيقية. وحومت حوله الذكريات كأسراب من البنفسج. تذكر كيف تزوجت بنات البيت السيئ السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سمع مرارا وتكرارا بأنهن بنات لم يخلقن للزواج، ولن يسعى إلى الزواج منهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن في زواجهن ذهل واختلت موازينه!
ومضى إلى بيته بعد ميعاد انتهاء العمل الرسمي، فتغدى ونام ليستعد لسهرة في الأوبرا دعي إليها هو وزوجته وبناته الثلاث. وكان الداعي زميلا لكبرى بناته الموظفة في إدارة الترجمة بالوزارة، وقد قبل الدعوة رغم أن الداعي لم يرتبط بكريمته بأي ارتباط بعد! وعند المساء خلا إلى نفسه في حجرة مكتبه، على حين نشطت الزوجة والبنات للاستعداد لسهرة الباليه المنتظرة، عما قليل يتبدين في صورة كاملة الزينة والأناقة، ثم يتقدمنه تحت الأضواء والأنظار ترمقهن بإعجاب! ولم يكن غريبا أن يستخرج دفتر مذكراته القديم من الدرج الخاص بالأوراق الثمينة كعقد ملكية الأرض وبوليصة التأمين. وكان اعتاد على عهد المراهقة - وهو عهد كان يحلم فيه بعرش الزجل! - أن يسجل أحداثه العاطفية والاجتماعية يوما بعد يوم. وفر صفحاته ليرجع إلى عام 1925، وما حواليه حتى رقم التليفون وجده. وبدافع لم يعرف كنهه امتدت يده إلى قرص التليفون فأدارت الرقم القديم. وجاءه صوت: آلو.
فسأله وهو يبتسم في عبث: بيت حلاوة؟
فأجاب الصوت بخشونة: لا يا سيدي .. هنا محل الطمبلي لبيع الخيش.
القهوة الخالية
قال محمد الرشيدي بنبرة أرعشها الحزن والانفعال: إلى رحمة الله الرحيم، إلى جوار ربك الكريم يا زاهية يا رفيقة عمري، إلى رحمة الله.
وانتحب باكيا، وهو ينحني فوق الجثة المسجاة على الفراش، معتمدا بيمناه على الوسادة من شدة الإعياء، حتى رحمته الخادم العجوز، فربتت على يده برقة، ثم أخذته منها إلى حجرة الجلوس، فأسلم نفسه إلى مقعد كبير وهو يتنهد بصوت مسموع. ومد ساقيه وهو يتأوه ثم غمغم: أنا الآن وحدي، بلا رفيق، لم تركتني يا زاهية؟ وبعد عشرة أربعين عاما! لم سبقتني يا زاهية؟
وعزته الخادم بعبارات محفوظة غير أن منظر شيخ في التسعين، وهو يبكي منظر محزن حقا، وقد التمعت أخاديد خديه وحفر أنفه بالدموع، فغادرت الخادم الحجرة وهي تجهش في البكاء. وأغمض عينيه اللتين لم يبق في أشفارهما إلا آحاد من الرموش، وراح يقول: منذ أربعين عاما تزوجتك وأنت في العشرين، ربيتك على يدي، وكنا سعداء جدا برغم فارق العمر، وكنت خير رفيق، يا طيبة، يا إنسانة، فإلى رحمة الله.
وكان ذا صحة جيدة إذا قيس بعمره، طويلا نحيلا، واختفى أديم وجهه تماما تحت التجاعيد والأخاديد، وبرزت عظامه وتحددت كأنها جمجمة، وفي عينيه غارت نظرة تحت غشاوة باهتة لا تنعكس عليها مرئيات هذا العالم. وأم الجنازة خلق كثيرون لم يكن فيهم واحد من أصحابه أو معارفه. جاءوا يعزون ابنه أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى السفارات في الخارج. أما هو فلم يبق من أصحابه على قيد الحياة أحد. وجعل يستقبل الوجوه التي لا يعرفها، ويتساءل أين رعيل المربين الأول، أين الساسة الحقيقيون على عهد مصطفى وفريد؟
وعندما انفض المأتم حوالي منتصف الليل، سأله ابنه صابر: ماذا نويت أن تفعل يا أبي؟
وقالت له زوجة ابنه: ولا يجوز أن تبقى هنا وحدك.
أدرك الشيخ ما يقصدان فتشكى قائلا: كانت زاهية كل شيء لي، كانت عقلي ويدي.
فقال صابر: بيتي هو بيتك، وستحل بحلولك بنا البركة. وستجيء خادمتك مباركة لخدمتك.
أجل لا يمكن أن يقيم في هذا المسكن وحده. ورغم ما يبدي ابنه وزوجته من شعور طيب، فهو يؤمن بأنه - بانتقاله - سيفقد الكثير من حريته وسيادته، ولكن ما الحيلة؟ وكان في شبابه ورجولته وكهولته شخصا صلبا، وما زال يحتفظ بوقاره ومهابته، وكم خرج من أجيال من المربين والشخصيات الفذة، ولكن ما الحيلة؟ وبطرف واجم شهد الرجل تصفية مسكنه. رأى أركانه وهي تتقوض كما رأى احتضار زوجته من قبل فلم يبقوا إلا على ملابسه وفراشه وصوان كتبه التي لم يعد يمد لها يدا، وبعض التحف، وصور لأعضاء الأسرة، ولبعض الرجال كمصطفى كامل، ومحمد فريد، والمويلحي، وحافظ إبراهيم، وعبد الحي حلمي. وغادر بيته إلى مصر الجديدة في سيارة ابنه، وهنالك أعدت حجرة لنومه وتأهبت مباركة العجوز لخدمته. وقال له ابنه: نحن جميعا رهن إشارتك.
وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامة ترحاب. روح طيبة حقا ولكنه لا بيت له، ذلك كان الشعور الذي اجتاحه. وجلس على مقعده الكبير يبادلها النظرات فيما يشبه الحياء. وقال لنفسه لعله لو كانت سميرة ابنته في مصر لوجد في بيتها أنسا ألصق بالقلب. وظهر توتو عند عتبة الباب. ردد عينيه بين أبويه، ثم جرى حتى لبد بين ساقي والده. ونظر إلى جده بتأمل فابتسم الشيخ قائلا: أهلا توتو .. تعال.
ونادرا ما كان توتو يزور جده مع والده. وأحبه الشيخ كثيرا ولم يقتصد في مداعبته كلما وسعه ذلك، ولكن توتو كان حادا في مداعباته، فهو يحب الوثب على من يداعبه، ويهدد عينيه وأنفه بأظافره فسرعان ما تجنبه الشيخ بلطف مؤثرا أن يحبه من بعيد. وأشار توتو إلى طربوش جده الطويل وقال: رأسك!
يعني أن يخلع طربوشه؛ ليرى صلعته البرتقالية المستطيلة المنحدرة التي جذبت انتباهه وتساؤله من أول نظرة، ولما لم تتحقق رغبته راح يشير إلى أخاديد الوجه وحفر الأنف، وتتابعت أسئلته رغم محاولات والده لإسكاته. وقال الشيخ لنفسه إن الطفل العزيز لن يعتقه من المتاعب، وإنه سيحتاج إلى حماية، ولكن أين زاهية؟ وساعته ومنشته وسجائره كيف يحفظهما من عبثه؟ وحاول توتو أن يذهب إلى جده ليحقق رغائبه بنفسه، ولكن والده أمسك به ودعا خادمته، فحملته إلى الخارج، وهو يصرخ محتجا. وقال صابر: إني أفرغ من عملي مساء، ثم أذهب إلى النادي أنا ومنيرة، فهل تأتي معنا؟
فقال الشيخ: لا تشغل نفسك بي، ودع الأمور تجري على طبيعتها.
وذهب صابر ومنيرة، فرحب بالوحدة ليستجم، ولكن الوحدة ثقلت عليه بأسرع مما تصور. وألقى نظرة غير مكترثة على الحجرة ثم طوقته الوحشة. متى يعتاد المكان الجديد؟ ومتى يعتاد الحياة بلا زاهية؟ أربعون عاما لم تخل يوما من زاهية. منذ زفت إليه في الحلمية ورقصت أمامها الصرافية. والبيت بفضل يدها ينعم بنظام ونظافة وعبير بخور زكي. وما قيمة رمضان والأعياد بدونها؟ وخلت الجنازة من أجيال وأجيال من تلاميذه؛ فهل لم يعد يذكره أحد؟
ولم يكن كذلك حال الأصدقاء الذين ذهبوا. ولكنهم ذهبوا وكأنما يراهم فردا فردا كيوم احتشدت بهم جنازة مصطفى كامل. ورغم أنه لم يعرف الأمراض الخطيرة قط، فقد امتحنت المسكينة بالدنج والتيفود والأنفلونزا وأخيرا ماتت بالقلب، وتركته متعلقا بالحياة كما كان دائما. وقام إلى نافذة، فرأى منها بستانا كبيرا يتوسط مربعا من العمارات مكان الجامع الكبير الذي كان يطالعه من نافذة حجرته بالمنيرة. ولفحته نسمة هواء جافة دافئة. وعجب للصمت المريح، ولكنه أكد له وحدته. ويوم احتل الإنجليز القاهرة ظفر بجواد ضال، ولكن والده خشي العاقبة فضربه ومضى بالجواد ليلا إلى الخليج ثم أطلقه ، وكانت المدينة ترتجف من الخوف والحزن. ورجع إلى مجلسه، فرأى عند أسفل المقعد قطة صغيرة بيضاء ناصعة البياض، غزيرة الشعر وفي جبينها خصلة سوداء، فآنس في نظرة عينيها الرماديتين استعدادا للتفاهم. وزاهية طالما عطفت على القطط، وارتاح إلى نظرتها ثم تابعها وهي تدور حول رجل المقعد، وربت على ظهرها فتمسحت بقدمه وعند ذاك ابتسم. ومسح على ظهرها فاستجابت لراحته، وخفق ظهرها صعودا وهبوطا، فبشر ذلك بمودة. وابتسم مرة أخرى عن أنياب بانت أصولها الطحلبية، وشملت القطة حركة متموجة من المرح. وتزحزحت قليلا إلى اليسار ليوسع لها مكانا، ولكن صوت توتو المتهدج بالجري ارتفع، وهو يقتحم الحجرة صائحا: قطتي.
فقال الشيخ مسلما: ها هي قطتك.
وسأله متوددا عن اسمها فقال بحدة: نرجس.
وقبض بشدة على قفاها ثم جرى بها خارجا، والشيخ يهتف به مستعطفا: حاسب .. حاسب.
وإذا به قد ذهل! عجب ماذا حصل؟ وتبين أن شيئا أصاب جبينه، وقطب مستاء، فارتفعت ضحكة توتو عند الباب، وهو يلتقط الكرة الصغيرة المرتدة. وتحسس الشيخ النظارة ليطمئن عليها ثم نادى مباركة فجاءت بسرعة، وحملت الطفل مبتعدة به قبل أن يعيد رمي الكرة. وقال الشيخ: هذا الطفل العزيز مزعج وقاس، من للقطة المسكينة؟!
منذ خمس سنوات فقدت سميرة ابنته طفلا في سن توتو، فعزاها باكيا وهو يقول: كان الأجدر أن أموت أنا.
وخيل إليه وهو في المأتم أن الأعين ترمق شيخوخته بدهشة، مستحضرة التناقض الصارخ بين بقائه هو وذهاب حفيده في الثالثة. وليلتها قال لزاهية ممتعضا: طول العمر لعنة.
ولكن ما أرقها إذ قالت له: كلنا فداك .. أنت الخير والبركة.
وعند الأصيل عاد صابر من عمله، فقال لأبيه: ما دمت لا تريد أن تذهب معنا إلى النادي، فاختر مقهى في مصر الجديدة، مقاهي مدينتنا جميلة وقريبة من البيت.
قد يكون هذا هو المعقول، ولكنه يحب قهوة ماتاتيا. إنها مجلسه المختار طيلة دهر طويل. ومضى إلى محطة الأوتوبيس، وهو يسير إذا سار وئيدا، ولكن بقامة مرتفعة، ويستعمل العصا ولكنه لا يتوكأ عليها، وكثيرون هم الذين يتطلعون إليه في دهشة مقرونة بإعجاب. واتخذ مجلسه بالقهوة تحت البواكي، وهو يقول لنفسه فيما يشبه المداعبة: ما بال القهوة خالية! ولم تكن القهوة خالية. ولا كان بها من الترابيزات الخالية إلا عدد محدود. ولكنها خلت من الأصحاب والمعارف. ومن عادته أن يرنو إلى الكراسي التي حملت قديما الأعزاء الراحلين، فيتخيل وجوههم وحركاتهم، والمناقشات حول أخبار المقطم، ومباريات النرد الحامية، والسياسة. قضى الله أن يشيعهم واحدا بعد آخر وأن يبكيهم جميعا. وجاء زمن لم يجد فيه من رفيق سوى واحد هو علي باشا مهران. وهذا الكرسي كان مجلسه. يجلس عليه قصيرا نحيلا مكوما فوق عصاه، وحافة طربوشه تماس حاجبيه الأشيبين النافرين، ويرمقه بنظرة هشة شبه دامعة من نظارة كحلية، ثم يتساءل: من منا يا ترى سيسبق صاحبه؟
ثم يغرق في الضحك، وكانت يداه قد استوطنتها رعشة الكبر رغم أنه كان يصغره بعامين. ولما مات في الخامسة والثمانين حزن عليه طويلا، ومن بعده خلت الدنيا وخلت القهوة. وها هي العتبة الخضراء تدور كعادتها أمام عينيه الكليلتين، ولكنها ميدان جديد. وماتاتيا نفسها لم يبق من أصلها إلا الموضع، ولكن أين صاحبها الرومي الودود، وأين النادل ذو الشوارب البلقانية؟ والكراسي المتينة البنيان، والترابيزات الرخامية الناصعة، والمرايا المصقولة، والبوفيه العامر بالمشروبات والنراجيل أين؟ وفي ليلة شم النسيم من عام 1930 أحيل إلى المعاش. وسهر ليلتها في مسرح الأزبكية هو ومجموعة من الأصدقاء حيث جلجل صوت الطرب، أما النهار فقد قضوه في القناطر الخيرية محتفلين بوداعه، وألقى الشيخ إبراهيم زناتي قصيدة. وليلتها شرب من الكونياك حتى ثمل، وهو يطرب للصوت المنشد «يا عشرة الماضي الجميل». ولما نام آخر الليل حلم بأنه يلعب في الجنة. ودعا له إبراهيم زناتي مفتش اللغة العربية بمائة عام من العمر المديد في قصيدته. والدعوة يبدو أنها ستستجاب. ولكن القهوة خالية، والشيخ زناتي نفسه رحل وهو ما يزال في الخدمة. واقترب النادل منه ليأخذ الصينية، ولكنه تراجع كالمعتذر. فذكره بفنجال القهوة المنسي الذي لم يمسه.
وعندما رجع إلى البيت وجده راقدا في السكون ، وصاحبه لم يعد من النادي. ووجد عشاءه من الزبادي على خوان. وغير ملابسه في بطء وجهد ودون معاونة أحد. وجلس لتناول العشاء فتذكر نرجس. لو تشاركه القطة الصغيرة عشاءه؟ ما ألطف أن يوثق علاقته بها فهي ستكون أنيسه الحقيقي في هذا البيت المشغول بنفسه. لعلها في موضع ما بالصالة. ومال نحو الباب قليلا، وهتف: «بس .. بس». وقام فمضى إلى الخارج، وصاح: «نرجس، بس .. بس ...» فجاءه النواء من وراء الباب التالي لحجرته، حيث ينام توتو وخادمته. وتفكر قليلا ثم اقترب من الباب ففتحه برفق، فمرقت منه نرجس رافعة ذيلها الدسم كالعلم.
ارتاح الشيخ فعاد نحو حجرته وهي تتبعه، ولكن صرخة توتو دوت غاضبة. وقال الشيخ لنفسه باسما: إن الصغير لم يكن استغرق في النوم. وجاء توتو جريا فانقض على القطة، ثم قبض على قفاها بشدة. وربت جده على رأسه قائلا برقة: خفف يدك يا توتو.
ولكن الآخر ضاعف ضغطه حتى خيل إلى الشيخ أن نرجس ستختنق، فقال برجاء: اذهب أنت، وسأحملها إلى فراشك.
ولكن توتو لم يسمع له؛ فمال الشيخ نحوه وخلصها من يده، وهو يقول: سأطعمها ثم أعيدها إليك.
اندفع توتو غاضبا، ثم دفع جده في ركبته. ترنح الشيخ، ثم تراجع خطوة مضطربة، ثم تهاوى فكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقاه الجدار، والقطة لم تزل فوق ساعده. ولبث في هذا الوضع المائل، لم يستطع أن يقيم نفسه، ودار رأسه قليلا، وضغط على الأرض بقدمه، وعلى الجدار بكتفه لينهض ولكنه عجز، وزحفت القطة فوق ساعده حتى استقرت على كتفه المرتفع، ورغم دوار رأسه الخفيف أدرك مدى الخطر الذي يتهدد عظامه بالكسر. وصاح بما تبقى لديه من قوة «يا مباركة». وكان توتو يصرخ وينذر توثبه بهجمة جديدة. ويئس الشيخ من إنقاذ نفسه. ازداد خورا ولم يستطع تكرير النداء. وتحفز توتو للوثوب إلى ملاذ القطة فاندفع بكل قوته، ولكن يد خادمته أحاطت بوسطه، وقد اندفعت من الحجرة بعينين ذاهلتين من أثر النوم. ثم جاءت مباركة أخيرا بعد أن أيقظها الزياط، فجرت نحو سيدها مستعيذة بالله. واحتضنته من خلف وأقامته برفق وهو يتأوه حتى وقف كالتمثال دون حراك، على حين وثبت نرجس إلى الأرض وفرت إلى حجرته. وبصعوبة شديدة رجع الشيخ إلى مقعده الكبير معتمدا على ذراع مباركة. ومضت فترة وهو صامت والمرأة لا تكف عن السؤال عن صحته. وأشار لها بيده يطمئنها، ثم أسند رأسه إلى ظهر الكرسي ومد ساقيه متنهدا. وأغمض عينيه ليستجم.
وفي الحال تذكر حفلة تأبين راسخة في الروح. رجع من المنصة بعد أن ألقى كلمة طيبة، ثم جلس إلى جانب صديقه، ومال الصديق نحوه وسكب في أذنه ثناء جميلا. لكن من كان ذلك الصديق؟ آه! .. إنه واثق من أنه سيتذكره، وكم أنه مذهل أنه نسيه. قال كلمة لا يمكن أن تنسى كذلك. سوف يتذكرها حتما. ودوى التصفيق والهتاف، وارتفع نواء القطط، وبكت كل عين حتى الأطفال ترامى صراخها. ومال الصديق نحوه مرة أخرى وقال. وتأكد من أنه سيظفر بالذكريات جميعا.
وسرعان ما استغرق في النوم.
كلمة في السر
فؤاد أبو كبير موظف قديم أوشك أن يستوفي مدة خدمته، وهو مثل حسن للموظف، مثال في اتزانه فهو محترم حقا، ودءوب على العمل، فهو حمار شغل، ولم تزايله هذه الصفة يوما منذ التحق بالخدمة بالكفاءة وهو ابن عشرين. وقد انطبع بالروتين حتى تغلغل في روحه وسرى في سلوكه، حتى السلوك غير الرسمي، فهو يرجع إلى بيته كل يوم حوالي الثالثة، يتغدى وينام حتى الخامسة، ثم يمضي إلى القهوة حوالي السادسة فيدخن النارجيلة، ويتكلم في الكادر والسياسة، ثم يلعب النرد، وأخيرا يعود إلى بيته عند الحادية عشرة فيتعشى خفيفا، ويصلي ثم ينام.
وهو زوج منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وزوجه التي تزوجها عن قرابة وحب تقاربه في السن، وقد أنجب منها خمس بنات وولدا واحدا تخرج منذ أعوام طبيبا، والجميع متمتعون بنعمة الحياة الزوجية الموفقة.
ولتوفيقه في الوظيفة؛ إذ حاز رضا الرؤساء وبلغ الدرجة الثالثة الإدارية، فضلا عن توفيقه في الذرية، كان يخاف العين، ويتقي شرها بالدعاء والصلاة، ولكنه كان بصفة عامة رجلا سعيدا، وحتى ما أصابه من ضغط لم يستطع أن يفسد عليه حياته، وإن فرض عليه مضايقات في العلاج وحرمانا من بعض الأطعمة الشهية.
وذات يوم شعر بنشاط غريب طارئ. نشاط غريب كأيام زمان. رباه .. نشاط غريب انقطع العهد به من سنين، كأيام زمان تماما، فما الذي حدث؟ وابتسم الرجل وهو يهز رأسه، ابتسم عن طاقم نضيد وهز رأسا أبيض ناصعا، وعابثه النشاط في أويقات متفرقة وبخاصة عند اليقظة الباكرة، وإذن فهي وثبة حقيقية لا وهم، وابتسم الرجل وأوشك أن يضحك عاليا. ولم تستطع خبرته الحكومية أن تمده برأي في المسألة، وقال لنفسه: إن هذا أمر غير معقول، وغير مصدق، ألم ينقض العمر؟
ونتيجة لذلك وجد نفسه تتابع الموظفات باهتمام لم يؤثر عنها من قبل. نظرة جديدة غير نظرة الأبوة السابقة، وكأنه كان يراهن لأول مرة، وخلال أسبوع رأى فيهن ما لم ير طيلة عام أو أعوام، ومجرد مرور إحداهن في مجال بصره أصبح كافيا لقلقلة حواسه وزلزلة قلبه، فراح يقول لنفسه في ذهول: اللهم لطفك ورحمتك، ماذا جرى؟
وخطر له وهو متربع على الكنبة قبل النوم أن يتناول زوجته بنظرة. كانت الولية تستمع إلى الراديو بغير اهتمام، وجسمها مدفون في جلباب بيتي فضفاض، ومنديل رأسها معقود بإهمال سمح لخصلات بيضاء مشعثة أن تبرز فوق الحاجب والأذن بصورة تستحق الرثاء، وفي عينيها استكنت نظرة خاملة لا تنشد إلا السلامة، ووشى شدقاها بالفراغ، إلى أن الآلام الروماتزمية المتقطعة قد طبعت على وجهها علامات ثابتة كالذعر. رمقها بيأس ثم رفع عينيه إلى صورة تذكارية من شهر العسل، صورة نصفية لهما ملونة، تمثلهما جنبا إلى جنب في احتشام محبب لا كعرسان هذه الأيام، آه .. فوزية كانت جميلة حقا، وكم كان هو بدينا فخما! وقال لها دون تمهيد وبلهجة لم تخل من احتجاج: قلت لك مائة مرة: ركبي طاقم أسنان!
وضحت في عينيها دهشة تنبئ بالحقيقة التي لا يجهلها، وهي أنه لم يطلب منها ذلك ولا مرة واحدة، وغمغمت والدهشة لم تفارقها : طاقم أسنان!
وحقيقة أخرى لا يجهلها أيضا، وهي أن الأيام قصرت علاقتهما على الزمالة والصداقة منذ بضع سنين، فكيف يمكن لهذا الوضع أن يتغير فجأة؟ وكانت تجلس على نفس الكنبة على بعد ذراع منه، وفيما بين أوقات الاستماع إلى الراديو تتلو آية الكرسي بصوت خافت، وبعض الصور القصار التي تقيم بها صلواتها الخمس. ولفه إحساس بالغربة، ولكن قلقه الطارئ العجيب كان أقوى من الغربة؛ فقال: قلت ذلك مائة مرة! وما لك تهملين نفسك إلى هذه الدرجة؟!
فأوقفت التلاوة لتقول له: أمرك عجيب.
يا له من موقف! لعنة الله على المرض، وعلى الجنون! لكنك تسب الجنون بلسانك فقط. هذا واضح. يا لها من مهزلة! ومد ذراعه على مسند الكنبة إلى ما وراء ظهرها، ثم ربت على قفاها ضاحكا؛ فهزت رأسها متمتمة: أمرك عجيب.
فهمس بعد جهد غير يسير: كأيام زمان!
فانكمشت المرأة، تزحزحت حتى طرف الكنبة، وهي تغمغم: يا عيب الشوم!
ولما رآها مقوسة على خجلها أدرك مدى سخفه. وواصل اكتشافاته في الوزارة والطريق والقهوة حتى احترقت عيناه. وارتدت الأعوام الماضية بحرارتها الاستوائية. وهام على وجهه في مظان الهوى في الحدائق وحفلات السينما الصباحية، وراح يقول لنفسه: ما أعجب هذا! .. وما أبهجه! وشعر بأنه مطارد وأنه يوشك أن يضبط متلبسا، وأنه لا يستطيع أن ينسى عمرا كاملا من الوقار والاستقامة وحسن السمعة. ولكنه لم يتوقف، بل ولم يعد يقنع بالمغامرات النظرية، وذكر أبناءه وأحفاده. وتوهم أي فضيحة كان يرعش أطرافه ويثلجها. وهل يمكن أن تعالج الأمور بالصبر؟ وما جدوى الصبر وهو من صلب فلاح تزوج في الحلقة السابعة! وما جدواه وهو يشم أريج الحب في كل مكان! وما عسى أن يفعل؟ وبعد تردد ثقيل فاتح أحد أقرانه في القهوة بمتاعبه، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ ضحك الرجل وقال: الظاهر أنك بحكم العمر انقلبت للإيمان بالخرافات.
فقال بحدة: ولكن ما أخبرتك به حقيقة لا شك فيها!
فرفع الرجل يديه بالدعاء قائلا: اللهم بارك في عقل فؤاد أبو كبير!
كلا، لا فائدة ترجى من هؤلاء الفانين! وعاد يتساءل عما عسى أن يفعل؟ ست آمنة. وثب الاسم من الظلمات كالشهاب. ست آمنة جارته القديمة بروض الفرج قبل أن ينتقل بأسرته إلى المسكن الحالي بالسيدة. وهي صاحبة الشقة التحتانية، أرملة، وقد حاولت كثيرا أن تصادق زوجته، ولكن فوزية لم تستخف ظلها. ولعلها في الأربعين أو فوق ذلك بقليل، ولا تخلو من وسامة، أما تأنقها المبالغ فيه فيقطع بحبها الحياة! وفي عهد الجوار سنحت بينهما وقائع، ولكنه حسمها باستقامته؛ فوئدت ولم يعلم بها أحد. كانت تحييه عند خروجه إذا تصادف وجودها في النافذة وما أكثر المصادفات. وأكثر من مرة وهو راجع كان يراها من خلال الباب المفتوح، وهي تخطر في قميص بيتي! ورغم ارتياحه الباطني الذي كان باعثه الزهو لا الرغبة؛ فإنه لم يشجعها قط، زاهدا ومشفقا في الوقت نفسه من فضيحة تهز مكانته المرموقة في أسرته وفي العمارة. ومرة تعرضت له أمام شقتها فحيته، ثم قالت: تسمح دقيقة واحدة يا فؤاد أفندي؟
وارتبك الرجل بشكل واضح، فقالت: لدي مشكلة أود أن أعرضها عليك.
وقع في لخمة دلت على ذهوله، ثم قال بجهد: تفضلي بزيارتنا، وستجدينني تحت أمرك.
ومن وقتها تجاهلته تجاهلا كاملا، وكان ذلك قبيل انتقاله إلى السيدة الذي مضى عليه ما يقارب العام. اليوم تدور أفكاره حول ست آمنة، ويستعيد ذكرياتها بحرارة بلغت حد الهوس. انصهرت تلك الأفكار والذكريات في رأسه وهو ماض إلى روض الفرج. أجل بلغ مسكنه القديم في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن يكون في القهوة. وضغط على جرس الباب، وقلبه يغوص في الأعماق. وكم ذهلت ست آمنة عندما رأته أمامها، كآخر شيء كانت تتوقعه. - فؤاد أفندي!
حرك رأسه بالإيجاب دون أن ينبس. - خير إن شاء الله!
ثم تنحت عن الباب وهي تدعوه إلى الدخول. وجد نفسه في حجرة استقبال صغيرة معبقة بعبير ورد في زهرية، على قائم معدني طويل في الركن. وغابت عنه وقتا، ثم عادت آخذة زينتها ملتفة في روب أبيض يذكر بفستان العرس. ولم تقتصد في إعلان اهتمامها بالزيارة مرددة: خير إن شاء الله! فطار من دماغه جميع ما أعده من قول، ولكنه شعر بأنه مطالب بتفسير حضوره، فقال: كنت مارا من هنا فقلت يجب أن أزور ست آمنة.
ابتسمت المرأة وهي تتمتم: خطوة عزيزة! ثم وهي تضحك: ولكنك لم تكن تحب زيارتنا!
فاحمر وجهه وقال كالمعتذر: الواقع أن الظروف ...
وتوقف لا يدري ماذا يقول، ثم ابتسم ابتسامة دلت على أنه يسترد توازنه، وقال: قلت مرة: إن لديك مشكلة.
فضحكت المرأة ضحكة عالية. وتبادلا نظرات باسمة فواتته شجاعة عظيمة؛ فنهض ليجلس إلى جانبها على كنبة واحدة. ومد يده إلى يدها، ولكنها سحبتها برقة وهي تقول: الظاهر أنك لم تفهمني على حقيقتي يا فؤاد أفندي.
لهجة جادة صدمت قلبه فانكمش. وعادت تقول: لست كما تتصور، أنت قلت لنفسك آمنة أرملة، وقد دعتني مرة إلى شقتها، لا بد أن تكون ...
وهتف بحماس يغطي به فتوره وفشله: معاذ الله .. معاذ الله.
فحدجته بنظرة جريئة، وسألته: إذن ماذا تريد؟
آه .. لم يتوقع هذا. خاب سعيك حقا؟ - يجب أن تعلم أنني امرأة شريفة، وتصرف بعد ذلك كما يحلو لك!
رجع وهو يقول لنفسه: إن الأمر ليس بالبساطة التي حلم بها. ومع ذلك فقد شدت على يده وهي تودعه، وأعربت له عن مشاعر طيبة جدا. وقالت إنها تنتظر زيارة أخرى، بل وثالثة ورابعة! واضح جدا ما تريد. وحن بكل قواه إلى عبير الورد، ثم اعترف بأنه فقد عقله. ووجد فوزية تعاني أزمة من أزمات مرضها، فتضاعف همه. وتذكر الأبناء والأحفاد فتكدر لحد المرارة. وتوكد لديه أنه لن يستطيع مواصلة الحياة في هذه الدوامة.
وفي خلال شهر من الزيارة الغريبة، تزوج فؤاد أبو كبير من ست آمنة في تكتم تام.
ولم يستطع بعد ذلك أن يواجه أسرته بالحقيقة، فكتب إلى ابنه الدكتور خطابا مسهبا أشبه بالاعتراف، مؤكدا فيه أنه لن يتخلى عن واجباته نحو أمه. وأقام في مسكن آمنة في بيته القديم، وتوقع أن يتصل به ابنه أو إحدى بناته، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، حتى خيل إليه أنه انتقل إلى عالم آخر، وجعل يتخيل وقع المفاجأة في أسرته بذهول، ولكنه طرح كل شيء جانبا وسلم نفسه للحب.
وبعد مرور ستة أشهر كتب فؤاد أبو كبير خطابا آخر إلى ابنه الدكتور، أخبره فيه بأنه مريض ودعاه إلى مقابلته. وهال الدكتور أن يجد أباه طريح الفراش، هيكلا عظميا مكسوا بجلد ذابل، ونظرة الموت تطل من محجريه. هاله المنظر حقا فبهت، ولما رآه أبوه اغرورقت عيناه فانكب الشاب على يده المعروقة التي ضرب لونها إلى السواد يقبلها ويبكي. وجلست آمنة صامتة طيلة العناق والبكاء، ثم قالت: زاره ثلاثة أطباء.
ولكن الرجل قال: أريد أن أرقد هناك.
فقالت المرأة وهي تحول وجهها جانبا: علم الله أني لم أقصر في خدمته، ولكن المهم هو راحته، فإذا شاء ذهب.
عاد فؤاد أبو كبير إلى فراشه القديم هيكلا عظميا مكسوا بجلد ذابل، ونظرة الموت تطل من محجريه. وأحاطت به أسرته، ولكنه استغرق في النوم أكثر الوقت. وفي لحظات اليقظة كان ينقل بينهم عينيه صامتا أو ينادي اسما بلسان ثقيل وصوت شخص آخر. ولم يتحسن ولكنه دخل طورا جديدا يتسم بالغرابة. ومرة فتح عينيه، وكان ابنه جالسا بجوار الفراش وحده، فتساءل باهتمام: ماذا حدث؟
فسأله الشاب عن حاله فتأوه قائلا: الظاهر أني ضعيف جدا .. ولكني لا أدري.
فسأله بقلق: لا تدري ماذا؟ - ماذا؟! نعم ماذا؟ ولكن لم؟ هذه هي النقطة.
وساد الصمت مليا، ثم استدرك قائلا: لذلك لا أستطيع أن أقطع برأي، شقي أم سعيد؟
وأشار إليه كأنما سيفضي إليه بسر لا يريد أن يطلع عليه أحد، فقرب الشاب وجهه منه فقال: عرفت كل شيء، كل شيء، حتى الهدف الحقيقي.
ثم بدرجة أدنى من الانخفاض: ورغم التصميم على عدم النسيان نسيت، حقائق مذهلة ولكن ما هي؟
وألح ابنه عليه أن يستريح، ولكنه عاد يقول: حقائق هائلة مذهلة، ولكنها ضاعت جميعا.
وأغمض عينيه إعياء، ثم غمغم: كم أود أن أتذكر، ولو قليلا كي أموت مطمئنا!
الخوف
في تلك الفترة من أوائل القرن كان أهل الفرغانة أتعس الأحياء. كانت عطفتهم تقع بين حارة دعبس من ناحية وحارة الحلوجي من ناحية أخرى، وكانت الحارتان متنافستين متعاديتين، لا يهدأ بينهما نزاع، وقد عرف سكانهما بالشراسة والغلظة والعدوان، وتسليتهم الأولى كانت العبث بالقوانين والناس.
وعلى عهد جعران فتوة الحلوجي، والأعور فتوة دعبس، اشتدت بين الحارتين العداوة، وسالت الدماء، وتعدد نشوب المعارك في الطرقات والجبل.
وتساءل أهل الفرغانة في جزع: وما ذنبنا ونحن لا من دعبس ولا من الحلوجي؟ ذلك أنه ما إن تنشب معركة في أي مكان حتى يعصف بهم الذعر؛ فيتوارى كل بما يملك أو بنفسه وراء الأبواب، ولم يكن من النادر أن يشتبك الخصمان فوق أرض الفرغانة نفسها، وهناك ينعق غراب الخراب فتنقلب العربات وتتحطم السلاسل وينفجر الصوات، ويصاب الأبرياء بلا حساب حتى أمست الحياة في العطفة شرا لا يطاق، وفاقت خسائرهم أصحاب النزاع أنفسهم، وكره الحياة منهم حتى السعداء. ويوما استغاثوا برجال الدين فبذل هؤلاء أطيب ما عندهم من مسعى، حتى اتفق العدوان على تجنيب الفرغانة ويلات معاركهم. وكان يوم عظيم أرخت به الفرغانة لطمأنينتها، ولكن أية طمأنينة؟ .. لقد كلفتهم ما يطيقون وما لا يطيقون من حسن السلوك، وطيب المجاملة، والحرص على الحياد في المعاملة حتى ضاعت في ذلك أموال، وابتذلت كرامات. وكلما فاض بهم الهم فأوشكوا على التمرد ذكروا الزمان الأول بمآسيه، فازدردوا الألم صابرين، ولكنهم رغم ذلك كله نعموا بفترة سلام نسبي لم يعرفوها من قبل.
حتى نزلت إلى الحارة نعيمة بنت عم الليثي بياع الكبدة.
فعندما ضعف بصر العجوز، حتى لم يعد يفرق بين النكلة والمليم اصطحب معه نعيمة لتعاونه في عمله. نزلت إلى العطفة وهي في مطلع سن الزواج، وتصدت للمعاملة في جلباب غطاها من العنق إلى الكعبين، ولكنه وشى بقوام معتدل، ونمت التصاقاته العفوية بأجزاء الجسد عن بضاضة، إلى امتياز الوجه باستدارة ريانة في لون الدوم الرائق، وعينين لوزيتين في لون الشهد المصفى تعبث في نظرتهما حيوية شباب مستجيبة في سذاجة للإعجاب. ورمقتها عيون الشباب باهتمام، وانجذبوا إلى فرن الكبدة القائمة فوق عربة اليد كما ينجذب الذباب إلى السكر. وما لبث أن قرأ عم الليثي العجوز الفاتحة مع شاب بياع بطاطة يدعى الحملي. وانتظر الناس الأفراح ولكنهم عندما اجتمعوا مساء يوم بقهوة التوتة - وقد سميت كذلك لوقوعها تحت أفرع شجرة توت - قرءوا الكدر واضحا في وجه الرجل الذابل. وسأله صاحب القهوة: ما لك يا ليثي كفى الله الشر؟
فأجاب العجوز متنهدا: المنحوس يجد العظم في الكبدة!
تطلعت إليه الرءوس من فوق الجوز وأقداح القرفة والشاي، فقال باقتضاب ذي معنى: نعيمة! - ما لها؟ .. حصل من الحملي عيب؟
فهز الرجل رأسه المعمم بلاسة منقطة، وقال: لا دخل للحملي في همي، ولكن قابلني الأعور فتوة دعبس بلطف غريب، ثم قال لي: إنه يطلب القرب في نعيمة!
تجلى الاهتمام في الأعين مشوبا بانزعاج، ثم سأله سائق كارو: وماذا قلت له؟ - ارتبكت .. وبكل صعوبة قلت: إن فاتحتها مقروءة مع الحملي، فصاح: الأعور يجيئك بنفسه تقول له الحملي؟! الحقيقة أنا انذعرت. - ثم؟
فامتلأت غضون وجهه بالقرف وهو يقول: مددت يدي، وأنا لا أدري وقرأت معه الفاتحة! - وفاتحة الحملي؟ - قابلته، واعترفت له بوكستي فحزن الولد الطيب، ولكنه لم يتكلم ثم ذهب.
تبادلوا النظرات في صمت ارتفعت في رحابه قرقرة الجوز، فقرر صاحب القهوة أن يخفف عن العجوز الألم، فقال بأريحية: لا لوم عليك، أي واحد منا في مكانك يتصرف كما تصرفت، صل على الهادي وهون عليك.
فضرب العجوز حجره بقبضته هاتفا: ولكن المصيبة لم تقف عند هذا الحد!
فتساءل صاحب القهوة ذاهلا: وهل يوجد ما هو شر من ذلك؟ - بعد فاتحة الأعور بساعتين، وجدت جعران فتوة الحلوجي أمامي! - يا ساتر يا رب، وماذا أراد؟ - نعيمة أيضا!
وضرب صاحب القهوة كفا بكف، ثم رفع رأسه إلى سقف القهوة يخاطب السماء، فقال العجوز: اعترض سبيلي كالقضاء والقدر، لم أدر ماذا أقول ولا كيف أتصرف، ثم اضطررت أن أعترف له بفاتحة الأعور. - يا أرض احفظي ما عليك. - قال لي: يا مخرف .. يا أعمى .. أقول لك جعران تقول لي الأعور؟ الحقيقة أنا انذعرت .. ومددت يدي، وأنا لا أدري وقرأت الفاتحة! - وفاتحة الأعور؟
فقال العجوز في انهيار تام: هذه هي المصيبة، فأغيثوني.
وسرعان ما أدركوا أن المصيبة إنما هي مصيبة الفرغانة، وأن الخراب عاد يهدد عطفتهم. وبحثوا جميعا عن حل حتى قال مقرئ أعمى: لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال، ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون الآخر، فهذا هو الموت.
ثم خلع العمامة وحك رأسه طويلا دون أن يوفق إلى اقتراح حل، فقال بياع الترمس: فلتتزوج سرا من الحملي.
فقال كثيرون في وقت واحد: ولا أبو زيد الهلالي نفسه يمكن أن يتزوجها الآن.
ولما أجهد التفكير رءوسهم عبثا، قال المقرئ: ادعوا معي: يا كريم الألطاف نجنا مما نخاف.
وانتبه الناس في الصباح على حركة غريبة في وكالة مهجورة بالعطفة .. رأوا جماعة من البنائين والنجارين والعمال يعملون بهمة في الوكالة ليعدوها لحياة جديدة. وثبتت فوق المدخل لافتة كبيرة بعنوان «نقطة الفرغانة». وجاء عساكر وضابط فشغلوا المكان الجديد، وتجمهر الناس أمام النقطة، فقال لهم عسكري عجوز: الحكمدارية غضبانة .. ولا بد أن تنتهي الفتونة!
وقال البعض: إن الله قد استجاب لدعائهم. ولكن الطمأنينة لم تدخل قلوبهم. كل ما أحاط بهم أقنعهم بأن الفتونة أقوى من الحكومة. لم يروا طوال حياتهم شرطيا يتحدى فتوة على حين أن الفتوات يتحدون القانون في كل ساعة من نهار أو من ليل. ولم ينس أحد كيف أن مأمور قسم الظاهر استعان يوما بجعران فتوة الحلوجي على تاجر مخدرات يوناني متمتع بالحماية الفرنسية، عندما علم المأمور بأن اليوناني يهدده بالقتل! كيف يتأتى بعد ذلك لهذه النقطة البوليسية الصغيرة أن تقضي على الفتونة؟
وخرج الضابط الشاب بنجمتيه المذهبتين وشريطه الأحمر، وجلس على كرسي خيزران جنب مدخل النقطة، ثم أرسل شرطيا إلى قهوة التوتة ليأتي له بنارجيلة. كان في الخامسة والعشرين. رشيق القوام، غليظ القسمات، ليس فيه ما يلفت النظر سوى رأس كبير مفلفل الشعر كأنه كتلة صوانية مصفحة. نظر إلى المتجمهرين وقال ببساطة غريبة: محسوبكم عثمان الجلالي .. لا تخافوا .. الحكومة معكم.
فتوددوا إليه بابتسامة بلهاء، ولم ينبس أحد بكلمة، فعاد يقول وهو يتناول خرطوم النارجيلة: عيب أن يعيش الرجال كالنسوان، لا تمكنوا أحدا منكم.
ولما لم يجد بادرة تشجيع واحدة، قال بشيء من الحدة دل على نفاد صبره: ومن يتستر على مجرم سأعامله كمجرم.
ورمشت أعينهم في ارتباك ثم تفرقوا تباعا، كل يلوذ بالسلامة. وتجول الضابط في الحي مستطلعا يتبعه بعض العساكر. طاف بدعبس كما طاف بالحلوجي. وطوقته الأبصار حيثما ذهب، من النوافذ والمقاهي والأركان، ارتطمت به نظرات التوجس والسخرية والحنق. ومر بالأعور فتجاهله، ومر بجعران فتجاهله، ثم أطلق ضحكة مجلجلة. ولبث عثمان هادئا طيلة الوقت.
وأدرك الجميع أنه يستعرض هيبة الحكومة، فعزم جعران على أن يدهمه بالرد الحاسم. وعند أصيل اليوم نفسه نشب عراك دام بين الحلوجي ودعبس في خلاء الدراسة، انتشرت أنباؤه كاللهب في وكالة خشب. وارتعد قلب الليثي الضعيف، وسابت مفاصل الفرغانة. ونصح كثيرون الأب بأن يزوج ابنته من جعران فهو الأقوى على أي حال، وخراب أهون من خراب.
وفي صباح اليوم التالي ظهر الضابط في الحارة مرتديا جلبابا كسائر أهل العطفة! لم يصدق الناس أعينهم أول الأمر، ولكن هويته تأكدت بصوته المعروف حين ارتفع قائلا: من كان يخشى البدلة فقد خلعتها، والآن فليأت إلي الفتوات إن كانوا حقا رجالا!
وابتعد عن النقطة وحده دون أن يسمح لعسكري واحد بأن يتبعه، ولكن تبعه الذاهلون من الرجال والنساء والصبية. ومضى إلى الحلوجي بثبات لم يعرف عن أحد قبله، حتى وقف أمام قهوة بندق حيث يوجد جعران بين صحبه وتابعيه. وقال عثمان بهدوء، ولكن بوجه تتطاير من عبوسته النذر: أمس تحديتم الحكومة، ها أنا بينكم وحدي أطالب بنصيبي من التحدي، فالجدع منكم يتقدم؟
ورقص شاب يدعى عنبة ببطنه في وقاحة مزرية، وهو على بعد أذرع من الضابط، فمال هذا نحوه بغتة، ولكمه في بطنه لكمة شديدة سقط على أثرها بلا حراك. وذهل الجميع لجرأة لم يتوقعها أحد على حين تراجع المتفرجون عن منطقة الزلازل. واستقرت الأبصار على جعران وهو متربع على أريكة متلفعا بعباءته. ولأول مرة نظر جعران في وجه الضابط عثمان، ثم قال: أنت غدرت بصاحب لي بلا سبب.
فصاح عثمان: استحق التأديب فأدبته، وسيأتي دورك في الحال.
قال جعران بوجه مشوه بالندوب: أنت شباب .. اذهب من أجل خاطر أهلك!
فصاح عثمان: قم إن كنت رجلا وتقدم.
ولم يتحرك جعران استهزاء؛ فاقترب عثمان منه خطوات، وسرعان ما تكتل الأعوان حول رجلهم وأمامه، فقال الضابط ساخرا: أرأيت أنك تختبئ وراء جدار من الأنذال؟
وهتف جعران في رجاله: ابعدوا.
فتفرقوا بسرعة كالحمام في أعقاب طلقة. ووثب جعران إلى الأرض، وكان ربعة مدمج الجسد، غليظ الرقبة، ثم تساءل: أين عساكركم؟
فقال الضابط بحنق: سأضربكم بالطريقة التي تضربون بها الناس.
وبمفاجأة صاعقة لطم جعران لطمة مهينة، فصرخ هذا من الغضب وانقض عليه، فاشتبكا في صراع مميت. تلك كانت لحظة مذهلة لم تنسها الحارة حتى اليوم، كالصراع الذي يروى عن الفيل والنمر. وكانت فاصلة في تاريخها كله، فتغير مجراه إلى الأبد. وقرأ كل فتوة من أعوان جعران بل ومن رجال الأعور مصيره فيها.
وأراد جعران بكل وحشية في دمه أن يعصر عثمان بين ذراعيه الحديديتين، ولكن الضابط اعتمد على خفة الحركة واللكمات، وهو فن لم يعرفه جعران أبدا. وأصابت اللكمات فكي عدوه وصدره وبطنه وأنفه المعوج؛ فصرخ في جنون الغضب: ملعون الجحيم إن لم أشرب من دمك!
وصاح الرجال الذين منعتهم تقاليدهم من الاشتراك في المعركة: الموت .. الموت .. يا معلم.
وارتفع الصياح والصراخ والصوات. وتجمهر الحي كله تحت القبو الفاصل بين الحلوجي والفرغانة. ووقفت نعيمة ترتجف من الانفعال، قابضة على يد أبيها بعصبية، وهي تصف له ما يقع مما عجزت عيناه الكليلتان عن رؤيته.
ودار رأس جعران بالضربات المنهالة؛ فبطؤت حركته، وتراخت ذراعاه، وشخصت عيناه إلى الغيب، وهتفت نعيمة بفرح: وقع الوحش على ركبتيه.
أجل قد وقع. ثم سجد حتى انغرز رأسه في التراب فتقوس كالدب، ثم تهاوى على جنبه. وارتفعت عشرات النبابيت فهتف عثمان وهو من التعب في نهاية : يا نسوان!
فتراجعوا خجلين وبعضهم يصيح في وجهه: قريبا سيقرءون على روحك الفاتحة.
وجعل الضابط يتجول في الأحياء بجلبابه البلدي، وأسطورته الغريبة تفرش له الرمل حيث ذهب. وكلما صادف فتوة كبيرا أو صغيرا اعترض سبيله، وطالبه بأن يقول على مسمع من الناس «أنا مرة.» فإن تردد انقض عليه وسوى به الأرض. وفي كل يوم كانت له معارك يخوضها متحديا ويخرج منها منتصرا. ولم تمض أشهر قلائل حتى رحل الفتوات عن دعبس والحلوجي، فلم يبق إلا الشيوخ والنساء والصغار، أو من غض الطرف وتبرأ من الفتونة. وشعر الضعفاء بأنهم يولدون من جديد، ورمقوا الضابط بعين الإكبار والمحبة.
ومرض عم الليثي وفقد بصره تماما فقعد في فراشه، وسرحت نعيمة بعربة الكبدة وحدها. وازدادت مع الأيام ملاحة ونضجا إلى ما كسبت من صيت؛ لتنافس جعران والأعور عليها في الماضي القريب. وبين لحظة وأخرى انتظرت العطفة أن تزف إلى عريس مناسب. وإذا بصبي القهوة «حندس» يهمس ذات ليلة للساهرين: أرأيتم كيف ينظر الضابط إلى نعيمة؟
ولم يكن أحد لاحظ شيئا، فعاد يقول: إنه يأكلها بعينيه.
ومضى كل يتابع نعيمة من زاويته، انتبهوا إلى أنها تعسكر بعربتها عند الجدار المقابل للنقطة، وأن عثمان يسترق إليها النظرات باهتمام لا يخفى على راء، وأن عينيه ترتادان مواضع الحسن في وجهها وجسدها، وأن نعيمة تلون نبراتها - عند النداء - بالدلال. وفي لفتاتها وسكناتها عند المعاملة جرت مناورات الأنوثة المتصدية لرجل يستحق الاهتمام. وقال قائل منهم في سهرة تالية: هو يأكلها، وهي تود أن تؤكل.
فتمتم صاحب القهوة: وعم الليثي المسكين؟
فقال بياع الترمس: من يدري؟ .. ربما طلب من العجوز القرب!
فقال المقرئ الأعمى: ليس شيء على الله بكثير.
ولكن نطقت أعينهم بمدى يأسهم. وقال شاب: هو أقوى من جعران والأعور معا، ويا ويل من يقول بم!
ووقفت نعيمة في ضوء القمر، وهي تراجع حساب اليوم وتغني:
أنا قبله
كنت هبلة
ولكن تجنبها الشبان حبا في السلامة، وقالوا لا تغني بنت هكذا إلا للعشق!
ولم تمض ليال حتى عاد حندس يقول: كل شيء وضح، رأيتهما أمس عند خلاء شبرا.
فصاح به صاحب القهوة: اتق الله! - الحمد لله، كانت واقفة أمام العربة، وكان الضابط يأكل الكبدة كالوحش.
فقال المقرئ: شيء طبيعي، كما يحدث للجميع.
فهتف حندس: ولكن عند خلاء شبرا، ألا تسمع يا سيدنا؟ وترحمت على عم الليثي.
ونفذ الحزن إلى الأعماق. ثم قال صاحب القهوة: أبوها عاجز، ولكنه شرف الحارة كلها.
فقال بياع الترمس: الحارة أعجز من أن تدافع عن شرفها.
وتجهمت الوجوه بالخزي، وعجبوا كيف يجيء ذلك من الرجل الذي وهبهم السلام، ولم يذوقوا للزنجبيل ولا للتبغ طعما. وتساءل شاب: والعمل؟
فقال المقرئ الأعمى: قل «أنا مرة!»
وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخش اعتداء عليها وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار، ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب، وتسب وتلعن وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة، ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق، وقد امتلأ جسمه، وانتفخ كرشه، وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم تعد توقظ مشاعره، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب .. مكتوب!
ولم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن، ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها ممتعضة دائما مكفهرة ومتوثبة للشجار دائما، فقد قست ملامحها، وبردت نظرتها، وطبعت بطابع الجفاف؛ فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة.
وحتى سحرها الذي أطاح برأس الضابط قد بطل، أو هذا ما بدا للأعين المستطلعة، فتهامست به أركان التوتة.
وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة.
الرماد
حسن السماوي شخص يثير الحنق. ولا يشذ عن هذا الرأي فيه أحد في إدارة الحسابات بشركتنا. وهو قصير القامة كصبي، ولكنه عريض الصدر كمصارع، ولونه أسمر داكن مشوب بصفرة، ومن عينيه الصغيرتين تطل نظرة غير مأمونة، وفضلا عن ذلك فهو قريب المدير العام. وطبيعي أن نشعر بأنه عين علينا، وألا نرتاح إليه لخشونة طبعه، وأن نضيق به لتمتعه بكافة أنواع المكافآت التشجيعية بلا جدارة، غير أنه يحظى بالمجاملات في خير أحوالها. وكان مولعا بسحر الكاتبة على الآلة الكاتبة. ظريف جدا أن ترى جلفا وهو يحب، أن يجود وجهه المنفر بابتسامة رقيقة، أن يرق صوته الغليظ وهو يهمس لها بكتابة ميزان الصرف اليومي. وكنا نتابع ذلك باهتمام ما بعده اهتمام. ومع أننا تمنينا أن يعذبه الحب لعله يهذبه إلا أننا أشفقنا من أن يفوز حقا بسحر، الجميلة الرقيقة الواعدة بكل خير في مجالي الأنوثة والعمل. وثمة لحظات لا يكون بينهما حديث مما يمليه العمل، فيسترق إليها نظرات حمراء من فوق استمارات الصرف، وقد يتصبب عرقا، أو ينال منه الإعياء فيرتد عنها بنظرة خامدة. ويوما همس جاري في أذني بنبرة ذات مغزى: آه، لو رأيت سحر وهي تبتسم خفية؟
خطفت نظرة من سحر وهي عاكفة على الآلة الكاتبة، وأصابعها المخضوبة الأظافر تعزف عليها بنشاط، ثم قلت متأسفا: نعمة لا يستحقها!
فهز رأسه نفيا وقال: ليس هذا، ولكنه برهان!
وعجبت. برهان موظف جديد التحق بالخدمة منذ أسبوعين فقط، شاب ممتاز حقا، ولكن كيف أحرز هذا النجاح في هذه الفترة القصيرة؟! ورحت أراقبهما في لحظات الفراغ حتى لمحت ابتسامة يتبادلانها، لا شك في معناها. وتوقعت أحداثا، وانتقل الخبر في سرية تامة من شخص لآخر حتى استقر عند رئيسنا الكهل الذي يدنو من سن المعاش. ولم يعد الأمر تسلية، فحسن السماوي ليس جلفا فقط، ولا قريبا للمدير فحسب، ولكنه أيضا من أقاصي الصعيد، من أرض عرفت بأنها ترتوي بدماء البشر، فذهبنا في التخمين كل مذهب.
ومرة اهتزت الإدارة بصوت حسن السماوي، وهو يرتفع بحدة كأسنان المنشار قائلا: الحكاية أن عقلك ليس في رأسك!
واتجهت صوبه الأنظار من جميع الأركان، فإذا به متحفزا فوق مقعده يرمي بنظرة حاقدة برهان الواقف أمام مكتبه.
وقال الأخير بصوت المعتذر: هفوة لا خطورة لها، والاستمارة لم ترسل بعد إلى المراجعة.
فصاح السماوي: هفوة أو جريمة هذا تقديري أنا لا أنت، الحقيقة أن عقلك ليس في رأسك!
ورمى بالاستمارة بصورة تدعو إلى الاستفزاز، ثم صاح بالشاب وهو راجع إلى مكتبه: هنا شركة لا تكية!
اصفر وجه برهان من التأثر، ومضى يعيد تحرير الاستمارة، لكن أثر الهجمة الحاقدة انعكس على سحر بدرجة أشد فيما خيل إلي، وضح تماما أن سرعتها المألوفة في الكتابة تعثرت، وأنها تمعن النظر في الكلمات ولكنها لا تقرأ شيئا. ووضح كذلك أن السماوي رأى شيئا رابه أو حطم آماله. ولعله ضبطه قبيل انفجاره بثوان فهو لا يكتم انفعالا، ولكن هل يظن أنه بالغ مراده بالقوة؟! وأخذ يطاردها في الطريق كما قال الرواة. ورئي وهو يحادثها في محطة الأوتوبيس. ولم ندر بطبيعة الحال كيف ينتهي عناده؟ وتعلقنا جميعا بأمل واحد آمنا بأن به وحده تتحقق العدالة الإلهية في إدارتنا. وقال جاري: ألم تعلم؟ لقد قابل عمها، وهو ولي أمرها ليطلب يدها.
سألته بلهفة: والنتيجة؟ - الاعتذار.
ثم مستدركا بفرحة غير خافية: فشل في البيت بعد فشل في الطريق؟
وبات غرام السماوي مشكلة إدارتنا. وزاد طبعه سوءا على سوء. عامل برهان معاملة شاذة اتسمت بالاستفزاز والتحدي والتربص، حتى آمن الشاب بأنه لا مستقبل له في شركتنا. أما معاملته لسحر فجرت على أسلوب مضطرب مذبذب، فتارة يعاملها بفظاظة ويغلظ لها في القول، وتارة يستميلها برقة وعطف، ثم يعود إلى الأولى، ولا يستقر بحال على حال. وكلما زاملت الصبر أحرقه الحقد، وخنقه اليأس. وقال مرة دون مناسبة أذكرها: عندنا تعامل المرأة كالحيوان؛ ولذلك يقال عنا إننا خير من يفهم النساء.
ولم تسكت سحر، فقالت بسخرية: هذا عندكم!
وضحكنا جميعا حتى هو ابتسم ابتسامة صفراء، ولكنه عاد يقول: صدقوني إننا نعاملها بما تستحق.
وعرف أن برهان يسعى إلى الانتقال إلى شركة أخرى، وأنه من غير المستبعد أن تمضي سحر في أثره. وذات صباح لاحظنا أن برهان لم يحضر. ومضى النهار دون أن نتلقى بلاغا باعتذاره كالمتبع. وكذلك مضى اليوم الثاني. وفي اليوم الثالث جاءتنا رسالة تنبئنا بوجوده في المستشفى للعلاج حيث وقع عليه اعتداء أثيم، وزرناه جميعا. وجدناه في جناح الجراحة مجبس الذراع والساق، ملفوفا بالأربطة البيضاء لا يبدو منه إلا عينان خابيتان. وسرعان ما أمرنا بمغادرة الحجرة، فلبثنا مع شقيقه في الاستراحة وقد تملكنا شعور بالرهبة والخطورة.
ولم يكن أدلى بأقواله بعد، ولكن شقيقه أخبرنا بأن مجهولين اعتدوا عليه بالعصي وهو راجع إلى بيته ليلا، ثم لاذوا بالفرار دون أن يتعرف على شخصياتهم أحد. والراجح أنهم كانوا من حملة الجلابيب، وأن الاعتداء والهرب كانا مفاجأة صاعقة، وأن الظلام كان كثيفا آخر الليل، هكذا قرر الشهود القلائل. ومع أن أفكارنا تلاقت عند ظن واحد إلا أن أحدا لم يجهر به بسبب وجود حسن السماوي بيننا. وقد علق على ما سمع قائلا: هذه حال من الفوضى لم يسمع عنها من قبل.
ثم سأل شقيق برهان: أله أعداء؟
فنفى الرجل أنه يعرف له أعداء، وأمل في مزيد من الوضوح عندما يستطيع برهان أن يدلي بأقواله. وعدنا جميعا واجمين، وقد احمرت من البكاء عينا سحر.
ولما أدلى برهان بأقواله استدعي حسن السماوي إلى التحقيق. وبدا أنه استبشع التهمة بكل قوة. واستمرت التحريات طويلا، ولكنها لم تسفر عن شيء. وكان على برهان أن يبقى في المستشفى طيلة شهرين أو أكثر. وسألني جاري ممتعضا: ما جدوى هذه الحياة؟
وحل بإدارتنا وجوم كئيب مشحون بالسخط الصامت، أكده باستمرار وجود سحر بيننا. وبطريقة أو بأخرى أعلنت وجوهنا وألوان سلوكنا عن باطننا. ولم نخرج في معاملته عن حد الأدب والمجاملة، ولكن تجهم أرواحنا حاصره بغضب بشري رهيب. ونزل عن كبريائه، فجعل يباسطنا في الحديث أو يضاحكنا لأوهى مناسبة كأنما ليسبر مدى ظنونه ومخاوفه، فكنا نجاريه في تكلف، وسرعان ما يسيطر الصمت. ولم يعد يتحملنا فهتف مرة دون مناسبة ظاهرة: أنا لا أخشى أحدا، ولكنكم مخطئون!
وتساءل رئيسنا في دهشة: ماذا تقصد يا سيد حسن ؟
فقال بعصبية: أنت تعلم وهم يعلمون، ولكني لا أخشى أحدا!
وتضاعف حنقنا عليه، وتمنى بعضنا أن يراه جثة هامدة. وبدوره قاطعنا، ولكنه كان إذا اشتبك معنا في حديث بسبب العمل تحدانا بجده أو بسخريته. وبمرور الوقت بدا كأنه قدر على تجاهل عواطفنا. بل وعاد إلى التقرب من سحر بالابتسامة الكريهة أو الكلمة، رغم أنها كانت تتصدى له في نفور متصلب كالديك المتحفز. ونجح في امتلاك زمام نفسه، وجرت حياته بصورة طبيعية شهدت له بقوة الأعصاب. وأخبرني جاري - نقلا عن سحر نفسها - أنه قال لها إنه بريء مما تظن، وإن نقطة ضعفه الوحيدة أنه يحبها، وأنه مصمم على أن يتزوج منها! والظاهر أنه لم يظفر بأية استجابة إذ صبحنا يوما بأن سألنا: هل قرأتم الحكاية؟
وراح يقرأ في الجريدة نبأ حادثة وقعت في المنيرة؛ إذ قتل شاب جارته بعد أن يئس من حبها! وكنا قرأنا الخبر، ولكن إعادته على أسماعنا بلهجته الصعيدية المتشفية أثارتنا إلى أبعد الحدود. أدركنا أن إفلاته من التهمة زاده على عكس المتوقع فجورا، وأنه من طبيعة شرسة لا تقف عند حد. ماذا يقصد بتلاوته؟ ومتى تدركه العدالة التي لا نتصور أن تهمل أحدا من الطغاة؟ وقلت معلقا على الحادثة: أهلك الفتاة وأهلك نفسه.
وقال رئيسنا الكهل: إني أعجب كيف يزهق إنسان روحا بشريا؟
فأجاب السماوي متهكما: ذلك أنك لم تعرف الحب!
واستقرت إلى سحر نظرة فرأيتها منكبة على العمل، ولكن بوجه مكفهر. وكأني أدركت للصواعق والزلازل والبراكين معنى جديدا لأول مرة. ورفع الغطاء عن وجه زميلنا برهان معلنا عن منظر لا ينسى. تحطم عرنين الأنف، واختفت قطعة من شفته السفلى عند الثنيتين. وتركت الخياطة الطبية بوجنته اليسرى طابعا كأثر الاحتراق. وفي كلمة ضاع بها شبابه كأن لم يكن. وعاد إلى عمله محطم النفس، فملأ قلوبنا بالشجن. وما عتم أن غادرنا إلى عمل آخر. ولبث حسن مصرا على هدفه لا يثنيه عنه صد أو يأس. وكثيرا ما كانت سحر تضيق بملاطفاته حتى صاحت به مرة وهي تتسلم منه رسائل ومذكرات: لا تحدثني هكذا من فضلك!
والتفتنا نحوهما بوجوه غير متسامحة، فتراجع قائلا: آسف، أنت لا تفهمين قصدي.
فمضت عنه وهي تقول بتحد: أنا لا أخشاك .. لا أخشى شيئا!
ولكن شيئا لم يكن ليصرفه عن التعلق بها، وتساءلنا بقلق هل نفاجأ بما ليس في الحسبان؟ وناقشنا الموضوع حول مائدة الغداء بمنزل رئيسنا الكهل. سألت: هل يقدم على قتل الفتاة؟
فأجاب جاري: إنه لا يتورع عن شيء.
وإذا بزميل يقول: أخشى أن ينتهي بها النضال إلى القبول! - القبول؟ - لم لا! إنه لا يريد أن ينهزم، والمرأة كما يقولون لغز.
وسألت رئيسنا عن رأيه فأجاب: إني أومن بالله، ويتجدد إيماني به عند كل صلاة.
فسألته: وهذه الفوضى؟
فكان جوابه أن ابتسم دون أن ينبس، ثم قدم لي تفاحة!
وبدا حسن السماوي فيما تلا ذلك من أيام هادئا، أو راضيا، أو مستسلما، كأنما قد انتهى من نضاله إلى خاتمة. ويوما قال لنا: حضراتكم مدعوون لحفل خطوبتي.
ودق قلبي. ولا شك أن سؤالا واحدا محيرا دار برءوس الجميع. وجعلنا نختلس النظرات إلى سحر، ونعاني حزنا كاليأس من مصير الإنسان. والتفت السماوي نحو سحر أيضا، وابتسم، ثم هز رأسه كالمتسائل، فابتسمت بدورها وقالت: بكل سرور ولكن أرجو أن تدعو برهان أيضا ليوصلني عند نهاية الحفل إلى البيت.
وتنهدت قلوبنا في ارتياح عميق.
واختلست منه نظرة بعد أن تحولت عنه الأعين، فرأيت الوجه الأسمر الداكن يقطر يأسا كالموت.
الختام
علام يسري - مراقب عام الوزارة - في غاية من السعادة. استدعاه الوزير، وقال له: اتخذ فورا إجراءات تعيينك وكيلا مساعدا للوزارة.
وقام من مجلسه أمام مكتب الوزير، فانحنى امتنانا ورأسه يدور من الذهول، ثم قال: ما أعجزني عن الشكر! ولكن أرجو أن أكون عند حسن الظن بي.
فقال الوزير: أنت رجل كفء، أما سمعتك الطيبة فحقيقة أجمع الناس عليها.
ووجد علام يسري نفسه في غاية من السعادة، فامتلأ حبا لكل شيء، ورضى عن كل شيء. وكانت له ابنة وحيدة في العشرين من عمرها ومن خريجات الجزويت، وقد تقدم لخطبتها أخيرا قاض شاب، وبذلك وضح تماما أن رسالته في الحياة تتم على أكمل وجه يحلم به إنسان. وجاءه مدير مكتبه بأوراق العرض، ثم قال عندما هم بمغادرة الحجرة: عبد الفتاح حمام ما زال يلح في طلب المقابلة.
فقطب المراقب العام قائلا: وقتي ضيق كما ترى، اسأله عما يريد، وإن كان لديه طلب فحوله إلى جهة الاختصاص. - ولكنه يلح في طلب المقابلة دون ذكر أسباب، وقد طردته أكثر من مرة من مكتبي، ولكنه يعود بإصرار، ويكرر أن لديه ما يقوله لسيادتك شخصيا.
واضطر إلى أن يحدد له وقتا للمقابلة وهو كاره. وجاء عبد الفتاح حمام يسير في خطوات متهيبة وهو غاض البصر، وانحنى بإجلال وهو يقول: صبحك الله بالسعادة يا سيادة المراقب.
ولفت نظر المراقب بقصر قامته، وبروز صدره بروزا غير طبيعي، ولونه الشاحب، وشعر رأسه الأسود الغزير. وسأله وهو يداري غيظه: لماذا تصر على تضييع وقتي؟
وتهيأ عبد الفتاح للكلام فأضاع ثواني بارتباكه، فهتف المراقب العام: متى تجود يا ترى بالكلام؟
فاشتد ارتباك الشاب كما تجلى في احمرار وجهه، وقال بعجلة واندفاع كأنه يقذف بنفسه في الماء في أول تدريب يخوضه: أنا موظف ملفات الخدمة بالمستخدمين، وقد رجعت إلى ملف سعادتك لمناسبة إعداد البيان التمهيدي للتعيين الجديد، مبارك يا فندم، الموقف أنساني ما كان يجب أن أبدأ به.
وازدرد ريقه متوقفا عن الكلام، فتساءل المراقب العام: ألهذا تطلب مقابلتي؟ - كلا يا فندم، ولكني بالرجوع إلى ملف سيادتك اطلعت على شهادة الميلاد.
آه. شهادة الميلاد! وانتزعه الماضي من حاضره بجذبة واحدة قاسية، ولكنه لم يصدق. وتساءل ببرود: نعم؟ - اطلعت عليها، فوجدت بها شيئا غير طبيعي.
إذن هو ذلك! لا يمكن أن يصدق. ولكنه حقيقي كجثة مطمورة اكتشفت فجأة. وقاوم من خلال شعور بالإعدام، فتساءل: ماذا تقصد؟
فقال عبد الفتاح بشيء من الهدوء الأول مرة: يوجد «تحوير» في الشهادة. - لا أفهم! لعله تصحيح أو شيء من هذا القبيل؟ - من يدقق النظر لا يشك أنه ...
وخرقت أذنه الكلمة غير المنطوقة. وشعر بيأس كالموت. أما الآخر فقال: رأيت أن أرجع إلى سيادتك قبل أن أكتب مذكرة عن الموضوع لمدير المستخدمين.
على أي حال يجب ألا ينهار أمام خصمه. لقد قضى عليه ولكنه يجب أن يتماسك وأن يتجلد فمن يدري؟ واكتظ قلبه بالكراهية، ولكن ما الحيلة؟ واليوم موعد اجتماع لجنة الميزانية، ويجب أن يبدو كل شيء طبيعيا. وسأله: هل دققت النظر؟ - نعم، كان يمكن أن أكتفي بمراجعة صحيفة الأحوال، ولكني إخلاصا مني لعملي أراجع الوثائق الأصلية، ولا أدري كيف وقع بصري على ...
آه، إنه لا يدري كيف! وفاض قلبه باليأس والكراهية، لولا الترقية المنتظرة لرقدت الشهادة في أمان حتى نهاية الرحلة الوشيكة، على أي حال لا يجوز أن ينهار أمام عيني خصمه.
وسأله: وبعد؟ - قلت أرجع أولا إلى سيادة المراقب العام. - إني أشكر لك تصرفك، ولو أن ...
ودق جرس التليفون فإذا بوكيل الوزارة يطلبه؛ فنهض منزعجا خشية أن يخونه صفاء الذهن الضروري للمقابلة. وقال من خلال عالم مقوض الأركان: اسمع يا بني، أنا الآن مشغول جدا فلنؤجل الحديث. وعندي لجنة ميزانية بعد الظهر فموعدنا الغد، إن أقوالك غريبة وغير مفهومة لي ألبتة فلنؤجل مناقشتها إلى غد.
وفي الطريق إلى مكتب الوكيل غاب تماما عما حوله. وتطلع إلى الأمام بنظرة ذاهلة منقبا عن القوة المدمرة الساخرة. متى يغمض له جفن؟ وتمنى أن يتغيب عن لجنة الميزانية ليصفي حسابه مع معذبه، ولكنه جفل من مجرد التفكير في ذلك. إنه اعتراف خطير سيعجل بالقضاء عليه. ولكن هل انتهى حقا؟
وغادر الوزارة عقب مقابلة الوكيل. استقل سيارته الأوبل التي يسوقها بنفسه، وعند خروجه من باب الوزارة لمح عبد الفتاح حمام واقفا أمام محل صغير لبيع الفول يتناول سندويتش. التقت عيناهما لحظة ريثما انعطف إلى الطريق، وقد خفق قلبه في رعب حقيقي، ثم اشتعل بالكراهية، لعله ينتظره! لعله مجرم محترف! لقد انتهى حقا.
وفي البيت كان حديث الأفراح يتردد في أكثر الأوقات. عن العريس والحفل يتكلمون، عن الحلي والملابس والجهاز لا ينقطع الحديث. ومنى سعيدة جدا ومثلها أمها ، وسرعان ما ينخرط في همومهم الممتعة ويدلي برأيه في كل شيء. ولكنه حصن نفسه هذه المرة بقوله: الظاهر أني متوعك اليوم، أعفوني من الكلام ومن الطعام.
بذلك حصن نفسه ضد الأعين المتفحصة، وشرب كوبا من البرتقال ثم آوى إلى فراشه. وسعادة منى المتجلية لم تبرح مخيلته فعذبته عذابا أليما. وقال لنفسه بأنه لن يسمح لقوة بالغدر بهذه السعادة. واستعرض في لحظات حياة طويلة، طابعها الجد والأمانة والاستقامة.
علام يسري مثال طيب حقا في وسط ملعون. وذلك الخطأ الذي ارتكبه منذ خمسة وثلاثين عاما ينفجر على غير انتظار كلغم منسي. وقد ارتكبه ليقبل في المعهد، وحتى لا تضيع آماله هباء. لم يكن مغامرا ولا مستهترا بالمبادئ، ولكن اغتاله الضعف والأمل. كان موقفا رهيبا عندما قدم أوراقه. فنظرة مدققة من عين المسجل كانت كفيلة بنبذه من المجتمع. وآمن بأن جريمته قد دفنت في الملف إلى الأبد، ولكنه لم ينس أنه سيغتال الحكومة في عامين من مدة خدمته. ولم يرحه ما قدم من عمل مجد واستقامة، فعزم على طلب الإحالة على المعاش عندما يحل موعده الحقيقي الذي لا يعلم به أحد سواه. أجل طالما ذكر نفسه بذلك، ولعل مرض القلب الذي انتابه منذ أعوام كان نتيجة لحدة شعوره بالشوكة الخفية المنغرزة في ضميره، وقد تسلل عبد الفتاح حمام إلى حجرته ليقوض بنيانه بلطمة واحدة، وجعل يتطلع إلى فراغ الغرفة منقبا في ذهول عن القوة المدمرة الساخرة!
وذهب إلى مكتبه مبكرا في اليوم التالي، ثم استدعى الشاب إلى مقابلته، وبمجرد أن رآه وهو يقترب من مكتبه في أدب كاذب، وثبت في باطنه رغبة جنونية في الانقضاض على رقبته الغائرة بين كتفيه وخنقه. غير أنه رمقه بنظرة طبيعية هادئة، كأنما لم يؤرقه ليلة كاملة وقال: لنعد إلى حديثك الغريب، الحق أنه يهمني أن أعرف كل شيء.
وجلس عبد الفتاح في خضوع، وأعاد على مسمعه خلاصة ما قاله أمس، فسأله: ألا يجوز أن تكون واهما؟
فأجاب بهدوء معذب: الواقع أنني لم أصدق عيني بادئ الأمر، دققت النظر طويلا، ولكي أقطع الشك باليقين، رجعت إلى شهادة المعاملة الخاصة بالإعفاء من التجنيد، فتأكد لدي أن ثمة فارقا في العمر بين الشهادتين مقداره عامان.
وساد صمت أليم. غض المراقب عينيه في استسلام نهائي، وهو يتأذى بنظرة خصمه على صفحة وجهه. إنه يطالبه بثمن السكوت. وعندما ينطق الصمت بما يضمره سيتردى في هوة الجريمة، وهو في كامل وعيه بما يصنع هذه المرة. سيخطو الخطوة الأولى في طريق قذرة لا نهاية لها. أجل لا نهاية لها. وأسر لا قرار له. آه! أما من وسيلة لدفنه؟! وسأله: وبعد؟
ارتبك الشاب قليلا، ثم قال: قلت يجب أن أخبر سيادتك أولا. - وثانيا؟
إنه ينظر في الأرض؛ ليخفي انفعالاته الشريرة. إنه لا يريد أن يموت ولا أن يختفي كشبح! - ألا تريد أن تتكلم؟
ولما لم يسمع منه جوابا سأله بصوت غريب في نبرته: ماذا تريد؟
وبصوت ضعيف أجاب: لا شيء إلا ما يرضيك، لم أقصد إلا أن أؤدي خدمة لك، أنت رجل نبيل، وسأترك أمري لتقديرك. - تكلم أرجوك. - أنا آسف جدا لموقفي هذا، ولكنها .. ولكنها فرصتي الوحيدة. - وهي؟
قال بضبط نفس أكثر: يا سيادة المراقب أنت أدرى.
قال وهو يشعر بذل لم يشعر بمثله من قبل: ما ترتيبك في الأقدمية؟ - لا أمل لي في ترقية بالأقدمية، علي أن أنتظر خمس سنوات. - وإذن؟
فقال بجرأة أوضح: هنالك أكثر من طريق.
فقال المراقب بلا وعي تقريبا: هذا يورطني في تصرفات طالما عففت عنها.
وتبادلا نظرة انكسر لها قلب الرجل. تألم بلا حدود. إنه يسخر من تعففه ومن حياته جميعا.
ولم يعد يطيق رؤيته فقام مادا له يده. تصافحا ثم غادر الشاب الحجرة دون أن ينال وعدا صريحا، ولكنه بدا مطمئنا كل الاطمئنان. وارتمى على مقعده وهو يقول لنفسه إني مريض. ما بي هو مرض بكل معانى الكلمة. وعندما غادر الوزارة بسيارته لمح عبد الفتاح بموقف الأمس أمام محل الفول. وانعطف بالسيارة دون أن ينظر نحوه. غدا سيتبعه كظله وسيقع هو تحت رحمته. ودفع السيارة نحو أطراف المدينة بلا هدف، وكان تلفن إلى أسرته بأنه لن يعود قبل المساء. يجب أن يخلو إلى نفسه، وأن يبت في أمره بلا تردد ودون إبطاء. أيسقط في الهاوية أم لا؟ هل يسلم نفسه أسيرا مدى العمر أو يرى حلا آخر؟ وكان ينطلق بسرعة غير عادية، ويحاور الشاب طوال الوقت. أتحسب أنك ملكت كل شيء؟ أنا أقول لا فما أنت صانع؟ أجل نحن في الخلاء حقا، كورنيش النيل، ألا تحب هذا المنظر الخلاب؟ لعلك خائف، أرأيت؟ كان ينبغي أن أكون أنا الخائف لا أنت أليس كذلك؟ لا .. لن يفيدك الصراخ. مت كحشرة. وشدت قبضته على عجلة القيادة بقوة فظيعة. ستطرح هنا وحيدا بلا أدنى أمل. ولكن ما أسخف التخيلات! سيلقاك عبد الفتاح غدا ليسمع رأيك الأخير. وزاد من السرعة في شبه خلاء تام. رأيك الأخير. بالقبول مع الأسر أو الرفض مع الفضيحة. وفي الحالين لا يمكن أن تنسى كرامتك. ومن غير الله يمكن أن ينتشلك من مأزقك الخانق؟ ودعا ربه طويلا حتى اغرورقت عيناه. •••
ووقع حادث أسيف في طريق الكورنيش!
وقال المحزونون: جرى القضاء عليه، وهو يترقب سعادتين: ترقيته وزواج كريمته.
سوق الكانتو
غاص حسونة في سوق الكانتو متأبطا لفافة كبيرة من الورق. كانت شمس الصيف الحامية تلهب الجموع الحاشدة، وقد اصطفت على الجانبين عشرات من عربات اليد مثقلة بالملابس والأوعية والأواني والأدوات القديمة. قصد حسونة عربة رمضان، ولكن منعه من الوصول إليها سياج من الجلابيب والملاءات اللف، ولم يجد صياحه في اختراق هدير صاخب من أصوات النداءات والمساومة والسب. ورصده حتى التفت ناحيته، فصرخ بأعلى صوته: يا معلم رمضان!
انتبه الرجل إلى مصدر الصوت؛ فلوح له حسونة بذراعه صائحا: معي هدية!
وشق رمضان طريقه إليه بجهد قاس حتى بلغه، ثم سأله: بيع أم شراء؟
فضحك حسونة عن أنياب كالأسياخ، وقال: ربنا لا يقطع لنا عادة. - ما معك؟ - جاكتة.
وضح الاهتمام في وجه رمضان، فتناول اللفافة ثم استخرج الجاكتة ليتفحصها. جاكتة رمادية في حالة جيدة كبيرة الحجم حتى لتصلح معطفا لحسونة. وسأله بلهجة ذات معنى: من أين؟
فأجابه وهو يغمز بعين حمراء: اطمئن.
ودس رمضان في يده ورقة من ذات الخمسة والعشرين، وهم بالرجوع، ولكن حسونة تعلق بذراعه وهو يقول: عملي ليس نزهة، ليس نزهة.
وبعد دفع وجذب رمى له بخمسة قروش بحركة نهائية قاطعة، ثم شق طريقه مرة أخرى إلى عربته.
وجال حسونة في أطراف السوق فابتاع أربع سجائر، ورغيفا، ولحمة رأس، ثم مضى إلى جدار المرحاض العمومي فجلس في ظله، وراح يدخن سيجارة بهدوء مؤجلا الأكل إلى حين. شنكل! تخيل وجهه القاسي ورأسه المشوه بالندوب. وارتعد جسمه الضئيل. لو شك في لحظة واحدة انتهيت.
وتناول طعامه، ولكن وجه شنكل سد حلقه.
وفي الليل لبد عند المنور يتنصت. وسمع صوت شنكل وهو يسأل بغلظة: أين الجاكتة يا ولية؟
فأجابت المرأة: لم تلمسها يدي. - زارك أحد؟ - أبدا. - خرجت؟ - أبدا. - عفريت أخذها؟ - ربنا يعلم.
وترامت إليه دمدمة عراك فارتعد في مكمنه. - يا مجنون .. يا وحش. - تعضينني يا كلبة؟ - يعني أموت وأنا ساكتة؟ .. ما قيمة جاكتة؟ - يا خرابي، فيها ما يساوي تعب عمر يا مجرمة.
ابتعد حسونة عن المنور، وهو يغمغم في ذهول: «تعب عمر!» انتقل من سطح الربع الذي يسكنه شنكل إلى السطح الملاصق له قاصدا غرفته الخشبية. تعب العمر؟! ولكن كيف! لقد فتش الجيوب جيبا جيبا فلم يعثر على شيء! البطانة. أجل البطانة. ولكن كيف كان له أن يتخيل ذلك؟! يجب أن يعثر على رمضان بأي ثمن. ولكن هل يرتاب شنكل في أمره؟ هل يتصور أن خروفا يجرؤ على اقتحام عرين الأسد؟ إن عمره يعد بالدقائق إذا لم يحصل على تعب العمر، ويرحل عن البلد.
وغادر ربعه للبحث عن رمضان. وجد سوق الكانتو خاليا إلا من شعاع خافت ينبعث من مصباح عمومي في أقصى طرفه الشمالي. ولم يعثر له على أثر في قهوة الجوهري، ولا في مجلسه بسوق الخضار، ولا في غرزة أم الغلام. أتراه يعد النقود في بيته؟ ولما لم يكن يدري أين مسكنه فقد رجع إلى سوق الكانتو عازما على قضاء الليل فوق الطوار، ليكون أول مستقبل له في الصباح.
وجلس القرفصاء أقرب ما يكون إلى المصباح. ضيعت ثروة يا حسونة الكلب. ولكن من كان يصدق أن شنكل يترك ثروة في باطن جاكتة مسروقة؟ وسمع وقع أقدام تقترب، فنظر نحو الظلام فرأى شبحا قادما. وعندما دخل القادم مجال الشعاع وضحت معالمه بعض الشيء فإذا به شنكل! ملأه الرعب فانتتر واقفا بلا وعي، فعرفه الرجل ورماه بنظرة سمرت قدميه في موضعه: حسونة!
فقال بصوت متهدج: نعم يا معلم. - ما لك مكوما كالزبالة! - رأسي ثقيل، فقلت أنام في الهواء.
وصفعه كأنما يجود عليه بإحسان، وسار في طريقه. لم يصدق عينيه، وتبعه بنظره حتى اختفى وهو لا يصدق عينيه، كلا، إنه لا يشك فيه؛ وإلا ما أعلن عطفه بتلك الصفعة! ما أعمى الخوف! أليس هذا بطريقه الذي يخترقه كل ليلة إلى سوق الخضار؟ وتنهد في إعياء ثم تداعى على الأرض.
واستيقظ مبكرا والحياة تدب في السوق. وما لبث أن رأى رمضان قادما يدفع عربته، هرع إليه بلا تدبير وقال بلا تمهيد: معلم رمضان، أين الجاكتة؟
رمقه الرجل بازدراء وهو يتمتم: «يا فتاح يا عليم.» لما كرر الآخر سؤاله بلهفة أحد سأله: لم تسأل عن شيء لا يخصك؟ - الجاكتة يا رمضان؟ - عليك عفريت اسمه جاكتة؟! بعتها. - بعتها! يا خبر أسود، بعتها يا رمضان؟ لمن؟
أجاب بارتياب: عطية الحلواني. - يا خبر أسود يا رمضان.
وضاق به فزعق: انطق!
سأله بعينين مجنونتين: ماذا وجدت فيها؟
فصفعه إعرابا عن حسرته، وهو يسأله بكراهية: ماذا كان فيها؟ - تعب عمر! - عمر من؟ - شنكل.
ارتعد الرجل فهتف: شنكل! .. تبيع لي مصيبة! - ولكن مصيبة بيعها أكبر. - صحيح إنك نحس. - البطانة يا رمضان.
فكر رمضان يائسا، ثم قال متنهدا: لا فائدة من النواح، انتظر الليل حتى يرجع الحلواني من حلوان.
وقطع الكلام عندما رأى زبونا واقفا ينتظر لم يدر متى ولا كيف جاء! وتفحص حسونة الزبون باهتمام وقلق ثم ابتعد.
وعند المساء ذهبا معا إلى قهوة الجوهري، فوجدا عطية الحلواني منهمكا في عشرة دومينو. فصافحه رمضان وقدم له حسونة، ثم اشتركا في اللعب. وغادروا القهوة معا لإتمام السهرة في حجرة الحلواني، فمشوا جنبا إلى جنب في شارع الموسكي في شبه ظلام تتخلله أنوار متباعدة خافتة. وجعلا يحاوران الشاب بجهد متكلف، وهما يفكران في شيء واحد، ودون مناسبة قال رمضان: إن شاء الله تكون الجاكتة موفقة.
فقال الحلواني وهو يتثاءب: طبعا، ولكنها تحتاج إلى تضييق، (ثم وهو يلكزه ضاحكا) وتغيير لون، سلمتها أمس إلى عبدون الرفاء.
وماتت رغبتهما في مصاحبته، ولكنهما لم يجدا بدا من الذهاب. وغادروا الحجرة قبيل الفجر، وهما يترنحان فقال حسونة متأوها: فاز عبدون بتعب العمر.
فهتف به: سنرى، أنت من يوم مولدك نحس. - أنا في حاجة إلى النقود لأهرب.
فقبض على قفاه وهو يسأله: وأنا؟ سيظنني شريكك.
فتخلص من يده قائلا: إنه لا يدري شيئا عن علاقتنا.
وفي الصباح ذهبا معا إلى دكان عبدون الرفاء وهو يتأهب للعمل، وعانقه رمضان معانقة الخلان، ثم جلس ثلاثتهم على أريكة في نهاية الدكان التي كانت أشبه بدهليز ضيق غائص في الجدار.
ومال رمضان على أذن عبدون، رغم أنه لم يكن معهم رابع وهمس: لا أحب أن أشغلك عن عملك في ساعة الصبح، ولكنا جئنا بخصوص الجاكتة التي سلمها لك عطية الحلواني.
فسأله عبدون بدهشة: ما لها؟ - هل قمت بالمطلوب لها؟ - لم أمسها بعد.
تنهد رمضان وحسونة بارتياح، وقال رمضان: تلزمنا بعض الوقت، دقائق لا أكثر.
فقال الرجل بقلق: حد الله! .. إنها أمانة. - عيب يا عبدون، ستكون عندك بعد دقائق.
نظر إليه بارتياب، وردد عينيه بين الرجلين، وابتسم ابتسامة خبير، ثم نهض إلى كومة من الملابس المعلقة في الجدار، ففرها بسرعة حتى استقرت يده على الجاكتة الرمادية فنزعها، وراح يتحسسها باهتمام حتى استكنت يده فوق أسفل البطانة. وحدج رمضان بنظرة ساخرة، فقال الرجل: أحببت أن نقوم بشغلنا بعيدا عنك.
هز عبدون منكبيه استهانة، ورمى الطريق بنظرة حذرة، ثم رجع إلى الأريكة ويده تفك البطانة بخفة، ثم استخرج رزمة من الأوراق المالية. ند عن حسونة صوت كالشهقة، وقلق رمضان في مجلسه، أما عبدون فبدا نهما مصمما، وقال رمضان بلهفة: فلنقتسمها بسرعة قبل أن يجيء أحد.
عند ذاك اختفى النور الهادئ الوارد من الطريق، ولكنهم لم ينتبهوا لذلك. وارتفع صوت كالخوار يقول بقسوة: عفارم عليكم.
تحولت الرءوس في فزع نحو الباب. وجدوا أمامهم شنكل. شنكل بكل ما أوتي من طول وعرض وكريه منظر يسد الباب سدا. صاح عبدون: أنا عبد المأمور، ولا دخل لي في شيء!
وصاح رمضان: علي الطلاق ما أعرف صاحبها!
وخرس حسونة فلم ينطق. ودخل الرجل على مهل، حتى تناول الرزمة من يد عبدون المرتجفة. والتفت نحو حسونة قائلا: هل ظننت أن عيني غفلت عنك دقيقة واحدة؟
فتح الرجل فاه، ولكن شنكل لطمه بيد كالمطرقة؛ فاندلق من ركن الأريكة فوق الأرض وهو يتأوه وكأنه يتقايأ. وقال له بهدوء مخيف: اختف إن كنت تحب الحياة.
واستدار ليغادر المكان ولكن صفارة انطلقت. وطوق باب الدكان في ثوان بالمخبرين.
ودخل الضابط شاهرا مسدسه، وهو يقول بلهجة آمرة: كل واحد في مكانه.
وانقض عليهم المخبرون قبل أن يفيقوا من ذهولهم. وقال الضابط يخاطب شنكل: أتعبتنا أسبوعا كاملا، الله يتعبك.
وعند الظهر وقفت سيارة مرسيدس أمام القسم، وغادرها رجل ربعة بدين ذو لغد هائل. قابل ضابط المباحث فصافحه، ثم جلس وهو يقول: جئت بناء على إشارتك.
فقال الضابط: قبض على سارق جاكتتك، ووجدت نقودك كاملة لم تمس، وسوف تتسلمها في الوقت المناسب، ولكن ينبغي أن نبقى لإتمام بعض الإجراءات.
رمق الوجيه على سيف الضابط بنظرة امتنان، وتمتم: همة عظيمة حقا!
فقال الضابط بلهجة ساخرة، وهو يتفحصه بنظرة ذات معنى: أرجو أن تكون في موضعها.
وقلق الوجيه وتأكدت ظنون طالما ساورته، ولكنه كان شديد الحذر، وعليه أن يستزيد من هذا الحذر مستقبلا. واستطرد الضابط قائلا بلهجته الساخرة: مبارك عليك. المال الحلال لا يضيع!
وجها لوجه
في أقصى مكان بالحديقة جلسا شبه منفردين. وطيلة الوقت تبادلا نظرة مفعمة بالتطلع والهناء، وهما يحسوان الليمونادة: ستكون سهرة طيبة بسينما ركس. - والفيلم عن قصة غرامية مشهورة، فهو يناسبنا جدا.
ابتسمت لتعليقه. وكان الفانوس الأنيق يبعث ضوءا هادئا، فأضفى عليهما غموضا فاتنا. وسطعت رائحة الياسمين المطل من ثغرات التكعيبة المطوقة للحديقة الصغيرة، ولم يكن بطرفها الآخر إلا زوجان مثلهما غارقان في التهامس. ونسمة لطيفة مشحونة برطوبة أغسطس ترددت من آن لآن.
وقال حامد: كالحلم، كثيرا ما قلت ذلك لنفسي. - هو كذلك، لكنه حلم جميل.
منذ رآها في رأس البر في يوليو الماضي وهو يردد ذلك. بعد اختفاء خمسة عشر عاما رآها عند اللسان ساعة القيلولة. التقت عيناهما في نظرة تذكر وعرفان. وابتسما بلا خطة. تقدم منها مادا يده فصافحته. أتذكرين مصر الجديدة؟ نعم .. شارع الزقازيق. منذ ذلك الوقت لم أرك.
بلى، متزوجة وخارج القاهرة أكثر الوقت. وتقابلا في الصباح التالي، فعلم أنها مطلقة من عام، وأن ابنها الوحيد قد ضم إلى حضانة أبيه. وغادرا المصيف في يومين متعاقبين، وهما على تفاهم وميعاد. - ها نحن الآن نفكر فيما كان يجب أن نفكر فيه منذ خمسة عشر عاما!
فابتسمت سهام قائلة: القسمة والنصيب. - وكنت أراك كل يوم تقريبا. - أذكر ذلك. - وكنت معجبا بك. - ولكنك .. أعني لم تفصح بأي وسيلة عن ذلك الإعجاب.
قال بنبرة المعتذر: كنت وقتذاك مترجما صغيرا بالخارجية، ومرشحا لبعثة. - والعواطف أكانت محرمة على صغار المترجمين؟
فضحك ضحكة مقتضبة، ثم قال: ليس من السهل التحدث عن خيال الشباب! - أما أنا فقد انتظرت حتى ضقت بالصمت. - وبلغت أنا الأربعين ولم أتزوج.
بعد تردد وهي تبتسم: لماذا؟ .. مجرد سؤال لا يتضمن أي اعتراض بطبيعة الحال. - سرقني الوقت، كثيرون يمضون هكذا.
اتجهت عيناها لحظات إلى العاشقين في الطرف الآخر للحديقة. ناضجة تماما، وهو من حسن الحظ يفضل ناضجات نصف العمر. - وعندما قابلتك بعد خمسة عشر عاما من الاختفاء، وجدتك مطلقة وحزينة لحرمانك من ابنك، فتذكرت بقوة غير متوقعة أنني بلغت الأربعين دون زواج، وقلت لنفسي: لعل هذا اللقاء قد تم ليصحح أكثر من خطأ.
وترامت نشرة أخبار الثامنة والنصف من مقهى بالسوق وراء محل بيجل، فاقتحمت مجلسهما الهادئ المعبق بالياسمين. وتساءل حامد: هل الحرب حقا وشيكة الوقوع؟
فقالت باستهانة: هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم. - صدقت، المهم أن نتزوج في أقرب وقت ممكن.
عكست عيناها نظرتين متعاقبتين، الأولى مشرقة والأخرى غامضة دارتها بابتسامة، فقال: لا شك أنك فكرت في ابنك. - أنت تقرؤني جيدا، ولكني على الحالين لن أراه إلا نادرا. - يمكن الاتفاق على ذلك مع زوجك. - لن يذعن، إنها العداوة العمياء.
طالعها بنظرة إنكار فاستطردت: أكثر أعوام المعاشرة احترقت بنار العداوة. واستمرت بفضل تعلقي بابني، حتى أدركني اليأس. - سينسى الرجل العداوة مع الزمن. - ليس هو بالرجل الذي ينسى. - أمر مؤسف حقا. - المهم أن تفكر طويلا قبل ... - فكرت طويلا ثم اخترتك عن اقتناع وحب.
قالت برضى: الواقع أني أشعر بغربة شديدة في بيت أختي، بالرغم من أن حالتي المالية لا بأس بها. - إني أدرك ذلك يا عزيزتي، لكن أتسمعين؟ هل حقا ستقع الحرب؟
ابتسمت ابتسامة دارت بها ضيقها بقطع تيار الحديث الأول، وقالت: لم تعد الأقوال تنطلي علي. - الحالة أحرج مما تظنين. - أهي تزعجك لهذا الحد؟ - إيطاليا رابضة في ليبيا.
رنت إليه بنظرة هادئة، فاستطرد: وهي رابضة أيضا في الحبشة، أتدركين معنى ذلك؟ - ولكن الإنجليز ... - الإنجليز، إما أنهم ضعفاء كما يؤكد موسوليني، وإما أنهم أقوياء كما يدعون. وفي الحالين سنتعرض لأهوال الغزو. - أنت منزعج كما لو أن الحرب ستعلن عليك أنت! بالله خبرني لماذا ترى أن يتم الأمر في أقرب وقت ممكن؟ - آه .. نعم يجب أن يتم الزواج في أقرب فرصة؛ لأنني عرضة للنقل إلى الخارج في أول حركة قادمة. - عندك فكرة عن المكان المحتمل أن تنقل إليه؟ - فرنسا، تصوري أن يمضي شهر العسل في باريس! - يا له من خيال! ولو أن ابني سيبقى في كفر الشيخ. - سوف ترينه يوما وهو رجل كامل، أما إذا قامت الحرب ... - لن يتم النقل، هذا كل ما هنالك. - لن يمكن التكهن بشيء. - سنبقى هنا غالبا وليس في هذا ما يضير. - آه، يا عزيزتي! هل تدركين معنى ضرب بلد كبلدنا بقنابل الطيارات؟ - لماذا يضربوننا؟ لسنا أعداء لأحد. - سوف يتداعى كل قائم للخراب. - لا أصدق هذا. - لماذا؟ - قلبي مطمئن في صدري. - ما أجمل أن يطمئن إنسان في هذه الظروف!
ضحكت في رقة بالغة، وسألته: هل عرفتني في رأس البر من النظرة الأولى؟ - طبعا. - إذن لم أتغير كثيرا؟ - أنت أجمل مما كنت إن يكن ذلك ممكنا. - لا تبالغ، ألم تترك سن المبالغات؟ - الحب لا يعترف بالزمن. - أنا لم أسافر إلى الخارج من قبل. - باريس عروس الدنيا، صدقيني. - فرنسيتي ليست على ما أود، ربما التحقت بمعهد مناسب. - أما إذا قامت الحرب ونحن في باريس؟ - الحرب أيضا! - لتقم الآن إذا كانت تنوي ذلك. - في باريس يمكن أن نرحل إلى بلد محايد كسويسرا. - كل شيء يتوقف على ما يصيب وطننا هنا. - أنا مطمئنة كما قلت لك، ولكن لماذا تقوم الحروب؟ - العداوات، الألمان يستعدون لهذا اليوم منذ أكثر من عشرين سنة. - عشرون سنة! إذن كيف يمكن أن تنسى عداوة؟
وهو يضحك: الناس لا ينسون العداوات، ولكن من حسن الحظ أنهم يتزوجون رغم ذلك!
غادرا الحديقة وهي تتأبط ذراعه، وشقا سبيلهما بين الموائد في محل بيجل الداخلي حتى انتهيا إلى شارع سليمان. ورغم الحرارة المرتفعة جرت نسمة الليل، وومضت في السماء مئات النجوم فوق هامات العمارات الشاهقة. واقتربا في طريقهما من قهوة ليموند. كان يقف عند مدخلها ماسح أحذية مائلا إلى الجدار في تراخ، يقبض بيد على صندوقه ويعبث بالأخرى بشارب ثائر غليظ كأن شعيراته قدت من أسلاك حديدية. ربعة مليء، يرتدي فوق جلبابه سترة محلاة ببطاقة خضراء تحمل اسم القهوة بأحرف بيضاء. وظهر عند رأس عطفة جانبية ملاصقة لجدار القهوة رجلان مجلببان. نادى أحدهما ماسح الأحذية قائلا: يا عم .. من فضلك.
استقام الرجل في وقفته، ثم اتجه نحو الرجلين اللذين وقفا داخل العطفة بعيدا عن أنوار الشارع. وبلغ ماسح الأحذية موقف الرجلين عندما كان حامد وسهام يسيران بحذائه. وبغتة رفع الرجل الذي ناداه يده بهراوة إلى أقصى الذراع، ثم هوى بها بكل قوة فوق رأسه. صرخ الرجل متراجعا إلى الشارع، وقد سقط الصندوق من يده. وتشبثت سهام بذراع حامد وهي ترتعد. وفي نفس الوقت رفع الرجل الآخر يده بهراوته، وهوى بها فوق رأس الرجل المترنح، فوقع على ركبتيه متأوها: آه .. انجدوني.
تتابعت الضربات من الرجلين بسرعة في قسوة وعنف وإصرار، حتى تهشم الرأس وغرق في بحيرة من دماء. وحملقت سهام في المنظر الدموي بلا إرادة ثم شهقت وتداعت مغمى عليها؛ فتلقاها حامد بين ذراعيه. وارتفع الصياح، وهرع الناس إلى المكان من جميع الجهات، وهب الجالسون على الطوار من رواد القهوة وقوفا يتطلعون، ثم قدم شرطي جريا وهو يصفر.
لم يجر القاتلان، لم يحاولا الهرب قط، وظل كلاهما قابضا على هراوته الملطخة بالدماء، وعيناهما تعكسان نظرات وحشية متحجرة. وقال أكبرهما: نحن تحت أمر الشاويش، ولكن حذار أن يقترب منكم أحد.
حمل حامد سهام بين ذراعيه ومضى بها إلى مشرب عصير قريب من القهوة. أجلسها على مقعد في أقصى المحل، وراح يربت على خديها برفق، وسأله صاحب المحل: أطلب الإسعاف؟
فأجاب وهو يبلل منديله بالماء: انتظر لحظة من فضلك، ربما أفاقت دون حاجة إلى مساعدة.
وجعل يمسح بالمنديل المبلل وجهها وعنقها حتى عجن البودرة بالأحمر بالكحل، هذا والضجة في الخارج تتزايد، وسباب يتبادل بلا حساب. وفتحت سهام عينيها، رنت بهما إلى وجهه في ذهول. وقلبتهما في الوجوه بدهشة، ثم غمغمت: أنا تعبانة.
فقال لها وهو يواصل مسح وجهها ليزيل عنه الأصباغ تماما: سآتيك بكوب عصير.
شربت قليلا فيما يشبه التقزز، وغمغمت مرة أخرى: منظر فظيع لا يمكن أن ينسى. - سينسى كل شيء حتما. - ووقع الضربات على الرأس .. آه. - شدي حيلك، يجب أن نذهب.
وإذا بصرخة تفلت منها، وهي تشير إلى قميصه بعصبية منذعرة. نظر في مرآة فرأى رشاشا من الدم قد لوث أعلى قميصه فتقلص وجهه، ورأى مثله فوق صفحة حقيبتها البيضاء وثنية شالها. بل منديله للمرة الرابعة وراح يزيل آثار الدم عن القميص والحقيبة والشال، فهتفت: هل لوثني أيضا؟ - لم يعد هناك شيء، انظري بنفسك.
عاودتها الرعدة، فقال بجزع: لا شيء خطير ألبتة، لسنا أطفالا على أي حال. - لا تترك نقطة واحدة. - طبعا .. طبعا. استريحي واهدئي.
أغمضت عينيها في إعياء واستسلام، ورجع أناس من مكان الحادث إلى مقاعدهم، وهم يتبادلون التعليقات، فسأل صاحب المحل الذي لم يستطع مغادرته: كيف حال جاد الله؟ - مات وشبع موتا. - مسكين، لكنه رجل طيب ولا أعداء له؟ - القاتلان ليسا من البلد، صعيديان من أبنوب. - ما له وأبنوب؟ .. عرفته هنا منذ عشرين عاما. - ثأر قديم، هذا مؤكد.
وقال رجل بلهجة تلخيصية: لعله جاء من بلده هاربا، ثم عثروا عليه فانتهى عمره الليلة، حكاية لم تعد تدهش أحدا.
الهارب من الإعدام
غزا الجيش الألماني الأراضي البولندية ...
انطلق الخبر من راديو مثبت في كوة بجدار الحجرة الوحيدة القائمة في الخرابة، وترامى خارج الأسوار في أرض الخفير الواسعة، وصاح دحروج بحدة: هس .. اسمع أنت وهي.
سكت عن الزياط الولد وأخواته الثلاث. ولما رأوا الجد في وجه أبيهم تسللوا بين أكوام الخردة وإطارات السيارات وقطع الغيار إلى الطرف القصي من الخرابة، وهناك واصلوا لعبهم في أمان. وتوقفت آمنة عن نشر الغسيل رافعة رأسها فوق الحبل ما بين قضيب بنافذة الحجرة وسقف لوري قديم، وصاحت بزوجها محتجة: أفزعت العيال، ملعون الراديو وأخباره!
تجاهلها دحروج في غير ما غضب، وأخذ النفس الأخير من عقب سيجارة ممسك بأنمليه، ثم قال: إذن هي الحرب!
أدرك سلامة أن الكلام موجه إليه، فرفع رأسه عن عجلة كان يعالج إطارها، وحدج الرجل بعينين تلتمعان وسط لحية سوداء غزيرة تكتنف الوجه وتسترسل حتى الرقبة، ثم قال باستهانة: نعم، أخيرا صدقوا.
وانتهز سلامة فرصة تحول رأس دحروج نحو الصوت، فاسترق إلى المرأة نظرة استقرت فوق وجهها المشرئب ثم انحدرت إلى جسمها الممشوق الريان الصدر. ولمحته المرأة قبل أن يستردها كأنما توقعتها وسرعان ما ولته ظهرها. انحنى الرجل فوق العجلة وهو يقول لنفسه: ما أفظع الحرب في حرارة أغسطس! ما أفظع الحرارة! والتفت دحروج نحوه وهو يقول: طالما تنبئوا بأنها ستخرب العالم، ماذا عنا نحن؟
أجاب السني باسما : نحن بعيدون، فليأكل بعضهم بعضا.
وضع رجلا على رجل، وهو يجلس على صفيحة مقلوبة، ونظر إلى بعيد نظرة حالمة، ثم قال: سمعنا الأعاجيب عن الحرب الماضية.
فقالت آمنة ضاحكة: أصلك عجوز!
فضحك دحروج عن أسنان سود قائلا بسخرية: أنت لا تهتمين إلا ببطنك.
وقال سلامة، وكان رغم تجاوزه الشباب يصغر صاحبه بعشر سنوات على الأقل: حقا سمعنا الأعاجيب. - الأسيوطي من هو؟ كان قبل الحرب شيالا.
ورجع العيال ناسين الوعيد فرجعت الضوضاء، وجرى محمود ابن السابعة - وهو البكري - وهن في ذيله فرمقه أبوه بإعجاب وصاح به: ولد يا محمود شد حيلك، الحرب قامت.
وعند الأصيل جلس دحروج وسلامة على خيشة متجاورين خارج سور الخرابة. ترامت أمامهما الصحراء حتى سفح الجبل، منطفئة الرمال تحت الظل، وانداحت في السماء الصافية صفرة باهتة هي بقية أنفاس القيظ المختنقة. وثمة شعاع وان من الشمس المائلة يتسلق هامة الجبل في عجلة، على أن الصحراء تزفر هواء منعشا باقتراب المساء. وراح دحروج يعد القروش والسني مسند الرأس إلى جدار السور سارح البصر في الأفق. وجاءت آمنة بالشاي، وجرى العيال إلى الخلاء حفاة نصف عرايا. ورشف دحروج قليلا من الشاي الساخن وهو يقول: قلبي يحدثني يا سلامة بأن الشغل سيضحك عاليا. - ليصدق قلبك يا أبا محمود. - ليتني أستطيع أن أعتمد عليك. - صديقك .. وأسير شهامتك .. ولكن لا يمكن أن أبرح الخرابة.
تفكر دحروج قليلا، ثم تساءل: هل يعرفك أحد في المدينة الكبيرة خلف هذه اللحية؟ - إنهم يعرفون الجن. - وهل ينقضي عمرك في الخرابة؟ - هي خير من حبل المشنقة يا أبا محمود.
أطلق دحروج ضحكة عالية، ثم قال: يحق لي أن أضحك كلما تذكرت حكاية هربك من بين حارسين. - خير الهرب ما وقع حيث لا ينتظر.
فقالت آمنة وهي واقفة مستقبلة الخلاء، وقد انحسر شالها عن نصف رأسها الفاحم: وانعدم الرجل بلا دية!
فقال سلامة بنبرة غاضبة: كان قاتلا ابن قاتل، وقد تقدم به العمر حتى خفت أن يسبقني الموت إليه، ولم يكن يكف الأهل عن مطالبتي بالثأر.
فقهقه دحروج عاليا، ثم قال: وهربت والأوراق محمولة إلى المفتي.
شد سلامة على ذراعه بامتنان قائلا: ووجدت نفسي ضائعا، فقلت ليس لي إلا دحروج صديق صباي فأويتني يا شهم الرجال. - نحن رجال يا سلامة. - على أي حال فالمخزن هنا في حاجة إلى رجل، وإني رجله.
وقطع حديثهم ظهور جنازة في الأفق قادمة من ناحية العمران. مضت تتقدم نحو الطريق المحاذي لسور الخرابة الغربي المفضي في نهايته إلى قرافة الخفير. ووضح النعش مسجى بغطاء من الحرير الأبيض، فتمتمت آمنة: شابة صغيرة يا حسرة عليها.
فقال سلامة: المكان هنا جميل وآمن، فلا عيب فيه إلا أنه في طريق القرافة.
فتساءل دحروج وهو يضحك: أليس طريقنا جميعا؟
لم يطرأ على الخلاء تغير يذكر مذ أعلنت الحرب. ظل ملعبا للشمس من الشروق إلى الغروب، ومعبرا للنعوش، ومعسكرا للصمت. وأطلقت زمارات إنذار في تجارب غارات وهمية. وارتفعت أهمية الراديو القديم الباهت إلى القمة، حتى بات في وسع دحروج أن يحصي القنابل المتبادلة بين سيجفريد وماجينو. وكلما استقبلت حواس سلامة صوتا منغوما أو حركة لاعبة أو نظرة ولو غير مقصودة احترق باطنه بنار شرهة، وغضب في ذات الوقت على نفسه بلا رحمة. وقال دحروج في ضجر: الحال لم تتغير، فأين ما سمعنا عن الحرب؟ - صبرك، ألا تذكر ما قال عميلك اليهودي؟
نظر دحروج نحو أكوام الحديد التي ملأ بها المكان عملا بنصيحة عميله، ثم قال: فلتسرع الأيام. - فلتسرع، ولتلتهم خمسة عشر عاما من الزمن. - خمسة عشر عاما؟ - في آخرها تسقط عني العقوبة. - يا له من عمر! سوف نكون على حافة حرب ثالثة.
وراح يغني بصوت محشرج غريب «يا بهية خبريني»، ثم هتف: معلم دحروج .. لن يبقى من أهلي أحد إلا النساء.
وقال: إن آمنة تلعب بعقله وهي لا تدري، أو وهي تدري، وأنه سيدخل الجحيم قبل أن يدركه الموت. ولم تكن الحرب تهمه في شيء، ولكنه سمع بين فواصل من الأغاني أنباء اجتياح هولندا وبلجيكا وسقوط باريس. وتتابعت أمام العين طوابير اللاجئين، وامتلأ الفراغ بالتنهدات والدموع، ثم إذا بإيطاليا تعلن الحرب. وقال دحروج بقلق: ها هي تدق الأبواب.
فقال سلامة بعدم اكتراث: لا علينا ولا لنا.
وتمتمت آمنة وهي تتابع لعب العيال العرايا حول برميل مليء بالماء: ربنا كبير.
ولأول مرة انطلقت زمارة إنذار بغارة حقيقية. استيقظ دحروج وأسرته، كما استيقظ سلامة في مرقده باللوري. وأعلنت آمنة عن خوفها على العيال، وقالت: إن المخبأ بعيد، فقال دحروج: ابقي في الحجرة؛ فلن يضربوا الخلاء أو القرافة.
ورفع سلامة رأسه نحو البدر الذي يحدق فيهم بهدوئه الأبدي، ثم قال: لا أرى إلا أنوارا مجنونة.
ومن نافذة اللوري مد بصره إلى الحجرة المغلقة. قائمة لصق السور على يسار المدخل بسقف مائل نحو الباب وجدار لا لون له، مطلية بضوء القمر، طاوية جوانحها على قلوب مفعمة بالقلق، ككوخ مهجور، فتخيل أنه جن الليل والخلاء. والغارة تنقض فتهدم كل قائم في المدينة، وتطيح بالقانون والمفتي والقاضي والسجان وحبل المشنقة. ويتفجر باطن الأرض، وتجتاح كل شيء حتى الشهامة تختنق أنفاسها. وينهض من بين الأنقاض رجل عار وامرأة ممزقة الثياب وقد قتل الرقباء.
وتلاحقت الغارات ليلة بعد أخرى. غارات صامتة كالخلاء أو تتخللها مدافع مضادة. واعتاد دحروج في أثناء الغارة أن يذهب إلى سلامة في اللوري؛ ليشاهد السماء ويتحادثا: ليست الغارات كما سمعنا. - الطليان ليسوا كالألمان.
وضحك دحروج، وقبض على لحية سلامة قائلا: أنت مغالط عزرائيل في عمرك. - نعم، كان ينبغي أن أكون في القبر منذ عام ونصف عام على الأقل. - ولذلك فأنت لا تخاف الموت؟ - بل أخافه منذ أن شممت رائحته، وهم يحملونه إلى المفتي. - تصور كيف كان يكون شكلك الآن؟ - أحمد الله الذي أمهلني، حتى أرى الأنوار الكاشفة والمدافع المضادة.
ودب نشاط جديد في الخرابة، ثم تضخم بحال لم يحلم بها دحروج من قبل. ومضى يغيب عن المكان ساعات كل يوم، ثم استغرقت الأعمال الخارجية نهاره كله. وعمل سلامة في الخرابة بكل همة كحارس وكخزان. وفي أوقات الفراغ يجلس على إطار من المطاط مسند الظهر إلى رفرف اللوري الخلفي، يدخن سيجارة أو يمشط لحيته، وعيناه الحادتان تذعنان في مطاوعة متزايدة لرغباته الجامحة. وقال: إنها تتجاهل عينيه، ولكنها شديدة الإحساس بهما طوال الوقت، وإن نظرته الثاقبة تسيطر على حركاتها وسكناتها كأنما تلعب بهما بخيط خفي. ونظر إلى السماء يتابع حدأة تجول جولة الوداع عند الأصيل، ثم نظر أمامه فرآها واقفة على مبعدة أمتار منه تجاه الصنبور الذي تدفق منه الماء إلى صفيحة، وقال: كان يوما شديد الحرارة.
هزت رأسها بالإيجاب، ونظرت إلى عينيه المحدقتين، ثم غضت بصرها وهي تداري ابتسامة. اكتسحت الابتسامة وازع الشهامة في صدره فاجتاحه إعصار. وتنهد بصوت مسموع، فزجرت المرأة محمود الذي جذب أخته من ضفيرتها عند الباب. وسألته: أعد لك الشاي؟
فقال بنبرة تمردت على سيطرته: من المنتظر أن يسافر قريبا إلى الشرقية.
ورجع دحروج مع المساء. بدا متعبا معفرا، ولكن النجاح تألق في عينيه. وضحك عاليا، وهو يقول لسلامة: يا ولد العم، ليست الحرب كما يقولون، الحرب نعمة كبرى.
وأعطى آمنة لفافة لحم كبيرة قائلا: أسرعي، لم أذق اليوم لقمة واحدة.
ومن داخل الحجرة وهو يغير ملابسه ارتفع صوته: سأسافر غدا إلى الشرقية.
غاب يومين وعند أصيل اليوم الثالث انتظره سلامة فوق الخيشة خارج السور. جلس هادئا ثقيل الجفنين، يتخلل لحيته بأصابعه، يحصي الحدأ المتخلفة ويبادل الخلاء فتورا واستسلاما. وترامى إليه من الداخل صوت آمنة، وهي تنهر العيال بصوت هزه المرح فرنا إلى ذيل الشمس الآخذة في الانحسار عن قمة الجبل، وقال: إن الليل لن يلبث أن يجثم. ولفته صوت من الغرب فرأى تاكسي قادما حتى وقف عند نهاية السور، ثم غادره دحروج. اقترب الرجل وهو يضرب الأرض بقدم ثقيلة ثابتة ورأسه مرفوع. استقبله واقفا فتصافحا، ثم لكمه الرجل في صدره، وهو يضحك قائلا: سلامة يا بن زينب، الإنجليز رجال.
رمقه مستطلعا، فاستطرد الآخر في مباهاة: وأصلهم من الصعيد!
فدعا له بالمزيد من التوفيق. ودخل الرجل الخرابة صائحا بفرح كالأطفال: ولد يا محمود.
وراح يغني «سلم علي» وهو يفرقع بأصابعه راقصا.
وعوت الزمارة قبيل الفجر، فمضى دحروج وسلامة إلى الخلاء خارج السور كما تعودا أن يفعلا أخيرا.
وقال دحروج: لم تعد الزمارة تخيف أحدا.
انسابت الصحراء تحت ضوء القمر مرتعا للأحلام. وضحك دحروج طويلا حتى سأله سلامة عما يضحكه، فأجاب وهو يومئ بكوعه إلى الحجرة: شهدت هذه الليلة عمك دحروج كما كانت تشهده ليالي الشباب!
وحل صمت قصير مسقوفا بأنوار الكشافات، ثم عاد دحروج يقول بلهجة جادة وأخوية معا: سلامة، ليس اليوم كالأمس، سيجيء كثيرون من العملاء الجدد، أخشى عليك.
سأله سلامة واجما: هل ينبغي أن أذهب؟ - نعم، سأهربك إلى فلسطين، وستعمل هناك لحسابي، ما رأيك؟ - الرأي رأيك.
قال بثقة: كل شيء مرسوم يا ابن زينب.
وفجأة، ارتجت الأرض بزلزال، ودوى انفجار شل خفقان القلب. شد دحروج على ساعد سلامة بعصبية: ما هذا؟
أجاب سلامة ووجهه يشحب في ضوء القمر: قنبلة! .. أسرع إلى الحجرة.
وارتفعت صرخة آمنة، فصاح بها دحروج: مكانك .. مكانك يا آمنة.
وإذا بالضرب يتتابع بلا توقف. جرى الرجلان نحو الخرابة. وفي اللحظة التالية ندت صرخة عن دحروج، ثم سقط على وجهه. هتف سلامة: معلم!
وانحنى فوقه ليساعده على القيام، ولكنه لم يستطع شيئا. وانطرح فوقه بلا إرادة. وانغرزت جبهته في الرمال، وهبطت الأرض. وارتفع جناح الصحراء صوب السماء. وشيء كثيف حجب وجه القمر. - ماذا بك يا دحروج؟
ونادى صوت، ثم ابتلع الظلام كل صوت وكل لون.
وأراد سلامة أن يقول لصاحبه: سامحني لقد غلبني النوم.
ولكنه لم ينبس بكلمة واحدة.
سائق القطار
كل شيء يجري إلى الوراء. الصفصاف وأعمدة البرق تجري بسرعة فائقة، أما الأسلاك فتسبح بلا توقف هابطة صاعدة. وعلى مدى البصر تغمر الشمس غير المرئية الحقول والجداول وقطعان البقر والجاموس وأبناء الأرض. ود أن يستسلم لتيار المناظر، ولكن حناجر الجيران المزعجة أبت عليه ذلك. ما بالهم محتدين! لماذا يغطي صخبهم على صوت الديزل! وحول عينيه إلى الداخل فرأى إلى يمينه رجلا بدينا ذكرته هيئته بدب، وعلى المقعد المزدوج أمامه جلس رجل له وجه صقر وامرأة حسناء تابعت حديثهما الصاخب بضيق وحرج واضحين. وقال الصقر مخاطبا الدب بحدة وانفعال: لا تحاول عبثا!
واشتد بريق عينيه الجاحظتين، وتجمع في ركني فيه زبد أبيض، وسرت تقلصات عصبية في شاربه المقوس كهلال مقلوب، وبدت الحسناء وادعة كحمامة، ولكنها في خلال المناقشة الحامية هجرت فوق الرف، ثم تطوعت لتلطيف الجو، فخاطبت الصقر قائلة بصوت ناعم: أعطه فرصة .. اسمع رأيه.
فصاح بها: لا تتدخلي .. أنا هو أنا.
تراجعت بجمالها ونعومتها ويأسها. وفي أثناء ذلك التقت عيناها بعيني الغريب الجالس إلى جوار النافذة، وكأنما آلمها أن تعامل أمامه كطفلة. وبقدر ما أسف الغريب لحالها بقدر ما بهره جمال عينيها وهما ينفذان في عينيه. وقال الدب في هدوء نسبي، ولكن بصوت ذي رنين منفر: على أي حال فالناس للناس. - هراء! أنا أتعامل مع جميع أنواع الحيوان، أما ذلك الإنسان ...
ولوى بوزه بازدراء لا حد له فسأله الآخر: هل علمت بما جرى له في الفترة الأخيرة؟ - أنا أعرف أقصر طريق بين نقطتين. - سنجد في النهاية أن يدك اليمنى تضرب اليسرى.
فلوح بيده غاضبا وهو يقول: إننا لا نتردد عن بتر اليد أو الساق عند الضرورة!
آه .. لا سبيل إلى الاستمتاع بالمناظر الخلابة في الخارج. ومهما تتجاهل المعركة السخيفة التي انحصرت في مجالها فسوف تلاحقك كضربات المطرقة. لن تنسى الزبد المقرف وحتى رنوة العين الصافية لن تدعك في سلام! وللحال تأكد أن احتدام المعركة لن ينقطع كدوي عجلات الديزل المتواصل في روتين مسقم، وليس ثمة مقعد خال في العربة يمكن الهروب إليه.
وطرح رأسه على مسند المقعد وأغمض عينيه. وكأن الله استجاب لدعاء خفي، فأخذت المناقشة تستهلك نفسها بنفسها، فخفتت الأصوات ثم حل صمت عجيب مريح، وقد خلا كل إلى تياره. بديع كحلم. واللعنة على الرجل العنيد وعلى كل خصام. وفتح عينيه ربع فتحة مسترقا نظرة من الوجه الرائق، فرآه منبسطا قد زايله الحرج والخجل وشعور المذلة. وعلى حين راح الدب يشخر انهمك الصقر في مطالعة جريدة، وتجلت في عيني الحسناء نظرة هادئة كأول إشراقة للصباح، متمادية في الحلم لا تنظر إلى شيء بالذات . وفتح عينيه نصف فتحة فالتفتت عيناها إليه مستجيبة فيما بدا لإحساس خفي. وقال لها - في باطنه - كم أحب منظرك، فحولت عنه عينيها في شبه رضى حتى عجب لقوته السحرية. وانتبه إلى ما حوله أقصى انتباه، ولما اطمأن إلى غفلة الصقر ونوم الدب ملأ عينيه منها بنهم، فرأى فيما رأى خاتم الزواج في يسراها المستكنة على يمناها فوق بطنها. وما لبث الصقر أن نحى الجريدة جانبا، ومال برأسه إلى الوراء، ثم استغرق في النوم. وتولاه شعور بالأمان عجيب كأن الدنيا قد خلت بعد نوم الرجلين خلوا تاما. وانبعثت من أعماقه جسارة واستهانة، فواصل حديثه الباطني بعينيه إلى أبعد مدى. وقامت المرأة وهي تبتسم ابتسامة لا ترى عادة إلا بالقلب، ومضت نحو مدخل العربة. وباندفاع لا روية فيه قام ثم تبعها على الأثر. ولم يكن بالمدخل أحد سواها، ولم تدخل دورة المياه كما توقع، ولكنها وقفت وراء الباب المحكم الإغلاق رانية إلى الحقول، ولما سمعت وقع قدميه التفتت نحوه عفوا، فانتهز الفرصة وحياها بهزة قصيرة من رأسه. أعادت رأسها إلى موضعه الأول دون رد ودون اعتراض كذلك، فقال متشجعا: لاحظت بأسف شديد التنافر الواضح بين طبعك الهادئ والجلسة المزعجة.
وافقت على رأيه بمزيد من الصمت الراضي، فضحك ضحكة قصيرة خافتة وهو يهمس: الوقوف هنا أجمل.
عند ذاك تمتمت: أظننا أزعجناك أكثر مما يحتمل.
ولشعوره بقصر الفرصة المتاحة سألها: حضرتك من القاهرة؟
هزت رأسها بالنفي. وبعد وقفة قصيرة قالت: من طنطا، وحضرتك؟
هزه السؤال الإيجابي حتى الأعماق، فقال دون تردد: أنا من القاهرة، أيمكن أن أعرف عنوانك؟ - لا فائدة، نحن نقيم في العزبة. - ربما سافرت إلى القاهرة، فخذي رقم التليفون. - لا فائدة.
وبعد أن ألقى نظرة على الباب المغلق، قال بحرارة: إن ما بي هو الجنون بعينه، لا يمكن أن نسلم بالفراق دون مقاومة، أنت تفهمين ذلك؟ - نعم.
ارتفعت حرارة حماسه إلى القمة، وهو يقول: يخيل إلي أنك غير سعيدة. - نعم، جميع ما حولي مرعب مقزز، أود أن أطير بعيدا. - إذن طيري.
حدجته بنظرة متسائلة تروم أملا، فقال: نغادر الديزل في دمنهور. - أهرب! - نعم، لا وقت للتردد. - وبعد ذلك؟ - دعي الباقي لي. - ربما استيقظ قبل ذلك، هو أو الآخر. - سوف يظنك بدورة المياه. - ولكن ... - لا لكن، سنحاول، هي فرصتنا على أي حال. - لكن لا أحد منا يعرف الآخر. - ما عرفناه حتى الآن أهم بكثير مما لم نعرفه بعد.
وفتح الباب قيراطا لينظر إلى داخل العربة، ولما وجد كل شيء هادئا أغلقه، ثم نظر في الساعة، وقال: لدينا دقائق قبل دمنهور، سآتي بحقيبتي الصغيرة.
ورجع بعينين ملتمعتين ووجه شديد الإصرار، فقال بقلق: القطار لم يهدئ من سرعته.
فنظر في الساعة مرة أخرى وقال: لعلي أخطأت في التقدير.
العكس حصل؛ إذ زادت سرعة الديزل زيادة محسوسة غير متوقعة، وما لبثت المرأة أن هتفت: انظر!
مشيرة إلى محطة دمنهور وهي تجري بسرعة فائقة إلى الوراء ككل شيء في الخارج: كيف لم يقف في محطة دمنهور؟
وإذا بباب العربة يفتح، ورجل يندفع منه نحو باب العربة التالية، وهو يصيح بأعلى صوته: السائق جن! .. وسيهلكنا جميعا.
استدارت المرأة في ذهول، وتبادلت مع الرجل نظرة حائرة، وترك الرجل حقيبته ثم فتح باب العربة ناظرا إلى الداخل، فرأى جميع الركاب واقفين في حال من الاضطراب والذعر لا توصف. وقد فتحت النوافذ جميعا، واختلطت الأصوات وارتفعت في هلوسة، ورأى الصقر وهو يصرخ غاضبا، وفي ذات الوقت ينظر حواليه باحثا - فيما أعتقد - عن المرأة، فأراد أن يحذرها، ولكنه سرعان ما نسي ذلك، واندفع نحو الداخل سائلا عما هنالك فلم يسمع صوته، فشق سبيله بعسر شديد نحو العربة التالية صائحا: أين المفتش؟ .. أين رجال القطار؟!
ومد يده ليفتح الباب فانفتح قبل أن يلمسه، وهرول إلى الداخل رجل صائحا: السائق اعتدى على مساعده، وقذف به خارج حجرته!
فسأله بأعلى صوته: قبضوا عليه؟ - أغلق بابه دونهم، ودفع القاطرة إلى آخر سرعة.
وارتطم الصياح بالصوات. ورغم الضجة المدوية سمع صوتا يقول: ستنفجر القاطرة أو يقع اصطدام قاتل. - والعمل؟ - سيهلك الجميع.
اندفع من الباب مخترقا البوفيه إلى المدخل المتصل بحجرة السائق المغلقة، فرأى المفتش ورجال القطار ونفرا من الركاب، وسمع أحدهم يسأل: ما العمل؟
فأجاب المفتش: نحن نفكر في كل شيء. - وهل ثمة أمل؟
تجاهل المفتش السؤال، ثم رفع يده داعيا الجميع إلى السكوت فأطبق الصمت، ثم راح يطرق الباب المغلق بيده هاتفا: عبد الغفار أصغ إلي.
فجاء من الداخل صوت كالرعد: لا تحاول عبثا.
فصاح المفتش: يجب أن تسمع لنا .. لا شأن للناس بمشاكلك الخاصة. - أنا هو أنا. - عبد الغفار .. ما ذنب الناس؟ معك رجال ونساء وأطفال .. كلهم أبرياء. - هراء! - ارجع إلى عقلك قبل فوات الفرصة. - هراء! - تذكر ربك، ألا تخشى لقاءه؟ - هراء!
ارتفعت درجات الذعر إلى غير حد، وتفشى الاضطراب في كل موضع. وبذلت محاولات يائسة لدفع الباب أو تحطيمه، ولكنها سرعان ما توقفت عندما هدد السائق بتفجير القاطرة. وأغمي على كثرة من النساء وبعض الرجال. وفقد شاب أعصابه فرمى بنفسه من إحدى النوافذ مودعا الحياة بعواء ظل صداه يتردد طويلا. ونشبت معارك غريبة لم يعن أحد بفضها أو معرفة بواعثها.
واقترب الرجل من كبير المفتشين، وزعق به: أليس هنالك من حيلة؟
فأجاب الرجل بصوت لا يقل عنه درجة واحدة: جربنا كل حيلة. - أيعني هذا أن نفنى جميعا لا لسبب إلا ...
وشعر بذراعين تطوقانه من خلف قبل أن يتم جملته، فالتفت في ذعر واضح، فرأى المرأة تطالعه بوجه مخطوف وبصر زائغ؛ فصاح بها بغيظ لم يحاول إخفاءه: تشددي .. لا وقت لهذا.
فقالت بصوت مخنوق: أين أنت؟ جن زوجي فخنق أخي، ثم راح يضرب رأسه في الجدار.
قال بضيق، وكأنه لم يسمع شيئا: نحن نجري بسرعة جنونية نحو الفناء.
ارتمت بين يديه مغمى عليها فقطب في حنق، ثم مضى يجررها إلى ركن المكان، فأنامها على الأرض بسرعة آلية باردة. ولما عاد إلى المفتش وجده يصرخ ويشد شاربه ويبكي. ودق الرجل الباب بقبضتين مجنونتين هاتفا: يا عبد الغفار .. يا عبد الغفار.
فجاءته الإجابة كطوبة: أنا لا أعرفك. - ولكنك ستقتلني. - هذا شأني، ولا علاقة له بك. - أنا لم أسئ إليك، لا أنا ولا الآخرون. - لكنكم ركبتم قطاري. - قل قولا معقولا. - أنتم المجانين. - أليس لك أبناء؟ - كلا. - ألا تحب الحياة؟ - كلا. - أليس في قلبك رحمة؟ - كلا. - خبرني ما ذنبنا؟ - أنتم تحبون الديزل؟ - اطلب ما تشاء. - ها أنا آخذ ما أريد بغير طلب.
وبصق المفتش على الباب صارخا: يا عبد الغفار، يا مجرم، يا وضيع، يا غادر، يا وحش.
وقرر الرجل أن يمضي إلى نافذة؛ ليرمي بنفسه منها وليكن ما يكون. وهو يتحول عن موقفه وقعت عيناه على المرأة المستلقية في غيبوبة، فقال ما أسعدها في غيبوبتها. ووجد الركاب متكتلين يسدون المنافذ. توحدوا في ذهول ورعب وارتجاف. عبثا حاول أن ينفذ من بينهم. ولما يئس رمى بنفسه عليهم، وسرعان ما تلقته الأيدي بالضرب، فانهال عليهم بدوره ضربا حتى لفهم الجنون جميعا. وإذا بالواقعة تقع، وقعت الصدمة المتوقعة كأنها ارتطام كوني. اندفع الناس بقوة جهنمية فحطمت الرءوس، وطحنت الجدران الأجساد. صرخ الرجل بأعلى حنجرته، ورأى النجوم تتهاوى من حوله وصرخته تدور في فراغ أحمر.
فتح عينيه ودوي صرخته يجعجع في أذنه.
آه .. إنه لا يصدق. اعتدل في جلسته وهو يظن صرخته قد مزقت الآذان. ولبث هنيهة لا يجرؤ على النظر إلى أحد. ثم أخذ يسترق النظر في حذر شديد، فلم ير أحدا شاعرا له بوجود. تنهد من الأعماق. وما لبث أن تنبه إلى استمرار النقاش الحاد بين الصقر والدب.
ورأى المرأة نصف مغمضة العينين غارقة في الضجر. اللعنة .. اللعنة. وكان الصقر يتحدى صاحبه قائلا: دعك من ضرب الأمثال العقيمة، لا تضيع وقتي سدى، أنت تعلم أن أنا هو أنا.
لونا بارك
تحرك ببطء في طابور طويل طاويا تذكرة الدخول في يده. تذكرة أهداها إليه أبوه، وكانت في الأصل ضمن الهدايا التي توزع باسم مدير لونا بارك. تحرك في عالم غريب مكتظ بالبشر، فتلقت حواسه في وقت واحد فيضا لا نهاية له من الأصوات والأضواء والروائح العطرية والعرق وضغط الأجساد. ومضى يتزحزح خطوة فخطوة في المدخل الممتد على هيئة بوق؛ حتى خرج من فوهته وقد زهقت منه الأنفاس. وجد نفسه في ساحة يطوف بها نسيم رقيق وتطوق بجناحيها أشجار متوسطة مغروسة في أصص كبيرة، فاتجه نحو طريق ضيقة تقوم على جانبيها دكاكين الأطعمة، فأفضت به إلى الملعب الكبير. في الفرج الذي جاء بعد الضيق شعر بأنه ولد من جديد، وهكذا بدأ رحلته. وصمم على تجربة كل لعبة؛ فإنه لم يتكبد مشقة المجيء ليبقى متفرجا. وصادفه مربع الأراجيح، وكان أكثر رواده من الأطفال، ولكنه لم يخل من مغامر شاب، وإذا به يتخذ موقفه في القارب الحديدي قابضا بيديه على العمودين، ويدفعه بحركة ذاتية فيصعد به، ويهبط محييا ذكريات جميلة. وغادرها وهو راض عن نفسه تماما، فابتاع بسكويتة دندرمة ومضى في رحلته.
وللحال جذب انتباهه فرقعة وهتاف، وصوت الداعي «جرب قوة عضلاتك»، ورأى مدفع القوة يندفع فوق القضيبين الصاعدين نحو الهدف، وقد ازدحم وراء الحاجز المتفرجون والمنتظرون لدورهم.
توثبت عضلاته للنضال. وسرعان ما اتخذ مكانه بين المنتظرين، وهو يبتسم في ثقة. ولما جاء دوره تقدم من قاعدة المدفع وتناول مقبضه الصلب، وراح يدفعه دفعات قصيرة ليختبر ثقله وسرعته، فينطلق إلى مدى قريب صاعدا ثم يتقهقر هابطا، فيتلقاه من مقبضه مرة أخرى، ثم شد على عضلاته ودفعه بأقصى قوته فاندفع طاويا القضيبين بسرعة، حتى ارتطم بالهدف الفولاذي، وفرقعت الكبسولة في مقدمته. تحول عن موقفه والهتاف يدوي، ولكنه ذاب في زحمة أكبر كما ذاب الهتاف في ضوضاء حلقت فوق المكان كله. وشق سبيلا مبهور العينين بأضواء المصابيح الملونة المتدلية من غصون الشجر، حتى استقر أمام كشك لبيع البيرة المثلجة. ومال برأسه إلى الوراء وهو يرفع القدح، فرأى القمر في الأفق منخفضا عن البالونات المنطلقة من صاري الملعب، ولا تميز لنوره في وهج الأضواء الساطعة، ولا عبرة لجلاله في الضوضاء المكتسحة الصاخبة. شرب حتى ارتوى. واستمع قليلا إلى أغنية تنهال من مكبر صوت، وهو ينظر من بعيد إلى مضمار السيارات المكهربة.
ومضى إلى المضمار بنشاط متجدد. استقل سيارة فبدأ الرحلة المكهربة. اندفعت السيارة بقوتها الذاتية، ولم يكن عليه إلا أن يوجهها بعجلة القيادة، متفاديا إذا شاء السيارات التي تجول حوله كالكواكب. ووقعت ارتطامات عن قصد أو عن عجز، فاستمتع بالهجوم وبالهروب على السواء، حتى رأى سيارة تحمل فتاة قد تكالبت عليها السيارات ناطحة، والفتاة لا تني تضحك. عند ذاك دب فيه حماس جديد فاستجد لجولته معنى، وطارد سيارة الفتاة والشرر يتطاير من عجلات سيارته. وبدا عسيرا أن يستخلصها لنفسه من المتنافسين، ولكنه احتك بها مرة، والتحم بها أخرى في عناد فدارا معا حول أنفسهما حتى ألقت به سيارة متحدية بعيدا. وكان عليه أن يدور دورة كبيرة قبل أن يتمكن من استرداد ما فقده غير أن الجرس رن معلنا انتهاء الدورة. ورأى الفتاة تغادر سيارتها فغادر سيارته. تبعها محاذرا حتى يبعد عن مجال الأعين التي توقع تجسسها عليه، ثم أخذ يقترب منها. سمعت وقع أقدامه، فنظرت وراءها لحظة فداخلته طمأنينة إلى النجاح. وأبطأت عند سياج مطرز بالياسمين والبنفسج يحيط بمطعم كباب مترام في الهواء الطلق ففغمتهما رائحة الشواء الدسمة ممتزجة بعبير الأزهار. همس: أنت سائقة ماهرة!
فابتسمت، فقال لنفسه إنها جاءت لذلك. وقدم لها ذراعه فترددت قليلا ثم تأبطتها. ودعاها إلى قدحين من البيرة. اسمي حسن، واسمي سعاد. ودمعت الأعين والشراب البارد ينساب إلى الأعماق. وسكب مكبر الصوت ألف ليلة، أما القمر فقد ارتفع فوق الصاري نائيا بنفسه عن برج الأضواء وصخب الهاتفين. - ليلة بديعة ولكن أجمل ما فيها هو أنت. - أنت ظريف جدا. - هل يعجبك القطار؟ - ولو أنه مرعب أحيانا.
جلسا جنبا إلى جنب في المقعد الأخير من العربة الأخيرة، ولحظ ابتسامتها وهو يختار المكان المنعزل فتوترت أعصابه، وتناول يدها في يده والقطار يتحرك. سار القطار على مهل حتى اعترضته هضبة فاندفع صاعدا، وضاعف اندفاعه وهو يهبط. وجرى بسرعة فوق متتابعات من المرتفعات والمنخفضات فطوقها بذراعه. ودار حول منعطف في تمهل ماكر، وراح يرتقي جبلا في صمت ينذر بالخطر، ثم انحط من عل كأنما يهوي في فراغ وارتفع الصراخ. شد على خاصرتها فمال رأسها على ذراعه، فطبع على شفتيها قبلة طويلة. لم يكد ينتبه بعد ذلك إلى معاكسات القطار حتى رجع إلى المحطة. وقال لها ومشروعات الليل تتواكب في رأسه: خير ما نفعل الآن أن نستريح في مشرب.
وتبادلا «صحتك» مرة أخرى، وتحرك دبيب النشوة في قلبه. ونظر في مرآة مكللة بورد من البلاستيك فوق الطاولة، فأعجبه شاربه الأسود وخداه الموردان. وحدثها عن الليل فأحنت رأسها بالإيجاب، ولما غنى الصوت الملائكي سألها: تحبين الغناء؟
فأجابت بحماس: والرقص. - وأي لعبة تودين؟ - الحظ.
وجدا حلقة الحظ كثيرة الزحام، فبلغا سياجها بعد مشقة. وتناول كل منهما حلقاته الخشبية الخفيفة، وهو يتفحص الأهداف المنشورة في تقارب معجز للصائد. سددا نحوها الحلقات فطاشت جميعها، وابتاعا مجموعة ثانية وثالثة من الحلقات، وهو يحلم طيلة الوقت بعلبة فضية لا يدري شيئا عما بداخلها، على حين ركزت هي على زجاجة فلير دامور. وبعد الجهد والبذل أصاب زجاجة نبيذ، وكسبت هي عروسا عارية. وذهبا وهو يفض سدادة الزجاجة، ثم تناول منها شربة بعد أخرى. وركبا في أثناء ذلك الساقية، فارتفعت بهما إلى جبين القمر، ثم رقصا فوق سطح الغربال، ودارت الخمر برأسه فأفرط في مداعبتها، حتى همست في أذنه: حذار أن تلفت لنا الأنظار.
فقرصها في ساعدها البض، فقالت بشيء من الحدة: لا.
وانتزعت منه الزجاجة فأحكمت سدها، ووضعتها في الصندوق الكرتوني لصق العروس. واستقلا تروللي غابة الأشباح فالقارب المتزحلق، ثم وجدا نفسيهما أمام وادي التيه المعروف بحجرة جحا. هتف بسرور: عز المطلوب.
لكنها قالت بفتور: لا أحبها، سنتيه في سراديبها؛ حتى نفقد الصبر.
فتناول يدها ضاحكا ثم دخلا. قطعا أمتارا في مدخل مربع ينتهي بسد في الأمام، وعن اليمين وعن اليسار نفقان يستديران إلى الداخل. ولاحظت تردده بين النفقين، فقالت محتجة: من أولها حيرة!
فمال إلى اليمين قائلا: «لنكن من أهل اليمين.» سارا في نفق مستقيم مضاء بفانوس يتدلى من السقف، فانتهيا إلى حجرة مستطيلة بها منفذان غير المنفذ الذي دخلا منه، ووجدا بها بضعة أفراد وكان أحدهم يقول: هلكت من التعب.
فصاح آخر: الظاهر أننا لن نخرج إلى سطح الأرض مرة أخرى.
اتجه بها نحو المنفذ الأيمن، فسارا في ممر بدأ ضيقا، ثم أخذ في الاتساع حتى اعترضته ثلاثة أبواب.
قلب عينيه بينها، فقرأ على أوسطها بالقلم الرصاص «ادخل من هنا فإنه مجرب»، فتمتم: دعابة ماكرة لأحد اللاعبين، على اللاعب هنا أن يعتمد على نفسه. - لم تختار بابا دون آخر؟ - العبرة بالتجربة. - ولكن سنبدد وقت الفسحة. - أليست حجرة جحا ضمن الفسحة؟
مرقا من الباب الأيمن إلى ممر قصير، أوصلهما إلى ميدان مسقوف تتعدد الأبواب على محيط دائرته، وتكتظ ساحته بالنساء والرجال. قهقه البعض وعبست وجوه في نرفزة حقيقية. وقال رجل: لو أن أحدنا أصابه مكروه فهل يترك حتى يموت؟ - لم لا يوجد مندوبون عن الإدارة لتقديم المساعدة عند الضرورة؟ - هل ننادي أحد المسئولين؟ - نادى كثيرون ولا مجيب.
دخل حسن من أحد الأبواب، فتخبطا طويلا من حجرة إلى ممر، ومن ممر إلى سرداب، ومن سرداب إلى نفق، وتيار الحائرين يصادفهم في شتى الاتجاهات. ولم ينقطع لحظة واحدة عن الضحك أو الغضب أو التعليقات. وتوقفت سعاد وهي تقول في رجاء: لنرجع.
فضحك قائلا: ماذا يعني الرجوع أو ماذا يعني التقدم؟ .. نحن نسير فحسب. - ألا تذكر من أين أتيت؟ - كلا. - وطبعا لا تدري أين تذهب! - هذا واضح.
وهي تتنهد: تعبت وضجرت. - نحن معا وفي هذا ما يكفي. - ألا تسمع أصوات الغيظ؟ - وأصوات الضحك؟ - سنتخبط حتى موعد الإغلاق.
سر اللعبة لا يمكن أن يعرف في أول جولة، فليس أمامنا إلا أن نجرب حظنا.
واستأنفا السير والتخبط، وتجربة أبواب لا حصر لها، وأنفاق وسراديب لا تنتهي. واشتكت أصابع قدميها، فحذرته من الاضطرار إلى حملها بين ذراعيه. وزادت جزعا عندما رأت رجلا قد اقتعد الأرض يائسا، في انتظار أن ينتشله رجل من الإدارة عند موعد الإغلاق. وطال بهما اللف والدوران والتخبط حتى تجهم الوقت، ثم دفعا بابا بحركة روتينية ميكانيكية، فإذا بباب الخروج يطالعهما. قام الباب على مبعدة ثلاثة أمتار بهيجا رقيقا مضيئا محبوبا، وتبدت ساحة لونابارك من خلاله سابحة في الأنوار والأنغام. غادرا حجرة جحا وهما يتصببان عرقا، فذهبا إلى حديقة مشرب الجعة وطلبا بيرة. وضعت صندوق العروس على كرسي جنب حقيبتها، وسلتت قدميها من الحذاء، وراحت تقبض أصابع قدميها المخضبة، وتبسطها وهي تلحظه بعتاب. وبمجرد أن استقر الشراب في بطنه دار رأسه، وتفاعل النبيذ والبيرة بحال غير ودية.
قالت: أنت عنيد أكثر مما ظننت. - هكذا يجب أن تكون الفسحة في لونابارك. - توجد ألعاب لطيفة وأخرى سخيفة. - الأفضل أن نجربها جميعا.
انتعشت بالشراب فطلب قدحين جديدين، وهو يقول: لم تبق إلا لعبة الموتوسيكل.
قطبت متسائلة: تقصد لعبة الموت؟ - لم تسمى بلعبة الموت، رغم أنه لا يموت بها أحد؟! - لا يسرني أن أرى راكب الموتوسيكل الذي يبدأ دورانه فوق الأرض، ثم ينتهي وهو يدور حول السقف! - هي اللعبة الوحيدة التي لم نشترك فيها بعد. - لا .. لا. - لم لا؟ ألا ترين أنها أشد إثارة من جميع سابقاتها؟ - لن تتحملها أعصابي، ولا معنى لها. - بغيرها ستظل فسحتنا ناقصة. - فلتبق ناقصة؛ فهذا أفضل. - ما دمنا قد جئنا فعلينا أن نجرب كل لعبة. - لا تجعلني أندم على معرفتك.
أذعنت إزاء عناده وهي متبرمة. وشربا للمرة الثالثة، ثم دست قدميها في الحذاء وتأبطت ذراعه مرة أخرى. سارا على مهل اضطراري فوق سيقان مسترخية من الجهد. ثقل رأسه بالخمار، وعاود الألم أصابع قدميها. والزياط من حولهما يشتد، وأفواج جديدة من الناس تقدم رغم انتصاف الليل.
وتوسط القمر السماء، سماء صافية إلا من سحائب رقيقة متباعدة عبرت سطحه كأنفاس حارة في جو رطيب.
وترامى إليهما أزيز الموتوسيكل وهما يقتربان من زحمة المنتظرين أمام الباب. ضغطت ذراعه قائلة: كم إنك عنيد!
فقال وهو يهز رأسه: المؤسف حقا أن الفسحة ستنتهي.
وأدار نحوها وجهه بشوق وحنان، ثم داعب ملتقى حاجبيها بإبهامه ليزيل عنه تقطيبة منعقدة، ولم يكف حتى منحته ابتسامة غير سعيدة.
موجة حر
المدينة الكبيرة تنفض النعاس في صمت السحر. وقبيل الشروق تخضب الأفق بحمرة قانية. وقطرت السماء الباهتة زمتة فسطعت أنفاس دافئة. استند عسكري الدورية بجسر الجلاء إلى جذع شجرة، رافعا رأسه إلى الأفق عبر النيل وبصق، ثم تمتم: يوم نكد حتى قبل أن تشرق الشمس!
وذابت الحمرة القانية في وهج الشمس، وانهالت الأشعة على الكائنات. وسعى فوق الأرض باعة وعمال، وسرعان ما التمعت الحياة بقطرات العرق، وأكثر من صوت قال: يا له من يوم!
واشترى أحمد علبة البلمونت، ثم مال إلى التليفون على طاولة الدكان فأدار القرص: نادرة؟ .. صباح الخير. - ... - كلا، لم أذهب إلى المصلحة بعد، أنا أكلمك من دكان السجائر. - ... - فعلا، والطريق أشد حرارة، ولكنه جو مناسب لنزهة مسائية على شاطئ النيل؟ - ... - حسن، السابعة مساء عند جسر الجلاء.
ارتفعت الشمس وسط هالة ناصعة قاسية. واستكن الهواء في كينونة ثقيلة متخلفة، وقرص الذباب الخدود في بلاده، وتكتل كالسخام فوق صناديق القمامة. ونشرت الجماهير المتدفقة نحو محطة الباص الجرائد فوق الرءوس. وقال رجل: الفول يغلي في بطني!
فأجابه الآخر: إذن فكيف تكون الظهيرة؟
وخلف المحطة مباشرة تبدت جباه العمال العاكفة على صف الحروف من نوافذ بدروم المطبعة، وترامت أصوات الآلات بلا انقطاع.
وشابت القبة الباهتة صفرة كئيبة ضاربة في حواشيها إلى الاحمرار. ونزت الأرض رطوبة ساخنة، أما الهواء فاختنق برائحة كريهة كأنما يتنفس دخانا. وفي إدارة الحسابات أغلقوا النوافذ، ورشوا الأرض الخشبية الكالحة بالماء، وأضاءوا مصباحا واحدا، واستعملت الأضابير في التهوية، واتبعت نصيحة مجرب باحتساء الشاي الساخن. وقال المراجع الكهل: صدقوني لم تعرف البلاد حرا كهذا الحر. - مؤكد أن الحرارة جاوزت الأربعين. - أو الخمسين، نحن نحترق في الواقع.
ورفع المدير عينيه المظلمتين من هبوط القلب، وقلب في الوجوه نظرة خابية حاقدة، وقال: ستعود الإدارة بعد الظهر لإنجاز الميزانية.
أطبق الصمت فلم يناقشه أحد. وهمس كاتب: الحقود وجد فرصة للانتقام. - صبرك، لن يمتد به الأجل حتى منتصف النهار.
وفي الميدان ارتطم مقدم تاكسي بمؤخرة آخر عند إشارة المرور. وغادر السائق المتقدم مكانه ليعاين أثر الارتطام. مال فوق الفانوس الخلفي يسبقه شعر صدره المتلبد البارز بين شقي قميصه، وهو يجفف جبينه بكمه، ثم رمى السائق الآخر الذي لحق به بنظرة ملتهبة، فتمتم الآخر: وقف التاكسي فجأة فلم ...
فقاطعه بحدة: حطمت الفانوس.
فراح يجفف وجهه بمنديل ضارب إلى السواد، وهو يقول: التواءة بسيطة ليس إلا.
صاح به مطاردا بلسعة الشمس: أنت أعمى!
وتماسكا بشدة ثم انهالت اللكمات، وجاء عسكري المرور جريا وهو يسب ويلعن.
وتربعت الشمس في كبد السماء كرة من نار تقذف حمما. وانتشرت الصفرة الكئيبة الضاربة إلى الاحمرار لطخات متفرقة في الأديم الضاري. ونفثت الأرض أطنانا من الحرارة اللافحة المركزة بالبخار، وانطلقت الباصات مائلة إلى الجانب الأيمن من ثقل حمولتها، وتلاصقت الأجساد البشرية حتى انصهرت في جسد واحد هائل متعدد الألوان والتقطيبات، متوحد العناء والعذاب، واستقرت في الأعين المتطلعة إلى الطريق نظرة خاملة، مستسلمة، متقززة، متألمة، متصبرة. - العرق يتجمع ويهبط في خطوط كالحشرات، ثم يستقر في الحذاء. - يوم من أيام الجحيم. - إذن كيف يعيش الناس في السعودية؟
ولسبب ما انفجر السائق في غضب قاذفا بسيل من اللعنات الفاحشة، فصكت آذان السيدات والأوانس وكأنهن لم يسمعن ألبتة، وواصلن وجومهن بلا مبالاة.
وأخذ مرسي صاحبه إلى قهوة وبار آسيا، وهو يقول: لن تعرف حقيقة اليوم إلا من جرائد الغد، كم تظن درجة الحرارة؟ - في الظل؟
ضحك مرسي عاليا، وهو يصفق مناديا الجرسون، ثم قال: هاك طريقتي المقتبسة عن الإنجليز الذين يعيشون في المناطق الاستوائية، أن أشرب حتى تلطسني الخمر، هناك لن أفرق بين ديسمبر وبين أغسطس.
وقنع عساف وزوجه من الغذاء بأكلة جبن وبطيخ. وتجرد من ملابسه ثم استلقى - كما ولدته أمه - فوق الكنبة، وفعلت حرمه مثله فوق الفراش. على ذلك لم يهنأ بالنوم لتسرب العرق المالح من جفنيه، وانحداره أحيانا إلى فيه الفاغر. استيقظ مرات ليجفف وجهه ثم يستغرق في النوم، ولكنه صحا أخيرا على ضوضاء وزياط منزعجا حقا. نهض متسخطا فجفف جسده بالفوطة، ومضى إلى الشيش لينظر ماذا يجرى، فرأى الغلمان يلعبون الكرة في الطريق تحت قذائف الشمس. وخلف الهدف مباشرة نام سائقو الكارو على الطوار في ظل الجدران. لعن النسل والتناسل، ثم رجع إلى الكنبة يبتسم ساخرا : يلزمنا جهاز تكييف هوا.
فتردد شخير زوجه عاليا.
وانداحت الصفرة الضاربة إلى الحمرة، وانبثقت منها إشعاعات تحمل رسائل من الكآبة والضجر. وتصاعد التثاؤب والتأوه. ونفد صبر ست عليات زوج بياع الثلج، فوضعت ربع لوح ثلج فوق رأسها، ثم مسحت به عنقها، ثم أرسته فوق صدرها طويلا، ولم تمض ساعة حتى ظهرت عليها أعراض الحمى.
وأمام قهوة الحرية سقط عبد الرحيم القاضي المصاب بضغط الدم على جنبه، وصدرت عنه تموجات تشنجية، وانكمش جانب فيه وسالت منه رغوة، ثم فاضت روحه.
وحتى العصر لم يطرأ تغير يذكر. خف توهج النهار قليلا، وبهتت الصفرة الكئيبة المنداحة في السماء، ومالت الشمس ولكنها ظلت تصب النيران صبا. وانعقدت الرطوبة حول الأجساد مادة لزجة ذات كثافة ملموسة. ومع أن الشعر هو أحب القراءات إلى حسن الزفتاوي إلا أنه قال بفتور: كلمات .. كلمات، لا توحي بشيء، أين ذهب الشعر؟
فأجابه صديقه حمدي مغمض العينين ملصقا زجاجة الاسباتس بجبينه: عبثا تبحث عن شيء له قيمة في هذا اليوم. - حتى الحب مات! - وحتى الجنس فقد نكهته الحيوانية الحريفة!
وصادف عسكري الدورية بحي الطبلية عربة خيار يدفعها صاحبها في تراخ فثار غضبه، ثم انقض على العربة فنزع مقبضيها من يد البياع، ورفعها إلى أقصى ذراعه حتى اندلق الخيار على الأرض وصاح: ألف مرة قلنا ممنوع مرور العربات!
وصرخ البياع وتجمهر الناس. وانتبه العسكري المنقول حديثا من قسم قصر النيل إلى قسم الجمالية إلى أن التعليمات المطبقة على منطقة قصر النيل لا تنطبق على حي الطبلية، فشعر بحرج مركزه، ولكنه أبى أن ينهزم أو أن يعترف بخطئه؛ فصاح مستزيدا من الغضب: كيف تسب الدين يا جاحد؟! .. تسب الدين؟!
وأقسم الرجل بالطلاق ولكن أكثر من قسم بالطلاق ترامت من الأركان والنوافذ. وتابع الحادثة بفتور الواقفون حول مشرب السوبيا، يلهثون ويشربون ويتصببون عرقا، والذباب يتلاطم فوق رءوسهم.
واستقرت أشعة الشمس المائلة فوق الجانب الغربي لعمارة النجمة بجاردن سيتي حيث يقيم إبراهيم سمهان المستشار. واستيقظ المستشار من قيلولته ليجد نفسه غارقا في بحيرة من العرق. هز رأسه في ذهول، ونظر طويلا إلى صورة جسده المنطبعة فوق الفراش. كيف حدث هذا؟ وماذا يصنع إذن جهاز التكييف؟ انزلق إلى الأرض وهو يترنح في جلبابه الفضفاض، ومضى إلى الجهاز، فتبين أنه متوقف. فسد الجهاز أم انقطعت الكهرباء؟ وأدار المفتاح الكهربائي فوجد الكهرباء منقطعة. لا شك أنها انقطعت بسبب ارتفاع الحرارة. وهذا يعني أن الفريجيدير أيضا متعطلة، في هذا اليوم الملعون. وهو وحيد في القاهرة بينا تصيف الأسرة في الإسكندرية، ولولا اجتماع مجلس إدارة المؤسسة المنتدب إليها لما جرى عليه هذا الحظ التعس، وذهب إلى الحمام وفتح الفريجيدير ليبل ريقه الجاف ولو بشربة فاترة، ولكنه رأى صرصورا لابدا في عنق القارورة الوحيدة التي ملأها بنفسه قبل النوم. تحول عنها غاضبا عابسا إلى صنبور الماء وفتحه، ولكنه لم يقطر نقطة واحدة. رباه .. غاض الماء من الأدوار العالية كما يحدث كثيرا في الأيام القائظة. أي جنون؟! ضائع في صحراء. كم إنه ظمآن، وكم إنه متلهف على دش بارد! وغادر شقته في الدور الثامن إلى الطرقة الخارجية. المصعد متوقف طبعا، كل شيء متوقف خرب في هذا اليوم الجهنمي. ونظر من فوق الدرابزين وصاح بأعلى صوته: عم محمد .. عم محمد.
لا مجيب. وكرر النداء دون جدوى. رباه ما العمل؟! ظمآن وحران ولا بد أن يذهب إلى المرحاض أيضا. وإذا به يرى خادم الشقة التالية له وهو يصعد خطوة فخطوة، ينوء بحمل صفيحة مملوءة بالماء. وأنزل الخادم الصفيحة على أرض الطرقة حتى يسترد أنفاسه. وقف شاحب الوجه بصدر يعلو وينخفض. ونظر المستشار ناحيته، فتبادلا نظرة طويلة وهما صامتان. وضمن المستشار نظرته رجاء مستحيلا، فتجاهله الخادم وأرخى جفنيه زائغا مما قطع بأنه تلقى الرسالة ورفضها. له حق فليس في الإمكان أن يكرر عمله الفدائي مرتين، ولكن ما العمل؟ ونظر المستشار إلى الماء المترجرج في الصفيحة الناصعة فازدرد ريقه الجاف بصعوبة، ثم همس وهو يبتسم متوددا: تسمح لي بملء كوب؟
فقال الخادم باستحياء: تفضل يا بيه.
وهرع إلى الداخل ثم رجع بكوب فملأه، وصبه في جوفه دفعة واحدة. وجعل يستشعر الماء وهو يرشح من مسامه، ثم تمتم: ماء دافئ. - ينصب من الحنفية كالنار.
وتذكر مطالبه الضرورية الأخرى، فاستأذن في ملء الكوب مرة أخرى، فأذن له الخادم بتسليم لا حيلة فيه. ورجع إلى الشقة، وهو يقول ساخطا: «بلد غير مستعد للحر مع أن ثلاثة أرباع عامه صيف!»
وتوارت الشمس في المغيب وراء ستار دموي، ولكن الجو لم يتحرر من قمقمه المنصهر. وأذاع الراديو أنباء الموجة وتفسيراتها الفلكية، والدرجة الثامنة والأربعين التي بلغتها في الظل. ورقدت المدينة في همود تحت العذاب الأغبر. وانتظر أحمد عند جسر الجلاء حتى وافته إليه نادرة في فستان رمادي عارية الذراعين والساقين. - ماذا فعلت اليوم؟
فأجابت وهي ترعش راحتها المبسوطة في استفظاع: أوه .. يوم لن ينسى.
ذهبا إلى مجلسهما المعهود بالكورنيش، ولكن الشاطئ كان مكتظا بالبشر لا موضع فيه لإنسان. اقترح أن يمضيا سهرة في سينما مكشوفة، ثم يعودا إلى النيل بعد منتصف الليل. ولما رجعا لم يكن الشاطئ قد خلا ولكن كان ثمة موضع. وافترشا الحشائش بعد أن أزالا عنها قشر الفول ومزقا من الورق، ولم يكن في الجو نسمة واحدة. - مات الهواء؟
فأجاب بضيق: شيء أثمن منه مات فينا. - لن نحتمل يوما آخر كاليوم.
ومضى المكان يخلو بسرعة نسبية حتى وجدا نفسيهما منفردين أخيرا. ولف ذراعه حولها فشعر في جنبه بسخونة، وفغمت أنفه رائحة عرق فاتر. وانعكست أضواء الفوانيس على ماء ساكن راكد لا يلعب ولا يبهج: إذن متى تنكسر حدة الحرارة؟ - آه .. متى؟
وخيل إليه أن حرارة الحب تزدرد حرارة الجو بسرعة لم يتوقعها، غير أن قدما ثقيلة دقت الأرض في الظلام الصامت. ومن الظلمة المضاعفة التي تلقيها شجرة وارفة مر شبح العسكري في ضوء المصباح. تعلق به رأساهما، ثم همست: لا يوجد أحد غيرنا.
فشبك راحتيه حول ركبته، وغمغم حانقا: يوجد الحر. - لا تعط له فرصة للتحرش.
مر العسكري أمامهما وهو يرميهما من عل بنظرة غامضة. ابتعد حتى أوشك أن يختفي ولكنه توقف، وتنحنح. ثم استدار راجعا حتى وقف على مبعدة مترين أو ثلاثة. لبث واقفا في عناد كأنه الحر دون أن ينبس. توقعا أن يقترب أكثر أو أن يتكلم ولكنه لم يفعل. ولكزته بكوعها هامسة: «هيا». قاما معا، وألقيا نظرة أخيرة على الماء الراكد، ثم ذهبا.
وشيء غريب كريه زحم الجو، ذو رائحة مريضة وشخصية مبهمة، وقد انعقد حول مصابيح الطريق كالضباب، وانتشر تحت النجوم فتراءت خابية. وتحرك العسكري ببطء شديد وبصق، ثم تمتم: قلنا: إنه يوم نكد، حتى قبل أن تشرق الشمس!
عابرو السبيل
اندمج الشارع الكبير في حياة هؤلاء الناس، شارع قصر النيل، ما بين السابعة والثامنة صباحا، يقطعونه ثم يتفرقون إلى أماكن أعمالهم. وتتكرر الرحلة في نظام فلكي على مر الأعوام. بدأها كثيرون وهم في ريعان الشباب والفتوة، وواصلوها حتى أدركتهم الشيخوخة وتخايلت لأعينهم النهاية. ومنهم من ينقطع دون سبب معروف للآخرين؛ إذ إنهم يترافقون في الطريق ولكنهم لا يتعارفون. والعين تلقي نظرة عابرة فلا تكاد ترى، كأن الآخر شجرة مغروزة في الطوار، وربما استيقظت لسبب ما، فترى بدهشة العوالم الغريبة الماضية في سبيلها، كل عالم وحدة من الأسرار والأفراح والأتراح لا تدري شيئا عن الآخرين، ولا تجد وقتا للتعرف إلى ذاتها، وتجهل كل الجهل مصيرها، عند ذاك تتفجر الألسنة في غزارة، ولكن تشح الأجوبة حتى الإرهاق، وتشمخ السماء بصفحتها - الصافية أو الملبدة تبعا للفصول - فلا تشفي غليلا ولا تبدد حيرة.
ثابر على تلك الرحلة ثلاثة أشخاص، رجلين مصريين وامرأة إفرنجية. بدأها الرجلان حوالي عام 1925، ثم ظهرت المرأة بعد ذلك ببضعة أعوام، وكانوا في ذلك شابين وشابة. وكان أحدهما طويلا نحيلا يتميز بعينين حادتين، وسمرة غامقة، وحركات عصبية. أما الآخر فكان معتدل الطول والقد، هادئ الطبع. وبدت الفتاة متعة للبصر بعينيها الزرقاوين، وشعرها الفاحم، وبشرتها الحليبية، وجسمها الرشيق. وكانت - كذلك الشاب الطويل - يسيران في اتجاه ميدان الأوبرا، أما الشاب الآخر فيتجه نحو ميدان سليمان باشا، ويتقابلون عادة في منتصف الطريق أو نحو ذلك، ولم يترك أحدهما فرصة للقاء إلا ويملأ من الفتاة عينيه، المعتدل يرمقها بحياء وبلا غاية إلا إبهاج الروح والحواس، أما الآخر فيلتهمهما بنظرة حادة، ليست نظرة ولكنها كلام وفعل وعربدة. ورئي مرة وهو يحييها وهي تتجنبه مبتعدة عنه مسرعة؛ ذلك أنها كانت فيما بدا فتاة جادة نشيطة تنطلق بجدية وعزم العاملات، لا تكاد تنظر إلى غير الطريق، وإذا التقت عينها بعين الشاب المعتدل فبالقدر الذي يحتمه حب الاستطلاع أو ملابسات المشي في حدها الأدنى. وجعل الشاب المعتدل يسترق النظر إلى الآخر بامتعاض، ويتابع مناوراته بحنق وإشفاق متوقعا أن يراه ذات صباح والجميلة تتأبط ذراعه. وبقدر ما كان يلعن قحته بقدر ما كان يعجب بها على نحو خفي، ويتمنى في أعماقه بعضا منها، وأحزنه جدا أن يتفق اتجاههما في الطريق على خلاف اتجاهه. ومضت الكواكب الثلاثة في مداراتها دون أدنى تغير في علاقتها المشتركة، أما عن كل في ذاته فقد تتابع ظهور خواتيم الزواج في أيديهم، سبق المعتدل، وتبعه في نهاية العام الطويل، وأخيرا لحقت بهما الحسناء. ورغم ذلك فلم يقل الشغف بها كثيرا، وإن بدا أن الطويل قد تخلى بصفة شبه نهائية عن أحلام المغامرة. ولم يتغير شيء مما بين الثلاثة عندما قامت الحرب العالمية الثانية، وإن تكن الدنيا قد اندفعت بجنون نحو التغيرات الفادحة. زخرفت الصحف بعناوين المعارك الحمراء، وتناقل المارة الأنباء المثيرة، وظهر الإنجليز المدنيون والعسكريون بكثرة حتى في تلك الساعة المبكرة، وفتح ثلاثة بارات في الشارع العتيد، وانتقلت عدوى التغيير إلى الفتاة نفسها أسوة بالدنيا من حولها، فثقلت مشيتها وشحب لونها، ثم تكور بطنها، وانداح تحت الفستان التقليدي المسترسل بلا حزام، أجل لقد حبلت العروس الفاتنة. وتفحصها الطويل بعين صقر وبشيء من الغيظ متذكرا امرأته، ولكن امتلأت عيناه بالعطف والشرود الغامض. وحبلت المرأة مرة ثانية قبيل انتهاء الحرب، وثالثة أيام حرب فلسطين، ولعل أحدا من الثلاثة لم يكن يفطن حقا إلى الزمن إلا عندما يقع بصره على الآخر. امتلأ عود الحسناء وتوارى في الذاكرة القد الرشيق الممشوق، وأحدقت بالعينين الزرقاوين أنصاف دوائر خفيفة لم تعد تخفى، واستقرت بهما نظرة رزينة، رزانة الإعياء لا رزانة الدلال والصدود التي عرفاها قديما. واشتد نحول الرجل الطويل، وجرى المشيب في سوالفه وشاربه، وبرزت عظام وجنتيه، ومع أن المعتدل لم ير من تغير ذاته سوى شعيرات بيضاء، إلا أنه لم يشك في مدى تغيره الحقيقي كلما نظر إلى رفيقه، فانطوى صدره على توتر غامض كأنه صدى بعيد جدا لما يقع حوله في التاريخ والطريق. واستمر دوران الكواكب الثلاثة خلال أحداث جديدة، فقد نشب في القتال قتال مرير، واندلع حريق القاهرة، ثم انفجرت ثورة يوليو. تزلزل المجتمع من جذوره وانهار البنيان المتداعي، وأخذ نظام جديد في التبلور، وإذا بالاعتداء الثلاثي يعترض الطريق كثور أعمى. وفي أتون حرب العدوان قدر لأولئك الثلاثة أن يجتمعوا في مكان واحد لأول مرة. فقد انطلقت زمارة الإنذار، وفرقعت المدافع وهم يسيرون أمام مشرب لاجيون. لجأ ثلاثتهم إلى المشرب باندفاع عفوي، فوجدوا به خادما واحدا يغسل أرضيته، ومائدة واحدة صالحة لاستقبالهم في أقصاه. شقوا سبيلهم إليها خلال قوائم من الكراسي المتراصة فوق بعضها، ثم وقفوا مترددين قلقين، ثم جلسوا - بدعوة من الخادم - حول المائدة المنفردة. وكلما ترامى انفجار تبادلوا نظرة باهتة دون أن ينبس أحدهم بكلمة، وكان الطويل أجرأهم على خرق جدار الصمت، فقال: ولا أيام الحرب العالمية.
فقال الآخر بحنق: المجرمون! .. سرعان ما نسوا هوانهم تحت أقدام هتلر!
وتواصل التعليق دون أن تشترك المرأة فيه، ثم خف الضرب درجات، فعاد الطويل يقول: لا مدعاة للخوف فهم يضربون الأهداف.
وحدجته المرأة بنظرة جائعة للتصديق، فابتسم إليها. تبدت عن قرب معتلية ذروة النضج الأنثوي وإن شارف حسنها الوداع. وقال الطويل مدفوعا بأريحية طارئة: خير ما نفعل أن نتناسى ما يقع في الخارج.
ثم وهو يبتسم عن طاقم نضيد: نحن نتقابل كل صباح منذ زمن بعيد جدا كالحلم.
تفكر الآخر مليا، ثم قال: منذ عام 1925.
فالتفت الطويل نحو المدام، وقال: المدام ظهرت بعد ذلك؟
انتزعت نفسها من التركيز المفعم بالقلق في الخارج، وهزت رأسها بالإيجاب. - عمر طويل مر دون أن نتبادل كلمة واحدة.
وضحك ثم استطرد: لذلك لا أعجب لخصام أمتين أو ثلاث.
وساءلت المرأة نفسها بتوتر: متى ينتهي الضرب؟
فقال بلهجة ودية جدا: لا تخافي يا مدام، سينتهي الضرب عاجلا، ويذهب كل منا إلى طريقه، ولكني أود أن أنتهز هذه الفرصة لأحقق فكرة جميلة خطرت لي الآن فقط.
نظر إليه المعتدل مستطلعا في غير حماس، على حين نظرت المرأة في ساعة يدها. - سوف أحال على المعاش بعد شهر واحد، أي إنني سأنقطع عن رؤيتكما بعد تلك العشرة الطويلة العزيزة.
فقال الآخر: وأنا أيضا سأحال إلى المعاش في نهاية هذا العام. - هذا أدعى إلى تحقيق الفكرة، وهي أن نحتفل بذكرى لقائنا الطويل على مدى أكثر من ثلاثين عاما!
وقلب وجهه بينهما في حماس، وقد أخذ الهدوء يخيم في الخارج رويدا، وإن لم تطلق بعد زمارة الأمان، ثم قال: أود أن أدعوكما إلى عشاء بسيط بمطعم كريسنتم بالهرم، ما رأيك يا أستاذ؟
فقال الآخر بنبرة سلبية: بكل سرور إن سمح الوقت. - ستقبل الدعوة حتما خصوصا إذا قبلتها المدام، ما رأيك يا مدام؟
انتزعت المدام نفسها من قلقها مرة أخرى، وتمتمت: لكن ... - لا لكن ألبتة، إنه سلوك لا عيب فيه عندكم، ودعوتي واضحة البراءة، ورفضها غير إنساني.
ابتسمت ابتسامة خفيفة اعتدها الرجل قبولا، فبادر يقول: شكرا، سنتفق على الميعاد في صباح قريب.
اتفقوا على الميعاد صباح اليوم الثالث لوقف القتال. وتقابلوا في ميدان التحرير، ثم استقلوا تاكسي إلى كريسنتم فبلغوه قبيل الغروب. وفي أثناء ذلك تم التعارف بينهم، فقدم الطويل نفسه قائلا: «علي بركة، مترجم»، وقال الآخر: «سيد عزت، مدير حسابات»، وقالت المدام: «مدام ماتياس، خياطة في ماي ستار». وجلسوا في حجرة خاصة يحجبها عن بقية المحل باب موارب يقوم خلفه برافان. وأوصى علي بركة على عشاء حمام وكبد، وأمر بكونياك، ونظر إلى سيد عزت ورفع كأسه قائلا: لنشرب نخب شباب عام 1925، أما أنت يا مدام فما زلت شابة.
فقالت ضاحكة: لا .. لا. لا فائدة من الكذب، أنت تعرف وهو يعرف.
وما كادت الكئوس تفرغ حتى طلب غيرها وهو يقول: لا ترفضا، دعونا نشرب، لن نسكر على أي حال، وهي ليلة العمر.
ومضت الألفة تحل محل التحفظ، ويشيع الدفء بتأثير الكونياك ولباقة علي بركة وحيويته. وراح يقول: كان يجب أن نكون أصدقاء حميمين، يتبادلون المودة والأسرار، ولكن فات الوقت للأسف، فلم يبق لنا إلا أن نذكر شيئا من الأمور الجوهرية جدا لتمام التعارف، أسعد حادث في حياتنا مثلا، أو أبقاه أثرا في نفوسنا؟
رحب سيد عزت بالاقتراح لا لشيء؛ إلا لأنه يجد ما يقول، فقال: لعل أسعد حادث صادفني هو نجاح ابني الأكبر في الثقافة العامة بعد ما يشبه اليأس.
ونظر الرجل إلى المدام مستطلعا كأنما كانت هي الهدف الحقيقي لاقتراحه، فابتسمت قائلة: زواج ابنتي الكبرى، ولكن الحادث الذي لا أنساه هو وفاة زوجي منذ أربعة أعوام.
كاد التهلل للخبر يفلت من أساريره، لولا أن تداركه بتقطيبة مصطنعة، ثم هز رأسه في رثاء. وانتهز فرصة الصمت الذي تلا ذلك، فطلب الكونياك لثالث مرة، ثم ضحك مفتتحا صفحة جديدة، وقال: أحداثي أنا لا تخلو من غرابة، فأسعدها كان وفاة قريب آلت إلي تركته، وأتعسها جاءني منك أنت يا مدام. - أنا! - أجل، وأنت تعرفين السبب.
فقالت متشجعة بفعل الكونياك الخفي: تعني مطارداتك لي في الشارع؟ - أعني إعراضك عني حتى قبل الزواج. - يا عزيزي، أنت لم تكن جادا. - كيف عرفت؟ - أنا أفهم، أنت لم تكن جادا.
وقال سيد عزت وهو يفرغ ثمالة كأسه: أنا موافق. - أنت أيضا! هل اختفت نواياي الطيبة إلى ذلك الحد؟ - لم تكن هناك أية نية طيبة! - وأنت؟ كنت تأكلها أكلا وتأكل نفسك.
فقال سيد عزت بتسليم: لا أنكر ذلك!
ضحك الرجل في شماتة أمام مدام ماتياس، فقالت: لا أصدق. - لماذا؟
وجاء العشاء مع جديد من الكونياك، فأقبلوا على الطعام والسؤال معلق والاهتمام به يعمق إلى غير نهاية، وقالت مدام ماتياس وقد احمرت أذناها من الشراب: لي معك حكاية. - أنا؟! - كنت تنظر بقوة، كل صباح، قلت لنفسي: حتما سيكلمني يوما ما! - حسبتك لم تلحظي شيئا ألبتة! - هه! قلت ستكلمني، وما أخره إلا أنه مؤدب أكثر من اللازم على خلاف ...
قاطعها علي بركة بضحكة عالية هاتفا: على خلاف الآخر قليل الأدب!
وهي تضحك أيضا: لا .. لا .. معذرة .. (ثم ملتفتة نحو سيد) واعتبرت المسألة مفروغا منها لدرجة أنني فاتحت ماما في الموضوع، ولكنها رفضت بشدة فكرة زواجي من مصري.
صاح سيد عزت الذي أفقدته لذة الحديث لذة الطعام: الزواج؟ - نعم .. وبسببك زعلت من ماما، فأقمت مدة عند خالتي.
ابتسم سيد في ارتباكه حياء وسرورا كما كان ينبغي أن يفعل عام 1930، وإذا بعلي بركة يلكزه في ذراعه قائلا: ضيعت علي فرصة دون أن تنتفع بها، صدق من قال: إن رجال الحسابات معقدون إلى النهاية.
تمتم سيد عزت: لم أكن أعرف، كنت يا مدام جادة جدا بصورة غير مشجعة. - هكذا نصحتني زميلة لي في ذلك الوقت بماي ستار، كانت يهودية مولودة في مصر، قالت لي: إن المصريين يعشقون المرأة اللعوب، ولكنهم لا يتزوجون إلا المتحفظة.
صاح علي بركة بفم مكتظ بالحمام: نعم النصائح اليهودية!
فخاطبت المدام سيد عزت قائلة: لكنك لم تتكلم، حتى لم تحاول الكلام.
قال بارتياب: كنت دائما أخاف من الإفرنج. - تخاف؟ - نعم، شيء قال لي إنك مستحيل لأنك إفرنجية، وكلما فكرت في الكلام عقد الخوف لساني.
علي بركة، وهو يضحك في تهكم: مفهوم .. مفهوم .. اللائحة المالية لا تسمح بحب بين مصري وإفرنجية! - وكان مرتبي محدودا، وكانت فكرتي عن الحب أنه باهظ التكاليف!
قالت المدام وهي تهز منكبيها: انتظرت حتى خجلت من نفسي، ثم كان أن تعرف بي مسيو ماتياس.
فقال علي بركة معاتبا: انتظرت الصامت، وصددت المتكلم الفصيح!
انتهى العشاء ولكن الشراب لم ينته. وتجلت آثاره في الخدود والأعين والألسن، وارتفع الضحك.
وهتف علي بركة بنبرة الظافر باقتراح سعيد: عندي فكرة!
فنظرا إليه مستطلعين، فقال: لنرقص!
قال سيد عزت: لا أعرف الرقص.
وقالت المدام: ولا توجد موسيقى.
قال: «لا يهم»، وقدم لها ساعده فقامت ملبية، وأحاط خاصرتها بذراعه وراحا يرقصان. وإذا به يضمها إليه حتى التصقا تماما. حاولت أن تتخلص منه عبثا. وتساءل سيد عزت في ذهول: أي رقص هذا؟!
وقالت المدام في إعياء: من فضلك .. عن إذنك.
تمادى الرجل في فعله، وانعقدت في عينيه نظرة مخيفة؛ فصاح سيد عزت: خذ بالك .. المدام تعبانة!
فقال بحدة: نحن هنا لا يدري بنا أحد! - ابعد .. دعني.
وقام سيد عزت. وبقيامه تأكد من أنه ثمل حقا. وضع يده على كتف الكهل الطويل، وقال برجاء: علي بيه، اعقل، لا تفضحنا!
فصاح به وهو يزيح يده بحركة من كتفه: اعقل أنت، سيأتي دورك يا غبي.
وتأوهت المرأة متألمة؛ فهتف سيد بغضب: دعها .. أقول لك دعها .. ألا تفهم؟
وأمسك بذراعيه محاولا فكهما. جذبهما بأقصى ما استطاع من قوة. انضغطت المرأة بينهما حتى استشعر بضاضتها. تراجع خطوة وهو يضاعف من قوة جذبه، وقد لفحه خجل آثم. وصاح علي بركة بجنون: ابعد وإلا ... - ستوقعنا في فضيحة.
وهتفت المدام: سأصرخ .. أقول لك إني سأصرخ!
ودار سيد عزت حولهما حتى وقف وراءه فقبض على عنقه، وشده منه بلا رحمة حتى كاد أن يختنق، فتراجع إلى الوراء كالمتهاوي. وترنحت المدام، ثم انحطت فوق الكرسي مغمضة العينين. ولم يعد يسمع إلا لهاثهم. خلا كل إلى نفسه يضمد جروح روحه. المدام كالنائمة، وعلي بركة مائل إلى الجدار، وسيد متقلص الوجه من الغثيان. وقال علي بركة بحقد: لن أدفع حساب أحد!
مدت المدام يدها إلى حقيبتها، ولكن سيد عزت أمسك بها بحنو، وهو يقول له: لن يدفع لنا أحد.
ورجعوا إلى الصمت والإعياء. ثم خطرت لسيد فكرة فنادى الجرسون، وقال له: «كأسان من فضلك»، وقبل أن يختفي الرجل وراء البرافان قال له علي بركة: «ثلاثة من فضلك». وشربوا هذه المرة وكأنهم يتداوون، في صمت وبلا مرح. وراح علي بركة يقطع الحجرة ذهابا وجيئة. ثم غادر الحجرة فغاب دقائق، ثم عاد بوجه مغسول وأسارير هادئة. ونقل بصره بينهما، ثم قال: دفعت الحساب، كله.
فاحتج سيد عزت قائلا: لا. - دفع وانتهى الأمر.
ثم بنبرة أرق: لننس ما كان، هذا خير ما نفعل.
وابتسم فيما يشبه الاعتذار. واقترب من سيد قائلا: «هات رأسك»، ولثم جبينه قبل أن يفطن الآخر إلى ما يريد، وتحول إلى المدام مغمضا: «وهاتي رأسك»، ثم لثم جبينها دون مقاومة من ناحيتها، وقال ووجهه لم يزل في مستوى وجهها: آسف يا مدام .. الصلح خير!
وفجأة لثم فاها. ثم استقام متراجعا وهو يقول: قبلة الصلح، وتحية للحلم القديم، حلم تراءى لي قبل موت سعد زغلول!
على ذلك غادروا المحل. وأمسك بيسراها داعيا الآخر للإمساك بيمناها، وسار ثلاثتهم في جو مائل للبرودة. والقمر متوار وراء سحابة مفضضة. وتراءى الخلاء في ظلام حتى الأنوار المتباعدة الباهتة فوق المقطم كعقد من النجوم. وضحك الرجل وقال: فلنتذكر أغنية جميلة يعرفها ثلاثتنا لنغنيها معا؟
يوم حافل
- لا!
قالها بحدة وهو يقطب، ثم رشف رشفة من قدح الشاي، وركز عينيه في القدح ليتجنب عيني زوجته، ولكنها قالت محتجة: كنت متوقعة هذا الرد! - حسن، لم لم تعفي نفسك منه؟ - لأن المرأة مسكينة حقا.
قال وهو يهز رأسه هزة الخبير بالعالم والناس: شياطين خبثاء. - اقرأ العريضة؛ لعلك تقتنع بأنها مظلومة حقا. - قلت شياطين خبثاء. - أنت تعلم أن زوجها وهب الوزارة عمره كله، فلأسرته حق في المساعدة التي يجيزها القانون. - وهب الوزارة عمره! .. اعلمي أن تسعين في المائة من موظفي الحكومة نباتات طفيلية تتغذى بدون وجه حق. - متى تغير بالله من طبعك؟
رمقها بنظرة باسمة باردة لا يمكن أن تنبت أملا، فحل صمت غير قصير، ثم سألها بنبرة جديدة وهو يقوم عن المائدة: كيف حال الولد؟
فلم تجب احتجاجا، ولما كرر السؤال قالت باستياء: نام ليلة أمس نوما هادئا، ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة.
واستقل سيارته وهو يأمر السائق قائلا: «جروبي». انطلقت السيارة تقطع الكورنيش مخلفة وراءها المعادي. وفتح الجريدة فتصفح العناوين الكبيرة بسرعة، حتى استقر بصره فوق صفحة الوفيات. طالع أسماء الراحلين أما الأقارب فسكرتيره الخاص يتولى أمرهم. متى يطالعك اسم علي كامل بالخط العريض؟ سوف تشيع جنازته بكل إجلال وتؤدى له جميع الواجبات ولكن متى؟ ذلك الرجل العنيد المصاب بتصلب الشرايين. وهو يعاندك ويتوهم أنه يحافظ على كرامته، وكأنه لا يخشى قوتك التي يعمل لها كل إنسان ألف حساب، فمتى؟ كما قرأت يوما اسم حسن سويلم. في مثل هذه الجلسة، في نفس السيارة، في نفس الطريق. يومها بدأت بالنظر في صفحة الوفيات فكان اسمه أول ما وقع عليه بصرك. البقاء لله .. حسن سويلم .. مراقب عام الإيرادات. متى يا علي كامل؟ - انظر أمامك!
صاح بالسائق بعنف؛ فحول الرجل عينيه بسرعة عن أسراب حمام تطير فوق سطح النيل كسحابة بيضاء. واكفهر وجهه لحظات، ثم انبسطت صفحته رويدا. آخر مشاحنة جرت بينك وبين المرحوم حسن قبل وفاته بشهر. يا حسن بك، أنا الذي يقرر متى يجب تقديم مشروع الميزانية. ولكن ذلك من صميم اختصاصي يا كريم بك. آه .. لا تضطرني إلى سحب العمل من يديك .. أنت تعرفني جيدا. إذن اسمح لي أن أحتج على هذه المعاملة، فلست أنا بالموظف الصغير. لو امتد به الأجل لكان اليوم منافسك الأول دون منازع. ولكن الجسم الفاسد لا يخلو من دمامل. ها هو علي كامل ذو الشرايين المتصلبة، ماذا يريد؟
وقفت السيارة أمام جروبي، فغادرها ثم دخل المحل. أجال بصره في أنحاء المكان حتى رأى الأستاذ علي فمضى إليه، ثم صافحه بحرارة قائلا: صباح الخير، تهاني على مقالتك الأخيرة. - أعجبتك حقا؟
كرر إعجابه وهو يجلس. وطلب قهوة وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى، فقال الأستاذ: الظاهر أنك وفقت؟
دس يده في جيبه الداخلي، فأخرج مظروفا سلمه للأستاذ، وهو يقول: قنبلة العام! - حقا؟ - سوف تنفجر تحت أقدام نسيم البحيري المأفون المغرور. - أنت متأكد من صحتها؟ - وثائق لا يرتقي إليها شك. - لا أريد أن أعرض الجريدة لقضية خاسرة! - الله يعلم كم كلفني الحصول عليها من حيلة ومال. - إن لم تقض على البحيري؛ فستقضي علي! - ستقضي على البحيري وحده.
تبادلا نظرة طويلة، ثم قال كريم: سيكون نصرا للجريدة. - ولك أنت.
ضحك كريم ضحكة أضخم بكثير من جسمه النحيل الدقيق، فتمتم الصحفي باسما: أنت رجل جبار حقا! - أنت رجل مستقيم ونظيف، فلا يهمني أن أرمى بعد ذلك بالقسوة.
وقرأ في عيني الصحفي نظرة لم يفهمها تماما، فقال: أنت أيضا تكرهه. - سأنشر الوثائق للمصلحة العامة، ولا دخل لعواطفي في ذلك. - حسن، وأنا أخدم المصلحة العامة بطريقتي كذلك.
وقام مادا له يده فصافحه، وهو يسأله عن صحة ابنه، فقال وهو يمضي عنه: لا بأس به، ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة، شكرا لسؤالك عنه.
استقل سيارته إلى مكتب الأستاذ يوسف عبد الرحمن المحامي الذي استقبله بترحاب وهو يقول: مبارك يا كريم بك، قرأت اسمك أمس بين المرشحين. - شكرا يا عزيزي، خبرني عن جلسة أمس. - تأجيل لتقديم مذكرات. - وماذا عن مركزنا؟ - عال جدا، أنا مطمئن كل الاطمئنان. - إذن سيركع فهيم الدسوقي؟ - أجل، ولكن ثمة جديد. - ما هو؟
قال المحامي بصوت أخفض درجة: تلويح بالصلح! - صلح!
لفظها كذبابة، فقال المحامي: سوف تحترم شروطك بطبيعة الحال. - ولو! - وهو على أي حال ابن عمك. - هذا مبرر للعداوة. - أهذا هو رأيك الأخير؟ - حتى النهاية.
وذهب إلى مكتبه بالوزارة، ثم طلب في التليفون رقما. - آلو .. علي؟ .. صباح الخير. - ... - عندي لك خبر مهم جدا. - ... - اقرأ غدا صحيفة الكوكب. - ... - نسيم البحيري قضي عليه إلى الأبد.
وضحك طويلا حتى ارتجت لضحكه أركان الحجرة الكبيرة الصامتة. واستقبل مدير مكتبه الذي عرض عليه البريد وبعض الموضوعات العاجلة. وجاء على أثره علي كامل فتبادلا الآراء في مسائل شتى، ووجهاهما يعكسان برودا سافرا. وعندما وقف علي كامل استعدادا للذهاب سأله كريم بدافع شيطاني مباغت: كيف الصحة؟
فأجاب الآخر فيما يشبه التحدي: لم تكن شراييني في وقت من الأوقات خيرا مما هي الآن.
عنيد، مكابر، كذاب. وجهك الشاحب المتغضن يفضحك. وعما قليل ستعتذر عن تخلفك الاضطراري عن اجتماعات المساء. علي كامل، البحيري، الدسوقي، وعشرات غيرهم. كائنات نخرها السوس فلم يبق منها إلا على عناد وحقد. أنت بحاجة إلى مدفع سريع الطلقات لتطهر منهم الحياة. وسوف تنتصر كما انتصرت دوما. حياتك سلسلة من المعارك متوجة بالانتصار. في ذلك متعتك وكرامتك في الحكومة أو النادي أو القرية. منذ نشأتك الأولى وأنت مناضل كأنك تعيش في حلبة ملاكمة. النضال هو روح الحياة وسرها، أما القيم المعسولة الخرعة فهي آفات الحياة. والرجال يضمرون لك إعجابا لا حد له، وإن رددت ألسنتهم خلاف ذلك فعن خوف أو حسد. حتى الوزير نفسه استدعاه يوما وقال له: يا سيد كريم، لماذا تثير الزوابع دائما؟
فتساءل بأدب واعتزاز معا: سيدي الوزير، هل أنا رجل صالح للعمل؟ - لم أطعن في ذلك أبدا. - ونظافتي؟ - على خير ما يرجى. - وعند الخلاف مع الآخرين، أين تجد سيادتكم الحق؟ - ولكنك تغالي في العنف، حتى لينقلب الوضع، فكأن الحق مع خصمك. - هكذا خلقني الله!
فقال الرجل بنبرة لم تخل من ضجر: حتى العنف في الحق يجب أن يقف عند حد.
وعند الظهر رأس اللجنة المالية. وتفانى في العمل كعادته فلم يبال بالوقت. ومرت ساعتان عقب وقت الغداء وهو يختلس من حين لآخر النظر إلى الوجوه المتعبة المتألمة، ويتربص بكلمة تذمر أو شكوى. وفي صدره لعبت عواطف ماكرة كشقاوة الأطفال. ولما أشبع طاقته في العمل والتعذيب فض الجلسة. واتصل بزوجته بالتليفون فسألها عن الولد: لا بأس به، ولكني استدعيت الطبيب لأن الحرارة لا تريد أن تنخفض. - بخير إن شاء الله، لن أعود قبل العاشرة مساء؛ بسبب العمل.
وفكر في مسألة مرض الأطفال وهو يتناول غداءه بالنادي. قال: إن الأطفال ما كان يجب أن يمرضوا على الإطلاق. المرض - إذا لم يكن منه بد - فهو ظاهرة تطرأ على الجهاز البشري عقب طعونه في السن، أما الطفل فلا يمرض إلا لخلل في الكون. وقد كان - هو - سليما عند الزواج، كما كانت كذلك درية زوجته، وولد رمزي آية في الصحة والجمال، فما معنى المرض إذن؟
ومضى إلى حجرة التليفون فانبسطت أساريره لأول مرة. لأول مرة سرت ابتسامة في غضون الوجه الصارم الكالح: آلو .. هنومة؟ .. كيف الحال؟ - ... - عال، هذا يعني أنه لن يعود اليوم؟ - ... - إذن نتقابل في السابعة؟ - ... - اعملي حسابك على ساعتين على الأقل، إلى اللقاء يا محبوبة.
واستقل السيارة وهو يقول للسائق: «بار الأنجلو». سيمكث هنالك ساعة ثم يمضي إلى هنومة. امرأة مثالية في غرامياتها، وزوجها البدين يتوهم أن البدانة يمكن أن تجعل من رجل زوجا موفقا. وهو يجيء إلى بار الأنجلو، فينهمك في لعب الطاولة مقامرا بمبالغ ضخمة، ومرة قاوم إغراء غريبا بصفعه على قفاه. أما البحيري فموعده الغد. سوف يصعق عند مطالعة الجريدة، وإذا انتحر فسيثبت بانتحاره أن سوء ظنه به لم يكن صوابا على طول الخط. واضطر السائق إلى ركن السيارة في آخر الطريق عند أول موضع خال فغادر السيارة؛ ليتم طريقه مشيا على الأقدام. سار فوق الطوار بجسمه النحيل الدقيق يطالع الدنيا بوجه صارم شبه متقزز. ومر بمحل لبيع التحف اليابانية، فدخله دون سابق تفكير لابتياع هدية لهنومة. اختار شبشبا مناسبا تماما للاستعمال في مسكنهما السري بالهرم. وواصل مسيره نحو البار. وعند أول منعطف قبل المقهى، وعقب نزوله من الطوار مباشرة، وجد نفسه مدفوعا نحو غلام يبول؛ فتراجع بسرعة هاتفا: «يا ولد يا كلب.» كان الغلام يبول في علانية استعراضية، وشقاوة وشت بسروره بما يفعل. وقد انطلق البول متلألئا تحت أشعة الشمس في هيئة قوس، والغلام يدفعه بحركاته الذاتية إلى أقصى مدى يستطيعه. تراجع كريم بك في شبه فزع فزلت قدمه، فهوى على ظهره فارتطم مؤخر رأسه بحافة الطوار. ذعر الغلام فولى هاربا. ووقف المارة القريبون؛ ليشاهدوا الحدث الغريب، وهم بين الرثاء والابتسام، ولكن كريم بك استلقى في إغماء لا شك فيه. وهرع إليه بعض ذوي النجدة ليسعفوه. وارتفع من بينهم صوت هاتفا: يا لطف الله ... الرجل جثة هامدة!
Shafi da ba'a sani ba