وكان أصغر الأخوين غراخوس أعظم ثائري القرون القديمة، وكان رصينا بسيطا كأبيه، وقد انتخب محاميا عن الشعب سنة 123 قبل الميلاد فنال شكر الشعب لسن قانون الحبوب وقانون إعانة العاطلين من العمل، وهو، على ما كان من اعتماده على الجماهير، عرف كيف يجتذب عواطف فريق من الأغنياء الجدد بأن جعله يشترك معه في مناهضة مجلس السنات المحافظ، ويؤسس وراء البحار مستعمرات من أبناء الوطن معالجة لزيادة السكان في رومة، ويحاول منح اللاتين حق الوطني الروماني، وهو يغير حزبه السياسي وينتفع بأبرع الذرائع لكي يحقق مبادئه الاجتماعية، وهو، وإن كان مثاليا، استطاع أن يبدو سياسيا ماهرا إلى الغاية، فلا يزال يرى ابن بجدتها.
وقد أدى حبوط ما حاوله الأخوان غراخوس من فتن، وقد أدى انتصار الأقلية الغنية القوية على الأكثرية التي لم تكن صاحبة السيادة في غير الظاهر، إلى سيطرة العسكريين حتما؛ أي إلى أزمة الجمهورية الرومانية، وهنالك أبصر الفلاحون والصعاليك أنهم مضطرون إلى شهر الحرب على الرأسمالية. وقد امتد مدى هذه الحروب إلى خارج إيطالية فدامت نصف قرن، دامت إلى الدور الذي عقب موت يوليوس قيصر، ثم حدث ما نسجله في الغالب حين الأزمة الداخلية الشديدة، وهو تدخل ملوك من الأجانب، ومهرداد وجوغورته هما اللذان تدخلا في النضال متعللين بحجة مساعدة المضطهدين، وفي رومة يقوم ما يدعى التطوع مقام الجندية. وفي ذلك الدور يؤلف العاطلون من العمل نواة الجيش الروماني، ويسفر هذا عن تبديل حاسم، يسفر عن تطبيق طائفة من المبادئ السياسية على الحرب، وقد توقف تموين الكتائب وإخلاصها وبسالتها على وضع البلد السياسي.
وأوجبت الثورة الاجتماعية ظهور أول طاغية في التاريخ كما في أيامنا، وانتفع الأريستوقراطي سيلا بجيش الصعاليك للقضاء على سلطان الطبقة الوسطى، ويثبت هذا الحلف الغريب الذي كرر في التاريخ الحديث كيف أن ذوي الطموح من الزعماء يفرطون في مبادئهم الخاصة ليقبضوا على زمام السلطة، وينتخب الديمقراطي ماريوس قنصلا سبع مرات فيغلبه الرجعي سيلا في شوارع رومة، وذلك إلى أن سيلا كان يمكنه أن يبدو منقذا للوطن لقضائه على فتن الشعوب الإيطالية، وسيلا قد أظهر من المهارة البالغة ما سمح معه لمندوبي الأمم الغريبة بأن يتكلموا بلغاتهم في مجلس السنات الروماني؛ أي منحهم رخصة لا تبيحها أية دولة كبيرة معاصرة في عاصمتها، وقد غدت مستعمرات البحر المتوسط الرومانية الجديدة؛ أي الولايات، ضمانا لسلطان رومة العالمي؛ وذلك لأن برابرة الجرمان لم يلبثوا أن هجموا من الشمال؛ ولأن الأغارقة لم يلبثوا أن هجموا من الشرق تباعا، ويقاتل كل من ماريوس وسيلا جيوش الأعداء من ناحيته، ويعد كل من هذين الخصمين المستأسدين منقذا لوطنه إذن.
ويكرر حادث عرضي على البحر الأسود ثم على بحر إيجه، وذلك أن رجلا من أنصاف البرابرة أعتق الأغارقة بعد الإسكندر بمائتي سنة، وذلك أن ملك بنطش، والفارسي الإغريقي، مهرداد اغتنم فرصة الحروب الأهلية الرومانية فأراد أن يقهر رومة محالفا القراصين واليونان، وتصبح سيادة البحر المتوسط مدار نزاع بين الرومان والأغارقة للمرة الأخيرة، وهنالك يبذل الرومان جهدهم في عدم سيرهم كالبرابرة. فبينما كان ملك الفرس يأمر بقتل الألوف من الطلاينة المستقرين بآسية الصغرى كان سيلا يحقن دماء أهل أثينة بعد انتصاره معلنا أنه يريد حفظ الأحياء إكراما للأموات. أجل، خرب كلا الفريقين تلك المنطقة، غير أن الأغارقة لم يكونوا ليرتدعوا عن ذلك في غضون تاريخهم، وما كان من هجو الروسي بوجود تتري يشف وراءه يمكن إطلاقه بأن يقال إن كل متمدن ينطوي على وحشي فلا يعتم هذا الوحشي أن يظهر من فوره!
ودل سيلا، الذي كان قائدا من الأشراف أكثر من أن يكون قطبا سياسيا، على أنه ذو خيال أكثر مما لدى الروماني عادة، وكان سيلا الغني الأهيف إذا ما ظهر للناس على حصانه الحربي كفى ظهوره وحده لإثارة الحسد. وكان يرى، في الغالب، جالسا أو ضاجعا على عرش كملك، محاطا بمغنين وراقصات، متأججا وفاترا مناوبة، متكبرا وماجنا دوما، بالغا من الشدة ما لم يبلغه روماني قبله، قابضا في كل وقت على قوائم بقتل أعدائه الشخصيين أو سجنهم بلا محاكمة، والخلاصة أنه كان على النقيض من كاتون ومن ماريوس الذي أدى موته إلى جعل سيلا السيد الوحيد.
وتقف الجمهورية الرومانية قوانينها للمرة الأولى مفوضة إلى القائد المنصور سلطة مطلقة معانية لها في سنين بلا معارضة ولا انقطاع، ومع ذلك كانت التقاليد من القوة ما حفزت معه سيلا إلى الانزواء طوعا قبل موته بسنة. ومن المحتمل أن اتخذ سيلا هذا القرار عن تعب، ومهما يكن من أمر فإن مثال هذا الطاغية الذي عدل مختارا عن السلطان مما قل تقليده.
وما كان سيلا المستبد ليكترث للثورات الاجتماعية التي اشتعلت ثانيتها أيام مراهقته، وتجد نسبا في العالم البرجوازي بين فتنتي عبيد الرومان حوالي سنة 130 وسنة 100 قبل الميلاد ومغازي القراصين، وتجد العدل يؤدي إلى العنف مرة أخرى، وذلك أن كثيرا من محاكم صقلية أحست تحولا في مناحي العصر فنطقت في وقت واحد تقريبا، وفي ثمانمائة قضية، بأحكام ملائمة للعبيد ضد سادتهم، وهنالك تلغي الحكومة الجديدة هذه الأحكام إلغاء تاما، وهنالك يثور ألوف من المعدنين ويلجئون مع عبيد آخرين إلى الجبال، وإذ لم يكن لدى الحكومة من الجنود ما يكفي فقد استوحت سابقة في أثناء قتال القراصين، فعاهدت رئيس عصابة وعهدت إليه في القبض على العصاة، غير أن عصابة أخرى من العصاة تسلحت، وجعل أناس من السوريين الذين بيعوا عبيدا في الخارج من ملكهم محل سخرية رافعين على العرش رجلا منهم.
وإن ارتقاء صعلوك إلى السلطان في منطقة البحر المتوسط يدل على معنى إن لم يكن قد وقع للمرة الأولى. ومما يجدر ذكره أن ولد أول عبد ملك في تراكية حرا، وأنه لم يغد عبدا إلا بعد القبض عليه، ولم يكن لسبارتاكوس الذي أرهب الإمبراطورية الرومانية حوالي سنة 70 قبل الميلاد في ثلاث سنين سوى سلف واحد، سوى العبد دريماكوس الذي قاد في ساقز
136
ثورة عبيد حوالي سنة 300 قبل الميلاد فوفق لتسوية عادلة، ولكنه عندما سرح جيشه وفق المعاهدة التي أبرمت خاس أهل البلد بالعهد ووعدوا قاتل الزعيم العاصي بمال. أجل، إن دريماكوس وفق طويل زمن للنجاة من ظالميه، غير أنه قتل شيخا بيد أحد المقربين إليه عن طمع في الجائزة التي ينالها إذا ما أتى برأسه.
Shafi da ba'a sani ba