وقال بشيء من الأسى: «ألف روبل وتذاكر للمسارح وسيارات ودار الأوبرا! نعم، هكذا كان أمراء الأسرة المالكة في العهود المنصرمة يكرمون المحظوظين من أتباعهم، وكل ما هنالك من فرق بيننا وبينهم هو الاسم لا غير.»
ورددت عليه بشيء من الحماسة: «إنك لا تنصفهم كل الإنصاف يا رفيق لزريف، إن الذي أعجبني في هذا اللقاء أن الوزير كان راغبا في الاستماع إلى أقوالي، ولست أشك في أنه يدرك آلام الشعب ويعطف عليه، وإذا كان هو يدرك آلامه ويعطف عليه فإني أظن أن لينين لا يقل عنه إدراكا لهذه الآلام وعطفا على المتألمين، وهذا هو الذي يوحي إلي بالشجاعة والطمأنينة.»
وكان لزريف يشغل وقتئذ منصبا هاما في جامعة موسكو، كما كان يختار في لجان الحزب الهامة ذات السلطات الواسعة، ولكن خيل إلي ونحن نتحدث في تلك الليلة أن الآية قد انعكست، فخبت آماله الخداعة وحماسته، وأصبحت أنا الذي أدافع عن الحزب وألتمس المعاذير لأعماله.
وسألني فجأة في أثناء الحديث: «هل سافرت إلى القرى من زمن قريب؟» - «لم أسافر إليها ولكنني أعرف الكثير مما يحدث فيها.» - «إن معرفة ما يحدث فيها شيء ورؤيته بالعين شيء آخر، لقد عدت منذ قليل إلى مدينة أودسا في أوكرانيا حيث كنت أشرف على تنفيذ نظام المزارع الجماعية في أحد الأقاليم، وأخشى يا صديقي ألا يكون في وسعي أن أتحدث عن تلك البلاد بمثل الهدوء الذي تتحدث به عن كرم الوزير ...»
وكان مما أخبرني به لزريف أنه كان عضوا في لجنة من أعضاء موثوق بهم أرسلت إلى ذلك الإقليم بعد أن فصل كثير من الزعماء المحليين؛ لأنهم عجزوا عن تنفيذ المهام التي كلفوا بها هناك، وكان سبب فشلهم أن مقاومة الزراع فيها اشتدت، وأن الغل ملأ صدورهم، وأن وسائل «القمع الشديدة» التي لا بد من اتخاذها لمعالجة الموقف كانت مما لا يستطيعه الموظفون المحليون، وبدا الموقف شديد الخطورة إلى حد اضطر مولوتوف إلى الذهاب إلى هناك بنفسه نيابة عن الهيئة السياسية العليا ليشد من أزر الحكومة ويزيد في قسوتها.
وواصل لزريف حديثه قائلا: «وجمع الرفيق مولوتوف أعضاء الحزب العاملين في الإقليم وتحدث إليهم حديثا صريحا صارما، وقال: إن المشروع يجب أن ينفذ مهما ضحي في سبيل تنفيذه من الأرواح؛ ذلك أن الثورة تظل معرضة للخطر ما دام في البلاد ملايين من أصحاب الملكيات الصغيرة، فإذا ما جاءت الحرب، فإن هؤلاء الملاك قد ينضمون إلى أعداء البلاد ليحتفظوا بأملاكهم؛ ولهذا يجب ألا يكون هناك مجال للين ولا للأسف. ولم نخطئ نحن في فهم أقواله، ولم يكن ثمة حد لضروب القسوة التي ارتكبت في البلاد بعد هذا الإنذار الذي وجهه مولوتوف للقائمين على تنفيذ المشروع.»
وغطى لزريف وجهه بكلتا يديه كأنه يريد أن يطرد بهما تلك الذكريات المؤلمة.
وزرت عددا من معارفي قبل أن أغادر العاصمة، وكان منهم من يردد أصداء دعاوى الحزب وأقوال محرري الصحف، وهؤلاء هم الراضون الذين يعيشون في جنان من الدعاوة، وفي عالم منعزل لا يتجاوز أطراف موسكو، ويكاد يكون مقطوع الصلة بسائر البلاد بوجه عام، ومنهم آخرون من أمثال لزريف تبدو عليهم مظاهر مصطنعة من تفاؤل عاصمة البلاد، ولكنهم في حقيقة أمرهم تكاد تتفطر قلوبهم من هول ما دهى أهل البلاد، وهؤلاء هم الذين أفسدوا ما تركته زيارتي للوزير من أثر طيب في نفسي، ووجهوا أفكاري وجهة أخرى.
ولم يستخفني الطرب وأنا أقص على مسامع أهلي ما رأيت وما لاقيت في موسكو، أو أنقل ما شاهدته لجليوبنكو، ولم أذكر شيئا عن الروبلات الألف ولا السيارات ولا تذاكر المسارح؛ لأني أحسست إحساسا غامضا بأني إن ذكرتها كشفت للقوم عن جريمة اقترفتها، وإن لم يكن في وسعي أن أحدد نوع هذه الجريمة.
وكان لا بد من مضاعفة الجهد في الحفظ والدرس لتعويض ما فاتني منه بسبب انقطاعي عن معهدي في زيارتي لنيقوبول وموسكو ولغير ذلك من الأسباب، وكان من حسن حظي أني لم أجد صعوبة في تلك الدراسة الفنية، فلم ألبث أن حصلت ما حصله زملائي في فرقتي.
Shafi da ba'a sani ba