افتتاحية
أدهم
جبل
رفاعة
قاسم
عرفة
افتتاحية
أدهم
جبل
رفاعة
Shafi da ba'a sani ba
قاسم
عرفة
أولاد حارتنا
أولاد حارتنا
تأليف
نجيب محفوظ
افتتاحية
هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكني سجلتها جميعا كما يرويها الرواة، وما أكثرهم! جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات، يرويها كل كما يسمعها في قهوة حيه أو كما نقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لي فيما كتبت إلا هذه المصادر. وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات! كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة؛ أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء، وقال في حسرة: «هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟!» ثم يأخذ في قص القصص والاستشهاد بسير أدهم وجبل ورفاعة وقاسم من أولاد حارتنا الأمجاد. وجدنا هذا لغز من الألغاز؛ عمر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور، حتى ضرب المثل بطول عمره، واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد. وقصة اعتزاله وكبره مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها. على أي حال، كان يدعي الجبلاوي وباسمه سميت حارتنا. وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء. سمعت مرة رجلا يتحدث عنه فيقول: «هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده وبمنزلته عند الوالي. كان رجلا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره.» وسمعت آخر يقول عنه: «كان فتوة حقا، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيما.» ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا. وكنت وما زلت أجد الحديث عنه شائقا لا يمل. وكم دفعني ذاك إلى الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة منه ولكن من دون جدوى. وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنط المركب أعلاه! وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم على أي أثر لحياة. أليس من المحزن أن يكون لنا جد مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟! وإذا تساءلت عما صار به وبنا إلى هذا الحال سمعت من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل.
قلت إن أحدا لم يره منذ اعتزاله. ولم يكن هذا بذي بال عند أكثر الناس، فلم يهتموا منذ بادئ الأمر إلا بأوقافه وبشروطه العشرة التي كثر القيل والقال عنها، ومن هنا ولد النزاع في حارتنا منذ ولدت، ومضى خطره يستفحل بتعاقب الأجيال حتى اليوم، والغد. ولذلك فليس أدعى إلى السخرية المريرة من الإشارة إلى صلة القربى التي تجمع بين أبناء حارتنا. كنا وما زلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب، وكل فرد في حارتنا يعرف سكانها جميعا نساء ورجالا. ومع ذلك فلم تعرف حارة حدة الخصام كما عرفناها، ولا فرق بين أبنائها النزاع كما فرق بيننا، ونظير كل ساع إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوحون بالنبابيت ويدعون إلى القتال؛ حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل بل الخاطرة تخطر فيشي بها الوجه.
وأعجب شيء أن الناس في الحارات القريبة منا كالعطوف وكفر الزغاري والدراسة والحسينية يحسدوننا على أوقاف حارتنا ورجالنا الأشداء، فيقولون: حارة منيعة، وأوقاف تدر الخيرات، وفتوات لا يغلبون. كل هذا حق، ولكنهم لا يعلمون أننا بتنا من الفقر كالمتسولين، نعيش في القاذورات بين الذباب والقمل، نقنع بالفتات، ونسعى بأجساد شبه عارية. وهؤلاء الفتوات يرونهم وهم يتبخترون فوق صدورنا، فيأخذهم الإعجاب، ولكنهم ينسون أنهم إنما يتبخترون فوق صدورنا، ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول في حزن وحسرة: «هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجد ونحن الأحفاد.»
Shafi da ba'a sani ba
شهدت العهد الأخير من حياة حارتنا، وعاصرت الأحداث التي دفع بها إلى الوجود «عرفة» ابن حارتنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتنا على يدي، إذ قال لي يوما: «إنك من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار.» ونشطت إلى تنفيذ الفكرة، اقتناعا بوجاهتها من ناحية، وحبا فيمن اقترحها من ناحية أخرى.
وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة في حارتنا على رغم ما جره ذلك علي من تحقير وسخرية. وكانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن عملي لم يستطع أن يرفعني عن المستوى العام للمتسولين في حارتنا، إلى ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيق صدري وأشجن قلبي. ولكن مهلا، فإنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتنا! حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة. كيف وجدت؟ وماذا كان من أمرها؟ ومن هم أولاد حارتنا؟
أدهم
1
كان مكان حارتنا خلاء؛ فهو امتداد لصحراء المقطم الذي يربض في الأفق. ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطريق. كان سوره الكبير العالي يتحلق مساحة واسعة، نصفها الغربي حديقة، والشرقي مسكن مكون من أدوار ثلاثة.
ويوما دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة؛ وجاء الأبناء جميعا، إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم، في جلابيبهم الحريرية، فوقفوا بين يديه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلا خلسة. وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله، وراح يتفحصهم هنيهة بعينيه النافذتين كعيني الصقر، ثم قام متجها نحو باب السلاملك. ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية التي تزحمها أشجار التوت والجميز والنخيل، وتعترش في جنباتها الحناء والياسمين، وتثب فوق غصونها مزقزقة العصافير. ضجت الحديقة بالحياة والغناء، على حين ساد الصمت بالبهو. وخيل إلى الإخوة أن فتوة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطوله وعرضه خلقا فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط. وتبادلوا نظرات متسائلة. إن هذا شأنه إذا قرر أمرا ذا خطر، وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء وإنهم حياله لا شيء. التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه، وقال بصوت خشن عميق تردد بقوة في أنحاء البهو الذي توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس: أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوقف ...
وتفحص وجوههم مرة أخرى، ولكن لم تنم وجوههم عن شيء. لم تكن إدارة الوقف مما يغري قوما استحبوا الفراغ والدعة وعربدة الشباب، وفضلا عن هذا فإدريس الأخ الأكبر هو المرشح الطبيعي للمنصب، فلم يعد أحد منهم يتساءل عما هنالك. وقال إدريس لنفسه: «يا له من عبء! هذه الأحكار لا حصر لها، وهؤلاء المستأجرون المناكيد!» أما الجبلاوي فاستطرد قائلا: وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافي.
عكست الوجوه وقع مفاجأة غير متوقعة، فتبودلت النظرات في سرعة وانفعال، إلا أدهم فقد غض بصره حياء وارتباكا، وولاهم الجبلاوي ظهره وهو يقول في عدم اكتراث: لهذا دعوتكم!
تفجر الغضب في باطن إدريس، فبدا كالثمل من شدة مقاومته، ونظر إليه إخوته بحرج، ودارى كل منهم - عدا أدهم طبعا - غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطي إدريس، الذي كان تخطيا مضاعفا لهم. أما إدريس فقال بصوت هادئ كأنما يخرج من جسم آخر: ولكن يا أبي ...
قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم: ولكن؟!
Shafi da ba'a sani ba
فغضوا الأبصار حذرا من أن يقرأ ما في نفوسهم، إلا إدريس فقد قال بإصرار: ولكنني الأخ الأكبر ...
فقال الجبلاوي مستاء: أظن أنني أعلم ذلك، فأنا الذي أنجبتك.
فقال إدريس وحرارة غضبه آخذة في الارتفاع: للأخ الأكبر حقوق لا تهضم إلا لسبب!
فحدجه الرجل بنظرة طويلة كأنما يمنحه فرصة طيبة لتدبر أمره وقال: أؤكد لكم أني راعيت في اختياري مصلحة الجميع.
تلقى إدريس اللطمة بصبر ينفد. إنه يعلم كم يضيق أبوه بالمعارضة، وأن عليه أن يتوقع لطمات أشد إذا تمادى فيها، ولكن الغضب لم يدع له فرصة لتدبر العواقب، فاندفع خطوات حتى كاد يلاصق أدهم، وانتفخ كالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق الحجم واللون والبهاء بينه وبين أخيه، وانطلق الكلام من فيه كما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط: إني وأشقائي أبناء هانم من خيرة النساء، أما هذا فابن جارية سوداء!
شحب وجه أدهم الأسمر دون أن تند عنه حركة، على حين لوح الجبلاوي بيده قائلا بنبرات الوعيد: تأدب يا إدريس!
ولكن إدريس كانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف: وهو أصغرنا أيضا، فدلني على سبب يرجحني به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم والعبيد! - اقطع لسانك رحمة بنفسك يا جاهل! - إن قطع رأسي أحب إلي من الهوان!
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه وقال برقة باسمة: نحن جميعا أبناؤك، ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا، والأمر لك على أي حال .. وغاية مرامنا أن نعرف السبب.
وعدل الجبلاوي عن إدريس إلى رضوان، مروضا غضبه لغاية في نفسه، فقال: أدهم على دراية بطباع المستأجرين، ويعرف أكثرهم بأسمائهم، ثم إنه على علم بالكتابة والحساب.
وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب إخوته. متى كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان؟! ودخول الكتاب، أهو ميزة أخرى؟! وهل كانت أم أدهم تدفع به إلى الكتاب لولا يأسها من فلاحه في دنيا الفتونة؟! وتساءل إدريس متهكما: أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد بي من مذلة؟
Shafi da ba'a sani ba
فأشار الجبلاوي نحوه بضجر وقال: هذه إرادتي، وما عليك إلا السمع والطاعة!
والتفت الرجل التفاتة حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل: ما قولكم؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه، وقال وهو واجم: سمعا وطاعة.
وسرعان ما قال جليل وهو يغض طرفه: أمرك يا أبي.
وقال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف: على العين والرأس.
عند ذاك ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت لها أساريره حتى قبحت وجهه وهتف: يا جبناء، ما توقعت منكم إلا الهزيمة المزرية. وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء!
فصاح الجبلاوي مقطبا عن عينين تتطاير منهما النذر: إدريس!
ولكن الغضب كان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره: ما أهون الأبوة عليك! خلقت فتوة جبارا فلم تعرف إلا أن تكون فتوة جبارا، ونحن أبناءك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين!
اقترب الجبلاوي خطوتين في بطء كالتوثب، وقال بصوت منخفض وقد أنذرت أساريره المنقبضة بالشر: اقطع لسانك!
ولكن إدريس واصل صياحه قائلا: لن ترعبني. أنت تعلم أنني لا أرتعب، وأنك إذا أردت أن ترفع ابن الجارية علي فلن أسمعك لحن السمع والطاعة. - ألا تدرك عاقبة التحدي يا ملعون؟ - الملعون حقا ابن الجارية!
Shafi da ba'a sani ba
فعلت نبرات الرجل واخشوشنت وهو يقول: إنها زوجتي يا عربيد، فتأدب وإلا سويت بك الأرض!
وفزع الإخوة وأولهم أدهم؛ لدرايتهم ببطش أبيهم الجبار، ولكن إدريس كان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرا كأنه مجنون يهاجم نارا مندلعة، فصاح: إنك تبغضني، لم أكن أعلم هذا، ولكنك تبغضني دون ريب، لعل الجارية هي التي بغضتنا إليك، سيد الخلاء وصاحب الأوقاف والفتوة الرهيب، ولكن جارية استطاعت أن تعبث بك، وغدا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء. - قلت لك اقطع لسانك يا ملعون. - لا تسبني من أجل أدهم، طوب الأرض يأبى ذلك ويلعنه، وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحواري!
فصاح الجبلاوي بصوت صك الأسماع في الحديقة والحريم: اغرب بعيدا عن وجهي! - هذا بيتي، فيه أمي، وهي سيدته دون منازع. - لن ترى فيه بعد اليوم، وإلى الأبد ...
واكفهر الوجه الكبير حتى حاكى لونه النيل في احتدام فيضانه، وتحرك صاحبه كالبنيان، مكورا قبضة من صوان، وأيقن الجميع أن إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساة جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتا. كم من سيدة مصونة تحولت بكلمة إلى متسولة تعيسة! وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحا يحمل على ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص والدم يطفح من فيه وأنفه. والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عز جانبه عند الغضب. لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهى. حتى إدريس بكري الواقف ومثيله في القوة والجمال قد انتهى. وتقدم الجبلاوي خطوتين أخريين وهو يقول: لا أنت ابني ولا أنا أبوك، ولا هذا البيت بيتك، ولا أم لك فيه ولا أخ ولا تابع، أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبا بغضبي ولعنتي، وستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محروما من عطفي ورعايتي!
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدمه وصاح: هذا بيتي، ولن أغادره!
فانقض عليه الأب قبل أن يتقيه، وقبض على منكبه بقبضة كالمعصرة، ودفعه أمامه والآخر يتراجع متقهقرا، فعبرا باب السلاملك، وهبطا السلم وإدريس يتعثر، ثم اخترق به ممرا تكتنفه شجيرات الورد والحناء مفروشا بالياسمين حتى البوابة الكبيرة فدفعه خارجا وأغلق الباب. وصاح بصوت سمعه كل من يقيم في البيت: الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها!
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخرى: وطالقة ثلاثا من تجترئ على هذا!
2
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير. وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه. وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة وسياسة، فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاكسة وفظاظة، وكانت شروط الواقف سرا لا يدري به أحد سوى الأب، فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته، حتى إدريس - على قوته وجماله وإسرافه أحيانا في اللهو - لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من إخوته. كان شابا كريما حلو المعشر حائزا الود والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئا من الإحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدا منهم لم يعلن هذا ولا اشتم منه في كلمة أو إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن كثيرا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر، بين قوتهم ورقته، بين سمو أمهم ووضاعة أمه، ولعله عانى من ذلك أسى مكتوما وألما دفينا، ولكن جو البيت المعبق بشذا الرياحين، الخاضع لقوة الأب وحكمته، لم يسمح لشعور سيئ بالاستقرار في نفسه، فنشأ صافي القلب والعقل.
وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف: باركيني يا أمي، فما هذا العمل الذي عهد به إلي إلا امتحان شديد لي ولك.
Shafi da ba'a sani ba
فقالت الأم بضراعة: ليكن التوفيق ظلك يا بني، أنت ولد طيب والعقبى للطيبين.
ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاط إنساني يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقا والقاهرة القديمة غربا. واتخذ أدهم من الأمانة شعارا، وسجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف. وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق، ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال. وسأله أبوه يوما: كيف تجد العمل يا أدهم؟
فقال أدهم بخشوع: ما دمت قد عهدت به إلي فهو أعظم ما في حياتي.
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة؛ إذ إنه على جبروته كان يستخفه طرب الثناء. وكان أدهم يحب مجلسه، وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب. وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي - له ولإخوته - حكايات الزمان الأول، ومغامرات الفتوة والشباب، إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوحا بنبوته المخيف غازيا كل موضع تطؤه قدماه. وبعد طرد إدريس ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت، يأكلون ويشربون ويقامرون. أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة؛ كان عاشقا للحديقة منذ درج، وكان عاشقا للناي. ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجل وقته. فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير، وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام، وما أحلى اليمام! ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة والهديل والتغريد، وما أبدع المحاكاة! أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون، وما أجمل السماء! ومر به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال: ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف!
فقال أدهم باسما: لولا إشفاقي من إغضاب أبي لشكوت. - فلنحمد نحن المولى على الفراغ!
فقال أدهم ببساطة: هنيئا لكم.
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام: أتود أن تعود مثلنا؟ - خير ما تمضي الحياة في الحديقة والناي!
فقال رضوان بمرارة: كان إدريس يود أن يعمل ...
فغض أدهم بصره وهو يقول: لم يكن عند إدريس وقت للعمل، ولاعتبارات أخرى غضب، أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها.
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: «الحديقة، وسكانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة. كأنني أجد في البحث عن شيء. ما هذا الشيء؟ الناي أحيانا يكاد يجيب. ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمت هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام.»
Shafi da ba'a sani ba
ووقف أدهم يوما ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشيا بقدوم شخص من المنعطف خلفه. بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهم بالتراجع عندما اكتشفت وجوده، فأشار إليها بالوقوف فوقفت، وتفحصها مليا، ثم سألها برقة: من أنت؟
فأجابت بصوت ملعثم: أميمة.
إنه يذكر الاسم، فهو لجارية قريبة لأمه، وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه.
ومال إلى محادثتها أكثر، فسألها: ماذا جاء بك إلى الحديقة؟
فأجابت مسبلة الجفنين: حسبتها خالية ... - لكن ذلك محرم عليكن!
فقالت بصوت لم يكد يسمع: أخطأت يا سيدي ...
وتراجعت حتى توارت وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرا: «ما أملحك !» وشعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة، وإن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليمام ونفسه نغمة واحدة. وقال لنفسه: «أميمة مليحة، حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع إخوتي متزوجون عدا إدريس المتكبر، وما أشبه لونها بلوني! وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات! ولن يسخر أبي من اختياري، وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي؟!»
3
رجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض كالعبير. وحاول كثيرا أن يراجع حساب اليوم، ولكنه لم ير في صفحة عقله إلا السمراء. ولم يكن عجيبا أن يرى أميمة اليوم لأول مرة، فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو ويعيش بفضلها ولكنه لا يراها، واستسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح: «أنا هنا، في الخلاء يا جبلاوي، ألعن الكل، اللعنة على رءوسكم نساء ورجالا، وأتحدى من لم تعجبه كلماتي، سامعني يا جبلاوي؟!» وهتف أدهم: «إدريس!» وغادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجها نحوه في اضطراب ظاهر، وبادره قائلا: إدريس سكران، رأيته من النافذة مختل التوازن من السكر، أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا؟
فقال أدهم وهو يغضي ألما: قلبي يتقطع أسفا يا أخي! - وما العمل؟! إن كارثة تتهددنا! - ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدث أبانا في الأمر؟
Shafi da ba'a sani ba
فقطب رضوان قائلا: أبوك لا يراجع في أمر، وحال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه ...
فغمغم أدهم في كآبة: ما كان أغنانا عن هذه الأحزان! - نعم، النساء يبكين في الحريم، عباس وجليل معتكفان من الكدر، وأبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ...
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق: ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئا؟ - يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة، ولا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن، غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض، أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس!
لماذا قصدتني إذن؟! بين يوم وليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق! وتنهد قائلا: إني بريء من كل هذا، ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكت .. فقال رضوان وهو يهم بالذهاب: لديك من الأسباب ما يوجب عليك العمل!
ومضى راجعا. ولبث أدهم وحده وأذناه ترددان هذه العبارة: «لديك من الأسباب ...» نعم. إنه المتهم دون ذنب جناه، كالقلة التي تسقط على رأس؛ لأن الريح أطاحت بها. وكلما أسف أحد على إدريس لعن أدهم. واتجه أدهم نحو الباب ففتحه في رفق ومرق منه، رأى إدريس غير بعيد يترنح دائرا حول نفسه، يقلب عينين زائغتين، وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره. ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأرا، ولكن أعجزه السكر فمال نحو الأرض وملأ قبضته ترابا ورمى به أدهم، فأصاب صدره وانتثر على عباءته. وناداه أدهم برقة: أخي ...
فزمجر إدريس وهو يترنح: اخرس يا كلب يا ابن الكلب، لا أنت أخي ولا أبوك أبي، ولأدكن هذا البيت فوق رءوسكم!
فقال أدهم متوددا: بل أنت أكرم هذا البيت وأنبله ...
فقهقه إدريس من فيه دون قلبه وصاح: لماذا جئت يا ابن الجارية؟ عد إلى أمك وأنزلها إلى بدروم الخدم!
فقال أدهم دون أن تتغير مودته: لا تستسلم للغضب، ولا توصد الأبواب في وجه الساعين لخيرك.
فلوح إدريس بيده ثائرا وصاح: ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع، ويعبدون مذلهم. لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس، فقل لأبيك إنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه، وإنني عدت قاطع طريق كما كان، وعربيدا أثيما عاتيا كما يكون، وسيشيرون إلي في كل مكان أعيث فيه فسادا ويقولون: «ابن الجبلاوي!» بذلك أمرغكم في التراب يا من تظنون أنفسكم سادة وأنتم لصوص!
Shafi da ba'a sani ba
وتوسل أدهم قائلا: أخي أفق، حاسب نفسك على كل كلمة توجب اللوم، ليس الطريق مسدودا في وجهك إلا أن تسده بيديك، وإني أعدك بأن يعود كل شيء طيب إلى أصله.
فخطا إدريس نحوه خطوة بصعوبة كأن ريحا ترجعه وقال: بأي قوة تعدني يا ابن الجارية؟
فقال وهو يرمقه بحذر: بقوة الأخوة. - الأخوة؟! قذفت بها في أول مرحاض صادفني ...
فقال أدهم متألما: ما سمعت منك من قبل إلا الجميل ... - طغيان أبيك أنطقني بالحق! - لا أحب أن يراك الناس على هذه الحال.
فأرسل إدريس ضحكة معربدة وصاح: وسيرونني على أسوأ منها كل يوم، العار والفضيحة والجريمة ستحل بكم على يدي، طردني أبوك دون حياء فليتحمل العواقب!
ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحى هذا عن موقفه دون تردد، فكاد إدريس يهوي على الأرض لولا أن استند إلى الجدار، ولبث يلهث حانقا، وينظر في الأرض مفتشا عن حجر، فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل، واغرورقت عيناه من الحزن. وكان صياح إدريس ما زال صاخبا. وحانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو، فمضى نحوه وهو لا يدري، متغلبا على خوفه بحزنه. ونظر إليه الجبلاوي بعينين لا تفصحان عن شيء، وكان يقف بقامته المديدة ومنكبيه العريضين أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه. وأحنى أدهم رأسه قائلا: السلام عليكم.
فتفحصه الجبلاوي بنظرة عميقة، ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه: صرح بما جئت من أجله ...
فقال أدهم بصوت مهموس: أبي، إن أخي إدريس ...
فقاطعه الأب بصوت كضربة الفأس في الحجر: لا تذكر اسمه أمامي ...
ثم وهو يمضي إلى الداخل: اذهب إلى عملك!
Shafi da ba'a sani ba
4
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء، وإدريس يتردى في مهاوي الشقاوة. في كل يوم يسجل في كتابه حماقة جديدة. كان يدور حول البيت ليقذفه بأقذع الشتائم. أو يجلس على كثب من الباب، عاريا كما ولدته أمه كأنما يتشمس، وهو يترنم بأفحش الأغاني، وكان يتجول في الأحياء القريبة في خيلاء الفتوات، يتحدى كل عابر بنظرات هجومية، ويتحرش بكل من يعترض سبيله، والناس يتحاشونه كاظمين، وهم يتهامسون: «ابن الجبلاوي!» ولم يحمل لغذائه هما، فكان يمد يده بكل بساطة إلى الطعام حيث وجده، في مطعم أو على عربة، فيأكل حتى يكتظ ثم يمضي دون شكر من ناحيته أو محاسبة من الآخرين. وإذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه، فتقدم إليه البوظة حتى يسكر، ثم ينطلق لسانه كالنافورة بأسرار أسرته وأعاجيبها، وتقاليدها السخيفة وجبنها المهين، منوها بثورته على أبيه، جبار هذه الأحياء جميعا، ثم يدخل في قافية ليغرق في الضحك، ويغني إذا لزم الحال ويرقص، وتتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعركة، ثم يذهب مشيعا بالتحيات.
وفي كل مكان اشتهر بهذه السيرة، فتحاماه الناس ما استطاعوا، ولكنهم سلموا بأمره كأنه مصيبة من مصائب الدهر. ونال الأسرة من ذلك ما نالها من الغم والكرب. وغلب الحزن أم إدريس فشلت واحتضرت. وجاء الجبلاوي ليودعها فأشارت نحوه بيدها السليمة محتجة وفاضت روحها في أسى وغضب. وخيم الحزن على الأسرة كخيوط العنكبوت، فتوقف سمر الإخوة فوق السطح، وسكت ناي أدهم في الحديقة.
ويوما تفجر الأب عن ثورة جديدة كانت ضحيته تلك المرة امرأة؛ إذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة ويطردها من البيت. وعلم في نفس اليوم أن أعراض الحمل ظهرت على المرأة، فقررت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده. وغادرت نرجس البيت وهي تصوت وتلطم خديها، وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها بركابه دون ترحيب، ودون جفاء كذلك؛ إذ لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة.
على أن كل مصيبة وإن جلت لا بد يوما أن تؤلف؛ لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف في البيت الكبير كما يعود السكان إلى ديارهم عقب زلزال أكرههم على الفرار منها. عاد رضوان وعباس وجليل إلى ندوة السطح، كما عاد أدهم إلى سهرة الحديقة يناجي الناي فيناجيه. ووجد أميمة تضيء خواطره وتدفئ مشاعره، وصورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح في مخيلته، فقصد مجلس أمه في حجرتها حيث كانت تطرز شالا، فأفضى إليها بذات نفسه، إلى أن قال: إنها أميمة يا أمي، قريبتك ...
فابتسمت أمه ابتسامة باهتة دلت على أن فرحة الخبر لم تستطع التغلب على عناء مرضها وقالت: نعم يا أدهم، إنها فتاة طيبة، تصلح لك كما تصلح لها، وستسعدك بمشيئة المولى.
ولما رأت تورد البهجة في وجنتيه استدركت قائلة: لا ينبغي أن تدللها يا بني حتى لا تفسد حياتك، وسأخاطب أباك في الأمر لعلي أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدركني الموت.
وعندما دعاه الجبلاوي إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامة لطيفة حتى قال لنفسه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته.» وقال الأب: ها أنت ذا تطلب زوجة يا أدهم، ما أسرع الزمن! وهذا البيت يحتقر المساكين، ولكنك باختيار أميمة تكرم أمك، لعلك تنجب ذرية صالحة. لقد ضاع إدريس، وعباس وجليل عقيمان، ورضوان لم يعش له ولد حتى اليوم، وجميعهم لم يرثوا عني إلا كبريائي، فاملأ هذا البيت بذريتك، وإلا ذهب عمري هباء.
وكانت زفة أدهم التي لم يشهد لها الحي نظيرا من قبل. وحتى اليوم يجري ذكرها مجرى الأمثال في حارتنا. تدلت ليلتذاك الكلوبات من غصون الأشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم، وأقيم سرادق فوق السطح للمغنين والمغنيات، وامتدت موائد الطعام والشراب في البهو والحديقة والخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير. وبدأت زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل، سار فيها كل من يحب الجبلاوي أو يخافه حتى انتظمت الجميع. وخطر أدهم في جلباب حريري ولاسة مزركشة بين عباس وجليل، أما رضوان فسار في المقدمة، وعلى اليمين وعلى اليسار حاملو الشموع والورود، وتقدم الموكب مجموعة ضخمة من المنشدين والراقصين، وتعالى الغناء، وتبعته تأوهات المطربين وتحيات المعجبين بالجبلاوي وأدهم، حتى استيقظ الحي ودوت الزغاريد. وسار الموكب من الجمالية فالعطوف ثم كفر الزغاري والمبيضة، ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات، وحطب من حطب، ورقص من رقص، ووزعت الحانات البوظة مجانا فسكر حتى الغلمان، وتهادت الجوزة من جميع الغرز في طريق الموكب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحسن كيف والهندي.
وفجأة لاح إدريس كمارد انشقت عنه الظلمة في آخر الطريق. لاح عند المنعطف المفضي إلى الخلاء على ضوء الكلوبات التي تتقدم الموكب، فتوقف حاملو الكلوبات عن السير وانتشر التهامس باسم إدريس. ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف حناجرهم فكفت عن الغناء، ورآه الراقصون فجمدت أوساطهم. وسرعان ما سكتت المزامير وخرست الطبول، وغاضت الضحكات. وتساءل كثيرون عما يفعلون، فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى وإن ضربوا لم يضربوا إلا ابن الجبلاوي. ولوح إدريس بنبوته وهو يصيح: لمن الزفة يا حثالة الجبناء؟
Shafi da ba'a sani ba
فساد الصمت واشرأبت الأعناق نحو أدهم وإخوته، وعاد إدريس يتساءل: متى كنتم لابن الجارية أو لأبيه أصدقاء؟
عند ذاك تقدم رضوان خطوات وهتف قائلا: أخي، من الحكمة أن تدع الزفة تمر ...
فصاح إدريس مقطبا: أنت آخر من يتكلم يا رضوان، أنت أخ خائن وابن جبان، وذليل يشتري رغد العيش بالكرامة والأخوة!
فقال رضوان بإشفاق: لا شأن للناس باختلافاتنا.
فقهقه إدريس قائلا: الناس يعلمون بخزيكم، ولولا جبنهم العريق ما وجدت هذه الزفة زامرا أو منشدا!
فقال رضوان بعزم ثابت: أبوك عهد إلينا بأخيك، ولا بد أن نحفظه!
فعاد إدريس يقهقه وهو يتساءل: أرأيت أنك تدافع عن نفسك لا عن ابن الجارية؟ - أين رشادك يا أخي؟ بالحكمة وحدها تعود إلى بيتك. - إنك كاذب، وأنت تعلم أنك كاذب ...
فقال رضوان في حزن: لن ألومك فيما يخصني، ولكن دع الزفة تمر بسلام ...
فكان جوابه أن انقض على الموكب كالثور الهائج. وأخذ نبوته يرتفع ويهوي فتتحطم الكلوبات وتتصدع الطبول وتتبعثر الورود؛ وراح الناس يولون مذعورين كالرمال أمام العاصفة. وتكاتف رضوان وعباس وجليل أمام أدهم فتضاعف غضب إدريس: يا أنذال، تدافعون عمن تكرهون خوفا على الطعام والشراب!
وهجم عليهم، فتلقوا ضرباته بنبابيتهم دون أن يردوا عليها وهم يتراجعون. وإذا به يرمي بنفسه فجأة بينهم فيشق سبيلا إلى موقف أدهم، فعلا الصوات في النوافذ، وهتف أدهم وهو يتحفز للدفاع عن نفسه: إدريس، لست عدوا لك فارجع إلى عقلك!
Shafi da ba'a sani ba
ورفع إدريس نبوته. وهنا صاح صائح: «الجبلاوي!» وصاح رضوان مخاطبا إدريس: أبوك قادم ...
فوثب إدريس إلى جانب الطريق والتفت إلى الوراء فرأى الجبلاوي قادما وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل. وعض إدريس على أسنانه ثم هتف ساخرا: سأهبك عما قريب حفيدا من الزنى تقر به عينك.
واندفع نحو الجمالية والناس توسع له على الجانبين حتى ابتلعته الظلمة. وبلغ الأب موقف الإخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت آلاف الأعين المحدقة فيه، ثم قال بلهجة آمرة: ليعد كل شيء إلى أصله!
ورجع حملة الكلوبات إلى مواقعهم، ودقت الطبول، وعزفت المزامير، ثم غنى المنشدون، ورقص الراقصون، واستأنفت الزفة مسيرها ...
وسهر البيت الكبير حتى الصباح في طرب وشراب وغناء. وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمة واقفة إلى جانب المرآة، والنقاب الأبيض لا يزال يغطي وجهها. كان مخمورا مسطولا لا تكاد قدماه تحملانه، فاقترب منها وهو يبذل جهدا شديدا ليتمالك أعصابه، ورفع النقاب عن وجهها الذي طالعه في أحسن رواء، وهوى برأسه حتى لثم شفتيها المكتنزتين، ثم قال بلسان مخمور: لتهن الهموم جميعا ما دمت حسن الختام ...
واتجه نحو الفراش، يستقيم خطوة ويترنح خطوة، حتى استلقى على عرض السرير باللاسة والمركوب، وكانت أميمة تنظر إلى صورته المنعكسة على المرآة وهي تبتسم في إشفاق وحنان ...
5
وجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبل. ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندر به إخوته. وعند ختام كل صلاة كان يبسط يديه هاتفا: «الحمد لصاحب المنن؛ على رضا أبي الحمد له، على حب زوجتي الحمد له، على المنزلة التي أحظى بها دون من هم أجدر مني بها الحمد له، على الحديقة الغناء والناي الرفيق الحمد له.» وقالت كل امرأة من نساء البيت الكبير: إن أميمة زوجة واعية، فهي ترعى زوجها كأنه ابنها، وتتودد حماتها وتخدمها حتى أسرتها، وتولي مسكنها العناية التامة كأنه قطعة من جسدها .. أما أدهم فكان زوجا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة. وكما شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبل، فقد شغل الحب بقية يومه، واستبد به حتى نسي نفسه.
وتوالت أيام هانئة، وامتدت فوق ما قدر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة في النهر الرصين. وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم، فشعر بأن الزمن لا يمر في غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت كل معنى، وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يجدر به أن يهجرها، وأن شيئا من هذا لا يعني بحال أن قلبه تحول عن أميمة، فلا تزال في صميمه، ولكن للحياة أطوارا لا يخبرها المرء إلا يوما بيوم. وعاد إلى مجلسه عند القناة، وأجال بصره في الأزهار والعصافير ممتنا ومعتذرا. وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة، فجلست إلى جانبه وهي تقول: نظرت من النافذة لأرى ما أخرك، لماذا لم تدعني معك؟
فقال باسما: خفت أن أتعبك. - تتعبني؟ طالما أحببت هذه الحديقة، أتذكر أول لقاء لنا هنا؟
Shafi da ba'a sani ba
وأخذ يدها في يده، وأسند رأسه إلى جذع النخلة مرسلا طرفه إلى الغصون، وإلى السماء خلال الغصون، وعادت هي تؤكد له حبها للحديقة، وكلما أمعن في الصمت أمعنت في التوكيد؛ إذ إنها كانت تكره الصمت بقدر ما تحب الحديقة، وكان حديث حياتها أطيب حديث. ولا بأس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث في البيت الكبير، وبخاصة ما يتعلق بزوجات رضوان وعباس وجليل، ثم تغير صوتها مائلا نحو العتاب وهي تقول: أنت تغيب عني يا أدهم ...!
فابتسم إليها قائلا: كيف وأنت ملء القلب؟! - ولكنك لا تصغي إلي ...!
هذا حق. ومع أنه لم يرحب بمقدمها فإنه لم يضق به. ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقا. والحق أنه يشعر بأنها جزء لا يتجزأ منه. وقال كالمعتذر: إني أحب هذه الحديقة، لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلستها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضضة وعصافيرها المزقزقة تعرفني كما أعرفها، وأود أن تقاسميني حبها. أرأيت إلى السماء كيف تبدو خلال الغصون؟
فرفعت عينيها مقدار لحظة ثم نظرت إليه باسمة وقالت: إنها جميلة حقا، وجديرة بأن تكون أطيب ما في حياتك.
فآنس من قولها العتاب دون إفصاح، وبادرها قائلا: بل كانت كذلك قبل أن أعرفك ... - والآن؟
فضغط على يدها بحنو قائلا: لا يتم جمالها إلا بك!
فقالت وهي تحد بصرها نحوه: من حسن الحظ أنها لا تؤاخذك على انصرافك عنها إلي ...
فضحك أدهم وجذبها نحوه حتى التصق خدها بشفتيه، ثم سألها: أليست هذه الأزهار أجدر بالتفاتنا من الكلام عن زوجات إخوتي؟!
فقالت أميمة باهتمام: الأزهار أجمل، ولكن زوجات إخوتك لا يكففن عن الحديث عنك .. إدارة الوقف، دائما إدارة الوقف، وثقة أبيك فيك، يبدئن ويعدن في هذا ...
وقطب أدهم غائبا عن الحديقة، وقال بحدة: لا شيء ينقصهن! - الحق أني أخاف عليك العين!
Shafi da ba'a sani ba
فهتف أدهم غاضبا: لعنة الله على الوقف، أرهقني وغير القلوب علي وسلبني راحة البال، فليذهب في داهية!
فوضعت أصبعها على شفتيه وهي تقول: لا تكفر بالنعمة يا أدهم، إن إدارة الوقف شأن خطير، وقد تجر وراءها نفعا لا يخطر بالبال ... - جرت حتى الآن المتاعب .. وحسبنا مأساة إدريس!
فابتسمت، لكن ابتسامتها لم تنم عن بهجة وإنما دارت بها اهتماما جديا تجلى في نظرة عينيها، وقالت: انظر إلى مستقبلنا كما تنظر إلى الغصون والسماء والعصافير!
وواظبت أميمة على مشاركته جلسته في الحديقة. ولم تكن تعرف الصمت إلا في النادر. لكنه اعتادها، كما اعتاد الإصغاء بنصف انتباه أو من دون ذلك، وعند الحاجة يتناول الناي لينفخ فيه ما شاء له الطرب. واستطاع أن يقول في رضا تام إن كل شيء طيب. حتى شقاوة إدريس باتت شيئا مألوفا. لكن المرض اشتد على أمه. وعانت آلاما لم تعرفها من قبل تقطع لها قلبه. وكانت تدعوه إلى جانبها كثيرا فتسبغ عليه أكرم الدعاء. ومرة قالت له بتوسل حار: «ادع ربك دائما أن يقيك الشر ويهديك سواء السبيل.» ولم تدعه يذهب. وظلت تراوح بين الأنين وبين مخاطبته وتذكيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه. وبكاها أدهم، وبكتها أميمة، وجاء الجبلاوي فنظر في وجهها مليا ثم سجاها باحترام وقد تجلت في عينيه الحادتين نظرة كئيبة مليئة بالشجن.
وما كاد أدهم يعود رويدا إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارئ على أميمة لم يعرف له علة. بدأ بانقطاعها عن مجلسه في الحديقة، فلم يسر بذلك كما كان يتوهم أحيانا. وسألها عن سر انقطاعها فاعتلت بأعذار شتى كالعمل أو التعب. ولاحظ أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود، فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفة حقيقية، كأنما تجامله، وكأنما مجاملته عناء. وتساءل عما هنالك! لقد مر بشيء شبيه بهذا، ولكن حبه صمد له وتغلب عليه. وكان بوسعه أن يقسو عليها، وود أحيانا لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها وشحوبها ومغالاتها في التأدب معه. أحيانا تبدو حزينة، وأحيانا تبدو حائرة، ومرة باغت في عينيها نظرة نافرة حتى ركبه الغضب والجزع معا. وقال لنفسه: «فلأصبر عليها قليلا، إما ينصلح حالها أو فلتذهب في ألف داهية!»
وجلس إلى أبيه في مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامي، وتفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته وسأله: ما لك؟
فرفع أدهم رأسه نحوه في دهش وقال: لا شيء يا أبي.
فضيق الرجل عينيه وتمتم: خبرني عن أميمة.
فانخذلت عيناه تحت نظرة أبيه النافذة وقال: بخير، كل شيء طيب.
فقال الجبلاوي بضجر: صارحني بما عندك.
Shafi da ba'a sani ba
فصمت أدهم مليا، وهو يؤمن بأن أباه قادر على معرفة كل شيء، ثم قال معترفا: تغيرت كثيرا، وتبدو كالنافرة!
فتجلت في عيني الأب نظرة غريبة وقال: هل وقع بينكما خلاف؟ - أبدا.
فقال الجبلاوي في ارتياح وهو يبتسم: يا جاهل، ترفق بها، لا تقترب منها حتى تدعوك، سوف تكون أبا عما قريب.
6
جلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، واحدا بعد آخر، وقد وقفوا طابورا، أوله أمامه وآخره في نهاية المنظرة الكبيرة. ولما جاء آخر المستأجرين سأله أدهم دون أن يرفع رأسه عن دفتره في عجلة وضجر: اسمك يا معلم؟
فجاءه صوت يقول: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفا أمامه، ثم وقف متوثبا للدفاع عن نفسه وهو ينظر نحوه بحذر. لكن إدريس بدا في مظهر جديد لا عهد لأحد به. بدا رث الهيئة، هادئا، متواضعا، حزين الطرف، مأمون الجانب، كالثوب المنشى بعد نقعه في الماء. ومع أن هذا المنظر استل من نفس أدهم كل حنق قديم إلا أنه لم يطمئن إلى السلامة كل الاطمئنان، فقال في تحذير مشوب بالرجاء: إدريس!
فأحنى إدريس رأسه قائلا في رقة عجيبة: لا تخف، لست إلا ضيفك في هذا البيت إذا وسعني كرم أخلاقك.
أهذا الكلام اللطيف يصدر عن إدريس حقا؟! هل أدبته الآلام؟ الحق إن خشوعه محزن كفجوره. وألا تعد استضافته له تحديا للأب؟ لكنه جاء دون دعوة منه. ووجد نفسه يشير إليه بالجلوس على مقعد قريب من مقعده، فجلسا معا وهما يتبادلان النظر في غرابة حتى قال إدريس: اندسست في جموع المستأجرين؛ لأتمكن من الانفراد بك.
فتساءل أدهم في قلق: ألم يرك أحد؟ - لم يرني أحد من البيت، اطمئن إلى هذا، لم أجئ لأكدر صفوك، ولكني ألجأ إلى لطف أخلاقك.
Shafi da ba'a sani ba
فغض أدهم عينيه متأثرا وقد تصاعد الدم إلى وجهه، فقال إدريس: لعلك تعجب لما غيرني، لعلك تتساءل أين ذهب تكبره وصلفه؟ فاعلم أنني قاسيت آلاما لا يقدر عليها أحد، وعلى رغم هذا كله فإنني لا أقف موقفي هذا من أحد سواك؛ إذ إن مثلي لا ينسى كبرياءه إلا حيال الخلق اللطيف.
فغمغم أدهم قائلا: خفف الله عنك وعنا، فكم نغص مصيرك حياتي وكدرها! - كان ينبغي أن أعرف هذا من أول الأمر، ولكن الغضب جنني، وفتكت الخمر بكرامتي، ثم أجهزت حياة التشرد والبلطجة على الرمق الأخير من إنسانيتي، أعهدت مثل ذاك السلوك في أخيك الأول؟! - أبدا، كنت خير أخ وأنبل إنسان!
فقال إدريس بصوت المتوجع: حسرة على تلك الأيام، لست اليوم إلا شقيا أخبط في الخلاء جارا ورائي امرأة حبلى، أشيع في كل مكان باللعنات، وأشتري رزقي بالمنكر والعدوان. - إنك تمزق قلبي يا أخي. - معذرة يا أدهم، لكن هذه هي طويتك التي خبرتها منذ قديم، ألم أحملك صغيرا على يدي؟ ألم أشهد صباك ويفاعتك وألمس فيهما نبلك وسجاياك الحميدة؟ لعن الله الغضب حيثما احترق. - لعنة أبدية يا أخي.
وتنهد إدريس وهو يقول وكأنما يخاطب نفسه: شد ما أسأت إليك، إن ما حاق بي من شر وما سيحيق لهو دون ما أستحق من جزاء. - خفف الله عنك، أتدري أنني لم أيئس أبدا من عودتك؟ حتى في إبان غضب أبينا جازفت بمخاطبته في شأنك.
فابتسم إدريس عن أسنان علاها الاصفرار والقذارة وقال: هذا ما حدثتني به نفسي، قلت إن يكن ثمة رجاء في مراجعة أبي فلن يتأتى عن سبيل سواك.
فلمعت عينا أدهم وهو يقول: إني ألمس الهداية في روحك الكريم، ألا ترى أنه قد آن الأوان لكي نخاطب والدنا في الأمر؟
فهز إدريس رأسه الأشعث في يأس وقال: أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنا أكبرك بعشر سنوات لا بسنة واحدة، فاعلم أن أبانا يغفر كل شيء إلا أن يهينه أحد. لن يعفو عني أبوك بعد ما كان، ولا أمل لي في العودة إلى البيت الكبير.
لا شك فيما قاله إدريس، وهذا ما زاده حرجا وضيقا، وتمتم في كآبة: ماذا في وسعي أن أفعل من أجلك؟
فابتسم إدريس مرة أخرى قائلا: لا تفكر في مساعدات مالية، فإني واثق من أمانتك كمدير للوقف، واعلم أنك إذا مددت لي يد المعونة فسيكون من حر مالك وهو ما لا أقبله، إنك اليوم زوج وغدا أب، وأنا لم أجئك مدفوعا بفقري، ولكني جئت لأعلن لك ندمي عما فرط مني في حقك، ولأسترد مودتك، ثم إن لي رجاء.
فتطلع إليه أدهم باهتمام وتساءل: قل يا أخي ما رجاؤك؟
Shafi da ba'a sani ba
فأدنى إدريس رأسه من أخيه كأنما يخشى أن تسمعه الجدران وقال: أريد أن أطمئن على مستقبلي بعد أن خسرت حاضري. سأكون أبا مثلك، فما مصير ذريتي؟ - ستجدني رهن إشارتك في كل ما أستطيع ...
فربت إدريس كتف أدهم بامتنان وقال: أريد أن أعرف هل حرمني أبي حقي في الميراث؟ - كيف لي بمعرفة هذا؟! ولكن إن سألتني عن رأيي ...
فقاطعه إدريس قلقا: إني لا أسألك عن رأيك ولكن عن رأي أبيك ... - إنه كما تعلم لا يصارح أحدا بما يدور في رأسه ... - ولكنه دون شك قد سجله في حجة الوقف!
فهز أدهم رأسه دون أن ينبس، فعاد إدريس يقول: كل شيء في الحجة ... - لا علم لي بها، وأنت تعلم أن أحدا في بيتنا لا يدرى عنها شيئا، وعملي في الإدارة يسير تحت إشراف أبي الكامل.
فحدجه إدريس بنظرة حزينة وقال: الحجة في مجلد ضخم، وقد لمحته مرة في صباي وسألت أبي عما فيه - وكنت وقتذاك قرة عينه - فقال لي إنه يضم كل شيء عنا، ولم نعد إلى الحديث عنه، ولم يسمح لي بذلك حين بدا لي أن أسأل عن بعض ما جاء فيه، ولا أشك الآن في أن مصيري قد تقرر فيه.
فقال أدهم وهو يشعر بأنه ينحصر في ركن ضيق: الله أعلم. - إنه في الخلوة المتصلة بمخدع أبيك، ولا شك في أنك رأيت بابها الصغير في نهاية الجدار الأيسر. وهو باب مغلق دائما، لكن مفتاحه مودع في صندوق فضي صغير في درج الخوان القريب من الفراش، أما المجلد الضخم فعلى ترابيزة في الخلوة الضيقة.
فرفع أدهم حاجبيه الخفيفين في انزعاج وتمتم: ماذا تريد؟
فقال إدريس متنهدا: إن كان ثمة راحة بال باقية لي في هذه الدنيا فهي رهن بمعرفتي ما سجل في الحجة عني.
فقال أدهم في ارتياع: أهون علي أن أسأله عما في الشروط العشرة صراحة! - لن يجيب، وسيغضب، وربما أساء بك الظن، أو خمن الدافع الحقيقي وراء سؤالك فثار سخطه، وكم أكره أن تخسر ثقة أبيك جزاء إحسانك إلي! وهو لا شك لا يريد أن يذيع شروطه العشرة، ولو أراد ذلك لعرفناها جميعا، فلا سبيل مأمونا إلى الحجة إلا السبيل الذي وصفته لك، وهو ميسور جدا عند الفجر حين يتجول أبوك في الحديقة ...
فامتقع وجه أدهم وهو يقول: ما أفظع ما تدعوني إليه يا أخي!
Shafi da ba'a sani ba
فدارى إدريس خيبته بابتسامة شاحبة وقال: ليس جريمة أن يطلع ابن على ما يخصه في حجة أبيه. - لكنك تطلب إلي سرقة سر يحرص أبونا على صونه!
فتنهد إدريس بصوت مسموع وقال: قلت لنفسي عندما قررت اللجوء إليك: «ما أصعب أن أقنع أدهم بعمل يعتبره مخالفا لإرادة الأب!» ولكن داعبني أمل قوي فقلت: «لعله يقدم إذا لمس مدى حاجتي إلى معونته.» وليس في الأمر جريمة، وسيمر بسلام، وستجد أنك انتشلت روحا من الجحيم دون أدنى خسارة. - ليحفظنا المولى من الأخطاء! - آمين، لكني أتوسل إليك أن تنقذني من العذاب.
نهض أدهم في جزع واضطراب، فنهض إدريس في أثره، وابتسم ابتسامة دلت على تسليمه باليأس، وقال: أزعجتك حقا يا أدهم؛ من أمارات تعاستي أنني لا ألقى شخصا حتى تدركه المتاعب على وجه أو آخر. بات إدريس لعنة سافرة ... - كم يعذبني عجزي عن مساعدتك، إنه عذاب ما بعده عذاب!
فدنا منه حتى وضع يده على منكبه في رقة، ثم لثم جبينه في عطف، وقال: لا يسأل عن تعاستي إلا نفسي، لماذا أحملك فوق ما تطيق؟ دعني أتركك بسلام وليفعل الله ما يشاء!
قال إدريس ذلك ثم ذهب.
7
دبت الحيوية في وجه أميمة لأول مرة منذ عهد غير قصير، فسألت أدهم باهتمام: ألم يحدثك أبوك عن الحجة من قبل؟
كان أدهم متربعا على الكنبة، ينظر من النافذة إلى الخلاء الغارق في الظلمة. فأجابها: لم يحدث أحدا عنها قط. - لكن أنت ... - لست إلا أحد أبنائه الكثيرين!
فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: لكنه اختارك أنت لتدير الوقف!
فالتفت نحوها قائلا بحدة: قلت إنه لم يحدث أحدا عنها قط!
Shafi da ba'a sani ba
فابتسمت مرة أخرى كأنما لتلطف حدته، ثم قالت بمكر: لا تشغل بالك، إدريس لا يستحق ذلك، إن إساءاته لك لا تنسى أبدا!
فحول أدهم رأسه نحو النافذة، وقال بحزن: إدريس الذي جاءني اليوم غير إدريس الذي أساء إلي، إن منظره النادم الحزين لا يبرح مخيلتي!
فقالت بارتياح ظافر: هذا ما أدركته من حديثك، وهو سر اهتمامي بالأمر، ولكنك تبدو ضيق الصدر بخلاف عادتك.
كان ينظر إلى ظلام الليل الكثيف، لكن رأسه المشغول لم يستجب له، فقال: لا فائدة ترجى من الاهتمام! - لكن أخاك النادم يسألك الرحمة! - العين بصيرة واليد قصيرة. - يجب أن تحسن علاقتك به، وبإخوته، وإلا وجدت نفسك يوما وحيدا أمامهم. - إنك تهتمين بنفسك لا بإدريس.
فهزت رأسها كأنما تزيح عنه نقاب المكر وقالت: من حقي أن أهتم بنفسي، ومعنى هذا أن أهتم بك وبما في بطني.
ماذا تريد المرأة؟ وهذا الظلام ما أشد كثافته! حتى المقطم العظيم قد ابتلعه. وأراح نفسه بالصمت. وإذا بها تسأله: ألا تذكر أنك دخلت الخلوة أبدا؟
فأجاب خارجا من صمته القصير: أبدا، أحببت في صباي أن أدخلها فمنعني أبي، ولم تكن أمي تسمح لي بالاقتراب منها. - لا شك في أنك كنت تتمنى دخولها!
ما حادثها في الأمر إلا وهو ينتظر أن تدفعه عنه لا أن تجذبه إليه. كان بحاجة إلى من يؤكد له صواب موقفه من أخيه. كان بحاجة ماسة إلى ذلك ولكنه كمن كان ينادي في الظلام خفيرا فيخرج إليه قطاع الطريق. وعادت أميمة تسأله: والخوان الذي به الصندوق الفضي هل تعرفه؟ - كل من دخل الحجرة يعرفه، لماذا تسألين عنه؟
تزحزحت من مجلسها على الكنبة مقتربة منه وسألته بإغراء: بربك ألا تود أن تطلع على الحجة؟
فأجاب بحدة: كلا، لماذا أود ذلك؟ - من ذا يقاوم الرغبة في الاطلاع على المستقبل؟ - تعنين مستقبلك أنت؟! - مستقبلي ومستقبلك، ومستقبل إدريس الذي حزنت عليه على رغم ما سبق منه ضدك!
Shafi da ba'a sani ba