فقال المقرئ الأعمى: قل «أنا مرة!»
وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخش اعتداء عليها وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار، ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب، وتسب وتلعن وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة، ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق، وقد امتلأ جسمه، وانتفخ كرشه، وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم تعد توقظ مشاعره، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب .. مكتوب!
ولم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن، ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها ممتعضة دائما مكفهرة ومتوثبة للشجار دائما، فقد قست ملامحها، وبردت نظرتها، وطبعت بطابع الجفاف؛ فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة.
وحتى سحرها الذي أطاح برأس الضابط قد بطل، أو هذا ما بدا للأعين المستطلعة، فتهامست به أركان التوتة.
وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة.
الرماد
حسن السماوي شخص يثير الحنق. ولا يشذ عن هذا الرأي فيه أحد في إدارة الحسابات بشركتنا. وهو قصير القامة كصبي، ولكنه عريض الصدر كمصارع، ولونه أسمر داكن مشوب بصفرة، ومن عينيه الصغيرتين تطل نظرة غير مأمونة، وفضلا عن ذلك فهو قريب المدير العام. وطبيعي أن نشعر بأنه عين علينا، وألا نرتاح إليه لخشونة طبعه، وأن نضيق به لتمتعه بكافة أنواع المكافآت التشجيعية بلا جدارة، غير أنه يحظى بالمجاملات في خير أحوالها. وكان مولعا بسحر الكاتبة على الآلة الكاتبة. ظريف جدا أن ترى جلفا وهو يحب، أن يجود وجهه المنفر بابتسامة رقيقة، أن يرق صوته الغليظ وهو يهمس لها بكتابة ميزان الصرف اليومي. وكنا نتابع ذلك باهتمام ما بعده اهتمام. ومع أننا تمنينا أن يعذبه الحب لعله يهذبه إلا أننا أشفقنا من أن يفوز حقا بسحر، الجميلة الرقيقة الواعدة بكل خير في مجالي الأنوثة والعمل. وثمة لحظات لا يكون بينهما حديث مما يمليه العمل، فيسترق إليها نظرات حمراء من فوق استمارات الصرف، وقد يتصبب عرقا، أو ينال منه الإعياء فيرتد عنها بنظرة خامدة. ويوما همس جاري في أذني بنبرة ذات مغزى: آه، لو رأيت سحر وهي تبتسم خفية؟
خطفت نظرة من سحر وهي عاكفة على الآلة الكاتبة، وأصابعها المخضوبة الأظافر تعزف عليها بنشاط، ثم قلت متأسفا: نعمة لا يستحقها!
فهز رأسه نفيا وقال: ليس هذا، ولكنه برهان!
وعجبت. برهان موظف جديد التحق بالخدمة منذ أسبوعين فقط، شاب ممتاز حقا، ولكن كيف أحرز هذا النجاح في هذه الفترة القصيرة؟! ورحت أراقبهما في لحظات الفراغ حتى لمحت ابتسامة يتبادلانها، لا شك في معناها. وتوقعت أحداثا، وانتقل الخبر في سرية تامة من شخص لآخر حتى استقر عند رئيسنا الكهل الذي يدنو من سن المعاش. ولم يعد الأمر تسلية، فحسن السماوي ليس جلفا فقط، ولا قريبا للمدير فحسب، ولكنه أيضا من أقاصي الصعيد، من أرض عرفت بأنها ترتوي بدماء البشر، فذهبنا في التخمين كل مذهب.
Shafi da ba'a sani ba