صعق بطرس لهذا الحكم القاتل، وأدرك أن ما جرى بينه وبين ورقة قد سمعه الأستاذ وشهده على حال ما، وإلا فما كان يقضي هذا القضاء الجازم الشديد. فلم يعقب على كلامه، والتفت نحو الباب وهو يتمتم بكلمات وعيد لم يأبه لها ورقة، وما كاد ورقة يلتفت إلى الأستاذ؛ ليعتذر إليه مما جرى حتى قاطعه هذا قائلا: لقد رأيت قبل أن ترى ما رابني منه، وسمعت ما بدأ به كلامه معك وما رددت عليه، ولا وزر عليك، وأنا أولى أن أعتذر إليك من فرية هذا الرجل الذي خدعني ثلاث سنوات متوالية.
الفصل الأربعون
المؤامرة
بلغت الشملالة بأورست حظيرة متجره الواسع العظيم في يوم واحد، وكان من أغنياء الإسكندرية المعدودين، وكبار تجار القمح والغلال فيها، وإذ كان كثير الصلات بأصحاب مزارع القمح في الصعيد ومصر السفلى فضلا عما كان يمتلك من الضياع - فقد كان كثير الأسفار عالما بالطرق عارفا بقيمة الزمن، وإذ رأى الشملالة كالعقاب في سيرها عرف قيمتها في عمله، وانتوى أن يستولي عليها بالرغم من أنه علم من كوسموس شدة تمسك الفتى العربي بها، وذلك إما بشرائها منه أو باغتصابها، وكان يعتمد في ذلك على أنه رومي من أساطين الحزب الأزرق حزب الإمبراطور الذي لا تجرؤ الشرطة أن تمسه بأذى، وأنه من ذوي الجاه بماله وعلاقته بالكنيسة الرومية العالية. على أنه انتوى ألا يستفيد من مركزه هذا الممتاز في تحقيق أمنيته إلا إذا عجز أن ينالها برضا من الفتى العربي وقبول كأن يدفع له فيها أغلى ثمن وأدعاه إلى التفريط فيها. غير أنه أبقى خطته النهائية حتى يرى وجه صاحبها ويحادثه، ويحكم أي نوع هو من الرجال؛ ليقيس عليه تدبيره.
على أن ورقة لم يستطع أن يلقاه في الزيارات القليلة التي جاء فيها إلى رقودة مع أنطونيوس أو وهو يزور بيت قوزمان على عادته كل ضحى؛ ليتزود لقلبه بالنظر إلى مكان ولدت فيه منى النفس لمياء، وعاشت ثلاثة عشر عاما غذاها فيها وغذته: هو بما فيه من الكمال وهي بما عليه من الجمال. كان يقال له في كل زيارة: إن التاجر لم يأت بعد من بيته، أو أنه أرسل ينبئ بمرضه، أو أنه ذهب إلى مريوط أو كانوب. حتى إذا كان اليوم الذي التقى فيه بلمياء وأمها، وحدث ما حدث من مجيء هيلانة إلى بيت أبيها واصطدامه ببطرس البحريني، واستأذن من قوزمان في الانصراف على أن يعود في وقت آخر - خطر له أن يمر مرة أخرى على متجر أورست عسى أن يكون قد جاء.
والواقع أن ورقة أخذ يتشمم ريح الغدر من الرجل، ولكنه لم يرد أن يقطع بذلك، فقد كان الرجل تاجرا محترما، وكان من نواب المدينة في المجلس، وكان الضابط الذي أخذها منه في يثرب يثني عليه، كما أن معه صكا يفيد أن الضابط أخذها له عينا، والضابط يعرف السيدة هيلانة ومنزلتها في قصر الحاكم، وإذ إنه لم يرسل ما يفيد أنه تصرف في أمرها بغير ما أعلنهما به فلا شك في أنه ركبها ولا شك في عودته فقد روى له أهل المتجر ما يفيد ذلك، ولذلك لم يذعره ما تشمم من ريح غدر الرجل، ولا سيما لأنه يستطيع أن يشكوه إلى مولاه نيقتاس.
لم يدخل المتجر هذه المرة من حيث اعتاد أن يدخل. فقد رأى له بابا شرقيا غير مطروق إلا لبعض مستخدميه، وعمد إلى الدخول منه؛ ليتجنب لقاء ذلك البواب الذي اعتاد أن يعطيه أجوبة غير مؤدية إلى لقائه. قصد إلى ذلك الباب، وسأل الحارس عن أورست فأشار إليه وكان جالسا في غرفته وظهره إلى الداخل. فأسرع خطوه حتى وقف بالباب ونظر إليه يسائله: السيد أورست؟ فدهش الرجل أن يدخل عليه ضابط من حراس القصر دون أن يعلنه أحد من مستخدميه بقدومه؛ لينهض لاستقباله عند البا، ولذلك نهض من مجلسه عجلا، وفي احترام كبير، وهو يقول زاعما أنه موفد إليه من الأمير: نعم يا سيد، أنا أورست. مرحبا بك. تفضل بالجلوس. فلم يجلس ورقة، واستمر الرجل يقول: كيف قصر أولئك الكلاب فلم يعلنوني بمقدمك لأنهض للقائك. قال: لا بأس بما جرى. هذا خير. جئت عرضا من الباب الشرقي . إني أنا حارس الأمير نيقتاس، ورقة العربي. لي عندك أمانة. قال: أي أمانة يا سيدي؟ قال: الناقة التي تفضلت بأن تأتي بها راكبا إلى الإسكندرية. فصمت الرجل ونكس رأسه مدة لا يعرف بم يجيب، وانتظر أن يسأله ورقة سؤالا آخر عسى أن يجد فيه ناحية أو عاطفة أو معنى ينتفع به في إنكارها أو تيئيسه منها، كأن يقول له: لماذا لا تجيب؟ أو هل نفقت؟ أو ضلت؟ أو سرقت؟ فيجيبه بقوله: نعم، أو غير ذلك، ولكن ورقة لم يزد على سؤاله حرفا وحرمه هذه الأمنية التي تمناها، وطال سكوت الرجل، وطال انتظار ورقة لجوابه وهو واقف أمامه وقفة عرف الرجل معناها، وأدرك أنه أمام فتى مصمم ومستيئس فإذا هو أنكرها فلا بد أن يستعدي عليه الأمير ويأخذها قسرا، وإذا هو ادعى أنها نفقت، فربما كان له من هذا مخرج أهون. فقال: يحزنني يا سيدي أن أخبرك أنها نفقت أو بالأحرى زلت عن الشاطئ بعد الكريون بقليل فوقعت وكسرت ذراعها، فرأيت أن أذبحها على الفور وأتركها للفقراء. هي غلطتي يا سيدي، ولكنه قضاء الله. كم ثمنها أيها الضابط؟ إني على استعداد أن أدفع ثمنها مضاعفا ولو بلغ مائة دينار. فنظر إليه ورقة نظرة مكذب لما سمع، وأراد أن يبلغه ذلك فقال له: ثمنها مائة دينار ورأسك معه. قال أورست فزعا: ماذا تقول يا سيدي؟! قال: أقول ما سمعت، ثم تراجع فأقفل الباب الذي دخل منه في انتظار جواب الرجل. فقال الرجل: إنك تجهل من أنا. قال: لص سافل. هذا ما أرى، وإذا كان لك إذ أنت رومي أن تعبث بيعقوبي أو غير يعقوبي من أهل هذه البلاد الكثيرة الكلام - فليس لك أن تعبث بعربي لا يعرف مينا ولا يداور! فعاد الرجل إلى ملجسه يفكر في الخروج من المأزق الجديد الذي أدخل نفسه فيه، وهو أكذوبة زلة الشملالة وذبحه إياها عند الكريون، ولكنه تشجع وقال: إنك تظلمني يا سيد، وتظلم نفسك. هل يجمل بعاقل أن يسلم رقبته للجلاد من أجل ناقة؟ قال : لا عليك مني، ولكن هل يجمل بك أنت أن تعرض رأسك لسيفي على الفور من أجل ناقة تريد اغتصابها! قال أورست: إذن فاستمع يا صاحبي، الشملالة عندي. سليمة مكرمة، ولكني لم أجد مثلها مركبا، وأنا تاجر كثير الأسفار، وللزمن عند التاجر قيمة عظيمة ولا سيما في هذه الأيام، ولقد خطر لي أن أشتريها منك، ولكني كنت علمت من كوسوس شدة تعلقك بها فلم أجد لذلك من حيلة إلا ما رويت، وأنا مستعد الآن أن أردها إليك، ولكني أرى أنه لم يعد لك بها حاجة قريبة. أنت في القصر كما أرى، ولن تحتاج إلى العودة بها إلى بلادك، ولدى القصر من وسائل النقل ما لا يخفى عنك. فأنا ألتمس منك فضلا: أن تطلب فيها ما تشاء فإني دافعه عن رضا، أو تتركها أمانة عندي برهن أتركه عندك. أطعمها وأقوم لها بما يجب من الرعاية على أن يكون لي حق استخدامها في أسفاري بحيث إذا كنت في الإسكندرية، وكنت في حاجة إليها رددت إلي رهني وأخذتها، وبحيث لا أملك أن أردها إليك، وأسترد مالي.
فكر ورقة في الأمر فوجد من مصلحته أن يفعل ذلك إذ كان حفظها غير ميسور له إلا بأجر كبير، ولكنه خشي أن يعود الرجل إلى إنكارها فتردد، ثم قال: وما هذا الرهن؟ قال ضعفا ما عرضت عليك: مائتا هرقلي. على أن يكون المال لك إذا أنت رغبت في النزول عنها، ولا يكون لي حق رد الناقة إليك وأسترد مالي. فصمت هنيهة جاهد نفسه فيها مجاهدة كبيرة، ثم قال: رضيت بذلك على أن يكون لي الحق في زيارتها ومعاينة حالها كلما عن لي ذلك. قال الرجل: وإليك المال. ثم أخرج من خزانته قبضة إثر قبضة وعدها ودفعها فتناولها ورقة، ثم تناول قرطاسا فكتب على نفسه صكا بما اتفقا عليه حين كتب ورقة صكا بمثله. ثم تراضيا ونهضا لزيارة الشملالة فوجدها في حظيرة يشتهي كثير من الناس أن تكون مرقدا لهم. فلما شمت ريح ورقة التفتت إليه وعرفته فأرزمت، فدنا منها وتناول رأسها في كفيه وقبلها في ناصيتها ، وهو يقول مذكرا إياها بما مضى من أمرها: «إيه يا شملالة! عرفت صاحبك؟ أتذكرين ما قلت لك في حلة الأراك؟ نضو أسفار مثلك، وحليف قفار. بيد أني أحمي الذمار، وأنبو عن مظنة العار، ولقد عركت الدهر فما وجدت أعدل من الرمح ولا أمضى من الحسام البتار. لست أفارقك يا أخية، وإنما أستودعك صاحبي حتى حين. هو في حاجة إلى قائم ساقك وغيره إلى قائم سيفي، ولكنا بعد هذا عروسان. ثم قبلها مرة أخرى في جبينها، وانصرف مغرورق العين.
شهد أورست هذا الوداع فتأثر هو أيضا، وزال كل ما كان في نفسه من أثر عراكه معه عندما لقيه، بل وقعت محبته في قلبه حتى لم يطق أن يفارقه، وإذ رأى ورقة تميل به قدمه نحو باب الخروج أقسم عليه ألا يتعجل في الانصراف، وصارحه بما أصبح له من المنزلة عنده، والتمس منه أن يقبل دعوته إلى الغداء معه عربونا على رضاه ومودته، وكان عباراته في ذلك تنساب في ثوب الصدق الصراح الذي لا تشوبه شائبة من مكر أو مجاملة، وكان على ورقة هينا أن يرى ذلك، وإذ لم يكن في حاجة إلى الإسراع في العودة إلى القصر؛ لأنه ما كان مطلوبا إليه أن يكون في خدمة الأمير إلا في الليل، أجاب دعوة أورست شاكرا ومعتذرا إليه مما بدا منه من الشدة معه، غير أنه استمهله حتى يقضي زيارة كان قد ارتبط بها، وإذ علم أورست أنه قاصد بيت قوزمان استأذن منه في مرافقته قائلا: إن منزله يكاد يكون ملاصقا لولا ما يفصل بين حديقتيهما من زقاق، وأنه يحسن في هذه الحالة أن يعرف المنزل ليجيء إليه مباشرة.
سارا، وكان أورست معتادا أن يسلك إلى داره طريقا في بستان قديم لقصر قديم كان ملكا لحاكم مريوط السابق، ولكن الثورات الماضية خربته؛ لانضمام صاحبه إلى أعداء الإمبراطور القائم، ولم يبق منه إلا بعض حجراته السفلى وبعض حوائط عليا تحمل بقية سقوف هنا وهناك لم تأت عليها معاول الثوار فبقيت علما على ما كان عليه هذا القصر من الفخامة وكمال الزينة.
Shafi da ba'a sani ba