135

فلما دنا الرجلان منه، وقف ورقة يتأمل جمال نقوشه وصوره، وأخذ يتطلع ويعجب، وأورست معه يتحدث عن صاحبه وتذبذبه بين الفريقين، وورقة دهش لما يرى، وفيما هما كذلك شعرا كأنما الجو الذي كان يحيط بهما قد صفا، وكأنما كان فيه دوي بعيد ثم خفت، فنبههما السكون المفاجئ كما لو أنه لم يكن سكونا بل كان ضوضاء - إلى أن بالقصر شيئا، ولكنهما لم يريا أن يدخلاه ولا أن يقفا ليتفحصاه، بل استمرا في طريقهما. حتى إذا لاح للعين شباك في طبقته السفلى مخبوء وراء فروع بعض نبات مهمل في الحديقة عرج ورقة؛ لينظر من بين قضبانه إلى داخل البيت المهجور، ولشد ما كان عجبه؛ إذ رأى جماعة من الناس عليهم سيما السراوة قد اجتمعوا في هذا القبو أو السرب يتحدثون، وقد بدت عليهم علائم الاهتمام الشديد بما هم فيه. كانوا أخلاطا عجيبين من يعاقبة ويهود: بعضهم فيما يبدو من رجال الدين، وكثرتهم من رجال الدنيا، ولشد ما كانت دهشته إذ تبين فيهم اثنين من أصحابه في حلة الأراك باليمن، هما: إسحاق بن مرداس والحبر. كانا جالسين مع أمثالهما من يهود لم يعرف ممن هم، وإن عرف من ثيابهم وسحناتهم أنهم يهود، كما تبين في الفريق الآخر صاحبه بطرس البحريني وبعض رجال من قساوسة اليعاقبة خيل إليه أنه رآهم في القصر في عيد الميلاد حينما جاءوا يهنئون الأمير المقوقس نيقتاس بالعيد.

كانوا يتكلمون بلغة خليط بين الرومية والقبطية فلم يفهم منهم شيئا كثيرا، ولكنه رأى صررا من المال ملقاة على الأرض بين المجتمعين، ورأى في جانب المكان أكواما من السيوف، فأدرك ورقة على الفور أنه تآمر على الحكومة القائمة؛ إذ لو لم يكن كذلك ما كانوا في حاجة إلى الاختفاء، وكان يعلم نجوى اليهود في جميع بقاع الإمبراطورية الرومانية مما علم من أفعالهم في ديار القدس والشام، وما سمع من كل من اتصل بهم ولا سيما من هيلانة، ويعرف كذلك مقدار فرح اليعاقبة بانتصار كسرى وشماتتهم بأهل المذهب الرومي، واعتقادهم أن كسرى قد تنصر، وأنه يريد أن يتولى بطريق اليعاقبة في مصر مراسم التنصير له.

أدرك هذا وما كان أهون عليه أن يدرك، ولكنه تنحى لصاحبه عن مكانه؛ ليرى هو أيضا ويثبته في رأيه إن كان محتاجا إلى ذلك. فتقدم أورست من حيث كان ورقة ينظر، وسمع ما سمع ورأى ما رأى، وعاد يقر ورقة فيما خطر له، وزاد عليه أنه فهم من حديثهم أنهم يدبرون تدبيرا؛ لفتح أبواب المدينة لجيوش الفرس. ما إن يرموا أول حجر عليها من مجانيقهم حتى يدخلوا المدينة بلا حصار طويل، وسمع إسحاق يقول ويترجم له أنه اتفق مع السلار على ذلك، وعلى ما يكون لكل ذي يد في هذا العمل العظيم من كبير الأجر، وأن المال الذي جاءوا به هو في أكثره من مال السلار، أما السلاح فهو كما يعلمون من سلاح إخوانهم في الإسكندرية جيء به؛ ليوزع على الدهماء في محاولتها قتل حراس الأبواب.

لم يكن لورقة بعد هذا إلا أن يؤجل اللقاء إلى يوم آخر؛ لينصرف إلى أداء واجبه إذ هو جندي، وإذ هو حارس الأمير الخاص، ورافقه أورست إلى الطريق المؤدي إلى البراكيوم على أن يلقاه في أقرب فرصة.

ولكن ورقة لم يذهب إلى القصر بل ذهب إلى أقرب مخفر للشرطة وأنهى إلى ضابطه ما رأى وما سمع، وطلب إليه أن يحاصر المكان، ويقبض على من فيه، واعتذر إليه من انصرافه إلى القصر ليبلغ الأمير، وسرعان ما نهض ضابط المخفر لهذه المهمة، وسار بجنده لحصار المكان حين كان ورقة يغذ في سيره إلى الأمير؛ لينهي إليه خبر ما رأى وما فعل. لقيه في قاعة الاستقبال الكبرى، ووجد معه شيخا مهيبا في لباسه الكهنوتية العليا. أدرك من فوره أنه البطريق الرومي الخالد الذكر حنا الرحوم صاحب البر والإحسان الذي ضرب به المثل، والذي كان وجوده في الإسكندرية نعمة لأهلها. لم يفرق بين رومي ويعقوبي ويهودي، فالكل كانوا لديه أبناء الله الذي أسعده بولاية أمورهم، وكان الأمير مشغولا مع الرحوم في حديث خطير كانا فيه يدبران وسائل المقاومة؛ إذ بلغهما قدوم السلار شاهين الفارسي إلى الإسكندرية، وكان الأمير قد أمر ألا يدخل عليه أحد ما دام مع البطريق، ولكن ورقة لم يتردد في الدخول عليه وهو معه؛ لأنه كان مفوضا له أن يدخل متى شاء؟ وأين شاء؟ ولأن لديه فوق هذا خبرا خطيرا - دخل فاستاء الأمير لدخوله، ولكنه كاد يتبينه حتى انبسطت أساريره، وناداه حين كان يعتذر إلى البطريق بقوله: هذا حارسي العربي الأمين. إن وراءه خبرا عظيما! أؤكد لك. ما وراءك يا بني؟ قال: مؤامرة! فذعر العاهلان، ونهضا من مجلسهما فزعين يقولان بصوت واحد: مؤامرة! قال ورقة: أجل من اليهود واليعاقبة في حي رقودة. رأيتهم مجتمعين في سرب قصر ليونوتوس المتهدم، ومعهم أكوام من السلاح، وصرر من المال؛ ليفرقوها في الدهماء يوم يصل الفرس على أن يقتلوا حراس أبواب المدينة كي يدخلوا بلا عناء. ثم سرد لهما الحادث تفصيلا، وأنه ذهب من فوره إلى ضابط المخفر وأبلغه ما رأى، وأنه تركه يستعد لحصار القصر القديم بجنوده؛ ليقبض على المتآمرين، وجاء ينهي الخبر إلى مولاه.

شكر العاهلان ورقة، وأثنيا عليه، ودعا له البطريق دعاء كريما، وبعد قليل طلب إليه الأمير أن يعود؛ ليأتيه بخبر ما جرى بعد ذلك، ولكن كان ضابط المخفر قد حضر إلى القصر على جواده واستؤذن له فدخل يقول: إنه ذهب إلى القصر القديم، وحاصره مع جميع جهاته، ودخل ببعض جنده من باب كان مقفلا بل مسدودا من الداخل، ولم يترك فيه مكانا لم يطرقه ولكنه لم يجد أحدا. فدهش ورقة وقال: عجبا! وأخذ الشك يساور الأمير ويوحنا كذلك فقال له: كيف ذلك؟ إن ورقة رأى فيه جماعة من أعيان اليهود واليعاقبة، ورأى أكواما من السلاح وصررا من المال. قال الضابط: أما إنهم كانوا هناك فلا شك عندي في ذلك، فقد سمعت لفظهم حين حاصرتهم كل ما وجدته هو السلاح وبعض دنانير فارسية مبعثرة في أرض الغرفة ، هي هذه، ثم قدم له منديلا صر فيه الدنانير فتناولها الأمير ولم يفضه، واستمر الضابط يقول: وأكبر الظن أن وعاءها انحل منهم ساعة الجري، ولم يستطيعوا في عجلتهم أن يجمعوا كل ما تناثر.

كاد نيقتاس يتميز من غيظه لإفلات المتآمرين من يده، وزاد غيظه أن حسن سياسته مع قساوسة اليعاقبة والرفق بهم والعدل معهم ثم إكرامهم بترك بطريقهم في كنيسة الإنجيلون في الإسكندرية حين أنه كان محرما عليه ذلك في العهد السابق احتقارا له وامتهانا لشعبه، لم تفد معهم شيئا، وأن حمايته اليهود طول مدة ولايته، وتسويتهم بالروم في الحقوق المدنية لم تذهب حفيظتهم، فتنفخ كدرا ولم يدر ماذا يفعل فصمت، وكان بوده لو يلقي نار غضبه على الضابط، ولكنه لم يجد عليه ذنبا قريبا. على أن ورقة كان يعجب أين ذهب المتآمرون؟ وخطر له أن يسأل الضابط: هل فتشتم صهريج القصر؟ فكان سؤاله هذا وهو بريء المصدر منفذا ينفس فيه نيقتاس العادل - إذ كان الرجل عادلا حقا - مرجل غضبه، واشتهت نفسه أن يقول الضابط: لقد فاتني هذا - ليودي به ويعبث، ولكن الضابط قال: نعم. نزلته بنفسي أنا وعشرون من رجالي، وما زلنا سائرين حتى خرجنا منه إلى خندق مهجور، وأكبر الظن أنهم خرجوا منه كما أتوا منه. فلم يجد نيقتاس بعد ذلك ما يؤاخذه عليه، ولكنه استمر في حنقه، ولحظ البطريق ذلك فتدخل يقول: لقد فعل الضابط واجبه فما عليه أن يعرف مآخذ الصهاريج التي تملأ بيوتنا جميعا، ولكن نيقتاس لم يهتم بذلك، وسأل الضابط: كم لك في خدمة المدينة؟ قال: منذ فتحها مولاي المقوقس. قال: ولا تدري أن الصهاريج كانت في كل عهد مخبأ وملاذا ومفرا. قال: الصهاريج للماء لا للهرب يا مولاي. قال: حتى ولو كانت في قصر خرب منذ ثماني سنوات. فصمت الرجل ولم يتكلم. قال: يحسن بك أن تتعرف الخرائب التي في اختصاصك وتقيم عليها العيون. اذهب وكن أرعى لوظيفتك بعد يومك.

حيا الضابط وانصرف، ولكنه ما كاد يصل إلى الباب حتى استوقفه الأمير فعاد حين كان ورقة يقول لمولاه: إنه عرف من المتآمرين ثلاثة رجال؛ أحدهم يدعى بطرس البحريني، وهو كاتب كان حتى صباح اليوم في خدمة السيد قوزمان العالم، ثم طرده من خدمته؛ لما تبين عليه من الريب. فقال الوالي: إني أعرفه حق المعرفة. إذن فقد كان شيطانا كما خبروني، والآخران؟ قال ورقة: الآخران أجنبيان عن الإسكندرية، يهوديان؛ أحدهما: من ولاة الحكم في صنعاء اسمه إسحاق بن مرداس، والآخر: حبر من أحبارهم. لقيتهما في الطريق إلى مكة وكانت لي بهما علاقة، حين كانا ذاهبين إلى أرض المعاد للقاء السلار شاهين في القدس ومعهما هدايا لكسرى، وهما اللذان جاءا بمال الفرس الذي منه هذه الدنانير، ولعلك يا مولاي إذا قبضت عليهم قبضت على سائر المتآمرين. فسر نيقتاس ويوحنا لذلك سرورا عظيما، وأمر الوالي ضابط المخفر أن يبحث عنهم ويأتي إليه بهم. فانصرف الضابط راجيا أن يوفق إلى مرضاة الوالي، واتجه إلى القبض على بطرس البحريني؛ لأنه كان في نظره أهون الثلاثة عليه مشقة، وإن كان أعظمهم خطرا.

الفصل الحادي والأربعون

تفسير الشرط

Shafi da ba'a sani ba