91

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Nau'ikan

وأوستي هي الأثر الروماني الخالد الذي شاده أبو نيرون، وفي البداءة كان يمكن السفن الكبيرة أن تصل إلى رومة، ثم تراكم الغرين فحال دون الملاحة، وصار كل ما يرد إلى رومة ينقل إلى مراكب صغيرة، ولم يوفق الأخوان غراخوس ويوليوس قيصر للسيطرة على هذه الرواسب المتجمعة في أسفل رومة مع ما بذل من الجهود لجعل تنزيل القمح والخمر والزيت؛ أي المحاصيل التي تحتاج إليها رومة، أمرا ممكنا مباشرة، ثم أنشأ كلوديوس، في نهاية الأمر ، مرفأ وقناة بشمال مصب التيبر وبنى رصيفا رائعا نصف دائري، وقد أجرى هنالك مركبا كبيرا كان يحمل مسلة من وراء البحار، وقد وضع ثلاثة ألواح ضخمة سميكة فضلا عن ذلك فأقام على تلك الأسس جزيرة مع منار، ثم يمضي زمن فيستولي الرمل على جميع ذلك مجددا، أجل، حاول تراجان أن يعزل ذلك، غير أن موسوليني هو أول من وفق لذلك.

وكذلك يوليوس قيصر طبق على البحر فنه الروماني رئيسا للجيش، فاستطاع أن يجلب كتائبه بحرا منشئا سفنا على طراز جديد، وهو لم يكسب معركة فرسالوس الحاسمة إلا لنجاحه في نقل أربعين ألف رجل من برنديزي بحرا، وهو قد غلب الفنيت على الشاطئ الغربي من الغول بحيلة جديدة، وذلك أنه أراد أن يواجه سفن هؤلاء الشراعية العالية فأنشأ في مصب اللوار مراكب خفيفة سريعة تسير بالمقاذيف مع ملاحين كثيرين مسلحين بسكاكين طويلة معقوفة ثابتة في خشب دقيقة، فبهذه السكاكين قطع الرومان حين المرور قلوع سفن العدو وصواريها فقبضوا على هذه السفن.

ومع ذلك لم يسطع يوليوس قيصر أن يقتص من القراصين، والقراصين قد ظلوا باقين بعد كل حضارة في البحر المتوسط، فكأنه يوجد نسب بين ملك قبرس، الذي شكا أمره إلى فرعون مصر أمنوفيس سنة 1370 قبل الميلاد، والقراصين الذين تكلم عنهم أوميرس، وكذلك بين أسلاب الفنيقيين ونهاب الفلسطينيين والكتب الحديثة حول الملاحة التي تحذر الربابنة من الإشارات المزورة التي يعطيها قراصين ساحل شمال أفريقية المكتمنين وراء الصخور، وليست النخاسة في جزائر المرجان بالبحر الأحمر، وهي التي لم يكافحها نجاشي الحبشة جديا قط، إلا جزءا من أعمال القراصين الذين تحولوا قليلا نحو الجنوب. وكان القراصين في عصر قيصر ينزلون بغتة إلى بعض المراكز كرجال المظال المعاصرين نيلا للخبز والماء ومبادرة إلى الاستيلاء على باب للمدينة أو على برج، وهنالك كانوا ينتهبون مخازن المرافئ ومعابد الجزر، وما كان من كثرة ديون معظم الجمعيات اليونانية يعزى إلى القراصين. قال شاعر روماني: «بلغ أبولون من الفقر بفعل القراصين ما لم يسطع معه أن يري خطافا أصغر حبة من الذهب.»

ومن الممتع أن يلاحظ أن بعض المبادئ الخلقية كان يسود القراصين، وكانت دولة القراصين التي كونت حوالي سنة 100 قبل الميلاد وألفت من الفارين والعبيد والجنود المسرحين تفرض روح الإخاء والكتمان والشهامة فتشابه بعض المشابهة قاطعي طرقنا الذين يذكروننا بما جاء في الروايات.

وكان يجمع بين هؤلاء القراصين مبدأ الانتقام من مجتمع برجوازي

133

نبذهم من بينه، وكانوا يذبحون أسراهم مسوغين عملهم هذا بقولهم إنهم كانوا يعانون مثل هذا المصير لو قبض عليهم في ميناء. وكان البحر المتوسط إمبراطوريتهم، ولو رسمت خريطة لهذه الإمبراطورية لشابهت خرائطنا البحرية التي يلوح البحر فيها زاخرا بألف إشارة على حين يبدو البر فلاة، وكان هنالك نظام برد وإشارات يدل كل لص بحري على المخابئ الأمينة التي يمكنه أن يجد فيها القوت والنقود ويخفي فيها النساء والأولاد، وكيف يمكن ألا يرقص أولئك القراصين مع طباعهم في خيال الفتيان؟ وهنالك يتحول الجيل الجديد، المشبع من الأمور الذهنية والتعب من النظام والنمطية، إلى ولوع بالمخاطر والمغامرات الجريئة وبالمجد. وقد نهب القراصين جزيرة دلوس على الرغم من لوكولوس وأسطوله، وكان القراصين يطالبون جزائر ليباري بجزية سنوية في مقابل صونها، وكان القراصين يغزون المرافئ الكبيرة كسرقوسة مثلا، ومما حدث أن «الوالي» أتى بسلاسل ليقيد بها فربط بهذه القيود بسارية مركب روماني قبض عليه القراصين، وصارت الجمعية الظريفة ببايس لا تجرؤ على السباحة، والحق أن سيادة البحر قد انتقلت إلى شعب لم يكن شعبا ولم يملك بلدا، فكان كدولة عائمة.

ويقسم بونبي في سنة 67 قبل الميلاد منطقة البحر المتوسط إلى ثلاث عشرة ولاية بحرية، بما عرف عن الرومان من دقة، ويؤلف كل من هذه الولايات جزءا من ولاية برية، ويضع خطة لاستئصال القراصين كما يكافح الوباء في أيامنا. وبينا كان هذا الروماني يطارد القراصين صوب إلى أعدائه سلاحا خلقيا جديدا تم له الفوز بفضله، فقد بدا حليما نحوهم مانعا صلب من يؤسر منهم محافظا على جذافيهم، حتى إن أشد رؤسائهم فتكا، حتى إن الذين يخفون نساءهم وخزائنهم في حصون جبال طوروس، كانوا يرقبون بونبي على طول ساحل آسية الصغرى فينالون عفوه عند خضوعهم، وبذلك طهر القسم الشرقي من البحر المتوسط في بضعة أشهر. وقد خرب هذا الرئيس الروماني 1300 مركب وأتى بأربعمائة مركب إلى رومة، وافتخر بأنه لم يقتل أكثر من عشرة آلاف لص بحري!

وقد يكون هذا النصر البحري المغفل أعظم من جميع ما كسبته رومة، وقد كان لتلك المعركة أن تسمى بحق «معركة البحر المتوسط»، وصار يمكن إيطالية الجائعة مع غناها أن تستقبل مجددا سفنها التجارية بلا قيد، ويعجب العالم كله بالديمقراطية التي أعيدت إلى رومة مقدمة لازمة لتلك الحملة الكبيرة. وكان في أثناء سيطرة القراصين قد هزت الإمبراطورية الرومانية ثورة خفية وثورة علنية. وكان انتصار هذه الإمبراطورية العالمية الجديدة قد أتى بالمال، فأسفر المال عن الترف فعم الفساد هذه الأمة التي كانت مقتصدة حتى ذلك الحين، وقوض الأخلاق البرجوازية القديمة وغدا من الممكن رشو قواد وأعضاء من مجلس السنات من قبل أمراء من الأجانب، ويثير السادة بما يقيمون من الولائم المخالفة للصواب من يخدمهم من العبيد مع صمت يورث الغم، وتصبح الحرب الأهلية بين الفقراء والأغنياء قريبة الوقوع.

ويلم الفقر بالفلاحين الذين كانوا أركان سلطان الرومان؛ وذلك لأن الفوضى التي عمت القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية كانت تسهل صيد الإنسان، وتؤدي إلى نزول ثمن العبيد باستمرار. وكان صيد الإنسان، الذي يتعذر تمثل حضارة العالم القديم بغيره، يبلغ من الأهمية ما بيع معه في مرفأ دلوس، في مركز تجارة الشرق الكبير هذا، ما لا يقل عن عشرة آلاف عبد في يوم واحد، وما كان يعطى من قليل خبز وبر أجرة، وما كان من استمرار الحروب، يسفر عن فقر الفلاحين. وفي سنة 100 قبل الميلاد يصرخ خطيب روماني قائلا: «ترون لحيوانات إيطالية الوحشية عرائنها ومغاورها، وأما أنتم، أيها الفلاحون والجنود الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل إيطالية، فليس لكم غير الهواء والشمس! أجل، إنكم تدعون سادة العالم، ومع ذلك لا يملك الواحد منكم فتر أرض!»

Shafi da ba'a sani ba