فقال جبل: قلت له: «لم أحلم أن أقابلك في هذه الحياة!» فقال: «ها أنت ذا تقابلني.» وحددت بصري؛ لأتبين وجهه المرتفع في الظلام فقال لي: «لن تستطيع رؤيتي ما دام الظلام!» فقلت بذهول لرؤيته محاولة رؤيتي له: «لكنك تراني في الظلام!» فقال: «إني أرى في الظلام منذ اعتدت التجوال فيه قبل أن توجد الحارة.» فقلت بإعجاب: «الحمد لرب السماوات على أنك ما زلت تتمتع بصحتك.» فقال: «أنت يا جبل ممن يركن إليهم، وآي ذلك أنك هجرت النعيم غضبا لأسرتك المظلومة. وما أسرتك إلا أسرتي، وهم لهم في وقفي حق يجب أن يأخذوه، ولهم كرامة يجب أن تصان، وحياة يجب أن تكون جميلة.» فسألته في فورة حماس أضاءت الظلام: «وكيف السبيل إلى ذلك؟» فقال: «بالقوة تهزمون البغي، وتأخذون الحق، وتحيون الحياة الطيبة.» فهتفت من أعماق قلبي: «سنكون أقوياء.» فقال: «وسيكون النجاح حليفكم.»
وترك صوت جبل وراءه صمتا كالحلم بدوا فيه جميعا مسحورين.
كانوا يفكرون ويتبادلون النظرات، ثم يتجهون بأعينهم إلى حمدان حتى خرج عن صمته قائلا: فلنتدبر هذه الحكاية بعقولنا وقلوبنا!
فقال دعبس بقوة: إنها لا تبدو وهما من أوهام السطل وكل ما تتضمنه حق.
فقال ضلمة بإيمان: لن تكون وهما إلا إذا كانت حقوقنا وهما!
فتساءل حمدان في شيء من التردد: ألم تسأله عما يمنعه من إجراء العدل بنفسه؟ أو عما جعله يعهد بالنظارة إلى قوم لا يحسنون القيام على حقوق الناس؟
فقال جبل بامتعاض: لم أسأله، ولم يكن بوسعي أن أسأله، أنت لم تلقه في الخلاء والظلمة ولم تستشعر الرهبة في حضرته. ولو وقع لك ذلك ما فكرت في مناقشته الحساب ولا داخلك الشك في أمره.
فهز حمدان رأسه فيما يشبه التسليم وقال: هذا كلام خليق بالجبلاوي حقا، ولكن ما أخلقه بأن ينفذه بنفسه!
فصاح دعبس: انتظروا حتى تموتوا في هوانكم!
فتنحنح رضوان الشاعر وقال وهو ينظر بحذر في الوجوه: كلام جميل ولكن فكروا فيما يجرنا إليه.
Shafi da ba'a sani ba