وواصلت حديثي وقد انسقت وراء لساني فقلت: «إن المشكلة الرئيسية هي مشكلة الأجور بأجمعها من أكبر المهندسين إلى أصغر العمال، وتأتي بعدها مشكلة السلع التي يستهلكونها، حتى يستطيع العمال أن يشتروا بما ينالون من الأجور ما يحتاجونه من السلع كالطعام والكساء ولوازم المنازل، ولقد شكوت إليك أيها الوزير حين اجتمعت بك أول مرة من التدخل الذي لا ضرورة له في إدارة المشروعات الصناعية، وما من شك في أن الإدارة الموحدة والتبعة الموحدة لازمتان لنجاح كل مشروع، ولكننا الآن قد ذهبنا في الناحية الأخرى إلى الغاية القصوى، ولم يبق للعمال كلمة يقولونها في شئون عملهم، ولقد بلغ من أمرهم أن أصبحوا يدعون أمام القسم السياسي إذا سولت لهم أنفسهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على ما يقاسونه من متاعب لا قبل لهم بها، على أني أخشى أن أكون في حديثي هذا قد عدوت طوري، فإن كان الأمر كذلك فلا تؤاخذني لأني أشعر بما أحدثك عنه في أعماق نفسي.»
وصاح أورزنكدز قائلا: «لا، لا، لا، أيها الرفيق، إني يسرني أن أسمع إنسانا يفصح عما في قلبه كله لا عن بعض ما فيه، إن كل ما تقوله صحيح ولا تظن أنه خاف علينا، وأؤكد لك أن الرفيق ستالين يعنى أشد العناية بمشكلة الأجور مثلا، ولكن تشخيص الداء أسهل كثيرا من مداواته.»
ودام هذا الحديث ما يقرب من ساعة، وسألني الوزير في أثنائه هل خرجت في حياتي من بلادنا؟
فأجبته قائلا: «لا، لم أخرج منها، ولكني قرأت الصحف الفنية التي تصدر في بلاد السويد وألمانيا وأمريكا، فعلمت منها أن في تلك البلاد أشياء كثيرة، نحن في أشد الحاجة إلى أن نتعلمها.» - «قد نرسلك إلى أمريكا أو ألمانيا بعد أن تتم دراستك في المعهد، والآن فلتنس أمر العمل والعمال بعض الوقت، هل شاهدت ما في موسكو من مسارح ومتاحف؟» - «لا، لم أذهب إليها بعد، ولكنني أرجو أن أشاهد منها أكثر ما أستطيع مشاهدته.» - «حسن، إني أمنحك إجازة خمسة أيام تقضيها في موسكو، فانتظر سمشكين في حجرة الاستقبال، وإلى اللقاء مرة أخرى.»
وكدت أفقد وعيي حين خرجت من عنده، لقد كنت في هذا اللقاء أقرب ما أكون إلى السلطة العليا، وكاد إحساسي بهذه السلطة يذهب بعقلي، وأخذ الجالسون في حجرة الاستقبال ينظرون إلي في دهشة لم يحاولوا قط أن يخفوها، وما من شك في أنهم كانوا يعتقدون أن الرجل الذي يستأثر بساعة كاملة من وقت الوزير لا بد أن يكون رجلا خطير الشأن، وجاءني سمشكين بعد قليل.
وقال لي: «أهنئك أيها الرفيق، لست أشك في أن ما كان معك من المال قد نفد، وإليك تذكرتين، إلى مسرح البلشوا، وإلى مسرح موسكو الفني، وسنؤدي نحن نفقاتك في الفندق، وهذه ألف من الروبلات لنفقتك الخاصة وهي منحة لك من الرفيق أورزنكدز، فمتع نفسك كيف شئت، وإذا احتجت إلى شيء فما عليك إلا أن تخاطبني تليفونيا.»
وجيء لي مرة أخرى بسيارة كبيرة أقلتني إلى الفندق، ولما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول عشائي شاهدت فيه جوقة من عشرين مغنية من الغجر، يغنون أغاني بلدية، ولم يدهشني ما رأيت في هذه المرة فقد ذهب عني ما كنت أشعر به قبل من غرابة، وما من شك في أن وجودي مع أورزنكدز وبوخارين قد أشعرني بأني هنا في المكان اللائق بي، كأني أصبحت أحد الصفوة المختارة، ألا ما أسهل على الإنسان أن يخضع لمغريات النعيم والسلطان! ترى كم من الزمن تطول آلامي النفسية مما يعانيه بعض صغار العمال المعذبين المجهولين في مصانع نيقوبول وأمثالها لو أنني كنت أنا أيضا أعيش في موسكو مثقل الجيوب بالمال، وبالقرب مني سيارة فخمة تقلني إلى حيث أشاء، وفرقة موسيقية تغرق نغماتها ما عسى أن أشعر به من وخز الضمير؟
وشاهدت في الخمسة الأيام التالية تمثيلية راقصة صامتة وعدة تمثيليات غنائية، ومعرضا للفنون في موسكو، وتمثيلية مسائية في مسرح يختنجوف، وقضيت عدة ساعات في معرض تريتاكوف الفني، وفي متحف الثورة ومكتبة لينين، وغيرها من المعاهد التي يتحتم على كل إنسان أن يشاهدها، ألا ما أكثر ما يحتويه العالم من علم وجمال!
ثم تذكرت أن الرفيق لزريف، المحاضر الأول الذي جذب أفكاري إلى الحزب ومثله العليا في مناجم فحم الدنتز من زمن بعيد كان هو أيضا في موسكو، فاعتزمت أن أذهب لزيارته، فلما دخلت عليه تذكرني وأحسن استقبالي، وكان يسكن في شقة صغيرة في إحدى الوحدات المقامة على الشاطئ الثاني من نهر موسكو، وسرني لسبب يصعب علي أن أعبر عنه أن أرى صورة تولستوي لا تزال معلقة في حجرته.
وعرفني الرجل بزوجته، وهي شابة حسناء ومن العاملات في الحزب لا تقل نشاطا عن زوجها نفسه ، وقدمت لنا أكواب الشاي، وأخذت وأنا أتناوله أقص عليه ملخص تاريخ حياتي مذ التقيت به في إقليم التعدين، وكانت خاتمة حديثي بطبيعة الحال وصفا مفصلا حماسيا لاجتماعي بأورزنكدز وبوخارين، وأصغى إلي لزريف وهو صامت، وأحسست أن نشوتي هذه قد ضايقته.
Shafi da ba'a sani ba