Tsakanin Ebba da Ambaliya
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Nau'ikan
بدت العربية في القرن السادس لتكون لسان الحضارة الجديدة، فانطلقت من شبه الجزيرة تنقل إلى الأمصار القصية مفرداتها ومميزاتها، وجابت الأقطار ناشرة لهجاتها المختلفات من أطراف جزر الهند إلى أواسط القارة الأفريقية. •••
لم تقم سطوة العرب في أيام مجدهم وعزيز الذكر المحفوظ لهم على فوزهم الحربي فحسب، بل الخلافة العربية مدينة بعظمتها للآداب والعلوم أكثر منها لمضاء السيف وتعدد الفتوحات.
ففي القرون السبعة الأولى التي بدأت بالدعوة إلى الإسلام والهجرة من المدينة (عام 622 للميلاد)، وامتدت إلى القرن الثالث عشر، يشهد المؤرخون لمدنية من أعظم المدنيات التي عني بإثباتها تاريخ الآداب، فيها كان الشعراء والأدباء والعلماء والمؤرخون والفلكيون على اختلاف طبقاتهم ونحلهم يتسابقون إلى أصقاع أظلها العلم العربي؛ فصارت وجهة الطالب وكعبة الباحث. كانوا يذكرون حث النبي على طلب العلم، وقوله: إن الذي يسير في سبيل طلبه إنما هو مسهل أمامه طريق الجنة. يذكرون ذلك فيتقاطرون من كل الأمصار من المغرب الأقصى والهند وجاوه والقوقاز وتركستان ، فيقطعون البحار الواسعة، ويطوون الجبال والوهاد وراء القوافل الكبرى ووجهتهم المساجد الشهيرة في مكة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة؛ لأن الجامع لم يكن مكان الصلاة فقط، بل كان (وما زال في أكثر البلاد الإسلامية) ملتقى العلماء ومجمع المتباحثين ومدرسة المتعلمين؛ فتقوم ثمت المناظرات في الموضوعات السياسية واللغوية والدينية.
ويجوز القول في الذين كانوا يهتمون بتلك المناقشات اهتماما يدفعهم إلى تدوين خلاصة ما يسمعون في صحائف يوزعونها على فريق دون آخر - يجوز القول فيهم: إنهم كانوا الصحافيين الأول. وقد كانت جميع أحوال الدولة داعية إلى إثارة هذه النهضة الفكرية. فالاحتكاك المتواصل بالشعوب الغريبة، وعيشة المدن الكبيرة، وثروة الدولة المتزايدة، ورفاهية الحياة الفردية الناتجة عن الفتوحات الواسعة، كل ذلك كان دافعا بالمدنية الأدبية إلى الأمام.
منذ القرن الثاني للهجرة أخذت تلتئم الاجتماعات العلمية في مدن الشام والعراق، في دمشق والبصرة والكوفة على وجه خاص. فكان عهد الخليفة المنصور عهدا زاهرا تقدمت فيه الآداب، وارتقت الأفكار، وترجمت المؤلفات الهندية واليونانية في الفلسفة والآداب والعلوم؛ فتعددت المكاتب العمومية وغصت قاعاتها بالطلاب والمطالعين، وكان كل خليفة وكل أمير يفاخر بما أنشأه من المكاتب، وبعدد ما جمعه من نفيس الكتب. ولما كان الخلفاء يبتاعون الكتب بوزنها ذهبا، ويفسحون صدر مجالسهم للشعراء والعلماء ويجزلون لهم العطاء، كان الأغنياء والأعيان يقتفون بالخلفاء ويفردون للعلم والأدب مكانا من حياتهم وحياة قومهم.
ولقد عني العرب بالتاريخ عناية خاصة؛ لأنهم شعروا باحتياجهم إليه لتدوين ما يقع من الحوادث في صدر الإسلام، وما يلقاه الدين الجديد من المقاومة أو الترحاب. أما العلوم اللغوية فقد كان لها عندهم شأن لم يكن لعلم آخر، وسرعان ما وضعوا قواعد الصرف والنحو للغتهم الزاخرة، في حين أن الإغريق، وهم مهذبو الأمم الأوروبية، لم يفرغوا من وضع أصول غراماطيقهم
5
إلا بعد انتقالهم إلى خارج بلادهم، يوم جازت حضارتهم إلى وادي النيل فقامت بها عظمة الإسكندرية.
وما قيل في الرومان من حيث تأثير الإغريق في مدنيتهم ينطبق على العرب بعد فتح بلاد فارس ؛ لأن التمدن الفارسي القديم قد صب في التمدن العربي الحديث وما كان أن امتزج بعناصر بيزنطية، ومن ذلك الخليط المختلف، المتناقض أحيانا؛ حيث تلاقت آثار مكة، وسوريا اليهودية والمسيحية، وبيزنطية، وبلاد فارس وبلاد الإغريق، (هذه فيما يتعلق بالعلوم والفلسفة فقط) نشأت مدينة سبكت في قالب خاص؛ فبدت للملأ مدنية قومية عربية.
لم يعن الفن العربي بالصور والتماثيل، والنحت العربي كالرسم؛ مقتصر على تنميق الحروف الكتابية. إنما العرب أجادوا في نوع من هندسة البناء بدأوا باقتباسه عن الفرس، ثم مزجوه بخصائص بيزنطية، وقد راج ذلك الفن رواجا عظيما في إسبانيا؛ فبنيت طبق أصوله «الحمراء» في غرناطة، وجامع إشبيلية ومأذنته الباذخة، ويمتاز البناء العربي بأقواسه الأنيقة، وأعمدته الهيفاء، وتخريمه الدقيق، وبزخرف كله رونق وبهاء، ومن أجمل آثاره مساجد الأستانة وقرطبة ومصر.
Shafi da ba'a sani ba