فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
ببعض تأبى النبع أن يتكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
ودارت الحرب عند حمص يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة، فلا تسألني كيف كانت عاقبتها، فهي العاقبة التي بشرت بها موقعة عين جالوت من قبل: فارق التتار الشام إلى غير رجعة.
ثورة على الأخلاق1
يا أخي صاحب الرسالة، أبلغ أخي محمودا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني: «قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل، فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام، وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلا من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها، فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي، ثم أبن لي رأيك من بعد.
دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك، فصلى ثم دعا فقال: «اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا.» فضحك - صلوات الله عليه - وقال: «لقد حجرت واسعا يا أعرابي.» وكذلك أنت يا أخي قد حجرت واسعا حين خيل إليك أن دائرة عملك - التي وسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة - هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله، وإن شئت أن تقول: إني لم أحجر واسعا ولكني وسعت محجرا، فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة.
أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه، وطمأنينة، ما في هذا ريب، وأن الرجل الحر الأبي الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم، والثراء العريض، ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحر الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة، وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعد نفسه أسدا قويا مهيبا قد ربض حجره من معترك الذئاب، ومهترش الكلاب.
إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة: أسبيله الخلق القويم، أم العمل الذميم؟ وإني أعجل لك الجواب في قضية نتفق عليها، لنفرغ لما بعدها، فأقول: حق أن الرجل التقي الأبي لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقا واحدة هي التي يسنها الحق والشرف والإباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقا شتى من التلصص والكذب، والتزوير والخداع، والنفاق والملق، والذلة والشره، والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبيل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون، ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتل، فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع: كثيرا ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع، وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكبه السبل التي جعلتها سنن الجماعة وسائل إلى الثروة والجاه، فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في أخذ الأهبة، وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجد الفجار، فلا جرم يخفق أولئك وينجح هؤلاء؛ فإن للحياة قوانين، وللمعايش سننا، والقرآن الكريم يقول:
Shafi da ba'a sani ba