أرى «القديمة» حزينة «والجديدة» كذلك. فإذا قلت للأولى: ماذا يحزنك؟ أجابت: يحزنني ذلي وانكسار قلبي، وأنا على ما ترين لست أنقص عن الجديدة جمالا ولا أدبا، وكنت أبذل جهدي في مرضاة زوجي، أما الآن فلا. على أنه لا يزال يسترضيني فيقول لي: أنت أحب إلى من الأخرى، وأنت أول من ملك قلبي، وأنت جميلة، وأنت ... وأنت ... إلخ. وأنا لم أتزوج عليك لنقص فيك وإنما كان ذلك مقدورا. وإذا ما سألت الجديدة عن سبب انقباضها قالت: يحزنني أن أرى لي شريكة ومنافسة، على أن زوجي يحقق لي أنه لا يعبأ بها، وأنه لو كان مقتنعا بها لما تزوج عليها، وأنه يريد طلاقها ولكنه يبقيها رحمة منه لتربي أولاده فقط. «فزوج الثنتين غير سعيد كما قد يخيل له» ... «الإكثار من الزواج داء إذا تأصل صعب استئصاله.»
8
في الضر ترى جميع أنواع المتاعب للرجل، وأكبر أسباب الغم والتعاسة للمرأة؛ فهو عندها مفرق العائلة وأظلم مشتت لسلامها. قالت: «هو اسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته» ... و«هو اسم فظيع مملوء وحشية وأنانية.» إذا شقي الرجل مع زوجته الأولى له أن يتزوج عليها. في هذا الظرف تسمح بالضر وتحرمه فيما عداه. «أما إذا كان يعد بقاءها (القديمة) معه منغصا لحياته أو كان كارها لها فليطلقها بتاتا، فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره» ... «الطلاق شقاء وحرية، والضر شقاء وتقييد. ألا إن حزينا حرا خير من حزين أسير!» •••
أكتب هذا الفصل وبي عاطفتان قويتان: عاطفة الحزن وعاطفة العجز. فالعجز يجعلني قاصرة دون تشخيص هذه العلل الغريبة عني؛ لأني فتاة مسيحية أرى الضر شيئا وهميا لا وجود له في قومي، وقد ألغيت بغيابه جميع صنوف الرزايا اللاحقة به. ومهما تفهمت هذه الأوجاع بقلبي النسائي فإنها تظل عندي خيالية ليس غير. أما عاطفة الحزن فمتأتية من أن العائلة التي وجدت لتكون مستودع السعادة الطاهرة تصير على قولها مستنقع الحسرات والكوارث والقنوط. وهل يجدي إصلاح المصلحين نفعا إزاء ناموس الألم النافذ على جميع الكائنات؟! لماذا يعذب الأب ابنه والولد أمه، والغريب الغريب، والحبيب الحبيب؟ من أين تهجم جيوش الألم الدقيقة غير المنظورة مصادمة أشرف الميول، جارحة أصفى النوايا، ساحقة أخلص القلوب؟ ما هذا ما نسميه ألما؟ وما هي الغاية منه؟ إذا كان كما يزعم الروحانيون نتيجة ذنوب سابقات، وأننا نكفر اليوم عن آثام الأمس وسنكفر في عمر آت عن آثام هذا العمر، إذا كان ذلك صحيحا فقد كان يوم بدء أعمار الإنسان فيه تألم هذا مظلوما؛ لأنه تألم بريئا. وإذا سلمنا بالمعنى الشريف الذي جعله الروحانيون للألم فقالوا إنه النار المطهرة من الفساد والواسطة المثلى للتهذيب والارتقاء، فماذا نفكر إزاء من يتألمون ولا يستفيدون، بل يتقهقرون مجدفين على قوى الطبيعة والألوهية، بل ماذا نقول فيما يقاسيه الحيوان من آلام جسمية دون أن ينتفع به؟ إن الذي تروعه معاني الألم يتقطع قلبه إزاء أوجاع صغار الحيوان، فيرى الألم كما هو شيئا هائلا وحكما صارما تخضع له الموجودات مرغمة مقهورة، وتخترع له البشرية مخففات المعاني لتؤاسي يأسها وتنقص من بلواها. يخاف الناس ويرجون، ويكرهون ويرغبون، وظلام الألم مخيم عليهم أبدا، فيبحثون عن الأصدقاء والمساعدين والمؤيدين والمحبين ليأمنوا شر ذلك السواد القاسي. ولكن، ولكن! أليس هؤلاء الذين نحبهم ونحتمي في قلوبهم من مكايد الأيام هم الذين يسبكون سيال الألم في كئوسنا صرفا، ويتفننون في التعذيب كأنما الطبيعة ائتمنتهم على أسراره؟
ما هو الألم؟ من أين يأتي؟ وما هي الغاية منه؟ هل يتغلب عليه المصلحون يوما فتعيش العائلة الجزئية بسلام وتترابط العائلة البشرية الكبرى برباط الأمان؟
أم سنظل أبدا على ما نحن فيه كأنما الباري جل وعلا ينشئ وراء سماواته عالما جديدا لا يتغذى إلا بعنصر الألم المتجدد مع الثواني في حياة أبناء الأرض؟
الفصل السابع
المصلحة
قدم يوما أحد وزراء روسيا إلى نقولا الأول تقريرا ضمنه اقتراحات توسم فيها خيرا للإصلاح والارتقاء، فلما انتهى القيصر إلى هذه الكلمة كتب على هامش التقرير: «الارتقاء؟ أي ارتقاء؟ فلتحذف هذه الكلمة من اللغة!»
للأوامر الهمايونية أن تقضي على اسم الارتقاء في معاجم اللغة والتقارير الرسمية، إلا أن المعنى منه يبقى بنجوة عن الإلغاء والتكبيل عاملا عمله في الأفكار وفي القلوب. أيظن ذوو التيجان والقابضون على أعنة الأمم أنهم فائزون في مكافحة القوى الحيوية والقضاء عليها. وما هم فائزون إلا بارتدادهم خاسرين. حظر القيصر على الوزير استعمال كلمة غاب عنه أن يحبس مجراها المندفع في نفوس الرعايا. ولما أن أقبل ذلك التيار الجارف على هاوية البلشفية اندك يهبط فيها من أعالي الملكية المطلقة مكتسحا معه رفيع العروش ومبطاش الصولجة. ولو سبقت اليد المدبرة ووزعته ترعا وسواقي ترضع الحدائق وتروي المروج لما ظل شلالا عصيا يولول مبعثرا على الصخور. أكان ذلك لروسيا خيرا أم كان شرا؟ سؤال ما زال الجواب عنه دفينا في صدر المستقبل الجدير دون غيره بإصدار الأحكام التاريخية.
Shafi da ba'a sani ba