وانقطعت حلقة أسئلتها وسكنت قليلا، فسألتها: هل يمكنك؟
وكنت أسألها وقلبي يخفق خوفا من أن ترفض أو تتحجج أو تنتحل أعذارا، ولكن كان شيء ما يؤكد لي أنها لن ترفض، شيء يستحق ثانية تأمل؛ فالإنسان منا ما يكاد يسأل نفسه: ترى هل هذه بغيتي؟ ويراها فعلا بغيته، حتى يبدأ في الاقتراب منها مادا ثقته بنفسه كقرون الاستشعار أمامه، وهي قرون حساسة جدا، إنها لا تمتد أنملة واحدة إلا إذا أحست برضى من الطرف الآخر، وليس للرضى شكل معين، ولا يستطيع الإنسان أن يلمسه متبلورا في شيء محدد، هو ليس حالة تصاحب حركات الطرف الآخر مصاحبة خفيفة.
الطريق دقيق جدا، ذلك الطريق الذي يفصل بين الرجل والمرأة ويصلهما، وكل منهما يسلكه باحتراس شديد. إن الرجل وهو يطلب المرأة كالصبي حين يحاول الإمساك بفراشة، إنه يقترب منها في حذر مبالغ فيه مخافة أن يأتي بحركة غير مقدرة ومحسوبة تجعلها ترف بجناحيها وتطير.
وهكذا كنت وأنا أقترب من سانتي؛ فنحن حين نعثر على بغيتنا يتعاظم خوفنا أن نفقدها، نحن لا نتعلم الحب في المدارس، وكل منا يطلب بغيته وهو جاهل بالطريق إليها، وكل جنس له طبعه وغرائبه، وكل جنس يجهل طبائع الجنس الآخر، وكلنا نفعل هذا بلا خبرة ولا معلم أو مرشد؛ فكل تجربة قائمة بذاتها لا يصلح لها ما يصلح لأخرى.
3
وجاءت سانتي إلى الشقة أول يوم.
ولست أعرف إلى الآن كيف استطاعت الوصول إليها؛ فالطريق إلى بيتي في القسم البولاقي من شارع فؤاد كان صعبا، ولكنها جاءت، وقابلتها بترحاب غامر، وكان مجيئها يعني أن علاقتنا تنمو نموا طبيعيا جدا، وكان هذا يطمئنني تماما كالصبي حين يقترب من الفراشة وهو ضامن أنها باقية على وضعها إلى أن يطبق عليها بأصابعه، ذلك الضمان الذي يجعله ثابت الخطوات ثابت الأعصاب واثقا من نفسه، بحيث تدفعه تلك الثقة إلى نوع من الهدوء لا يجعله يأتي بحركات هيستيرية تطير منه الفراشة.
وتعودت سانتي أن تأتي، وفي كل مرة يزداد اقترابنا، كانت غبطتي لمجيئها تزداد، وغبطتها تزداد أيضا، وبنفس الأهداف، فلا أعرف أنا سر انجذابي نحوها أو هدفه، ولا أعرف أيضا سر موافقتها على هذا، بل وانجذابها هي الأخرى، لم يكن يبدو عليها أنها من ذلك النوع المغامر أو المتساهل! العكس كان صحيحا، كانت تبدو دينامو عمل هائل وطاقة حماس لا تفرغ. ولكنني لا أعرف ما حدث في تلك اللحظة الغريبة التي التقينا فيها أول مرة فأخرجتنا عن مدارينا المفروضين وجعلنا نلتقي بلا عمل، ثم نبدأ نختلق الحجج للالتقاء ولتعدده أبدأ متشحبا أضع هدفا لنفسي وأحيطه بضباب كثير؛ فالخجل جزء من طبيعتنا ونحن لا نستطيع أن نواجه حتى أنفسنا بأهدافنا الحقيقية.
وعلى الرغم من غموضه، فقد كنت أمضي ثابت الخطى في الطريق إليه، وهدفي لم يكن أبدا ذلك الطوفان من العواطف الذي انتهت إليه علاقتنا، كان هدفي واضحا وصريحا، مجرد مغامرة حب سريعة خاطفة. والرجل حين يحدد هدفه من المرأة يدفعها إليه واحدة فواحدة، بنظرة مرة، بضغطة على اليد مرة، باصطناع غضبة، باختلاق غيرة، بلوم، بإهمال أحيانا، وتوريط أحيانا أخرى. وهو لا يفعل هذا بوعي؛ فالإنسان منا آلة معقدة غريبة! ضع لها الهدف واتركها تتصرف، وثق أن كل حركة من حركاتها سيكون مقصودا بها الاقتراب من ذلك الهدف.
وحتى بعد أن تحدد الهدف ظللنا نتحرك تجاه بعضنا البعض بانجذاب متساو. ولكن الأوضاع لا تدوم هكذا أبدا؛ فلا بد في آخر كل أمر أن يقوى أحد الطرفين ويصبح هو القطب الغالب فيقف في مكانه ثابتا واثقا من نفسه، متأكدا أن الآخر سائر نحوه، وأنه قد أصبح في تلك العلاقة المسيطر صاحب اليد العليا والكلمة المسموعة.
Shafi da ba'a sani ba