يقول صاحب البيان المغرب:
فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو، فكشف الله عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه، فستر باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى ارتفع البأس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من رجال السلطان، حتى لقد عثر على ابن له، فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر جملة.
ولما رجع من غزاته الثالثة ظافرا، رفعه الخليفة إلى الوزارة، وجعل راتبه ثمانين دينارا، وهو راتب الحجابة، ثم شارك أبا جعفر الحاجب، ثم استبد بالحجابة عام سبعة وستين وثلاثمائة، فقد بلغ أرفع مناصب الدولة.
3
سيطر ابن أبي عامر سبعة وعشرين عاما على الأندلس كلها، فصرف أمورها في الحرب والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا في يد عبد الرحمن الناصر، ويد المنصور بن أبي عامر، فأما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه، ومضاؤه وإقدامه، وأما ابن أبي عامر فقد رفعه إلى السلطان نفس طماحة، وعزيمة ماضية، وخلق مرير، ولم تكن هيبته في نفس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو، وانتدب للجهاد، فغزا خمسين غزوة في شمال الأندلس لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ شنت ياقوب في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي.
لقد صدق صاحب البيان حين قال:
ثم انفرد بنفسه، وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه، فانقاد له وساعده، فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده، وتمكن جنوده: سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان.
4
وكان المنصور عادلا شديدا في الحق، لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة.
جاء إلى مجلسه رجل فناداه: يا ناصر الحق، لي مظلمة عند هذا الفتى. وأشار إلى أحد فتيانه، وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت، قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية! وقال للفتى: انزل صاغرا، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ فيه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق.
Shafi da ba'a sani ba