أجل، من ير هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة، يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها عن التحدث بالفتح؛ فتح المشرق والمغرب
إنها لإحدى الكبر !
4
لا لا، لم تكن في المدينة جماعة قليلة، ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع الشر ، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقاتل الخور، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدى الشك، كانت معان تقاتل معاني، وما ضر المعنى الظافر في سنة الله قلة أنصاره على الأرض، ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرة سواده في الناس.
وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشا وغطفان ويهود وحدهم، بل كانوا يحادون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن في خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها.
لقد كان هذا الخندق فاصلا بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقا وليدا، وتاريخا جديدا، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيرون في مواكب للجهالة والإثم، والعدوان والظلم، ويحوطون أوثانا من الحجر، أو أصناما من البشر.
وما كان العرب إلا العدو الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها، فائتمر بها، وعزم ليأخذن عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقن جمعها، ويبددن نظامها، ويبطلن دعوتها. وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب حربا على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها.
وما كان العرب المشركون في حرب العرب المسلمين وأعدائهم إلا حدا بين عصر وعصر، وفاصلا بين تاريخ وتاريخ.
ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود - وهم طلائع جيش الأرض كلها - لم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معان أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة. دع للعدد القليل وللعدد الكثير، وانظر هذه المعاني تتقاتل تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك، فانظر لأي هؤلاء العاقبة!
وهل كان المعول في يد رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدمغ ما يصده.
Shafi da ba'a sani ba