Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Nau'ikan
قالت مؤكدة: حقا. ليتك تعرف نفسك.
تشاغلت مرة أخرى بترتيب أشيائي وكتبي وأسطواناتي، رحت أردد كلاما لا معنى له وأتمتم بأغنية لا داع لها: هل تسنى لأحد أن يعرف نفسه؟ حتى سقراط يشككنا في هذا. ما أكثر هداياك! إنني لا أجد لها مكانا. لو لم تهدني هذه الكتب والأسطوانات و... و... و... لما وجدت مشكلة في حزم الحقائب. كانت تكفيني حقيبة واحدة. أثرثر وأحاول أن أضحك وأتغابى وأتخبط كطاحونة. كنت قد سرقت نظرة إلى عينيها. غارقة في الدموع. أرجع للثرثرة التي تبحث كل لحظة عن وقود جديد. لكني أتبين عجزي. أكتشف براعتي المفضوحة في الهرب منه. ألمحها تجفف عينيها وتنهض على قدميها وتقول بعدم اكتراث أحمى من السكين: يا ... يا ... هل نتمشى قليلا؟
أجيب كمن خرج من ورطة: نعم. في الحال.
نغادر الحجرة إلى فناء البيت، تتوقف عيناي على كل شيء: المدخل الداكن النظيف، الدرجات اللامعة باستمرار، صندوق البريد الذي جرب لهفة الانتظار لخطاب لا يأتي أبدا. أنظر في الفناء الصغير، شجرة لا أعرف فصيلتها تظلل مرتفعين صغيرين عليها نقش أسود جميل الكتابة المطرزة على نسيج، تحته يرقد «تاسو» كلب العجوز التي أسكن عندها، لم سمته باسم الشاعر الإيطالي البائس؟ أنظر لواجهة البيت، نعبر الممشى الظليل إلى باب السور المنخفض الذي يؤدي للشارع. أتوقف أمام نافذة حجرتي. هل يمكن أن أرجع مرة أخرى؟ الأيام التي عشتها، والليالي التي سهرتها، والكلمات والضحكات والأحلام والهموم ولحظات اللقاء المختلس واللذات البائسة والقراءات والأفكار. لماذا يموت شيء فينا كل لحظة؟
لم يفتح الماضي فمه العجوز ويبتلع كل شيء؟ كيف نوقف نهر الموت البطيء لحظة واحدة؟ النهر يجرفنا، قاربنا ينحرف معه، والهاوية مستعدة على الدوام. كم مرة عبرت هذا الشارع الصغير، كم مرة فوجئت بالقمر يطالعني خلف الأشجار والبيوت المنحدرة السقوف وأبراج الكنائس كأنه وجه طفل كبير يغرق في بحيرة ذهبية! كم أيقظني من أحلامي وأنا متأبط حقيبة كتبي مهموم بالأفكار التي أصارعها وتصارعني، ذاهل عن نفسي والأرض التي أسير عليها، كأن الطفل السماوي يتربص في كل مرة، وعينه الواسعة الملتهبة، تنسل إلى قلبي فجأة لتسألني: من أنت؟ وكم هربت من السؤال، كومت الكتب والأفكار على رأسي، استندت لعكازة أمل واه، خلقت المبررات والمبررات.
أيقظني صوتها: لحظات الوداع كالثمار الناضجة المتساقطة من الشجر. من يدري متى ترجع لهذه المدينة، لهذا الشارع، للقنوات الرقيقة الجارية على جانبيه، أشجار السيدر والزيزفون التي عبرت بها كثيرا. - عبرت بها وبكل شيء. أليس الإنسان عابرا على الدوام؟
وضعت يدها في يدي، وقالت: هذا ما تقوله. ولكني أشك فيه.
سألت: كيف؟ ألا ترين كل شيء يصبح ماضيا؟
ضحكت وصنعت بيدها قوسا دار حول الأفق والبيوت والأشجار: المهم أن يحيي الإنسان كل ما حوله، عندئذ يحضر في كل خلاياه ويملكه للأبد. - الأبد؟ أليست كلمة طويلة جدا؟! - أنت؟ ماذا تقصدين؟ - هل أصبح تاريخا عندك؟ - تاريخا لا ينسى أبدا. - أبدا؟ أرأيت؟ كلامه في كلام في كلام. - إنني أعني ما أقوله. لا يمكن أن أنسى وجودك بجانبي، هداياك قراءاتي معك، عذابك في إصلاح كتاباتي، رحلاتنا مع الأصدقاء في الجبل والغابة، دعوات الشاي مع الأغراب في حجرتك، ألم أقل لك؟! - ماذا؟ - إنك أمي الصغرى.
سكتت. قلبت طرفها في السماء المكفهرة بالسحب الثقيلة. مدت يدها إلى شعرها وشدته. تحسست صدرها الضيق ورقبتها النحيلة: ألا تكف عن كلماتك الغبية؟
Shafi da ba'a sani ba