إلا أمرا فريدا، وهو يثبت اتصاف الأغارقة بقريحة منوعة. بيد أن الأغارقة كانوا يتشهون عرض أبدان الذكور، ولهذه الروح كان الفياسين الأسطوريون يتخذون من الغلمان حملة للمشاعل الذهبية في قصر ألسينوس، والنساء أيضا كن في كل مكان يفضلن الجمال على جميل الطباع، وكذلك العذارى الخالدات، كأتلنتة، والصائدات والمترجلات كن يقمن بمغامرات غرامية في نهاية الأمر، وإذا ما صدقنا اتصاف بنلوب بالوفاء فإننا لم نجد مثله عند زوجها أوليس الذي ظل عدة سنين يتلهى مصاحبا حوريات وبنات ملوك فبلغ من الرضا بذلك ما لم ير معه أن يعود إلى منزله من فوره. وليس الحب التعس من مشاعر الأغارقة، وكيف يمكن شعبا كان يتمثل حياة غرام كثيرة التنوع أن يطالب نساءه بالعفاف؟! فمن الحب والجمال والمجد يتألف ثالوث الفضائل اليونانية.
وطبع الأغارقة معابدهم وتماثيلهم ومآسيهم بأفكارهم السياسية والثقافية، ومثلت حياتهم اليومية في الكميدية،
119
ولا سيما الأواني الخزفية التي يمكن عد ما عليها صورا فتوغرافية، ولا غرو، فإنه يسهل على شعب موهوب كهذا الشعب الكثير الفراغ والهزل أن يصور مظاهر الحياة اليومية على الآنية، وقد وجدت مئات من هذه الآنية سليمة، وقد انتهت مئات الألوف إلينا كسرا منها، ومن هذه الآنية ما هو تافه ومنها ما هو ثمين، وإذا جمعت هذه الآنية والتقطت صورها الفتوغرافية وجعلت في كتاب كان لدينا دليل حقيقي عن اليونان في دور متأخر، وتجد لبلاد الإغريق الأولى انعكاسا تاما في آثار أوميرس.
وتغتسل فتيات تكريما لديونيزوس، وتكاد فتيات أخر يكملن زينتهن بدهان، وتهذر فتيات أخر بالقرب من ينبوع ذي رأس أسد، ونرى دنانهن المملوءة خمرا وأقداحهن ونماذج نسائجهن، ونرى سررهن ومقاعدهن، وإذا أمسكت امرأة رأس زوجها في أثناء استفراغه حول المائدة وجد في الحال من يصور هذا المنظر، ونرى ذهابا إلى الصيد والوجه الذي يتمثل به السلاح والطراز الذي تعلم به الشبيبة حسن السلوك والرقص، ونرى المئات من مناظر المرافئ والملاحة، ولا شدة هنا، ولا ما هو كلاسي هنا، ولا ما هو لاهوتي هنا، وإن كنت تبصر في الغالب أسماء آلهة معروفة مكتوبة تحت الوجوه اللطيفة لهؤلاء الفتيات والفتيان، ولدينا نحو مائة صورة هزلية عن المشيب والألم والبخل والكسل والثمل، وننسخ أريستوفان بأجمعه على الآنية قبل الحرف، دع عنك رابله ومولير وفرانزهالز.
وتلك الوجوه تمثل الأغارقة الذين أقاموا في سجست، وبعد المعركة، معبدا لعدوهم الأكبر فليب، وذلك لما كان من جماله الباهر، وهؤلاء الأغارقة هم الذين جعلوا أدونيس يقضي، بسبب جماله، ستة أشهر بجانب أفروديت وستة أشهر بجانب برسفون مقسمين حياته على هذا الوجه، وهؤلاء الأغارقة هم الذين لم يحرقوا رودس المحتلة إنقاذا للوح رسمه بروتوجين كانوا يعلمون وجوده في حي مهدد منها، وهؤلاء الأغارقة هم الذين برءوا سوفوكل لأنه أنشد في أثناء محاكمته أغنية جديدة من تأليفه تمجيدا لوطنه وحمدا له.
22
ترى عناصر ثلاثة ذات مدى رمزي يرتبط بعضها في بعض حوالي سنة 400 قبل الميلاد، وهي: غارة إسبارطة على أثينة وغارة القرطاجيين على صقلية وغارة السلت على إيطالية، وقد زلزلت الحضارة كل واحدة من هذه الغزوات، وكتب الفوز للقوة البربرية والعلم الحربي والثراء على الذكاء في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال، وعلى أشكال مختلفة، ولم يكن غزو الشمال ذا نفوذ، ولم يترك غزو القرطاجيين أي أثر تقريبا. حتى إن إسبارطة التي افتتحت أقوى حصن للحضارة في عالم القرون الأولى ظلت خارج أبواب المغلوب على الرغم من جميع انتصاراتها، فقد أعيد بناء أسوار أثينة التي خربها الغالب في عشرة أيام وبعد ثمان وعشرين سنة من انتصاراتها، وقد غلبت إسبارطة في البحر من قبل أثينة التي بعثت، وإسبارطة هي التي داومت، حتى في السنين التي عقبت انتصارها، على حياة نمطية هوجاء في عالمها العسكري الفارغ الخالي من الروح، وذلك مع تأسيس أفلاطون لمدرسته الفلسفية بأثينة في ذلك الحين، وذلك مع استئناف بركسيتل إبداع تماثيله الخالدة.
ولا ترى في التاريخ مثالا على وجود شعب استطاع أن يخضع إلى الأبد شعبا آخر أرقى منه ذهنا. وانظر إلى أثينة التي كانت تعلو بروحها حضارة البحر المتوسط بأسرها تجدها قد ظلت زاهرة بعد رومة الظافرة عدة قرون، وذلك من غير أن يكون لسلاح الرومان غير ظل عليها. وفي ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 400؛ أي قبل غياب السيطرة الإغريقية عن البحر المتوسط، تنازع شعبان قديمان، تنازع القرطاجيون والأغارقة، ليحرم كل منهما الآخر أملاكه مقابلة، وقد غدا اصطراعهما مختلطا فاقد القيمة منذ ظهور دولة قوية ثالثة في منطقة البحر المتوسط ظهورا وئيدا منذ ظهور رومة.
ولا مفر من نشوب الحرب بين الأغارقة والقرطاجيين بسبب امتلاك الجزيرة الكبرى التي تفصل بين نصفي البحر المتوسط. وقد تصادمت الحضارتان في صقلية، فحارب القرطاجيون في سبيل أقرب المستعمرات إلى بلدهم، وحارب الأغارقة من أجل المستعمرة البعيدة نسبيا من بلدهم الأصلي. وكان من الطبيعي إذن أن يكون القرطاجيون أكثر اكتراثا لصقلية التي يمكنهم بلوغها في ثلاثة أيام في ذلك الحين، وكان لهؤلاء التجار الملاحين حق تاريخي على هذه الجزيرة من بعض الوجوه، ولم يكن الأغارقة ليبالوا بها إلا لتقاليدهم في السلطان العالمي ولعادتهم في الاستيلاء على السواحل والمرافئ المهمة، وما كان من تقلب الطالع الذي يقاتل به كل من سيدي البحر المتوسط هذين من أجل صقلية يثبت عدم تغلب الروح التجارية على كل من الأغارقة والقرطاجيين في ذلك. وكان العامل الحاسم هو طراز المراكب التي تستعمل، فيقابل القرطاجيون ذوات صفوف المجاذيف والجذافين الثلاثة من المراكب بمراكب ذات أربعة صفوف من المجاذيف والجذافين.
Shafi da ba'a sani ba