89

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Nau'ikan

وهو إذا باع بساطا ثمينا موروثا من أسرته سعى في إذاعة النبأ، وكان كل واحد يعرف أنه لا يلبس من الثياب ما يزيد ثمنه على مائة درهم، وأنه كان لا يشري من الإماء من هن فتيات حسان بل كان يشري غلمانا للإصطبل، وأنه لم يدهن بيته باللون الأبيض مرة ثانية. وكانت رومة بأسرها تقص خبر عدول كاتون، حين نصبه قنصلا لإسبانية، عن حصانه ليوفر على الدولة نفقات النقل، وكانت رومة تقص خبر استغنائه عن العربة مسافرا رسميا إلى سردينية على الفرس متخذا خادما واحدا رفيقا له. وكان كاتون جريئا لهذه العلانية فيقول في نفسه إن الذين يبصرونه وهو يجاهد يرون أن الأمة مدينة لكاتون أكثر من دين كاتون للأمة، حتى إنه حين يلوم نفسه لا يفعل ذلك عن ندم.

ومن قول كاتون: «لا ألوم نفسي إلا على ثلاثة أمور: إفشائي سرا لزوجتي، وقضائي نهارا بلا عمل، وسفري إلى مكان بحرا مع إمكان السفر إليه برا.»

ومن سعادته أن كان يستطيع بما له من حق الرقابة أن يرقب أخلاق أبناء وطنه، وأن يتعقب زملاءه الفساق، وأن يضع حدودا للترف بالعربات والحلي والثياب والأقوات؛ أي إن ينتقم من الآخرين لعجزه الشخصي عن التمتع بالحياة. ومن ذلك أن طرد أحد أعضاء السنات من مجلس لتقبيله زوجته في وضح النهار وعلى مرأى من ابنته، مضيفا إلى ذلك قوله في لائحته الاتهامية إن زوجته لم تعانقه غير مرة واحدة عند شدة الهيجان، ولكنه عندما آم

131

تزوج فتاة صغيرة، فوجد لابنه الحائر التفسير الآتي وهو: «أود أن أترك للوطن أبناء آخرين مثلك.»

وكان عارفا بأمور الدنيا، فكان يغتني مقدارا فمقدارا على حين يحرم الأغنياء ما تحتاج إليه حدائقهم من الماء، حتى إنه استفاد من التجارة البحرية بتأليف شركة ملاحة مع دائنيه. وكان يحاول إلقاء بذور الفساد بين عبيده منعا لهم من مخادعته، ومع ذلك لم يحدث أن قضى على أحدهم من غير أن يعترف العبيد الآخرون بذنبه، وهو مع وصفه سقراط بالثرثار كان يستشهد في كتاباته بأقوال اليونان المأثورة كما كان يكتب ويتكلم بلغة لاتينية مصنعة، وهو كان، كأول مؤلف قومي، ينذر أبناء قومه بأن وطنهم يخسر سلطانه السياسي إذا ما قلدوا الأغارقة في حب العلوم.

وكان كاتون الذي أراد في تسعين سنة أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة أكثر الرومان صلاحا وأشدهم وطأة، وكانت مزيته تتجلى في تخريب قرطاجة، ومع ذلك أتعد هذه مزية؟

وفي أفريقية خلف هنيبال الكبير التعس همجي عصلبي جبار قادر مدرب حقيقي لأمته، وقد دام سلطانه ستين سنة، وقد مات في التسعين من عمره تاركا ابنا بالغا من السن تسع سنين. وقد طمع هذا الرجل، الذي عد أسعد من في عصره، في جعل قرطاجة الجارة عاصمة لمملكته البدوية فكانت هذه ذريعة لتدخل رومة، وقد ذعر ديمقراطيو قرطاجة من ذلك ففضلوا فتح أبواب مدينتهم للعدو التقليدي على أن يحكم فيهم ذلك الهمجي الماهر، وأراد كاتون أن يزور العدو مودعا قبل أن يهلكه فوصل إلى قرطاجة بنفسه وفق أطواره الحنبلية.

وأنقذت قرطاجة شرفها في ساعة اليأس، وحرر مجلس المدينة جميع العبيد مثبتا عطل السلطات من المبادئ الخلقية في غير ساعة العسرة، وتسلح جميع القرطاجيين حتى آخر صعلوك، وذهبوا إلى الموت مقاومين جيش رومة العظيم بشجاعة، وسار القرطاجيون على غرار أجدادهم الذين قاتلوا الإسكندر في صور فماتوا أبطالا في إحدى قواعد القرون القديمة المرهوبة، وبيع من لم يهلكوا منهم عبيدا، ودمر الرومان جميع قرطاجة غير تاركين فيها منزلا، وما كانت اللعنة الخالدة التي نطق بها مجلس السنات الروماني إلا لتهز القائد المنصور سبيون.

واليوم لا ترى في المكان، الذي ازدهرت فيه تلك المدينة، فعدت من أقوى مدن القرون القديمة مدة خمسة قرون، غير مروج ومراع، ولا ريب في أن حلم كاتون العبوس قد تحقق، ولكن قرطاجة غدت موضع عطف العالم منذ ذلك الحين.

Shafi da ba'a sani ba