Jarumin Tashin Hankalin Masar
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
Nau'ikan
هذا؛ ولقد كانت الإرادة القوية عاملا من أكبر العوامل في تطور العالم وارتقائه، وازدياد وسائل المدنية وأساليبها ومستلزماتها، فهي التي رفعت الإنسانية من ظلمة الخمول وحمأة الانحطاط، هي التي كشفت العالم الجديد، وفتحت مجاهل العالم القديم، وظهرت على متن العالم الجليد
5
هي ذللت الكيمياء الحديثة وأحماضها، وهي أخرجت مكتشفات الطب الجديد وجراثيمه وأدويته ومضاداته، وهي اخترعت عجائب الطيران ومدهشاته.
ولا أحسب الرجل الذي يحاول اختراق الطريق مسرعا فتدهمه العجلات كان يعجز عن بلوغ الجانب الآخر، لو لم تتعطل فيه قوة إراداته، فعطلت فيه قوة ساقيه، ألا ترى اللص الهادئ، يعدو والشرطي في أثره، وإذا به قد وقف بغتة عن عدوه، وكان سابقا الشرطي بالمسافة البعيدة، ذلك لأن قوة الإرادة فيه قد اضطربت، فاضطرب لها مجموع جسمه.
إن أمام الإرادة القوية الوثابة لا تتطاول صعاب الأمور وعسيراتها ولا تستكبر عظائم الخطوب وجليلاتها، بل إن اجتياز نابوليون هضاب الألب وجباله، وثلوجه وشعابه، هو الذي علمه أن يقول إن كلمة «مستحيل» ليست في اللغة. (4) من القاضي إلى الوزير
ننتقل الآن من ترجمة القاضي إلى حياة الوزير، ونترك منصة القضاء إلى مسند الوزارة، وليس في أعمال الجمعية البشرية عمل هو أخطر من عملها، وليس بعد الصحافة كما يقول اللورد روزبري من وظيفة هي أشق ولا أكبر مكانا منها، وما كان في أبهة هذا المنصب وعظمته وضخم أعطيته ما يغني عن متاعبه ومشاقه وأخطاره، وأنت لا ترى الوزارة تجعل من الرجل عظيما، ولا تخلق منه نابغة، بل هي تحبوه ليس غير بالعطاء الكبير واللقب العظيم والمركب السني، وهو الذي يعلو بالوزارة ويهبط وينحرف بدفتها ويستقيم إذ كانت الوزارات مقاييس حرارة لرجالها، وموازين دقيقة لكفاءات أربابها، هي التي تريك مقدار الجزء الإنساني من الوزير، وتشعرك بمبلغ الشعور الأهلي في الحكومي، وتفهمك مقدار علمه بالنفسية الأمية، والوجدانات القومية؛ إذ كان حقا على الوزير أن يكون عليما بسيكولوجية الشعب وشعوره، ومطالبه ومراميه، وطبائعه ومزاجه، وهل كان جراي ودلكاسيه وأشباههما إلا من أكبر علماء النفس، وأعظم الملمين بروح الاجتماع وأسراره؛ ذلك لأن الوجدانات الأهلية أشبه بالوجدانات الطفولية، سريعة التحول، متناقضة المبادئ ضعيفة الاستنتاج، قابلة للتأثير، خوارة أمام الشخصية الحكومية الكبيرة، ولذلك كان من الوزير الكبير أن يحتال لعوارضها ويتحصن من تقلباتها، ويعمل على مصانعتها وإظهار شخصيته عليها، ولذلك كانت الوزارات قصيرة الأعمار سريعة السقوط، مستمرة التجديد؛ إذ على قدر معرفة الوزارة بنفسية شعبها والعمل على مطاوعة هذه النفسية ومواتاتهما يكون عمر الوزارة من القصر أو الطول ومكانها من الاحترام في التاريخ.
كان انتقال صاحب الترجمة من محكمة الاستئناف إلى وزارة المعارف من أكبر العوامل في حياته فقد أخذت شخصيته القوية من ساحة القضاء لتعرض في ساحة الأمة، ولم تعد تلك الفضائل الإنسانية العظيمة التي تنطوي عليها روحه تبدو فقط للمجرمين والمتهمين وأرباب الظلامات، وذوي الحقوق المضيعة والشكايات، بل هنا جعلت تتجلى للجميع، وهنا بدأت حرارتها تزداد، ونطاقها يتسع، وأثرها يعظم ويطول، لأنها تريد أن تشمل كل فرد في الأمة وتعم المجتمع المصري بجملته، ولقد كانت وثبته من مرتبة القاضي إلى كرسي الوزير دليلا بينا على علو شأنه، ورفعة روحه؛ لأن الامتياز باستقلال الرأي واحترام الذات والبعد عن الزلفى والملق لأصحاب السلطات، كان كفيلا بأن يأخذ بيده إلى منصب سام لم يكن يومذاك يفكر فيه أو يطلبه، بل أعجب ما في ذلك أن المترجم به حتى يوم تعيينه في الوزارة كان أبعد الناس عن فكرة مفارقة وظيفته التي ألفها واطمأنت نفسه إليها وحبس آماله وكفاءاته عليها، وأنه لما ذكر نبأ تعيينه الجديد حسبه مزاح مازح ودعابة مداعب؛ ذلك لأنه كان قليل الاختلاط بالقابضين على أزمة الأمور، في معزل عن أولي السلطة والنفوذ مخلدا إلى وظيفته يخلص إليها ويتوفر على إظهار نبوغه فيها، وليست هذه الحادثة إلا أمثولة طيبة، جديرة بالعظة، خليقة بالاعتبار، هي مقياس لنتائج الخلق الكريم، والذهنية العظيمة، والروح العالية، فقد كانت سنة الرقي من وظيفته التي كان بها أن يدرج منها إلى وكيل للمحكمة فرئيس لها فوكيل للوزارة حتى ينتهي إلى الوزير، وكان في البلاد كثيرون من هؤلاء هم خلقاء برتبتهم وألقابهم ومناصبهم بأن يظفروا بالمنصب دونه، ولكن المزايا الذهنية والروحانية التي نبغت في سعد زغلول بك
6
كانت بحيث تحتاج إليها الوزارة أكثر من المحكمة، وكانت باعثة على هذه الطفرة السريعة، وسترون مما سننشره من أعمال المترجم به في وزارة المعارف أن ذلك الانقلاب في سنة الرقي الحكومي، جاء بالخير العظيم للأمة والإصلاح العلمي الكبير، وكثيرا ما يكون الانقلاب السريع خيرا وأفعل أثرا من التطور الهادئ البطيء.
وقد كان دخول سعد زغلول بك الوزارة عنصرا حيويا جديدا في الحكومة إذ كانت الوزارة الفهمية قد ظلت إحدى عشرة سنة وأشهرا وهيئتها على حالها لا تغيير ولا تعديل، وكانت وزارة المعارف تحت المرحوم حسين فخري باشا يشرف عليها وهو في وزارة الأشغال، كعمل هين إضافي، فكانت وزارة المعارف بحاجة إلى قائد يبث فيها روحا حارة، وذهنا كبيرا نشيطا، ويسير بها في طريق الإصلاح السديد، فلم تجد الحكومة لها أكفأ من المترجم به فعينته.
Shafi da ba'a sani ba