Takarduna … Rayuwata
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Nau'ikan
دوى صوت طويل عبر الأسلاك صوتها المألوف، وقد أصابته بحة أو شرخة الشيخوخة. - إزيك يا نوال. - أهلا يا بطة. - بنتي شيرين كتب كتابها الخميس الجاي، وقالت لي لازم يا ماما تدعي الدكتورة نوال، بنتي معاها الدكتوراه من جامعة هارفارد في النقد الأدبي، قرأت كل كتبك، ورواياتك بالعربي والإنجليزي، ومعجبة بيكي أوي يا نوال، لازم تيجي عشان إنتي وحشتيني أوي، نفسي أشوفك بعد الغيبة الطويلة دي، ده احنا صحاب من زمان من أيام الكلية، ولا يمكن الصداقات القديمة تروح يا نوال، أنا عاملة الفرح في الفيلا الجديدة جنب أرض الجولف في مصر الجديدة، خدي العنوان يا نوال، والعريس إنسان ممتاز، كان زميل شيرين في هارفارد ومن أكبر رجال الأعمال.
نطقت الكلمتين من أنفها وقلبت الراء إلى غين كعادتها القديمة، قالت غجال الأعمال، رنت في أذني عجول. بعض الأشياء الساقطة منذ النظام الملكي عادت، ومنها اللدغة الفرنسية في اللسان، والديوك الرومية المحشوة بالمكسرات في ليالي الكريسماس، والعجول المذبوحة في مولد النبي يوزعونها على الفقراء، والزبيبة السوداء عادت بارزة فوق جباه المؤمنين الصالحين، والطرحة السوداء أصبحت تلتف حول جبين المؤمنات الصالحات، وصديقتي بطة ذات الميكروجيب رأيتها ترتدي الطرحة من الحرير المستورد الثمين، تميل فوق جبينها ناحية أذنها اليمنى بانحدار شديد كما كان الطربوش يميل فوق رءوس الرجال أيام الملك والإنجليز. - أهلا يا نوال، الدكتور نوال يا هوانم صاحبتي من أيام الدراسة كانت أشطر واحدة فينا، لكن يا خسارة سابت الطب وبقت تكتب روايات مش معقول إن بوسيبل! - إن بوسيبل ليه يا بطة هانم ما شاء الله الدكتورة نوال اسمها مالي الدنيا، ده أنا كنت في سوسيغا «سويسرا» الصيف اللي فات، كان عندي كده شوية دبريشن «اكتئاب»، والدكتور بتاعي، الله يمسيه بالخير، قال اخرجي بره شمي شوية هوا، قلت أروح أزور بنتي في جنيف، أصل بنتي متجوزة خبير في الأمم المتحدة، طبعا أسلم وبقه اسمه جابر بدل جورج، وعندهم بنت ما شاء الله زي القمر سموها فاطمة على اسم بنت النبي، يقولوها فاتيما، تتكلم إنجليزي وألماني وفرنساوي وما تعرفش كلمة عربي، علمتها تقول يا جدتي بالعربي، أصل كلمة جدتي حلوة أوي في وداني. وأنا باحكي الحكاية دي كلها ليه؟ أيوه افتكرت، لقيت بنتي ماسكة في إيدها كتاب بالألماني، وقالت لي ده كتاب الدكتورة نوال السعداوي بيدرسوه في الجامعة هناك، وهتعمل عليه الدراسة، وقالت والنبي يا مامي لما تروحي مصر ابعتي لي كل كتب الدكتورة نوال.
صوتها يذكرني بصوت طنط هانم منذ نصف قرن، إلا أنها أكثر ثراء، تلمع المجوهرات حول عنقها، ترمق خواتمها المرصعة بفصوص الماس وتمصمص شفتيها: «الحاجات» دي كانت مرمية في الصندوق خمستاشر سنة كل سنة تنطح أختها، من أيام الحراسة السودة ربنا ما يعيدها لغاية ما شفت الهانم لابسة جواهرها، الستات كلهم حواليها لابسين، رحت فاتحة الصندوق وقلت يعني أنا مش واحدة من الهوانم، ده أبويا كان بيه وأمي كان أبوها باشا، ويعني الهانم كان أبوها مين؟!
دب الصمت في الصالون المطل على الحديقة الهادئة في مصر الجديدة، وتظاهرت بعض الهوانم بعدم السماع، انكب بعضهن على الأطعمة الممدودة داخل الشرفة الزجاجية الطويلة، قربت إحداهن فمها من أذني وهمست: «أصل العريس يقرب للهانم من بعيد» ونهضت إلى الطابور المتدافع نحو المائدة بخطوات وئيدة، كل منهم يحمل صحنا كبيرا من الصيني المزركش. تعرفت على الدكتور حمدي بسهولة بين الواقفين، ساقاه المعوجتان داخل البنطلون المكوي، صدره النحيف المبطط تحت البدلة الأنيقة المحكمة حول جسمه، رأسه الكبيرة بشعره المجعد، لم يعد كثا كما كان ولا أسود، ظهرت له صلعة حمراء وسط الرأس، من حولها كتلة بيضاء من الشعر المضغوط كأنما بالمكواة الحديدية. كان يتحدث مع أحد الرجال حين لمحني جالسة، تقدم نحوي وقال بصوت تشوبه حرارة غير عادية: الدكتورة نوال السعداوي لازم تعرفها يا محمد بيه. - اتفضلي يا دكتورة.
وأفسح لي الدكتور حمدي مكانا في الطابور، وقفت أمامه أحمل صحنا كبيرا فارغا، لم ألتقط من الطعام إلا قطعة طماطم مع الجبن وأعواد قليلة من الجرجير، رائحة الأطعمة الدسمة لم تعد تثير شهيتي، منذ سنوات قاطعت السمن والزبدة والدهون الحيوانية، أصبحت أفضل الخضروات على اللحوم. في الصحن الضخم وسط المائدة يطل فخذ خروف أو عجل يكاد يشبه أفخاذ بني آدم، تسقط عليه السكاكين بصوت مسموع، والأسنان أيضا صوتها يكاد يسمع، لولا صوت الدكتور حمدي المرتفع يتحدث مع صديقه غير بعيد عني. - خلاص يا محمد بيه التلفزيون والفيديو والإنترنت طغوا على كل حاجة، الكتب خلاص سوقها راحت، ماحدش بقه يقرأ يا محمد بيه. - أيوه صحيح يا معالي الباشا. - لكن العريس بتاعنا راجل غاوي كتب، عنده دكتوراه في العلوم الإلكترونية، من جامعة هارفارد، وراجل مثقف جدا جدا رغم أنه قريب الهانم.
جاءت العبارة الأخيرة خافتة شبه هامسة، أعقبتها ضحكة مكتومة متقطعة، ثم صمت طويل ... عادت فيه أصوات السكاكين والملاعق والأسنان. وارتفع صوت الدكتور حمدي مرة أخرى: إيه يا دكتورة نوال إنت مش بتاكلي ليه عاملة رجيم ولا إيه؟! عشان كده محافظة على قوامك؟ ثم دارت عيناه تبحثان عن زوجته، رآها منهمكة في الأكل والحديث مع إحدى السيدات، قرب فمه من أذني وهمس «قولي لصاحبتك بطة هانم تعمل رجيم.»
كانت بطة منهمكة في الحديث مع المدعوين والمدعوات، ألمح بينهم وجوه الصديقات القديمات وزملاء قدامى من الأطباء والأدباء، وجوه جديدة لا أعرفها من رجال الأعمال «البزنيس» وكلاء الشركات الأجنبية، ونساء الأعمال صاحبات الشركات الجديدة في السوق الحرة، رجال البورصة وقيادات أحزاب المعارضة، وأعضاء مجلس الشعب والشورى والقيادات الصحفية والإعلامية، رئيسات الجمعيات النسائية والمنظمات غير الحكومية ، في العهد الملكي كان اسمها الجمعيات الخيرية، تنشغل فيها النسوة بتنظيم الحفلات أو جمع التبرعات تحت رعاية صاحبة الجلالة الملكة أو الأميرة، تغير اللقب في عهد السادات إلى السيدة الأولى على غرار النظام الأمريكي، وكانت التبرعات توضع في مكان أمين لا ينفق منه إلا الأمناء والأمينات، يوزع الباقي على الفقراء والعميان «عبيد إحساناتهم» بحسب القول المأثور عن الشعب المصري بلسان الخديوي.
فوق الجدار لمحت صورة تشبه الملكة تتطلع بطة هانم إليها بخشوع «والله يا نوال الست دي عظيمة وبتقوم بدور مهم وبتعمل حاجات كتير أوي للناس الغلابة واليتامى»، وأكملت السيدة التي سافرت تشم الهواء في سويسرا: «يسلم بقك يا بطة هانم، وربنا قال في القرآن الكريم:
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث ، وربنا ما شاء الله أنعم عليها خير كتير أوي.»
قبل أن تنتهي الحفلة أخذتني بطة من يدي إلى غرفة داخلية، «لازم تشوفي الشبكة يا نوال، إيه رأيك مش تجنن! أنا عاملة حفلة تانية صغيرة «أنتيم» أوي، داعية صاحباتي القريبين أوي واعملي حسابك حنسهر للصبح!» •••
Shafi da ba'a sani ba