ومن واجبات المرأة البيتية القراءة أيضا؛ لأن المرأة التي تكون أمية تشتغل في بيتها بيدين فقط، وأما متى كانت تقرأ فإن أيادي كثيرة وعقولا كبيرة تساعدها على الشغل والاقتصاد والصبر وحسن إدارة البيت. ورب امرأة تقرأ مجلات مفيدة فتقدر على إدارة بيتها على نسق لا يكون في بلدتها أو وطنها أيضا، وتقدر أن تطبخ ألوانا من الطعام لم يكن أحد من أهلها أو بني وطنها ذاقها، وتكون قرأت هي عنها في كتاب طبخ.
وفضلا عن هذا فإن القراءة صابون الهموم، والمرأة البيتية أحوج الناس إلى غسل القلب والرأس بعد الاستراحة من شغل البيت؛ فالجريدة تسليها بأخبارها عن أتعابها وتسبح بها في عالم كبير لا تقدر أن تدخله وتعرف ما فيه، والمجلة تعلمها كيف تطبخ، وكيف تربي أولادها وكيف تهذب نفسها وتهذبهم، والخلاصة أن الجرائد والكتب والمجلات المفيدة تعلمها كيف تدنو من الكمال، وكيف ترى بعين فكرها غير جدران منزلها وبيت جارتها وكيف تقدر على مشاركة زوجها بآرائه ولذته متى أتى ليصرف وقت الراحة في البيت، وكيف تجعل له ذلك البيت جميلا ومبهجا وهادئا، وتكون هي فيه لصرف ساعات سعيدة بعد مجيء زوجها من أشغاله وانصرافها هي من أتعابها.
أما بيع الكشة فهو تجارة، وهو «جائز ومحرم» بحسب الظروف. جائز لأنه تجارة غير محرمة على المرأة متى كانت مضطرة إلى تحصيل معيشتها بذاتها. وهذا الأمر يتم بواسطتين هما التجارة والخدمة. والواسطة الأولى هي أشرف وأنفع للمرأة إذا قدرت عليها؛ لأنها تكون لائقة بها. وأما الثانية فإنها تأتي بعد الأولى، وبيع الكشة في هذه البلاد تجارة للمرأة وللرجل السوري على السواء، فإذا اضطرت المرأة إلى البيع وتعاطته بشرف وأدب تكون قامت بواجب العمل الشريف، وعرفت بأنه خير وألف خير للمرأة الفاضلة أن تكد وتتعب بالعمل الشريف لتحصل منه خبزها، من أن تأكل بكسل وخمول، أو تلقي اتكالها على أحد غريب عنها فتعيش ذليلة مهانة وهذا ما هو محرم.
إنني بكل حرية أقول وأنا آسفة بل حزينة: إن بعض نسائنا يتعاطين بيع الكشة إما دناءة وطمعا في جمع الكثير من المال والرجوع به إلى الوطن كيفما كان الأمر، وبعضهن يفضلن التجول والدوران والتنقل من بلد إلى بلد متاجرات، على ملازمة البيت والقيام بالواجبات التي خلقت لها المرأة، وقد رأيت بعيني سيدة لا تحب أن تأتي إلى البيت إلا أياما في السنة وترجع، وأخرى تقول: إن صدرها يضيق متى دخلت بيتها ووجدت زوجها مقطب الحاجبين عابسا وأولادها سيئي التربية قليلي الأدب وبيتها قذرا قبيح الفرش، وهذه النقطة التي أردت الوصول إليها؛ فما الذي صير وجه زوجها عابسا إلا أنه كان يأتي إلى ذلك البيت فلا يجد فيه من يعلمه اللطف والبشاشة؟ وما الذي صير أولادها قليلي الأدب سيئي التربية غير تركها إياهم وإهمالها لهم، يدخلون ذلك البيت يأكلون ويشربون فيه ويخرجون منه إلى الأزقة والشوارع التي ليست في عيونهم أقبح بل أجمل منه. وماذا يرون فيه يسرهم ويرغبهم في البقاء ضمن جدرانه؟ أهناك لطف الأم وحنوها وحبها الذي هو أعظم مسل ومرغب للأولاد في البيت؟ أم ترتيبها واعتناؤها بأجسادهم ونفوسهم اللذين يجعلانهم أغراسا نضرة تسر العين، وفيها أثمار لذيذة من الأدب تغذي القلب؟ إنهم لا يرون هذا ومتى خرجوا فإلى أين يخرجون؟ إلى الشوارع الملآنة بأولاد الطيش وعشراء السوء؟! إلى الحانات وطاولات القمار؟! وعلى هذا يشبون، فمتى تزوجوا بنساء كأمهاتهم جاهلات يبقون على حالهم، ولسان حالهم يقول: «من الدلفة لتحت الميزاب.» وإن بلا الله بهم نساء فاضلات من بيوت عامرة لا يقدرونهن قدرهن، ويعشن معهم بظلم وهم لا يلامون بل تلام أمهاتهم اللواتي هن نساء اليوم؛ لأنهن لم يجعلن بيوتهن كما قال أحد الحكماء: معامل للفضيلة. وقد كن منشغلات عنها بجمع المال الذي كان يقدر الرجل على جمعه وهو لهذه الغاية خلق ولم يخلق ليتبادل مع المرأة الصنائع والحرف فتذهب هي متاجرة بينما هو ملازم البيت مع الأولاد، أو متخلف في الوطن «عند الرزقات»، ومرسل امرأته الضعيفة لتحارب التجارب والمصاعب ببلاد أصغر ولاية من ولاياتها هي أكبر من وطنه.
هذا هو بيع الكشة يا سيدي، فهو خير وشر على الوطن وأبنائه، وكل الأشياء تتمشى على هذا النمط متى وضعت في غير مواضعها.
فعجب أديب من إصابة رأي بديعة وذكائها، فقال لها: أظن أن المرأة السورية في سورية أوفر راحة منها في أمريكا. أجابت: نعم ولكنها أقل نفعا وتهذيبا بوجه العموم، وغاية ما أقدر على قوله عن المرأة السورية المهاجرة والسورية المقيمة في وطنها هو أن الطبقة الأولى من نساء المهاجرات مجتهدات ويشتغلن في بيوتهن أكثر من نساء الطبقة الأولى في الوطن، وأما هؤلاء فإنهن ذوات رفعة وجاه وعظمة وخيلاء أكثر من أخواتهن المهاجرات، ولكن المهاجرات يفضلهن بأمر مهم هو نظافة بيوتهن من «اللعب»، وبكلمة أوضح، خلو أكثرها من موائد القمار التي دخلت كل بيت كبير في بلادنا تقريبا. وأما الطبقة الوسطى من المهاجرات فهي أكثر تهذيبا وتمدنا وأهدأ بالا من مثلها في وطننا، هي مجتهدة نافعة تكسب الوطن فضلا عن الأرباح المادية أرباحا أدبية عظيمة.
وأما الطبقة الفقيرة فقد جعلت نفسها وصيرتها والنساء فيها نشيطات مجتهدات فاضلات، وقد أخذن أن يتهذبن، ولولا المهاجرة لما كان لهن اسم يذكر، أما الآن فقد «خلقتهن المهاجرة» خلقة جديدة، ولها كل الفضل على تقدمهن المادي والأدبي، وما هن كذلك في الوطن بل هن هناك كالإماء.
ولما انتهت بديعة من كلامها أخرج أديب من جيبه خاتمين من الألماس، وتقدم نحو جميلة فوضع أحدهما بإصبعها قائلا: «هذا جزاء اعتنائك ببديعة.» ثم تقدم بالآخر نحو بديعة وقال: «وهذا جزاء مساعدتك نفسك على الشفاء العاجل.» وكان وهو يلبسها ينظر إليها بعين ملؤها الحب والإخلاص.
وفيما هو يضع الخاتم بيدها سمع صرخة قوية ورجلا يقول: يا خائنة! فنظرت بديعة وإذا بفؤاد داخلا من الباب وهو يزأر كالأسد، ونسيب من ورائه، فوقعت للحال مغمى عليها. ولما استفاقت وجدت نفسها تحت عناية جميلة، وفؤاد ونسيبا قد انصرفا. وبعد برهة نهض أديب الذي عرف من منظر فؤاد بأنه حبيبها ذاته، وخرج مسرعا وراءه وبقصده أن يلحق به فيخبره بقصة بديعة، ويسعى جهده للجمع بينهما، مع أنه كان يحبها المحبة المفرطة، ولكنه لم يجد فؤادا فرجع إلى حيث بديعة وأخبرها بالأمر.
الفصل الثاني والعشرون
Shafi da ba'a sani ba