فتنهدت بديعة وقالت: ما هي يا ترى؟ ولكن قبل أن تقصاها علي دعاني أخبركما بحلم مزعج حلمت به، هو أنني كنت سائرة في طريق مقفرة وحدي، وكانت الأرض موحلة فسقطت رجلي في حفرة هناك إلى ركبتي والتصق بها الوحل، فعانيت كثيرا في سحبها منه ومشيت مسرورة. وبعد قليل وقعت في حفرة أعمق من الأولى بكثير، وإذ رأيت نفسي فيها خفت وصرت أصرخ إليكما وأقول: لتكن مشيئتك يا رب فإنني لا أكاد أخلص من حفرة في الحياة حتى أقع في أعمق منها ، ولولا أنني انتبهت الآن لكنت جننت لا محالة من الخوف.
عند ذلك اقترب أديب من سريرها قائلا: أبشري يا بديعة فإن حلمك قد صدق من جهة وكذب من أخرى؛ لأن نسيبا ولوسيا قد سافرا إلى نيويورك وسوف لا يرجعان، وهذه هي الوحلة التي خلصت منها، أما البئر فلم تقعي بها وحلمك من هذه الجهة كاذب.
فأغمضت بديعة عينيها عند سماع كلام أديب، وكأنها أرادت بهذا أن تحجب عن نظرها إخلاصه وحبه العظيمين، واللذين لا تقدر أن تبادله أحدهما كما يريد.
ومع أن بديعة لم تسترح كل الاستراحة من جهة حلمها، فإنها فرحت بذهاب نسيب كثيرا ورضيت بالحاضر مسلمة المستقبل لله.
ولا حاجة للكلام بأن بديعة أخذت تتقدم إلى الصحة؛ لأن الأمراض مهما كانت يؤثر بها الهم كثيرا، فكيف متى كانت مسببة عن الهم ذاته! ولما أخذ ذلك الهم بالتناقص، أخذ مرضها بالزوال شيئا فشيئا.
الفصل الحادي والعشرون
رأي بديعة في المهاجرة وبيع الكشة
وفي أحد الأيام دخل أديب إلى غرفة الفتاتين فوجدهما مشغولتين بخياطة ثوب لبديعة، فنظر إلى وجه هذه فرآه لم يزل مصفرا وعليه من الوهن والضعف أدلة، وكان أديب يحب محادثة بديعة كثيرا لأنه يرى لها إلماما ومعرفة بكل أنواع الأحاديث الأدبية المفيدة، فقال لها وهو ينظر في يديها الناحلتين بدون ملل: أي شغل أحب إليك من الثلاثة: الخياطة أم بيع الكشة أم ترتيب البيت؟
فأجابت بديعة، وكان لها رغبة وشوق إلى الحديث في ذلك اليوم: إن لذتي ليست بجنس وطبيعة العمل بل بالعمل الواجب عمله؛ فشغل البيت من واجبات المرأة الأولى، وهو أشرف أعمالها، والمرأة التي لا تقوم بأشغال بيتها بمعرفة وترتيب وأمانة لا تكون امرأة كاملة ولو كانت ملكة؛ لأن المرأة إذا لم تشتغل في بيتها بيديها يجب أن تشتغل بعينيها ولسانها، وذلك بملاحظة الخدم وإرشادهم. والمرأة على كل حال ملكة وبيتها هو مملكتها الصغيرة، وكيف نشكر هذه الملكة إذا لم تكن عارفة بأحوال مملكتها؟ أم إذا كانت عارفة وترى من العار إدارة هذه المملكة بذاتها ، ولعمري إن المرأة التي تلتهي عن شغل بيتها بشغل الناس تجد من أولئك الناس احتقارا ولا تكون إلا متطفلة.
وأما الخياطة فهي واجب المرأة الثاني، وهي إن تكن من شغل البيت أيضا فإنها فرع مستقل بذاته، فالمرأة يجب أن يكون لها إلمام بكل المعارف والعلوم، ولا سيما البيتية والاجتماعية منها. وهي أحوج إلى تعلم فن الخياطة الآن منها قبل سنين وأجيال؛ لأن «السيدة موضة» مسرفة للغاية وتوجب هذا الإسراف على رعاياها، وهي تأتينا كل يوم بفن لا بد لبعض النساء منه، فإذا لم تقدر المرأة على الاقتصاد في أثمان الملابس وأثمان تخريجها فلا أقل من الاقتصاد بأجرة الخياطة، وهذا الكلام يعم الغنية والمتوسطة الحال والفقيرة؛ لأن الثلاث سائرات على طريق واحدة تقريبا في هذه الأيام. فالأولى لا يضرها إن اقتصدت قليلا في أجور الخياطة بعمل ثياب أولادها وثيابها البسيطة إذا لم نقل غيرها، وينفعها إذا وزعت هذا المال الذي تكون سلت نفسها باجتنائه أو توفيره على الفقراء المعوزين بدون أن تمس مالها أو مال زوجها. والوسطى ينفعها هذا الاقتصاد كثيرا؛ لأن حالتها مكربة بالتشبه بالغنية التي لا يهمها الاقتصاد كما يهمها هي. وأما الفقيرة فهي مطالبة شرعا بتعلم فن الخياطة حتى تكون قادرة على لبس أثواب جميلة هي وأولادها؛ لأنها إذا كانت تخيط وترتب ثوبها تقدر على مشترى الأقمشة المعتدلة الثمن وجعلها جميلة صالحة للبس وخياطتها «على الموضة»؛ وبهذا توفر المال الذي يجب إنفاقه على الغذاء، وتصون ماء الوجه إذا كانت تضطر أن تذهب إلى عند فلانة وفلانة لتفصل لها هذا.
Shafi da ba'a sani ba