والخطباء والأطباء.
وأراد فلاسفة الرومان وأولياء أمورهم وخطباؤهم تحسين حياتهم منذ ذلك الحين، ومن هؤلاء لوكولوس، الذي كان كثير الاعتدال والاتزان مدة خمسين سنة والذي كان جنديا فصار قائدا، قد بنى بذهب الفرس المغلوبين قصرا فخما لنفسه على مونتي بنشيو، وذلك مع ملء مغناه «توسكولم» في «الريف الروماني» بالتماثيل والشرف واستقباله أزهى مجتمع فيه، وقليل من الناس من ينظر إلى أنه كان قد فتح نصف آسية قبل أن يقيم الولائم التي جعلت من اسمه رمزا. وأما شيشرون؟ كان شيشرون رجلا ممتازا، كوزير بريطاني وتلميذ سابق من أكسفورد، مضطهدا، عن نزاهة، لعدوي الجمهورية كاتيلينا وفرس، وكان لذلك أول عصري في القرون القديمة، وكان من الزهد الخلقي والوثوق النفسي ما داس معه رغائبه زمنا طويلا، ثم ماذا؟ لقد أذعن لمغريات عصره في نهاية الأمر، وهو قد كان شائبا حينما اقترض من كراسوس مبالغ كبيرة فأنشأ بها قصرا فخما على جبل بلاتن حتى ينسى فيه المنزل المعتدل الموروث عن أبيه. وكان جميع رجال ذلك العصر من القواد، ومنهم الخطيب شيشرون والصيرفي غراكوس. والواقع أنه كان يجب على من يود حسن التقدير أن يولي وجهه شطر ميدان القتال على الدوام، وماذا صنع بونبي بما له من وجه عريض لنائب ضابط فكان الأنف يشغل فيه مكانا كبيرا على حساب الجبين؟ وماذا صنع ليكافئ رفقاءه الصعاب؟ هو قد أمر بأن يحمل أمامه، وفي موكب نصره، خزائن الملوك المغلوبين وتيجانهم وأصنامهم فضلا عن أسلحة القراصين وحيازيم سفنهم. وكانت قافلة بغال تحمل لبيت المال في رومة أكياسا من النقود المغتنمة، وكان يعقب هذه القافلة أمراء ورهائن وأولاد ملك الفرس السبعة وأسارى من العرب واليهود وعبيد وأحرار وتمثال بونبي النصفي ثم القائد نفسه لابسا قميص الإسكندر الأكبر. وقد شاهد يوليوس قيصر جميع هذا وما إلى هذا من الحوادث، فكان له أن يرى نفسه فقيرا، وهو، إذ كان ابنا لأسرة رفيعة منحطة عارفا بمواهبه الخاصة، عزم على عدم وقف نفسه على الحكمة والدين والأدب مع ميله إلى الفلسفة، وهو قد أراد أن يكون غنيا قويا، وهو قد كدس من الديون، وهو قد بلغ من الولع والغرام بالغواني الهيف، ما وجه إليه الأنظار رجل دنيا، وهو قد لاقى في إحدى الرداه الدنيوية عطار الملك مهرداد الذي كان عبدا فاشترى حريته بفضل صنعته التي يطبقها على كبريات النساء في ضفاف التيبر، وقد لقي هنالك أيضا طهاة من اليونان وسحرة وصاغة ومصورين كانوا قد نفوا فأثروا سريعا في رومة الموسرة أكثر مما في بلادهم الأصلية المعسرة.
وكاد قيصر نفسه يصير عبدا، وذلك أنه سافر إلى رودس تلميذا فقبض القراصين على سفينته في أثناء جولة بحرية، وقد ظل في الأسر خمسين يوما قبل أن يطلق بفدية عظيمة، وكان يفاخر في رسائل ساخرة بأنه عاش أميرا بين القراصين فنظم ألعابا وقرأ أشعارا ولم يكف عن تهديد حرسه بالشنق، وبقيت رومة محرمة عليه طويل زمن لكونه ابنا لأخت ماريوس، وقد رفض العودة إلى رومة لجعل ذلك موقوفا على ترك زوجه الفتاة، وهو لم يرجع إلى رومة إلا بعد موت سيلا.
وكان قيصر في الثلاثين من عمره حينما اتخذ السياسة مهنة له، وكان سيئ السمعة، وقد انتحل برنامجا محافظا قوميا لكي يصل إلى مبتغاه، ثم التفت نحو الحزب الشعبي وصار يحدث عن قرباه من ماريوس، حتى إنه صار يفيق مبكرا ليكون، في الميدان العام، محاميا عن جميع من يحتاجون إلى عريضة. وكان - على ما يبديه من إصغاء إلى الشكاوى التي يدونها عبده - يفكر في فتون سرفيليه أو في سحر فتاة أخرى تركها منذ هنيهة، ويصبح صديقا للشعب فيعاشر المنادين وباعة الأزهار والحوذيين
139
والحلاقين والزمارين، ويطمع أن يكون حبرا وأن يشغل هذا المنصب في سبيل الشعب بعد أن نزعه سيلا منه؛ أي إن يبدو قديسا فيكون لهذا الزنديق ترويح بذلك.
ولم يبدأ عمل قيصر الحقيقي إلا بعد أن ناهز
140
الأربعين، وهو سيعلو جميع نجوم الفلك الساطعة بهذا العمل، وما كان يرى بعد أن يصبح أكثر من ركن في الحكومة الثلاثية؛ أي أكثر من العضوين الآخرين، بونبي وكراسوس، اللذين كانا يقيمان برومة على حين يقيم ببلاد الغول في ذلك الوقت. وكان قد أقدم على مغادرة رومة لشعوره بأفضليته ولعظم طموحه، وما اتصف به من الشجاعة كان يبرز مزيته العسكرية العظيمة ما اقتضت بلاد الغول فتحا بالسلاح، ويجعل من الفرق الثلاث التي تلقاها حين نصبه واليا لخمس سنين جيشا شخصيا له، وبما أن بونبي كان قابضا على زمام الغرب فقد اضطر إلى البحث في الشرق عن الفتوح والمجد لذلك، وقد ولي من قبل المجلس الشعبي، لا من قبل مجلس السنات فعد ذلك انقلابا. وإذا نظر إلى الأمر عمليا وجد أن قيصر جرد مجلس السنات من سلطانه للمرة الأولى منذ قرون، ويظل قيصر مخلصا لمبدأ الأخوين غراكوس فيقدم مزارع جديدة إلى رجال الشعب كما يمد يد المعونة إلى العوام وقدماء الجنود، وكان أريستوقراطيا مثل سيلا، فود أن يقوم بأعباء الحكم مثله مستعينا بالشعب ضد طبقة الأشراف.
وكانت إقامة قيصر ببلاد الغول، حيث قضى عشر سنين تعد خير سني حياته، تنم على تضحية كبيرة قام بها هذا الرجل الدنيوي الناعم العادات، وأصبح قيصر رجلا عظيما بمصاحبته جنودا يشاطرهم حياتهم بعيدا من الترف والنساء محاطا بغرباء ومقاتلين وبقليل من الضباط الأصدقاء وبكثير من الضباط الحاسدين، وما كان من مقاتلته الغوليين والجرمان وما ناله من انتصارات يعد من الروائع لعدم قضائه شبابه في المعسكرات كنابليون ولقضائه في المخادع والمجامع والميادين العامة، وكان قد قاتل قليلا قبل حملته في إسبانية، وهو، قبل أن يأكل الطموح فؤاده، لم يكن غير ولوع، غير هاو غير حائز درجة رفيعة من الثقافة اليونانية، ولم تبدأ مغامرته الكبرى إلا مؤخرا، ولم تدم إلا خمسة عشر عاما، وكان الارتجال من أسرار عظمته.
Shafi da ba'a sani ba