75

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Nau'ikan

ويجب البحث عن سبب هذه الحروب العميق في الزهو القومي الذي كان قد استحوذ على الشبيبة الأثنية، وشبان الأسرة الأخلياء كانوا يبدون، كما في كل وقت، أكثر انتفاخا من أجدادهم الأجلاء. ولم يطمع بركلس في سيادة العالم قط، ولكن تمستوكل كان قد سلك سبيل جنون العظمة القومية فأطلق على إحدى بناته اسم إيطالية مثلا. ومما حدث أن الشبان «الحراقين» الذين كان يوجههم ألكبياد صاروا يقيمون الدليل على أن القرطاجيين يرهقون أهل صقلية وعلى أن هؤلاء يطلبون العون، فأخذ أولئك الشبان يتكلمون عن فتح قرطاجة. وقد حبطت حملة الأثنيين التي وجهت إلى صقلية حوالي سنة 413ق.م نتيجة لتلك الروح في أثناء حرب البلوبونيز، ولما كان من تهديد إسبارطة إياهم، ومن نقص استعدادهم، ومن وقوعهم بين أمر وطنهم المضعضع في الداخل وبين مستعمرة مذعورة مجزأة غير خاصة بأحد.

ومع ذلك لم يرد أهل صقلية المقسومون بين مدن كثيرة مستقلة أن يصبحوا قرطاجيين، وقد كانوا في مثل وضع الألزاسيين الذين تجاذبتهم فرنسة وألمانية قرنا فانتهوا إلى مقت إحداهما والاحتراز من الأخرى. وقد أسفر عدم انقطاع الحروب بين قرطاجة وسرقوسة على الخصوص، وقد أسفرت اندفاعات اليونان حوالي سنة 350 قبل الميلاد، عن حوك المؤامرات وعن ضروب القتل وعن فوز بعض الطغاة. وكان قطب ذلك الدور طاغية سرقوسة دني الذي أقام إمبراطورية صقلية حوالي سنة 400 قبل الميلاد، قوية مثل أثينة، مشتملة على نصف إيطالية، ممتدة إلى مصب نهر البو، محتوية قورسقة. ويبدو لنا دني كإغريقي حقيقي بميله الشديد إلى الثقافة، وقد كان يمكنه أن يشغل مكانا مهما في التاريخ لو أحاط نفسه بشعراء ومتفننين كبركلس، واليوم لا تزال رءوس الأسود المبتورة على الجدر المتينة في قصره الحصين، في قصر أريالوس، تسيطر على سهل صقلية.

ومع ذلك لم يبق شيء من دني الأول على الرغم من انتصاراته وتوفيقاته العظيمة، وهو لم يذكر إلا لأن أفلاطون وافق على اقتسام الحكومة معه، وما كتبه أفلاطون من رسائل في سرقوسة يثبت أن الشخص الواحد يمكنه أن ينطوي على فيلسوف وقطب سياسي معا وأن هاتين الصفتين لا يمكن أن تتعاونا إذا ما تقمصتا شخصين مختلفين. وقد أبدى دني من الروحية والاحترام والقرى والتعطش إلى المجد ما لم يبده الأباطرة والبابوات الذين ظهروا في القرون القادمة نحو متفنني عصرهم. وكان أفلاطون عازما على تحقيق أفكاره قبل كل شيء، ولا ترى من الفلاسفة من هو أقل أفلاطونية من أفلاطون؛ وذلك لعدم اكتفائه في النصف الأول من حياته بالتأملات الفكرية الصرفة؛ وذلك لأنه كان يريد أن يسير ويبدع دولة جديدة وأن يحقق مبدأ جديدا؛ وذلك لأنه كان يود أن يجعل سلطان الحكومة خادما للروح.

وتثبت رسائله ورحيله الأخير درجة ما مني به من حبوط تام، وما كان ليستطيع أن يحقق من بعيد ما يسميه «الدولة الثانية الصالحة»، وما كان عليه أميره من زهو، وما كان يطمع فيه من مدح دائم ثمنا للإعجاب الذي يظهره للفيلسوف، وما كان من خفة أولياء الأمور على العموم، وصفه أفلاطون بعبارات تحمل على التأمل فريق المفكرين الذين يودون التأثير في ذوي السلطان، قال أفلاطون:

لقد وجدت عند وصولي إلى سرقوسة وسيلة اختبار شخص لأرى هل هو مشبع من شعلة الحياة المقدسة ومن الأفكار الفلسفية، ووجدت وسيلة اختبار الأغنياء الذين وجب أن يكونوا قابضين على أعنة من ذلك، وهكذا يجب أن يروا ماذا تعني الدراسة العميقة للأمور، وهكذا يوضع على محك الاختبار أشخاص عاجزون عن السعي والثبات، فلا يستطيعون بعد ذلك لوم أدلائهم، بل يستطيعون لوم أنفسهم وما هم عليه من كسل خاص.

ومتى رئي أن أكبر رجال ذلك العصر موهبة حصر في بستان القصر فلا يستطيع أن يخرج منه إلا بإذن من الجبار، ومتى علم أن خطر القتل كان يحيق به وكيف أنه كان في ذلك الحين موضع إكرام الأمير، أمكن إدراك وضع كورناي تحت سلطان ريشيليو ووضع ميكل أنجلو تحت سلطان يوليوس الثاني ووضع فولتير تحت سلطان فردريك الكبير.

ولكن جميع ذلك لا يدل على مزاج أفلاطون النفسي ولا على مزاج الأغارقة النفسي وحدهم، أجل، كان النبوغ والفن وقفا على الأغارقة، فإذا وجد حجر قرطاجي لحدي دقيق يرجع تاريخه إلى ذلك الدور حكم في أنه نسخة عن نموذج إغريقي، غير أنه كان يرى في كل مكان أثر للأخلاق الفروسية؛ ولهذا السبب كان عالم البحر المتوسط يمتاز في القرون القديمة من البرابرة الذين يهددون من الشرق والشمال آتين من فارس والغول. وإذا ما نسيت ذكرى حصار سلينونت وسيباريس، ونسي اسم هانون الذي هو أعظم قائد في عصره، وجب بقاء الأمر الآتي، وهو: أن ابن هانون استدعي من المنفى في قرطاجة ليقبض على زمام السلطة فعدل عن الانتقام، ولم يقتل أعداءه الذين غدوا تحت رحمته، بل اكتفى أمام الجمهور المجتمع بوضع رجله على رقاب هؤلاء الرجال المبطوحين أمامه على الأرض ثم أطلقهم.

ولا نستطيع أن نميز متنافسي البحر المتوسط الثلاثة في القرون القديمة بعرقهم، ولا نستطيع أن نعزو إلى كل واحد منهم صفة خلقية أعلى مما لدى الآخرين، وما يبذل اليوم من جهد هزلي لتطهير دم الأمم التي اختلطت بمئات العروق كان غير مجد حوالي سنة 400 قبل الميلاد. وقد كان يتألف من كل من الأغارقة والقرطاجيين والرومان مزيج من سكان البلاد الأصليين ومن القبائل المهاجرة كما هي حال أهل المكسيك في الوقت الحاضر، والأرض، لا العرق، هي التي كان يعتد بها.

وهنالك، حيث اختلط الدم في غضون تاريخ ألفي من غير أن يعنى بالصحة، ظلت طبيعة الأرض وحدها عاملا ثابتا، وكما أن جنس البقر الذي صار إدخاله إلى ضفاف النيل التأم هو والإقليم والعلف الجديدان دمغت شعوب البحر المتوسط بالعناصر أكثر مما بالعرق؛ وذلك لأن العرق يظل مختلطا مغلقا مع أن العناصر خالدة؛ وذلك لأن الخليج والميناء والشراع، ولأن الصحراء والريح؛ ولأن الزيتون والقمح والسمك، أمور تحول الآدميين الذين يقيمون على طول الساحل من غير أن تحول الساحل.

وفي ذلك تجد السر في أن مغازي البرابرة لم تترك غير آثار قليلة في شواطئ البحر المتوسط؛ وعلى ذلك الذي يتلهى بكلمة «الهندي الجرماني»

Shafi da ba'a sani ba