215

من هؤلاء التلاميذ الذين أنبتتهم الصحراء، وأخلصهم ماؤها وهواؤها، وشمسها وهجيرها، وبردها وزمهريرها، فكانوا كروضة الحزن سقاها الحيا، وأنضرتها الشمس والريح، في قنة لا عهد للأنيس بها؟ من هؤلاء العرب قد جلسوا في أسمالهم، وأصغوا إلى معلمهم، يأخذون الحكمة، فتمكن من سرائرهم، فإذا هي خلق وسجية، وإذا هي الأمل والعمل، وإذا هي سعادة الأولى والآخرة؟

وعجبا لقوم ضعاف فقراء يتهيئون لما لا قبل لهم به! يريدون أن يكونوا أساتذة العالم وسادته؟ ولولا كرم في نفوسهم، وحكمة في أفعالهم لقلنا: بهم الطيش والغرور.

إن الإنسان ليقف في أمرهم بين الإعجاب والسخرية! دعهم في قريتهم، وتنظر الحوادث تأخذ مجاريها، ثم انظر إليهم بعد أعوام تر التلاميذ الضعاف قد أخذوا كتابهم وسيوفهم، واستووا على صهوات خيولهم، وتطاولوا إلى هداية العالم كله، وحكم الناس أجمعين! دعهم في آمالهم البعيدة، وأمانيهم العظيمة، ثم أبصرهم بعد سنوات قليلة وقد خفقت أعلامهم في مشرق الشمس ومغربها، ودان لهم كل طيع وعصي، وإذا العالم ملؤه الإعجاب والخوف والمحبة والفزع، وإذا هم شرر قد انبعث فأصاب الفطر الصالحة، فكان نورا، وأصاب النفوس العليلة، والأخلاق السقيمة، فكان في هشيمها نارا! ثم انظر إليهم فإذا بهم على العرش قد ورثوا ملك الأرض، وأحسنوا السياسة، وقادوا الناس بالحسنى، ثم دفعوهم إلى الخير، وهدوهم إلى الإحسان! وإذا صفحة من الإحسان ليس للناس بها عهد من قبل، وإذا كتاب في تاريخ المدنية لم تقو على فصوله من قبلهم أمم الأرض قاطبة.

أنبئني كيف وسعت القرية الصغيرة أرجاء الأرض؟! وكيف عمر العدد القليل نواحي العالم؟! وكيف بلغ هؤلاء الضعفاء آمالهم؟! وكيف كان التلاميذ الفقراء، كما أرادوا، أساتذة العالم؟!

فكر جهدك، فلن تجد أساطيل ولا جحافل، ولا طيارات ولا غواصات، ولا معامل ولا مصانع، ولا كتبا وأسفارا يضيق بها العد، ولا أنت واجد شيئا مما يبهر من جبروت الحضارة وزخرفها!

ما الذي خلق من القلة كثرة، ومن الضعف قوة، ومن الذل عزا، ومن الموت حياة، وأخرج من الصحراء شرذمة كانت أعظم مثل في العظمة والعدل والإحسان والعلم والحضارة ؟!

فتش ما استطعت، وفكر ما قدرت، وقلب حوادث التاريخ كما تشاء، فلن تجد إلا شيئا واحدا، وأمرا فذا، لن تجد إلا سرا إليه مرجع كل ما عرفت، وعمادا استقل بكل ما وصفت: الإيمان المتين، والخلق الصالح. إن في ذلك لعبرة.

على شاطئ النيل1

في ليلة من ليالي الصيف المقمرة، في قريتنا على ضفة النيل الشرقية، خرجت إلى الشاطئ وانتبذت مكانا في زورق منعزل، وكنت أرى في الغرب أهرام دهشور وبعض القرى والنخيل، مناظر بين الظهور والخفاء يتنازعها ظلام الليل وضوء القمر كأنما تتراءى في لوحة مصورة، والقمر ساطع في المشرق، يرسل أشعته الهادئة كأنها رشاش من ينبوع صاف، ينضح الخليقة، يطفئ عنها وهج الشمس، ويمسح عنها آثار التعب والكد والعراك، أو كأنها يد رفيقة تمسح على رأس طفل محزون، والنيل مترع زاخر، يسرع الجري في وقار، فلا تسمع في تدافع مياهه إلا وسوسة الأمواج، وحفيفها بالشاطئ، وهمهمتها في جانب الزورق.

سكنت إلى نفسي، وشعرت لذة الخلوة، ولم يكن يشغلني إلا خوف أن يحضرني إنسان يتودد بالأحاديث، وألقيت على النيل نظرة لم تسترد، والنيل كفكر الفيلسوف المطمئن، صفحة واسعة مضيئة، عميقة هادئة، ترسل في النفس سلاما وأنسا واطمئنانا وسكونا ورهبة.

Shafi da ba'a sani ba