230

قى سوى ربك العلي العظيم

الوطن1

تربتك وماؤك، وأرضك وسماؤك، منه نشأت، وإليه إن كنت سعيدا تعود، أول ما أحسست من الحياة، وأبصرت من الضياء، ونشقت من الهواء، وسمعت من الترنيم والغناء، وعرفت من الفرح والبكاء. مرحت طفولتك مع طيره، في زرعه وشجره، ورتع صباك في بره وبحره، وسهله ووعره، وحره وقره، وشمسه وقمره، فهو روحك وجسمك، وحسك وعقلك، وحقيقتك وخيالك، وذخائرك وآمالك. كدحت يدك في مادته، وسبح فكرك في معناه، واستنزلت الوحي من سمائه، وأطرت الخيال في هوائه، ورأيت غير الحياة في أرجائه، بين صباحه ومسائه، وضيائه وظلمائه، ورعيت الجمال في جناته النواضر، ونجومه الزواهر، وفي زروعه وأشجاره، وجداوله وأنهاره، واستمددت من شمسه القوة والعمل، ومن قمره جمال الخيال ونضرة الأمل، وعرفت معاني الحياة في مشارقه، وأدركت أسرار الفناء في مغاربه.

كتاب آبائك المفتوح لك، وصحف أجدادك المنشرة أمامك، تقرأ فيها عزك وهونك، وأفراحك وشجونك، وأنت فيها سطر مقروء غدا، يراه الخلف رديئا أو جيدا. حقب أنت إحدى ساعاتها، وسلسلة أنت من حلقاتها. حي أنت فيها وكنت من قبل حيا، وستحيا وإن كنت في رمسك مطويا، تقول: «فعلنا» وقد فعل آباؤك القدماء، و«سنفعل» وإنما تريد أن يفعل الأبناء، قرآنك المتلو على الدهور، وأدبك تقرؤه الأجيال بين منظوم ومنثور، وموسيقى وضعت لك ألحانها، وأناشيد تخاطبك قوافيها وأوزانها، وتهيب بك أفراحها وأشجانها، ليس بأمانيك تحبه أو تقليه، ولا باختيارك أن تنام عنه أو تسهر فيه، فأنت فيه قد خلقت، ولنصرته قد طبعت، وليس في قدرتك أن تبدأ الخليقة، أو تنقض السليقة.

أنت فيه علم وفي سواه نكرة، ووجهك في مغانيه صورة محبوبة، وفي غيره خلقة منكرة، وصوتك في منازله نغمة مألوفة، وفي غير همهمة منفرة. وأنت في سواه حرف لم يركب فهو غير مقروء، ولفظ يعثر به اللسان فهو جد مشنوء، وصفر لا على يمين ولا على يسار، لا يدخل في حساب المجد ولا العار، لو لم تكن منبوذا لقلت: رقعت بالية في ثوب أجد، ولو لم تكن خفيا لقلت: شعرة بيضاء في ثور أسود.

ألم تر إلى أسارى يهود الأوائل كيف عطلوا مزاهرهم على نهر بابل،

2

وخرست ألسنتهم بالغناء وقالوا: «كيف ننشد أناشيد إسرائيل ونحن غرباء!» سوقك التي إن تهجرها فأنت في الحياة بائر، وعشك الذي إن تفقده فأنت طير حائر، ومعك حيثما ذهبت مجده وفخاره، أو إثمه وعاره، وسيف مجده في يمينك، أو ميسم خزيه على جبينك، ليس إلا إليه الثواء، وإن ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء. •••

مصر التي برزت خضراء في صحراء، وجرى نهرها بين جناتها كالمجرة في السماء، وظهرت بين الرمال، كما تلوح في اليأس الآمال، أو كما ينبثق الفجر من الظلم، ويرف الزهر على الصخر الأصم، ينبوع في مجاهل، وورد بين السباسب عذب المناهل.

مصر التي طلع فيها فجر التاريخ فأضاء، وكشف بها عن المعارف أول غطاء، وأنشد الدهر على نيلها أنشودة الفخار الأول، وألقى المجد فيها رحله ثم لم يتحول، وانفجر فيها ينبوع العلم فعم، فنهلت منه سائر الأمم، وانقدحت منها شرارة المعرفة فكانت نارا، فعشت إليها الأمم الحيارى.

Shafi da ba'a sani ba