Jarumin Tashin Hankalin Masar
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
Nau'ikan
3
كانوا يقتلون ويذبحون إلا لأنهم يريدون أن يستخلصوا حق الشعب من الأرستقراطية والكهنوت، لا ليردوه للشعب ويعيدوه، بل ليستفردوا هم به وحدهم، ولعل الشعب في الثورة وتحت الجمهورية الأولى، كان أسوأ حالا منه تحت الملكية، فلما جن روبسبيير بالسلطان، وأذهلت لبه مشاهد الدماء، وذهبت بعقله روعة «الجلوتين» أراد الشعب على دين جديد ينسخ به الدين القديم، وأسمى دينه ذاك «عبادة المخلوق الأعلى»، وما كان المخلوق الأعلى في هذه العبادة إلا روبسبيير نفسه، فهل كان هذا من حقوق الشعب المهضومة؟
ولذلك لا نجد طلاب الثورة في أكثر الأحايين إلا طلاب المآرب وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الثورة جاعلتهم
4
ولا ريب كذلك والمترجم به في صف أولئك العبقريين كبار النفوس المنضوين تحت ذلك اللواء الذي يحمله في طليعتهم جون ملتون، الشاعر الإنجليزي الخالد، وهو «أعطني حرية القول، وحرية التفكير، وحرية الضمير، ولا تعطني قبل ذلك شيئا» وإنك لتسمع من كل فم ، وتلفى على كل شفة، اسم صاحب الترجمة مقرونا بتلك الصفة العظمى، والسجية الكبرى ونعني بها حرية الرأي وصراحة القول والمبدأ، يرى الطبيعة التي فطره الله عليها شرعا إلهيا مقدسا ينبغي أن لا يغير فيه الناس ويبدلوا، ولا يمحوا فيه ويثبتوا.
وما كان الرجل العظيم إلا ليدلي برأيه أمام العالم كله: وإن اجتمعت أمته وأمم الأرض جميعا على مخالفته في ذلك الرأي وأنت فلا تسمع لأولئك الذين يقولون: إن صوت الشعب هو من صوت الله، فلعله في أكثر الأحايين من صوت الشيطان وضرورة الحكومة الخارجية للإنسان لا تكون إلا على نقيض نسبة القوة التي يستعين بها الإنسان على حكومة نفسه، فإذا استكملت الثانية واستجمعت، قلت الحاجة إلى الأولى ونقصت، ومن ثم كلما ازدادت الفضيلة بضروبها وفروعها: ازدادت الحرية وعمت، والرجل الذي يقذف بأغراض الناس وآرائهم ويعمل بإرادته لا بإرادتهم، ويفكر بذهنه لا بأذهانهم، ليس إلا رجلا تنزلت الإلهية على قلبه وصفت مشاعره من شوائب الحيوانية، وتنزهت عواطفه عن نقائص البشرية.
وترى الرجل العظيم يجهر عالي الصوت برأيه في يومه، فإذا جاء عليه الغد، أعلن رأي غده في مثل جهارة صوته، ورفعة روحه، حتى وإن نقض رأي الغد رأي أخيه الأمس، لا يحفل بأن لا يفهم الناس من أمره شيئا.
وهل فهمت الإنسانية كلها في جميع أجيالها فيثاغورس وسقراط ولوثر، وغاليليه ونيوتون، وكل من على شاكلتهم من كل ذي روح نقية حكيمة ركبها الله في جسم ودم. والعظمة أخلق بأن لا تطلب الوضوح للناس، وأحرى بأن تدق على أنظار صغار الناس، وتغيب عن أفهام عاديي الرجال، وكل ما ترى من عظمة العظماء، ونبل أرواحهم وصراحة أفكارهم، وحرية ضمائرهم، ربيب العزلة، ووليد الابتعاد عن غمار الجماعات؛ إذ كان المجتمع في كل مكان يعمل على قتل رجولة كل فرد من أفراده، وما المجتمع إلا شركة مساهمة يدفع لها كل عضو من أعضائها حريته وفكره ثمنا لسهمه، ولا ينال من أرباح هذا السهم إلا خبزه وطعامه وأمانه، ولذلك كان عظماء العالم ومفكروه وقادته وعبقريوه هم الذين نشئوا بعيدين عن المجتمع، خارجين على قوانين هذه الشركة الغابنة رافضين أرباحها وسهامها، عاملين على إفلاسها، وإصلاح موادها وبنودها، وإن أكبر مزايا المفكرين والعظماء، أمثال سقراط، وأفلاطون، وسبنسر، إنهم لم يعتدوا بالجماهير ولا اكترثوا بآراء الناس، ولا بالعادات والقوانين التي يعيش عليها الجماعات، وإنما جاءوا بآرائهم على نقيضها، وأتوا بأفكارهم هادمة لأفكارها. (3) قوة الإرادة
نعود فنسترسل في ترجمة هذا الرجل العظيم الذهن، الكبير الروح، المتوثب الوجدان، ونعود فنأخذ في دروسنا الجليلة التي نستمدها من الحياة العظيمة، والشخصية الكبيرة، وما كانت حياة العظيم إلا الجزء الأكبر من حياة الإنسانية نفسها، ولو أردت أن تستلخص تاريخا حيا حارا لأمة من الأمم، فالتمسه في تراجم عظمائها وقائمة أبطالها، ولو أنت تجاوزت ذلك إلى حياة عامة أفرادها، وعادي رجالها، لما كان تاريخك إلا مذكرات يومية بطعام الأمة وشرابها، وشبعها وريها، وحيوانيتها وعجماواتها، وليست تراجم كبار الرجال إلا برامج سامية للجنس، وخططا عالية للنوع، هى أشد أثرا في تطور الإنسانية من الفلسفة والعلم، وابتكارات الذهن، ومخترعات العبقرية، لأن هذه لا تهذب نفوس الناس، ولا تطهر من أخلاقهم، ولا توقد من وجداناتهم، بل إن الفلسفة والعلم والآداب والمبتكرات في كل يوم تقتل نفسها، ويمحو اليوم منها ما يثبت الأمس، وأما حياة العظيم، فلا تني تخلق عظيما مثلها أو أشد عظمة، وهي بعد مطهرة لدهماء الناس، مهذبة لأخلاقهم ووجوه الحياة عندهم، وما كانت حياة نابوليون إلا نسخة أخرى من حياة هنيبال أو الإسكندر، بل كم خلقت ترجمة نابوليون من نابوليون صغير، له روح نابوليون العظيم ومشاعره وليست له قوته، وليس له حظه. •••
تكلمنا فيما مضى عن نواحي شتى من شخصية سعد زغلول باشا ومزايا عظمته ونحن اليوم ذاكرون شيئا من قوة عزيمته، وقوة دأبه وإرادته، فمن ذلك أن المترجم به تعلم اللغة الفرنسية، وهو يكاد يناهز الأربعين من سنه، ولم يلبث غير قليل حتى حذقها، وأتقن معرفتها، وبلغ من إلمامه بها، أن أدى الامتحان بها في علم الحقوق وهو قاض في الاستئناف، ونال بذلك شهادة الليسانسييه . وأنت ترى من ذلك أن هذا الرجل الكبير كان ينزل عن منصة القاضي ليجلس مجلس التلميذ، وذلك لأن العظمة لا تخجل من أن تستخدم ما تحتها في سبيل كماليتها، وأن الشاعر العبقري لا يضيره أن يجالس البغي لكي يستعين بتحليل نفسها على الإبداع في قصيده وخواطره، والفيلسوف لا تسمو نفسه عن أن يماشي السكير لكي يدرس طبائعه وعوارضه، والبحاثة العالم لا يترفع عن أن يصحب السوقة ليكونوا مادة له في بحثه وتفكيره، والناس كلهم طلاب معرفة، وأشدهم في طلب المعرفة نوابغهم؛ لأن المعرفة في التعريف الفلسفي، هي ضرب من القوة.
Shafi da ba'a sani ba