258

Takarduna … Rayuwata

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Nau'ikan

الصداقات القديمة لها ذكرياتها الخاصة، لكن الضحك لم يعد يخرج من القلب كما كان، أكبرنا سنا هي سامية بلغت السبعين عاما، وبعدها بطة تصغرها بعامين، ثم صفية وأنا من عمر واحد، أعلاهن صوتا هي سامية، يخرج من الأنف المرفوع فوق الشفتين الرفيعتين شبه المتلاشيتين، قامتها طويلة نحيفة تحوطها بشال ملون، تبدو كالطيف الشاحب يتلفع بألوان زاهية، عنقها نحيف ينثني قليلا تحت رأس كبير وشعر قصير «الأجارسون» مصبوغ بلون أسود داكن، كأنما هو رأس مسروق من تمثال رجال إفريقي، الجاكيت من الصوف الإنجليزي المتين مطرز فوق الصدر بشعار حزب اليسار، أو حزب الطبقة العاملة، وهذا الشكل مجرد ذكرى؛ لأن صديقتي سامية لم تعد من الطبقة العاملة، ولا هي عاملة بل مالكة لمزرعة كبيرة في دلتا النيل وشركة استيراد وتصدير، انطفأ في عينيها العنف القديم، وأخذت رعشة تهز شفتيها المزمومتين كأنما سؤال مكبوت يتأهب للإفلات من قبضة إرادتها الحديدية.

على الرغم من بلوغها السبعين فإن ابنة الطبقة العاملة لا تشعر بالتقدير الكافي لطبقتها، تتهكم على الرجال في حزبها خاصة زوجها رفاعة، تمط شفتيها المطبقتين وتقول مناضل ماركسي! بهذه العبارة من كلمتين، كانت تقدم زوجها، وقد أسقطت الكلمة الثانية مع سقوط الاتحاد السوفييتي.

في عينها الصغيرتين شبه الخاليتين من الرموش تلمع دمعة شفافة حين تسمع كلمة ماركس أو الاتحاد السوفييتي، الأمر بالنسبة لها ليس هذا ولا ذلك، بل هو إيمانها الذي سقط، وكانت ترغب في الإيمان بشيء تراه ضخما فوق عرشه معصوما من الخطأ، محصنا ضد الموت أو السقوط، ترتعش جفونها كأنما دمعة مكبوتة تستعد للإفلات منها.

صوتها تشوبه رنة أنفية شبه بكائية، تميل إلى النحيب الصامت، حتى قبل السقوط السوفييتي أحيانها فأقول: «لكل جواد كبوة يا سامية»، هنا تتحمس لإنقاذ ماركس: «يا نوال ده جورباتشوف الملعون تآمر مع أميركا!» تضيق عينها حتى تطفر الدمعة الحبيسة وترتعش شفتاها كأنما تكبت الرغبة في الصراخ، إلا أن هذا الغضب ينقلب إلى حزن صامت شبه مستسلم حين تتحدث عن زوجها رفاعة. يدق جرس التليفون في بيتي ويأتيني صوتها الباكي: «نوال عاوزة أشوفك.» تجتاحها هذه الرغبة المفاجئة لرؤيتي حين تريد أن تغتاب زوجها: «تصوري يا نوال بعد أربعين سنة جواز أكتشف إني عمري ما حبيت الراجل ده!» •••

في غرفة داخلية لا يدخلها الرجال تربعت السيدة التي سافرت إلى سويسرا أمامها السبرتاية تعلوها الكنكة، ورائحة البن المطحون بالحبهان، فناجين صغيرة من الصيني، ترشف الهوانم القهوة، ترتسم الشفاه الحمراء على حافة الفناجين، لا يبقى في القاع إلا الثمالة، ترجها السيدة بحركة تذكرني بطنط نعمات وأنا طفلة في العاشرة، تقلب الفنجان ثم تعدله وتقرأ البخت أو الطالع. هؤلاء الهوانم أكثر دجلا من الهوانم القديمات منذ نصف قرن، يكتبن ما يسمى الوثيقة، تشبه العهد القديم بين أرواح الجان والبشر، مكتوبة على مطواة قرن غزال أو حدوة حصان، تطلب من الجان إبقاء الزوج مع زوجته كي لا تخلعه من قدمها مدى العمر، وحروف مكتوبة بدم الحيض على ظهر صورة الزوج تأمره بالعودة راكعا فوق ركبتيه كالخروف يعود إلى الحظيرة.

تلتقي عيناي بعيني بطة، الدكتور كاميليا، متربعة فوق الشلتة بجسمها القصير السمين، ازدادت سمنة، عيناها الواسعتان أقل اتساعا، النني الأسود أقل سوادا، جفونها وارمة شاحبة رغم الكحل الأسود، تحت الجفون تجاعيد تختفي تحت البودرة والمكياج، ساقاها السمينتان القصيرتان مضمومتان تحتها، تبسمل وتحوقل فيما يشبه الشبق، تكركر بضحكتها القديمة كأنما عادت التلميذة الصغيرة «فاكرة يا نوال أد إيه أنا كنت باحب حسين، وكنت مخطوبة لحمدي وباكرهه زي العمى، كنت واخدة حريتي وأنا متجوزة، ولا عمري حفظت آية في القرآن ولا ركعت لربنا ركعة واحدة، وطلع طارق ابني طويل وحلو مش زي أبوه المكعبر، أصلي وأنا حامل كنت باتوحم على حسين.»

وقاطعتها السيدة الهانم التي سافرت إلى سويسرا: أيوه يا بطة هانم الوحم مفعوله باتع زي السحر تماما، وربنا زكره في القرآن وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال ...

وانطلقت أصوات النساء تصلي وتسلم على النبي، وبطة هانم تواصل كلامها، توجه الحديث إلي. كنت جمهورها المستمع الوحيد والأخريات انشغلن عنها بأحاديث جانبية، كل منهن تحكي قصة حبها المكبوت، كلمة هنا أو هناك، وعبارة تكاد تتكرر وبصوت خافت «أصل جوزي عمري ما حبيته يا حبيبتي» ويرتفع صوت بطة هانم على الأصوات، وقطعة الشبة تطرقع في النار وتتخذ شكلا آدميا مثل جمجمة محروقة تشير إليها الأصابع القصيرة ذات الظفر الأحمر الطويل المدبب يشبه مخلب القط.

شوفي يا نوال رأسها السودة زي وشها علشان تعرفي إن البت السكرتيرة كانت عاملاله عمل، وأنت عارفة حمدي طول عمره راجل دوغري لا يمكن يبص لواحدة، إلا البت المفعوصة دي ما عرفش عملت إليه شألبت كيانه، عمرها عشرين سنة وهو فوق السبعين، أصل الرجالة عقلهم بيصغر كل ما يكبروا في السن، ورحت شفتها في مكتبه، بت سودة وجربانة جلدة على عضمة، وطردتها من المكتب، رحت عملاله عمل عند الشيخ المحلاوي، ده شيخ مشهور أوي يا نوال لازم سمعتي عنه، الناس تيجي له من كل البلاد، حتى من أميركا وأستراليا، ناس متعلمين ودكاترة.

وكنت لا يمكن أصدق في حكاية المشايخ وأنت عارفاني من زمان، لكن قالوا لي عليه، وكان حمدي عشان يعاندني فرش شقة في الزمالك للبت المفعوصة، وسمعت إنه عمل معاها عقد عرفي، أو رسمي ما اعرفش، بقيت ما نامش الليل يا نوال، وقلت يانا يا هي في الدنيا. ورحت للشيخ المحلاوي، قلت أجرب، مش حاخسر حاجة، أول ما دخلت عليه شفت النور، نور يا نوال والله، نور من عند ربنا، قمر منور قاعد على الكنبة، وقال لي تعالي اقعدي جنبي يا كاميليا يا بنت سعدية، عرف اسم أمي إزاي ما اعرفش، أمي ماتت من ثلاثين سنة وماحدش يعرف اسمها، لقيته عارف عني كل حاجة، عمل لي العمل، علقه في صدري، حجاب عليه كلام من القرآن وكلام تاني لا يمكن حد يقراه غيره، وقال بعد أسبوع واحد جوزك حيرجع ويقفل شقة الزمالك.

Shafi da ba'a sani ba