194

Takarduna … Rayuwata

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Nau'ikan

نطقت الاسم كأنما هو اسم إلهة السماء نوت، روح الإلهة الأنثى هي التي نطقت الاسم، هي التي تحمل رأسي عاليا فوق عنقي، لعبت دور الإلهة إيزيس على خشبة المسرح في المدرسة الابتدائية، لم تغادر جسدي روحها الإلهية، ترقد في السرداب العميق بين القلب والحجاب الحاجز، إن أقلقها شيء تهب من نومها كالمارد يستيقظ. - اتفضلي يا فندم استريحي دقيقة واحدة، السيد معالي الوزير عنده ضيوف أجانب، أول ما يخرجوا حاديله خبر إن سيادتك موجودة، تحبي تشربي إيه؟! - فنجان قهوة مضبوط!

دق الجرس إلى جوار مكتبه، ظهر على الفور الساعي، رجل عجوز يرتدي بدلة صفراء باهتة، أزرارها واقعة، ظهره محني، وجهه متغضن يشبه المومياء، أكان ساعيا منذ نشوء أول حكومة مركزية في عهد الملك مينا؟ - فنجان قهوة مضبوط لسعادة الدكتورة. - حاضر يا فندم.

الغرفة طويلة ضيقة نوعا ما، تشبه الغرف في القطارات، الكراسي من نوع «الفوتيي» الكبير، وكنبة طويلة تبتلع الغرفة، المكتب ضخم يحتل المساحة الباقية، حجم مدير المكتب ضخم أيضا، ليس فارع القامة لكنه ممتلئ باللحم، محشور في المقعد وراء المكتب، رأسه كبير أصلع، تعلوه صورة لجمال عبد الناصر داخل برواز ذهبي، لا تكف الأجراس عن الرنين، يرفع السماعة ويرد قبل أن يسمع الصوت عبر الأسلاك: أرجوك كلمني بعد ساعة مشغول دلوقتي! يرفع سماعة أخرى: حاضر يا فندم حالا يكون التقرير عند سعادتك! ويرن جرس آخر فإذا به ينتفض واقفا، يرفع السماعة بيد مرتعشة: حاضر يا معالي الوزير!

ينزلق جسده من وراء المكتب كالصابونة أو الشعرة تخرج من العجين، يتوقف لحظة أمام باب جانبي مبطن بالجوخ الأخضر، يلتقط أنفاسه، يساوي الشعرات القليلة فوق الصلعة، يزرر الجاكتة بأصابع منتفضة، يعدل ربطة عنقه لتصبح تحت ذقنه، يدفع الباب بيد رقيقة حانية، يدخل رأسه فقط، ثم النصف الأعلى من الجسم، يظل النصف الأسفل خارج الباب، ردفاه سمينتان كردفي الزوجة المطيعة القعيدة في البيت، ينزلقان داخل الباب الأخضر بلا صوت مع ساقيه وقدميه.

بعد دقائق قليلة يخرج من الباب الأخضر ذاته، يندفع جسده كله خارجا من الباب كالصاروخ، يلهث قليلا، في يده أوراق كثيرة، تبدو على ملامحه الأهمية، يشخط في مساعده الذي يظهر فجأة: الدوسيه ده حالا يروح للبيه الوكيل! يبتسم في وجهي علامة الإيجاب. - تفضلي يا دكتورة، معالي الوزير في انتظارك.

الغرفة الواسعة والمكتب الضخم والجدران المنقوشة والسجاجيد العجمي والنجف المتدلي من السقف، كلها تذكرني بأول مرة أدخل سراي عابدين بعد مظاهرة عام 46، وأول مرة أدخل مكتب عميد كلية الطب، الدكتور مصطفى عمر لأحصل على مجانية التفوق عام 1949م، وأول مرة أدخل إلى القصر الفخم في شارع قصر العيني حيث كان المجلس الأعلى للخدمات عام 1957م، أصبح اليوم مجلس الشورى، والمكاتب الفاخرة الأخرى رأيتها على مدى الأربعين عاما الماضية، وقصر العروبة في مصر الجديدة، قابلت فيه رئيس الجمهورية بعد خروجي من السجن في نهاية خريف 1981م.

هذه القصور الفاخرة منذ السلاطين والملوك الفراعنة، المكاتب ضخمة كالتوابيت تتحنط داخلها أجساد الحكام والوزراء، كالقبور الواسعة المزركشة ، مملوءة بالذهب وهيبة الحكم، كالأهرامات يجلس على قمتها الإله يرقد تحتها فرعون.

كان الوزير جالسا وراء مكتبه الضخم، رابضا كالأسد في عرينه، رأسه مربع ثابت كأبي الهول، فوقه صورة جمال عبد الناصر داخل برواز ذهبي عريض، كلمة «الله» منقوشة بماء الذهب إلى جوارها فوق الجدار، عبارة منقوشة فوق المكتب «الصبر مفتاح الفرج»، «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.»

وقف وهو يصافحني، طويل القامة عريض، يده كبيرة قوية يشد بها على يدي، أكاد أعرف الرجل من الطريقة التي يصافحني بها، مستقيم الأخلاق لا يعرف الالتواء، يصافحني كما يصافح الرجل رجلا، عيناه تنظران إلي في خط مستقيم. - قريت لك يا دكتورة نوال قصة في مجلة نقابة الأطباء، عندك موهبة أدبية زي الدكتور كامل حسين أستاذ العظام، له قصة جميلة اسمها قرية ظالمة، يا ترى قرأتيها؟

آخر ما كنت أتوقعه أن يدور الحديث حول الأدب في أول لقاء لي مع وزير الصحة، يرفعني الأدب فوق الأطباء والموظفين في الحكومة، يسترخي جسدي في المقعد، أضع ساقا فوق ساق، أشعل سيجارة، أنفث الدخان من أنفي حتى السقف، عيناي تشردان بعيدا في الأفق، تتجاوزان رأس الوزير ورأس جمال عبد الناصر داخل البرواز، الأدباء في نظر أبي كانوا يرتقون عن الملوك والوزراء، الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار، الأديب لا أحد يعينه ولا أحد يخلعه. - وإنتي فين يا دكتورة نوال؟ - في الأمراض الصدرية يا دكتور طراف. - اشمعنى الصدرية يعني؟ - «عمتي بهية في كفر طحلة ماتت بالسل، كان عندي أمل أني أكتشف علاج يقضي على الدرن الرئوي، حلم طفولي انتهى تماما.»

Shafi da ba'a sani ba