تشربوا إيه .. نشرب قهوة.
وكانت عند مدخل القهوة هرة تتربص، فانقضت نحو أسفل أريكة، وندت وسوسة، ثم ظهرت راكضة نحو الحارة قابضة بأسنانها على فأرة. ورد رفاعة عن فيه قدح القرنفل متقززا، ورفع عينيه فوقعتا على خنفس وهو يبصق، وصاح خنفس مخاطبا الشاعر جواد: متي تبدأ يا رأس الدواهي؟
فابتسم جواد وهو يهز رأسه، ثم تناول الرباب، وبعث من أوتارها أنغام الافتتاح. وبدأ بتحية للناظر إيهاب، فتحية ثانية لبيومي فتوة الحارة، والثالثة توجهت إلى خليفة جبل الفتوة خنفس، ومضى يقول: «وجلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، وكان ينظر في الدفتر حينما جاءه صوت الرجل الأخير يقول معلنا عن اسمه: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفا أمامه ...»
وواصل الشاعر الحكاية في جو من الإنصات، وتابعه رفاعة بشغف. هذا هو الشاعر وهذه هي الحكايات. كم سمع أمه وهي تقول: «حارتنا حارة الحكايات»! وحقا كانت هذه الحكايات جديرة بالحب. لعل فيها عزاء عن ملاعب سوق المقطم وخلواته، وراحة لقلبه المحترق بهيام غامض، غامض كهذا البيت الكبير المغلق، لا أثر فيه لحياة إلا رءوس أشجار الجميز والتوت والنخيل. وأي دليل على حياة الجبلاوي إلا الأشجار والحكايات؟ وأي دليل على أنه حفيده سوى الشبه الذي لمسه الشاعر جواد بيديه؟ وكان الليل يتقدم، وعم شافعي يدخن جوزة ثالثة، واختفت من الحارة نداءات الباعة وهتافات الغلمان، ولم يعد يبقى سوى أنغام الرباب ودقة دربكة آتية من بعيد، وصراخ امرأة ينهال عليها زوجها ضربا. أما أدهم فقد جره إدريس إلى مصيره؛ إلى الخلاء تتبعه أميمة الباكية. كما خرجت أمي من الحارة وأنا في بطنها أضطرب. اللعنة على الفتوات، وعلى القطط حين تلفظ الفئران أنفاسها بين أسنانها، وعلى كل نظرة ساخرة أو ضحكة باردة، وعلى من يستقبل أخاه العائد بقوله: لا مهرب مني عند الغضب، وعلى صانعي الرعب وخالقي النفاق. أما أدهم فلم يبق له إلا الخلاء، وها هو ذا الشاعر يغني أغنية من أغاني إدريس المخمور. ومال إلى أذن أبيه وقال: أريد أن أزور المقاهي الأخرى.
فقال عم شافعي متعجبا: قهوتنا خير قهوة في الحارة. - ماذا يقول الشعراء هنالك؟ - الحكايات نفسها ولكنك تسمعها هنالك وكأنها غير الحكايات.
وترامى التهامس إلى شلضم فمال نحو رفاعة قائلا: ليس أحد أكذب من أهل حارتنا، والشعراء أكذب الكاذبين، ستسمع في القهوة التالية أن جبل قال: إنه ابن الحارة، ووالله ما قال إلا أنه ابن حمدان.
فقال عم شافعي: الشاعر يريد إرضاء السامعين بأي ثمن.
فقال شلضم همسا: بل يريد إرضاء الفتوة!
وغادر الأب والابن القهوة عند منتصف الليل، وكانت الظلمة كثيفة تكاد أن تتجسد، وهناك أصوات رجال كأنما تصدر عن لا شيء، وسيجارة تتوهج في يد غير مرئية كأنها نجم تهاوى نحو الأرض. وتساءل الأب: أعجبتك الحكاية؟ - نعم، ما أجمل الحكايات!
Shafi da ba'a sani ba