فتساءل حيدر بنبرة باردة: ألا يدفعون ثمن ذلك بسخاء؟
ولم يناقشه رغم ما بدا له من إمكان ذلك. وعاد ينظر في الساعة، ويتساءل عما يخبئه له اليوم.
وأغمض عينيه فشعر بشيء من الراحة، ولكن ضوضاء الطريق ضايقته كما لم تضايقه من قبل، فود لو يغرق كل شيء في الصمت.
بيت سيئ السمعة
كان منهمكا في عمله عندما استأذنت سيدة في مقابلته، وجلست وهي تقول: صباح الخير يا أستاذ أحمد.
سيدة واضحة الكهولة، مقعرة الخدين من ذبول، بارزة الفم، تعكس عيناها نظرة متعبة، وتضفي عليها ملابس الحداد تجهما وكآبة. وسرعان ما أدرك من مطلع حديثها أنها قصدته بأمل أن يسهل لها الإجراءات الخاصة بمعاشها. وهم بتحويلها إلى مدير المعاشات مشفوعة بتوصية غير أن لمحة في نظرة عينيها المتعبتين استرعت انتباهه. خيل إليه أنها ترمقه بنظرة خاصة تراوح بين الارتباك والخجل. ما سر ذلك يا ترى؟ هل تعرفه؟ وفي الحال ومضت في ذاكرته ومضة أضاءت غياهب الماضي، فهتف في ذهول: حضرتك؟
قالت وهي تغض بصرها في حياء وتأثر: نعم، ومن حسن الحظ أني عرفت أن حضرتك مراقب عام المستخدمين.
ولم يكن تذكر اسمها، ولكن وثب إلى ذهنه اسم التدليل الذي عرفت به «ميمي». إن منظرها أكبر من عمرها. وعمرها لا يمكن أن يجاوز الخمسين. ولعله من الذوق أن يختلق سببا لعدم معرفتها بالسرعة التي - لا شك - توقعتها. قال: كنت مشغولا جدا، فنظرت إليك بعينين غائبتين فلم أعرفك.
فابتسمت عن طاقم نضيد، وقالت: أنا تغيرت أيضا، الضغط ربنا يكفيك شره، والحياة أنهكت أعصابي، لي بنتان متزوجتان، وثالثة في بعثة، وعندما وصلنا إلى بر الأمان توفي المرحوم زوجي.
وتبادلا السؤال عن الأسرتين، فتردد ذكر من تزوج، ومن مات، ومن يقيم في القاهرة، ومن انتقل إلى الأقاليم، وكان في أثناء ذلك يحاول أن يستحضر صورة ميمي القديمة بصعوبة لا تكاد تقهر، فاحتج مرات على قسوة العبث. وأخيرا كتب لها توصية إلى مدير المعاشات وانتهت المقابلة.
Shafi da ba'a sani ba