7 «الفكرة التي تحوم وترفرف» لا تجد عند الباحثة «مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب» إلا البيئة التي جعلتها موضوع اهتمامها. وإذا خرجت من هذه بالفكر حينا جاء ذلك للمعارضة وتقوية الحجة ووجوب قياس القريب على البعيد كتمثيلها الطبيعة هذا التمثيل المترسل:
فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند. لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا. تنيرها الشمس نهارا (إلا في القطبين) والقمر ليلا، وقد نثرت فيها النجوم نثرا إلا قليلها فهو مظلم. ولم يشأ الله وهو قادر أن يجعلها كلها في شكل عقود وتيجان وأن يرسمها دوائر مثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر. والأرض بسيطة أيضا لا تحول لنظامها. فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملا. والرمل تسفيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرا. والبذر ينبت إذا لقي ريا وأرضا صالحة. وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح ويثقل عليها ثمرها فيتدلى أو يسقط إلى الأرض!
8
وما الذي تظنه موجبا لهذه السطور المنمقة بقلم قدير، كما أنها تنم عن نفس منبسط الأرجاء توزع فيها حب الطبيعة وتفهم الجمال؟ أتحسبه مشهد شروق أو غروب أو وقفة على جبل شاهق، أو جوبة بين ضلوع الوادي المخططة بالمياه المتعلمات؟ إنها استهلت النبذة السابقة بهذا المطلع: «بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالا من غير تعقيد ولا إبهام. فالسماء معقودة على الأفق في مصر ... إلخ.»
إذا أرادت انتقاد الكلفة بين الزوجين المصريين ليس غير! وإن ذلك ليذهلني قليلا. لأن الفكر الذي يبقى ضيق الحدود ما ظل مستقرا على الجزئيات ينفتح منه الجناح بانطلاقه إلى الكليات. فيستنسر محلقا في آفاق بعيدة، ويتسع منه الكيان ممتدا في تمدد الكون الذي هو جزء منه. وحينما يصل إلى هذا المقام من النشوة المعنوية ينحسر لثام الظرفية عن صغائر الحياة ويتموج الجزء الحقير غارقا في الكل العظيم فيبدو للمفكر بوجه آخر ومعنى جديد عميق. ولكن باحثة البادية بعد هذه الطيرة الفكرية تهبط إلى ضرب مثل عن أحد ملوك الصين لتثبت قبح التكلف وحلاوة البساطة، ولتنتقد المرأة التي تقول لزوجها «يا سيدي» أو «يا بك» فيناديها هو بقوله «يا هانم!»
ترى ألم تكتب النبذة الأولى في يوم ثم عادت فألحقت بها ما يليها في يوم آخر؟ •••
إنها كجميع النفوس التي أثقل فكرها ما خلا منه فكر الآخرين، فكانت بذلك منفرزة عن محيطها، تتجنب جلبة الجمهور ما استطاعت وتستهويها العزلة حيث يختمر الفكر وتنضج ثمار التأمل. تحب عيشة القرى والخلاء بقدر ما تنفر من المدن ميادين الكذب والمشاجرة والضوضاء. وقد أبدت ميلها هذا في الفقرة الآتية الحسنة:
قل: ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى! وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن! القرى جميلة لأنها على الفطرة. أما المدن فلا تعدم أثرا للتكلف والرياء. أين دوي الكهرباء من خرير الماء! والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا ترى فيه إلا تحليق الصقور وإلا رءوس النخل الباسقات! وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كسيت ببساط النبات! وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل وروث الدواب من شذى أزهار الحقول! بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظر تسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللانهاية في الفضاء.
9 «اللانهاية في الفضاء »! في المدن مجد النشاط وجلال العمران ، ولكن عين المفكر في حاجة إلى تسريح النظر في المدى الواسع كأنما هي تبحث في أبعاده المتراميات عن حل ما غمض عليها من مشاكل الحياة، أو كأن القلب الحزين يستخرج من عصير الألوان الجوية بلسما إن لم يكن شافيا لسآمته ففيه ما يجلب التلطيف والتسكين.
سمعت مرة فتاة تقول: «ومن ليس جميلا من هنا (مشيرة إلى العينين)؟» وقد كانت مصيبة. إن من جميع أعضاء الجسم وتقاطيع الوجه ليس أكثر من العينين شفوفا عما يألفه الذهن من الخواطر وما يلتصق بالنفس من رغبات. العين مرآة السريرة، تطل منها جميع الخيالات والأشواق، فإذا عرفت عين امرئ عرفت ما هو إجمالا وبعض ما طوي عليه. ولئن كان بعض العيون جميلا دائما فإن جميع العيون جميلة في أوقات معينة، والمعنى النفسي الأقوى تغلبا على الملكات ينيل العينين تعبيرها المقيم.
Shafi da ba'a sani ba