100

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Nau'ikan

ولا يعلم مقدار ما يرد من ذلك إلى موسى؛ وذلك لأن عشرة قرون تفصله عن التوراة؛ أي عن الأسفار الخمسة التي تعزى إليه على العموم، والذي لا ريب فيه هو أن الأنبياء نشروا شريعة خلقية قبل أفلاطون بمائة سنة. ومن تعاليمهم أمام العالم القديم الذي كان يرخي العنان لأهوائه أنه لا يجوز قتل العدو بل يجب إطعامه وسقيه، وأن من يحقد يكون بجانب من يسفك الدم، وهم قد أباحوا للغرباء أن ينتفعوا بشرائعهم وعاداتهم لما كان من تذكرهم حياة المنفى. وأدعى الأمور إلى حيرة الأغارقة هو إعلان اليهود كون العمل بركة لا ذلا، وكان أرسطو يقول بتعذر إلغاء الرق قبل أن يعم استعمال الآلات، وذلك هو شعب فقير مضطهد يمنح العبد حقوقا مساوية لحقوقه تقريبا، ويهب له راحة في السبت ويدعوه إلى مائدته وأعياده.

وفي تلك الشريعة أن من يكسر سن حر تكسر سنه، فالسن بالسن، ولكن على من يكسر سن عبد أن يعتقه. وقد بلغ الحد الأقصى لذلك في الوصايا العشر التي لم يصغ أدبها بأكثر مما انطوت عليه من جد متوعد وإقدام بالغ وحزم منطقي. وهكذا تنشر قبيلة صغيرة مؤلفة من بدويين ورعاة وتجار شريعة تامة الجدة في عالم القرون القديمة، وستبقى هذه الصفحة الكبيرة مبسوطة على ركبتي التاريخ إلى الأبد.

2

وإلى تلك الصفحة القانونية التي كتبها اليهود يضيف يسوع صفحة جديدة ثمينة مهمة كالأولى، وذلك لعرضها الأدب اليهودي على العالم، ولم كان ذلك حادثا وحيدا في البحر المتوسط، ولم كان يجتذب ذلك أبصار الأعقاب ولو لم ينشر أحد مذهبه؟ ولم عهد إلى هذا النبي اليهودي أن ينقل أفكار أجداده إلى العالم القديم ومن ثم إلى العالم الحديث؟

ذلك لأن الأغارقة وجدوا بين موسى وعيسى، ولأن عيسى ظهر بعد أفلاطون بأربعمائة سنة، وظهر بعد موسى ب 1400 سنة، فتحولت شريعة موسى الصارمة الشديدة الحربية بين ذينك التاريخين كما تتحول الأدوات البرونزية بما يكسوها الزمن به من زنجار

3

رقيق.

وترى وراء اليهود تاريخا زاخرا بالمعارف فقيرا في الانتصارات بطوليا رجوليا، ولكن من غير زيادة في قوتهم. وكان اليهود شهودا من شواطئهم على نهوض كثير من أمم البحر المتوسط وسقوطها، وبما أنهم كانوا لا يشتركون في منازعات هذا العالم، وبما أنهم كانوا راغبين عن التوسع إلى مثل جزيرة قبرس القريبة من بلدهم أو أنطاكية أو رودس، وبما أنهم كانوا يهدفون إلى التجارة في الخارج وإلى إقامة دولة ربانية في الداخل، كان خيالهم القاسي يلين رويدا رويدا.

وكان البحر المتوسط مشبعا من فلسفة انتحلت مناحي اليهود الخلقية وأثنت على نصرانية ما وراء ذلك. وكان علم اللاهوت اليوناني يبتعد عن مبدأ جنة مملوءة بالملاذ ويبحث عن حقل روحي منذ قال فيثاغورس وأفلاطون إن حياة الروح هي الحياة الحقيقية وإن الإيمان بمصير الإنسان قد تغلغل رويدا رويدا. وكان أبيذقليس قد قال هو وتلاميذه، مع خلاف طفيف، إن الروح تجازى في مقابل جولاتها الدنيوية إما بعدم الوجود بعد الموت وإما بالعود إلى الجوهر الإلهي. وقد وصف أفلاطون شدائد روح الجندي المذبذبة بين السماء وجهنم، وذلك قبل رؤيا متى حول النار الأبدية وقبل وحي مار يوحنا بأربعة قرون.

ونشأ عن مثل ذلك المذهب في زمن الرومان مزيج غريب من المشاعر المؤلفة من خشية الموت والشوق إلى الموت، وقد كانت هذه المشاعر غريبة عن عالم أوميرس، وهذا يفسر ما يبغيه مذهب ما وراء هنالك القائل إن حياة الدنيا ليست غير إعداد، وكان هذا المذهب يتضمن رغبة في نجاة الروح. ويقترب سنيكا، الذي عاش في الدور الواقع بين موت عيسى وكتابة الإنجيل، من تعاليم النصرانية في مذهبه عن الموت، ومن قوله: «إن الجسم حمل وعقاب للروح التي يثقلها ويقيدها، والروح تكافح هذا اللحم الثقيل، والروح تود أن تعود إلى مصدرها، وتنتظرها الراحة الأبدية حيث كانت قد شاهدت الحقيقة والنور.» ويقول فيلون في ذلك الزمن: «إن الروح مدفونة في الجسم كما في قبر.» وما أكثر اقتراب هذين الفيلسوفين، اللذين كان أحدهما وثنيا والآخر يهوديا، واللذين كان أحدهما يقيم برومة والآخر بالإسكندرية، من نبي الناصرة!

Shafi da ba'a sani ba